لقاءٌ في الغربة
لستُ أنسى بلدًا نائيًا حللت فيه يومًا منذ سنين، وكان آخر ما أتصوره هو أن ألتقي في ذلك المكان القصيِّ، بمن تربطني به الصلات من قريبٍ أو بعيد، لكني ما كدت أستقر في غرفتي من الفندق ساعة، حتى جاءني شابان عربيان، كانا قد سمعا بمقدمي، أحدهما من فلسطين والثاني من لبنان، وكان لأحدهما سيارة، فعرضا أن يدورا بي في السيارة دورة، يُطلعانني فيها على معالم الإقليم، ويجدان خلالها فرصةً لتبادل الحديث، وكانا فيما يبدوان كأنهما ممتلئان بالأسئلة عن الوطن العربي، ويريدان عنها الجواب؛ فالصحف في ذلك المكان النائي إقليمية، لا تكاد تذكر للقراء شيئًا ذا بال، عما يدور خارج حدود الإقليم من تجارةٍ، وأحداثٍ يومية تجري بها حياة الناس.
أحسسنا نحن الثلاثة أننا أفراد أسرة تلاقوا بعد اغتراب، فكان هذا الإحساس نفسه، الذي ملأنا جميعًا بنشوةٍ فرحانة، هو ما بدأنا به الحديث، الذي مضينا في أطرافه ساعة أو يزيد، فما الذي كان بيننا لينجذب الواحد منا إلى الآخر، هذا الانجذاب الفطري العجيب؟ كان هذا أول سؤال طرحناه، ووقفت بنا السيارة عند فجوةٍ بين أشجار غابةٍ كثيفة، اكتست بها الجبال هناك من سفوحها الدنيا إلى قممها العالية، وأخرج لنا الشاب الفلسطيني قطعًا صغيرة من الحلوى، بعد أن حرص على أن يجمع منا أغلفتها الورقية؛ ليضعها تحت صخرةٍ جاثمة على الأرض، حتى لا نشوِّه ذلك الفردوس بوريقةٍ لم يكن ذاك مكانها.
وأعدنا على أنفسنا طرح السؤال: ماذا بين العربي والعربي، مما قد تخفى بعض جوانبه، ونحن هناك على أرض الوطن، حتى إذا ما التقينا في الغربة، أحسسناه نبضًا في القلوب؟ وما أسرع أن يُجاب عن هذا السؤال بقولنا: إنها اللغة الواحدة بيننا، والعقيدة الواحدة، والألم الواحد، والأمل الواحد؛ وكلها عوامل، يكفي الواحد منها أن يكون رباطًا، لكنها اجتمعت.
ألقينا السؤال، ثم انصرفنا عنه لنعود إليه بعد حين، وهكذا أخذ السؤال يظهر بيننا ويختفي، لم نأبه له كثيرًا؛ لأننا لم نرد أن يكون اجتماعنا هذا حلقة بحث، بمقدار ما أردنا للعروبة الكامنة في دمائنا، أن تعلن عن نفسها في ذلك المكان النائي، عند مرتقى الجبل ومدخل الغابة، حيث لم يكن الهواء في جوف الصمت الشامل، إلا موج كلماتنا العربية نرسلها بعضٌ إلى بعض، منغومًا بأحرف العين والغين والصاد والضاد.
إنها هي اللغة العربية بسحرها الساحر وقوَّتها القاهرة، فقد تشترك بعض شعوب الأرض في اللغة الإسبانية، أو في اللغة البرتغالية، أو في اللغة الإنجليزية، فلا تحسُّ نفسي بضرورة القربى بينهم، وكأنما الكلمات التي يتبادلونها خيوط من الصوت، تذهب بينهم وتجيء، دون أن تحمل معها أنفاس الحياة. ولطالما استمعت إلى أفرادٍ يتفاهمون بالإنجليزية، حتى إذا ما انقضى الأمر المعلق بينهم، ارتدَّ كل منهم إلى أصلٍ غير الأصول التي يرتد إليها الآخرون. وأما اللغة العربية بين أبنائها، فوقعها عندي شيء غير ذلك؛ بين هؤلاء الأبناء كائناتٌ حيةٌ مجنَّحة، وكأنها الطير يترك عشًّا آمنًا؛ ليلوذ عند السامع بعشٍ آمن، بل أعجب من هذا أنني إذا سمعت مستعربًا يتحدث إلينا بالعربية التي تعلمها، أحسست بأنه في طريقه إلى أن يكون واحدًا من ذوي القربى.
إنها هي اللغة العربية بعمقها العميق، فمجموعات الألفاظ فيها تتعانق، ويتعلق بعضها ببعض، كأنها شجرة الأنساب في عشيرةٍ واحدة، فما تزال اللفظة فيها تؤدي بك إلى سواها، وهذا السوى يؤدي بدوره إلى سواه، حتى تقع على الأصل اللغوي الأصيل، الذي كان بمثابة العين التي تفجر ماؤها، فأخرجت من معدنها الواحد تلك الأسرة اللفظية كلها، حتى لقد قيل عن تشابك المعاني الكثيرة، المنبثقة من جذرٍ لغويٍّ واحد، إنه ذو علاقة بتشابك الأنساب بين القبائل العربية … ما علينا من ذلك الآن، فالذي أريد قوله، هو أن اللغة العربية بين أبنائها تحمل في عروقها وشائج القربى، إنها ليست كرموز الرياضة، تبنى منها المعادلات، دون أن يكون لها مضمون حيوي ذو وقع في المشاعر، بل هي أقرب إلى القماقم التي تروي لنا عنها الأساطير، بأنها تحبس بين جدرانها مَردةً توَّاقة إلى الانطلاق، إذا ما كشف عنها الغطاء. إن «العبارة» في اللغة العربية «عبور»، تنتقل به روح إلى روح، إنها بحكم قواعد إعرابها قابلة للتقديم والتأخير، دون أن يُصاب المعنى بسوء، فلا عليك أن تضع الفاعل في أول التركيب، أو في وسطه أو في آخره؛ لأن علامة الرفع فيه ستدل عليه أينما كان، فتكون اللفظة في تركيبها اللغوي، كالمواطن يحمل معه جواز سفره، الدال على وطنه الذي ينتمي إليه، وما كذلك أكثر اللغات.
لم يذكر أحدٌ منا — نحن الثلاثة الذين التقينا هناك في أقصى الغرب؛ ذلك الركن المعزول في غير هجران — لم يذكر أحد منا شيئًا عن اللغة العربية، والحيوية التي تسري في عظامها ومفاصلها، لكننا جميعًا أحسسنا بأن تلك اللغة بيننا، لم تكن خيوطًا صوتية، تروح بيننا وتجيء، وكأنها خيوط القطن في أنوال الغزل، بل أحسسنا وكأنها الأفئدة تنتقل وتتجاذب في ألفاظٍ ونبرات.
ويعود السؤال بيننا فيظهر من جديد: ماذا بين العربي والعربي، مما يظهر على أقواه وهما في الغربة؟ هنالك كثيرون من غير أبناء الأمة العربية (وأحيانًا من أبنائها أنفسهم)، يعتقدون بأن الوحدة القومية بين الشعوب العربية وهمٌ مزعوم، وأن تلك الشعوب لا يربطها إلا الرقعة الجغرافية المتصلة، ولم يكن غريبًا أن نرى سياسة الاستعمار الأوروبي، تشطر ذلك الاتصال الجغرافي شطرين بفاصلٍ اسمه إسرائيل؛ لتُزيل من الأذهان حتى ذلك الوهم القائم على التجاور الجغرافي، لكن هؤلاء جميعًا لم يعرفوا بأي المشاعر تهتز نفس العربي، إذا ما التقى بأخيه العربي في غربة، وأخذا يتحدثان باللغة العربية!
قال أحد الزميلين في محاولة الجواب: ألا يكون الرباط الذي يجذب العربي إلى العربي، إذا هما التقيا في أرض الغربة، رباطًا سلبيًّا أكثر منه إيجابيًّا؟
سأله زميله: وماذا تعني؟
فقال: أعني أن شيئًا من التعاطف بين العربي والعربي، ينشأ من شعورهما معًا بما يعْتوِر الأمة العربية في حاضرها، من أسباب العجز والتخلف؛ فالمشاركة في الضعف تدعو إلى التراحم. إن في موروث الأمة العربية ما لا يسعفها عند الجري في ميادين الحياة العصرية، بل إن من موروثها ما يُحدث لها العثرة والسقوط، فبينما الازدهار في مجالات الاقتصاد هو هدف عصرنا، وبه تُقاس الأمم تقدُّمًا وتأخرًا، نرى الأمة العربية ما زالت تُعلي من المظهرية الاجتماعية، فلأن يظهر العربي أمام الناس بأنه من أصلٍ كريم، أهم عنده من أن ينمو في علم أو في صناعة؛ ولذلك فقد كثر حديث العربي عن «المجد» القديم، وكأنما لا يؤرقهم ألا يكونوا ذوي مجدٍ حديث، ولقد ترتب على هذه الصفة الأساسية فينا، صفاتٌ أخرى، منها أن أبناء هذا العصر يزهَون بما «ينتجون»، على حين أن كثيرين منا ما زال موضع زهوهم هو أنهم «يستهلكون»، ولكم شهدنا من العرب هنا (خارج الوطن العربي) من يبعثر ماله بغير حساب؛ ليقال عنه إنه ذو ثراء، فليس مصدر فخره أن يكون قد أنتج، بل مصدر فخره أنه أضاع.
هكذا قال أحد الزميلين؛ ليُعلِّل حنين العربي للعربي في الغربة، بكونهما معًا في الهم شريكين، وهنا اعترض الزميل الآخر على أن يكون الرباط بيننا، هو أمثال هذه الصفات السلبية، مقترحًا علينا أن نبحث عن جوانب الالتقاء في خصائصَ إيجابية، يتميز بها العربي أينما كان، ومن أي جزء من الوطن العربي جاء، وتساءل بدوره قائلًا: ما الذي يجعل الشاعر العربي والكاتب العربي والفنان العربي، في أي بقعةٍ ظهر، شاعرًا للجميع وكاتبًا للجميع وفنانًا للجميع؟
إن أحمد شوقي، وطه حسين، وأم كلثوم، لم يكونوا لمصر بأكثر مما كانوا للعرب جميعًا، وإذن فحين يكون الأمر أمر فكر وشعور، تكون الأرض مشاعًا مشتركًا بين العرب أجمعين، وفي هذا وحده ما يشير إلى الأسس العميقة، التي أقيمت عليها القومية العربية الواحدة.
فقلت للزميلين بعد صمتٍ، استمعت للحوار بينهما: قلت، إنه لمما يلفت النظر، حتى وشيءٌ من الخلاف قائم بين بعض الدول العربية، أن تكمن وراء هذا الخلاف نفسه «وحدة»، تشعُّ كما يشعُّ ضوء الشمس من وراء السحب، إن في العالم مجموعاتٍ أخرى من الدول غير مجموعة الدول العربية، وبينها ما بيننا من روابط اللغة والعقيدة، وقد يكون بينهما مثل ما بيننا من محاولات للمشاركة في خطط السياسة والاقتصاد والثقافة، لكن ثمة اختلافًا بين مجموعة الدول العربية ومجموعاتهم؛ ففي مجموعاتهم ترى الصداقة أو الخصومة، لا تجعل مصير كل دولة منها متوقفًا على مصائر الأخريات، كأن اتحادها أو عدم اتحادها يأتي كغطاء الرأس، تضعه أو تخلعه دون أن تتأثر لذلك هوية الشخص ذاته، وأما بين الدول العربية فالأمر مختلف؛ لأن الدولة منها لا تستطيع أن تتخذ لنفسها موقفًا، إلا إذا كان بصرها وسمعها على بقية الدول، لشعورها القوي بأنها لا تستطيع أن تشذَّ دونها، وأن تظل على شذوذها فترةً طويلة.
وختمنا وقفتنا القصيرة وحوارنا، بأن قلنا معًا إن ما بين ثلاثتنا من رباطٍ، إنما هو امتدادٌ لما كان منذ كانت في الدنيا عروبة، وسوف يظل قائمًا ما بقيت في الدنيا عروبة، وعروبتنا طبعٌ وثقافة معًا، أو قل إنها طبيعةٌ وتاريخ.