المصريون وسرُّ خلودهم
الوقت صيف، والمكان شاطئ الإسكندرية الجميل، والصحبة جماعة ربطتها روابط الود والوفاء، وموضوع الحديث هو مصر: مصر السماء، ومصر الأرض، ومصر البحر، ومصر الزرع، ومصر الصحراء، ومصر العمارة والحضارة، ومصر المصريين.
نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكاديين والآراميين والحيثيين، والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين؛ ذهبوا جميعًا، وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.
بقي المصريون كما كانوا من أول الدهر مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزًا ناطقًا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، ارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي، انبسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين، وهل كانت مصادفةً شاردة من مصادفات التاريخ، أن قويت المسيحية في كنف الإسكندرية، قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة، بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأةً ورعاية.
لقد قيل إن حضارة الإنسان قائمة على ركائزَ ثلاث (والقائل هو وايتهد): صناعة مصر، وديانة فلسطين والجزيرة العربية، وفلسفة اليونان وعلومها، ولكني أقول إن ذلك وإن يكن صحيحًا، إلا أنه صحيح على سبيل التغليب، فالأغلب على مصر أن تكون منشأ الصناعة، والأغلب على فلسطين والجزيرة العربية أن تكون منشأ الديانة — ديانة التوحيد — والأغلب على اليونان أن تكون منشأ الفلسفة والعلوم، ومع ذلك فإن هذه الركائز الحضارية الثلاث، لم تجتمع كلها بنسبةٍ واضحة إلا في مصر، فأنت صادق إن قلتَ عنها إنها مهد الصناعة، وأنت صادق إن قلت عنها إنها البادئة بعقيدة التوحيد، وأنت كذلك صادق إن قلت عنها إنها منشئة الفلسفة والعلوم، لقد قال رينان عن اليونان إنهم معجزة البشرية، وكان ينبغي أن يقول هذا القول عن المصريين الذين علَّموا اليونان.
كانت هذه هي نعمة الحديث بيننا، إذ التقينا صحبة على شاطئ الإسكندرية في الصيف، كان من الطبيعي أن يسأل منا سائل: إذا كان المصريون قد ظلوا مصريين، كما كانوا منذ أول الدهر، فما سر هذا البقاء الصامد على طول الزمان؟ وأخذ الاجتهاد في التعليل بيننا، يدور كالكرة نتناقلها واحدًا بعد واحد، لقد كان ما اجتهدت أنا به في حلبة الحوار، فكرةً بسيطة لكنها مُفسرة:
قلت إن روح التدين التي تغلغلت، في أعماق هذه الأمة منذ أقدم القدم، قد نتج منها نتيجة أعانتها على الخلود، وهي جمع الإنسان الواحد بين أن يكون فردًا، وأن يكون في الوقت نفسه مواطنًا؛ وذلك لأن هاتين الصفتين قد تجتمعان معًا في شخصٍ واحد وقد لا تجتمعان؛ لأن الإنسان الواحد قد يغوص إلى أذنيه في فرديته، وكأنه في هذه الدنيا وحيد، لا يجاوره أحد سواه، وكذلك قد تجد الإنسان الواحد، الذي يغوص إلى أذنيه في خدمة الآخرين، حتى لينسى أنه بدوره فردٌ يجب أن يعيش.
وبعبارةٍ أخرى، قد تكون أقرب إلى أفهامنا اليوم لاستخدامها ألفاظًا شائعة، نقول إنك تجد من الناس من يجعل الأولوية للأفراد من حيث هم أفراد، كما قد تجد فيهم من يجعل تلك الأولوية للمجتمع، وأما الأفراد فيظهرون ويختفون، كما تظهر أوراق الشجر في الربيع وتختفي في الشتاء، وكأنما كلٌّ من هذين الفريقَين يحسب أن لا لقاء بين الرأيين، مع أن الرأيَين يلتقيان معًا عند حامل العقيدة الدينية؛ لأنه بحكم عقيدته الدينية — على الأغلب — مسئول عما يفعل مسئوليةً فردية، وبحكم هذه العقيدة نفسها أيضًا، هو مطالَب بألَّا يعيش بمعزلٍ عن الناس، بدليل قيام الشعائر التي تُحتِّم أن يجتمع العابدون في مكانٍ واحد وهم جماعة، ومن روح التدين العميقة العريقة عند المصري، تعلم أن يجمع الجانبين في صدره بغير عناء: فهو يشعر بأنه فردٌ مسئول، وهو في الوقت نفسه يشعر أنه ملتزم بأمته، وحتى إن مرت على المصري فترات من التحول، تنحلُّ فيها الرابطة بين هذين الطرفين، فإنه عندئذٍ يشعر بالقلق، كأنما خرج عن فطرته، وعندئذٍ كذلك تسمع الناس يشكو بعضهم إلى بعض سوء الحال، داعين الله أن يكتب لهم النجاة من محنةٍ عابرة.
لقد روت لنا الأنباء منذ قريب قصةً عجيبة تستوقف النظر، عن ضابطٍ ياباني كان مشاركًا في القتال، أيام الحرب العالمية الثانية، وكان مقره هو ورجاله موضعًا ما من إحدى جزر الفلبين، واستسلمت اليابان، لكن صاحبنا لبث في موضعه من غابات تلك الجزيرة، لم يأمره أحد بأن يستسلم هو الآخر، بل لم يبلغه النبأ بأن الحرب قد انتهت، ومرت الأعوام منذ نهاية الحرب سنة ١٩٤٥م، ولم يكن معروفًا عن هذا الضابط، إلا أنه لم يُقتَل في معركة مع من قُتل، حتى كان شهر مارس من العام ١٩٧٤م، فعثروا عليه بعد تسع وعشرين سنةً كاملة، عثروا عليه وإذا هو طوال تلك السنين، دءوب على هندامه العسكري، وعلى سلاحه وذخيرته، كما لو كانت رحى الحرب دائرة.
وأعجب من هذا أنهم إذ أفهموه أن الحرب، قد انتهت منذ ثلاثين عامًا كاملة إلا عامًا واحدًا، وأنه لا بد أن يُسلِّم سلاحه ويقدِّم نفسه إلى السلطات في الفلبين، أصرَّ على أن يأتيه الأمر بذلك من رئيسه العسكري المباشر، الذي كان قد كلفه بواجبه، ولم يجدوا بدًّا من أن يجيئوا إليه من وطنه برئيسه المباشر — وهو الآن رجل من الشعب يحيا حياةً مدنية — فأمره بأن يستسلم ويسلم السلاح، ففعل.
تلك هي القصة التي روتها الأنباء، ويهمنا منها ما قد أحدثته في الصحف من نقاش، فأولًا قد استقبلت اليابان هذا «البطل»، استقبالًا كان — كما نُشر — من الطراز الذي يستقبلون به الغزاة الظافرين من قادة بلادهم، لماذا؟ لأنهم رأوا فيه نموذجًا عاليًا من احترام المبدأ؛ فقد كلف بواجبٍ عسكريٍّ قومي، فكان لا بد له من أداء واجبه إلى حد الفناء في سبيله.
لكن الذي يلفت النظر، هو أن هذه الحماسة الحارة في تمجيده بادئ الأمر سرعان ما هدأت، ليسأل المفكرون أنفسهم في هدوءٍ بعد ذلك: أحقًّا هذا هو النموذج الذي نريده للياباني في حياته؟ أتكون هذه الطاعة العمياء، التي لا مبادرة فيها ولا حسن تصرف، هي مثلنا الأعلى من تربية الناشئين؟ وكان الجواب هذه المرة: لا، لأن «أونودا» (وهذا هو اسم الضابط) لم يزد على آلة، وفقد جانبه الإنساني الذي يعطيه حرية العمل.
وإني لأتأمل هذه القصة ومغزاها، فأقول: إن مثل هذا الرجل بكل هذا الالتزام، المتزمِّت في أداء واجبه القومي، إنما هو صورة «للمواطن»، لكنه ليس صورة «للفرد» الحر، المسئول مسئوليةً بصيرة لا عمياء.
وشاء الله للقصة أن تكتمل فصولًا، فرووا أن جنديًّا يابانيًّا آخر (واسمه يوكوي)، كانوا قد عثروا عليه قبل ذلك بعامين، في جزيرةٍ أخرى من جزر الفلبين، لكنهم وجدوه قد يئس من القتال منذ زمنٍ بعيد، وأهمل سلاحه حتى بات قطعًا من الحديد الصدئ، كما أهمل ثيابه وأهمل بدنه، فكان أشعث الشعر، ممزَّق الثياب، قذر البدن، يعيش على نبات الغابة وحيوانها، كما يعيش الإنسان البدائي، ولم يفت الكتاب أن يقارنوا بين «أونودا» و«يوكوي»؛ لأنهما في الحقيقة نموذجان مختلفان من البشر، فبينما أَولهما قد حوَّل رغبة المجتمع، فجعل منها ضميرًا أخلاقيًّا يُسيِّره، كان الثاني أسرع استماعًا إلى غرائزه أو — كما قال أحد كتابهم — كان الأول يمثل اليابان التي لم تنهزم، على حين الثاني قد تمثلت فيه الهزيمة.
فهل يجوز لنا أن نقول إن كلا الرجلين كان على خطأ؟ ألا ترى أن كلًّا منهما قد احتفظ بجانبٍ وترك جانبًا؛ إذ احتفظ الأول بجانب «المواطن» تاركًا جانب «الفرد»، واحتفظ الثاني بجانب «الفرد» تاركًا جانب المواطن؟
إذا كان كذلك، فلقد أصبح واضحًا لنا، لماذا خلد المصري على وجه الدهر، بعد أن علمته ثقافته أن يجمع الفرد والمواطن، في نفسٍ واحدة وبلا عناء.