طبيعتنا وما ينبع منها
عبارة نُديرها على الألسنة الآن بكثرةٍ ملحوظة، هي قولنا عن فكرةٍ معينة أو اتجاهٍ أو مذهب «إنه نابعٌ من طبيعتنا»؛ ولذلك فهو مقبول، أو ليس نابعًا؛ ولذلك فهو مرفوض.
وكان ينبغي أن يُلحَّ على رجال الفكر والأدب سؤال عن «طبيعتنا» هذه؛ ما عناصرها وأركانها؟ فما دامت هي المرجع الذي نرتدُّ إليه — بحق — لنشنق منه ما يجوز لنا الأخذ به وما لا يجوز؛ فلا مناص لنا من تحديده، حتى لا يُترك نهبًا مباحًا لكل متكلم، يستمد منه من شاء أي معنًى شاء، ولا رقيب ولا حسيب، كأنه «جوف الفرا»، الذي قال عنه الشاعر القديم إن كل أنواع الصيد فيه، ولكم كنتُ أتمنى ألا نترك هذا الأساس الفكري الهام لمجرد «الرأي» نبديه، بل كان الأولى أن تتناوله مراكز البحث الاجتماعي، وأقسام علم الاجتماع وعلم النفس في جامعاتنا، ليقيموا لنا النتائج العلمية الصحيحة عن «طبيعتنا» تلك، التي ينبع منها هذا، ولا ينبع منها ذاك، أقول كان الأَولى أن تقيم لنا مراكز البحث وأقسام الجامعات، النتائج العلمية الموثوق بها، على أسسٍ علمية، وبمناهج البحث العلمي، ولسنا في ذلك أول من يحاول هذه المحاولة العلمية في تحديد الطابع القومي، فهذه هي اليابان — مثلًا — نقرأ عن معهد البحوث الاجتماعية، فيها أنه قد اضطلع بمثل هذا المشروع؛ ليحدد الخصائص القومية التي تميز الشعب الياباني، فأي هذه الخصائص ثابت وأيها يتغير؟
بدأ المعهد الياباني بحوثه تلك منذ أكثر من عشرين عامًا، وأخذ يراجع النتائج مرة كل خمس سنوات، ليرى ماذا تكون الاتجاهات التي يثبت عليها الناس طوال السنين، والاتجاهات الأخرى التي يغيرونها حينًا بعد حين؛ ليوائموا بين أنفسهم وبين ما يحيط بهم من مستحدثات الحياة.
وإلى أن يقطع علماء الاجتماع والنفس عندنا بقول، فلا حيلة لنا إلا «الرأي» نبديه عفو الخاطر.
وقد يكون من الخير أن نلجأ إلى البداهة، وما تراه باديًا ومميزًا في طبيعة شعبنا — على سبيل الأمثلة الدالة، إن لم يكن على سبيل الحصر — فمن ذا الذي يحتكم إلى بديهته، فلا يحس الشعور الديني العميق، الذي يملأ النفوس ويعمر القلوب، وذلك الشعور الديني في عمومه، الذي يجعل الإنسان يجاوز الشهادة إلى الغيب، ويجاوز اللحظة العابرة الحاضرة إلى حياة الخلود، ويجاوز حدود الأشياء إلى ما يمكن أن ترمز إليه تلك الأشياء، أقول إن هذا الشعور الديني العام مميزٌ ثابت لنا، مهما يطرأ على تياره الدائم من متغيرات الشعائر في مراحل التاريخ ومتعاقب الديانات، ذلك — إذن — أحد الأصول الثابتة في نظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، وأما ما «ينبع» من تلك الطبيعة فينا فأمور كثيرة، من أهمها في حياتنا العصرية الحاضرة، التسوية بين الناس على اختلاف أعمالهم؛ لأنه إذا خيل إلينا أن الأفراد يتفاوتون في اللحظة العابرة، فهم بالنسبة إلى الأبدية سواء، على غرار ما نقوله، إذ نقول إن جميع الأشياء على وجه الأرض، يتساوى بُعدها عن الشمس.
ولهذه اليقظة نفسها وجهٌ آخر «ينبع» مباشرة من نظرتنا الدينية العميقة، وهو أن القيمة العليا التي يُقاس بها الناس ارتفاعًا وانخفاضًا، ليست هي النجاح المادي في الحياة العملية، فهذا النجاح الذي يُقاس بالمال وبالمنصب، إنما ابتكرته شعوبٌ أخرى، حديثة العهد في تاريخها، لكننا — حتى وإن تظاهرنا بقبوله — فهو لا يضرب بجذوره في أعماقنا. إن الواحد منا يعمل العمل، ثم يأخذ أجره المالي، وهو في حالة من الخجل، لا يستطيع إخفاءها، وكثيرًا ما تسمع المتحدث منا يقول في سياق حديثه: «إن ما يهمني ليس هو المال، وإنما المهم هو كذا وكذا»، والخلاصة هي أن الإنسان في نظرتنا إنسان، بإنسانيته الطيبة الورعة المستقيمة، أكثر منه إنسانًا بما يملكه أو لا يملكه.
إننا إذ ندعو مخلصين إلى العقلانية الصارمة في شئون حياتنا، فلسنا نريد بهذه الدعوة، أن نتناقض مع ذلك الجذر الديني العميق في نفوسنا؛ لأنه بينما تريد للعقل أن يتولى الشئون العابرة الظاهرة من حياة الإنسان، نترك للنظرة الدينية الثابتة الراسخة في نفوسنا، تحديد القيم لما يخلد ويدوم، والخلط بين هذين المجالين هو الذي يؤدي إلى سوء التفاهم.
وأصلٌ ثابت آخر من الأصول التي تُكوِّن «طبيعتنا» مكانةُ الأسرة في نفوسنا، وما يتبع هذه المكانة من عرفٍ في التعامل بين الكبير والصغير، وهنالك في هذا المجال بعض الظواهر التي يسيء فهمَها من لا يعرف أصولها؛ فقد ينظر الأجنبي إلى الابن يبدي لأبيه أو أمه طاعةً خاشعة، فيقول إنها بذور لروح الاستبداد وفي نظام الحكم، لكن ما هو استعباد واستبداد في ظاهره، إنما هي في باطنه حب وتوقير.
وبالجمع بين الأصلين المذكورين: الأصل الديني والأصل الأسري، «تنبع» لنا فروع فيما يميزنا من خصائص، فإذا كانت روابط الطاعة في البناء الأسري تُحدِّد من الذي يأمر ومن الذي يطيع، فإن إيثارنا لما هو خالد على ما هو زائل، بحكم شعورنا الديني، يُحتِّم علينا أن نجعل طاعة الابن لأبيه في الأسرة، أو طاعة الزوجة لزوجها، محدودة بما لا يتصل بالمسئولية الدينية أمام الله، ومن هنا يحدث التوازن — مرةً أخرى — بين شئون الحياة المتغيرة العابرة، ودنيا القيم الثابتة التي لا تتبدل ولا تزول.
إن تقديسنا للأسرة يميل بنا نحو إخراج أمورها، من مجال العمل الذي نكسب منه الرزق، فلا أمور العمل تُفسد حياة الأسرة، ولا حياة الأسرة ينبغي لها أن تفسد مجال العمل، وعلى سبيل المقارنة نقول إن أول سؤال ألقاه الباحثون في المعهد العلمي في اليابان — المعهد الذي أشرنا إليه فيما سبق — وهو سؤال حدَّدوا به إحدى الخصائص الثابتة في طابعهم القومي، هو: ما هي الصفات الرئيسية، التي تريد لها أن تكون في رئيسك، الذي يشرف عليك في مجال العمل؟ وكان الجواب المشترك هو: نريد رئيسًا يقسو علينا في العمل، لكنه يخالطنا في حياتنا الخاصة مخالطة الإخوة، ومن هذه الإجابة المشتركة اشتقوا ما يميز الياباني في نوع الحكومة التي يريدها. وأغلب ظني أننا لو وجَّهنا هذا السؤال إلى مصريين، لما كان هذا هو جوابهم، فهم لا يريدون رئيسًا يقسو في العمل، ولا هم يريدون رئيسًا يخالطهم في حياتهم الخاصة، فإذا كان الياباني بطبيعته يمزج بين الحكومة والأسرة، فالمصري بطبيعته يفصل بينهما؛ لأن كلًّا منهما يتبع مجالًا مختلفًا، مجال الحكومة موكول للمتغيرات، ومجال الأسرة جزءٌ من الثوابت.
وأصلٌ ثالثٌ ثابت في «طبيعتنا»، هو المحافظة الشديدة على العرف الاجتماعي، فليس من السهل على المصري أن يخرج على هذا العرف، حتى وإن تمنَّى له أن يزول حين لا يجد في قيامه حكمة ظاهرة، بل إن المصري منا قد يكتب ويكتب، داعيًا إلى تغيير عرف من الأعراف الاجتماعية، ولكنه لا يجرؤ هو نفسه على تغييره، فإذا كان هذا في ظاهره جمودًا، فهو على الأقل يضمن للجماعة، ألا تتسرع في تغييرٍ أرعن، لا يتفق مع نضجها الثقافي والحضاري.
تلك طائفةٌ من الأصول الثابتة، التي يتكوَّن منها ما نعنيه، عند الإشارة إلى «طبيعتنا»، وأما ما هو «نابع» من تلك الطبيعة، فهو كل شيء يحافظ لنا على الشعور الديني، وعلى كيان الأسرة وعلى العرف الذي تواضع الناس بصفةٍ عامة، على أن يتعاملوا على أساسه.
وبديهي أن الثوابت الممتدة على آمادٍ طويلة من التاريخ، يصاحبها خصائصُ أخرى متغيرات، لا يبالي المجتمع أن يراها تتبدَّل مع تبدُّل الظروف، بل ربما رأيناه يطالب بتبديلها، كلما اقتضت لها ضرورة الحياة أن تتغير، مثال ذلك: إن كيان الأسرة الذي نحرص على بنيانه، وعلى ما ينطوي عليه من علاقات التراحم والتعاون بين أفراد الأسرة، من الوالدين إلى البنين، ومن الإخوة إلى أبناء العم والخال، أقول إن هذا الكيان الأسري قد يلحق به «الوساطة»، بين أفراد الأسرة الواحدة، بحيث يضحي الفرد منهم بصالح الآخرين، في سبيل خدمة يؤديها إلى أقربائه، لكن هذا التفريع عَرَضي، قد لا يلزم حتمًا عن الأصل؛ ولذلك كان من الممكن أن يدخل هذا الفرع في دائرةٍ ما يتغيَّر، حين تتطلَّب ظروف المجتمع أن يتغيَّر.
وكذلك حقوق المرأة وواجباتها، هي مما يلحق بالكيان الأسري، ولكنه أيضًا مما يمكن أن يطرأ عليه التغيُّر، دون أن نمسَّ الكيان الأساسي بسوء، فقد تعمل المرأة داخل البيت أو خارج البيت، وتظل الوشائج القوية رابطة بينها وبين أفراد أسرتها. وبمناسبة المرأة وحقوقها، نقول إن في البحث الاجتماعي الذي قام به معهد البحوث في اليابان، ورد سؤالٌ موجَّه إلى الرجال والنساء معًا، هو: لو كانت حياتك لتبدأ مرةً أخرى، وكان لك حق الاختيار، فهل تحتفظ بجنسك الحالي أو تُغيِّره بالجنس الآخر؟ فكان جواب الرجال جميعًا أنهم يختارون الذكورة، وأما النساء فكان نصفهن فقط هو الذي قال إنه يختار الأنوثة، والنصف الآخر يتمنى لو خلقن رجالًا، مما يدل على أن الرجل، ما يزال يتمتع بحقوقٍ اجتماعية أكثر من المرأة، ويريد الاحتفاظ بما يتمتع به، وأن نصف النساء يرون تغيير الجنس؛ طمعًا في الامتياز الاجتماعي الذي يظفر به الرجال.
إلا أن الحديث في العناصر التي تتألف منها «طبيعتنا»، وفي ما هو نابع منها، حديثٌ طويل متشابك الأطراف، لكن الموضوع حيوي، يعتمد على وضوحه وضوح ما نجيزه، وما نمنعه من مقومات حياتنا الجديدة، ما دمنا قد صرحنا في مواثيقنا الوطنية بأن «طبيعتنا»، هي ينبوع التطور الذي نرتضيه، والواجب محتوم على المراكز العلمية، أن تقطع فيه بالقول الذي لا يتركنا لاجتهاد الآراء.