ثقافة المصري وجذورها
الحديث عن ثقافات الشعوب وما يميزها، كثيرًا ما يكون أقرب إلى المحاولة العقلية، تُقصَد لذاتها أكثر مما تُقصَد لصحة النتائج أو بطلانها، فقلما يتفق الرأي على شعبٍ معين: ماذا يميز ثقافته الأصيلة؟ وذلك لتشعُّب الحياة تشعُّبًا، يكاد يستعصي على قاعدةٍ واحدة، تضم أشتاته بجميع أطرافها، وإنه ليحدث أن يوصف لنا شعبٌ معين، بصفةٍ معينة عند باحث، وأن يوصف ذلك الشعب نفسه، بنقيض تلك الصفة عند باحثٍ آخر، ومع ذلك كله فالحديث عن ثقافات الشعوب، وما يميزها قد يكون كاشفًا وهاديًا، إنه لا يضيف إلى الحياة حياةً جديدة، لكنه يلقي الضوء على الجانب المستور، فيرى الناس من أمور أنفسهم، ما لم يكونوا قد رأوه من قبلُ.
لقد حاول كاتبٌ أمريكي أن يكشف عن المميز الفاصل، الذي يجعل الأمريكي أمريكيًّا تختلف نظرته عن كل إنسان سواه، فبدأ محاولته تلك، بأن اختار اختيارًا شبه عشوائي بعض الملامح، التي ظن أنها توجد في الحياة الأمريكية، ولا توجد في سواها، ثم تناولها بالتحليل حتى وقع — في رأيه — على القاسم المشترك بينها جميعًا، رغم تباينها الشديد، وكانت الملامح التي اختارها هي هذه: تخطيط المدينة الأمريكية، على خطوطٍ مستقيمة متوازية ومتعامدة، كأنها شبكة من قضبان الحديد، تتوازى وتتعامد في مربعات صغيرة، وناطحة السحاب التي هي في هيكلها المعماري كالقفص، تنهض أعمدته العمودية إلى أعلى، وتعترضها — طابقًا بعد طابق — أعمدةٌ أفقية، وموسيقى الجاز في تكرار وحداتها، والدستور الأمريكي، وأسلوب مارك توين في الكتابة، وطريقته في بناء القصة، وشِعر وتمان في ديوانه «أوراق العشب»، والإنتاج الكبير بطريقة التجميع، ومضغ اللبان … تلك — فيما رأى ذلك الكاتب — هي طائفة من ملامح الحياة الأمريكية الخالصة، فما هي الصفة الواحدة التي تتمثل فيها جميعًا؛ تتمثل في طريقة تخطيط المدن، وتشييد ناطحات السحاب، كما تتمثل في القصة والشعر والدستور والإنتاج الكبير ومضغ اللبان؟! وبعد تحليلٍ جيد لكل ملمح على حدة من تلك الملامح، انتهي إلى نتيجة، هي أن ما يميز الثقافة الأمريكية أساسًا، هو الاهتمام بطريق السير والحركة، أكثر من الاهتمام بما ينتج عن ذلك السير، ويتجمد على صورةٍ معينة محدودة، ولكي تكون الحركة السائرة حرة الخطوات، وجب أن تكون مؤلَّفة من وحداتٍ تتكرر إلى غير نهايةٍ معلومة: فالمدينة المخططة على استقامة الشوارع وتعامدها بدقةٍ هندسية، قد تنمو — بالطريقة نفسها — إلى غير حد، دون أن تنكسر وحدتها الفنية، وناطحة السحاب المكوَّنة من طوابقَ على هيئة القفص في هيكلها، يمكن أن تعلو إلى غير حد، دون أن يفسد شكلها المعماري، والقصة عند مارك توين قوامها حكاياتٌ صغيرة، تُروى بأسلوب الحديث المعتاد، الذي هو موضوعات تتعاقب مع فتراتٍ قصيرة من الصمت، وإذن فلا يضير بناءها الفني، أن تستطرد في توالي الحكايات إلى غير حد، وشِعر وتمان مرسل، لا يُراعي توازنًا ولا تماثلًا في مقطوعاته، والدستور الأمريكي تتراكم مواده مع مقتضيات الحوادث، فليس له خاتمة مغلقة يقف عندها، وهكذا قل في الإنتاج الاقتصادي من حيث قابلية البناء لتكرار الوحدات، وفي غير ذلك من جوانب الحياة، والخلاصة هي أن طابع الثقافة الأمريكية — عند ذلك الكاتب — هو انطلاقة الحركة غير المقيدة بمبدأ ومنتهى.
قرأت ذلك، فقلت لنفسي: لماذا لا تجرب منهجًا كهذا على الثقافة المصرية الصميمة، لعلك تخرج بطابعٍ لها يميزها؟ وبدأت كما بدأ، أي إنني اخترت طائفة من ملامح الحياة المصرية، اختيارًا شبه عشوائي، وكان ما اخترته هو هذه الملامح: القرية المصرية، أبو الهول، الأزهر، أم كلثوم، أحمد شوقي، مولد السيد البدوي، خان الخليلي، وتناولت هذه الأشياء بما استطعته لها من تحليل:
فكان أهم ما رأيته يميز القرية المصرية — في تكوينها المعماري — تكتلها وتلاصق مبانيها، حتى لتبدو للقادم من بعيد، كأنها كومةٌ واحدة تنبثق من رأسها مئذنة، أغلب طرقها مغلق من أحد الطرفين، وهي طرق تنعرج مع المباني، فلا يراد لها أن تستقيم؛ لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرةٌ واحدة، تجد الدفء في الجوار، وتجد الطمأنينة في أن يتعانق الكل في جسمٍ واحد، فلا بأس في أن تضيق الطرق وأن تنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض، إن مثل هذه القرية لا تقبل الغريب، إلا إذا انخرط في كيانها، إنها ترفض أن يدخلها دخيل، يغيِّر لها ركنًا أساسيًّا من قواعد حياتها، فيُعكِّر عليها تلك الحياة وصفوها، فدوام بقائها هو معيارها، وكل تغير مقبولٌ إذا جاء في ذلك الإطار الدائم.
وأبو الهول — كسائر الآثار المصرية — يبني العقل على أساس الفطرة ليكتسب الدوام، إنه رأس إنسان، بما يتضمنه من بصيرةٍ واعية، لكنه رأس ركِّب على حقيقةٍ فطرية، لصيقة بالطبيعة وهي جسم الأسد، فها هنا كذلك جاء الرمز دالًّا على التمسك بالأساس الفطري الثابت، حتى ولو كان التغير الطارئ هو عقل بإدراكه الواعي.
والأزهر تتلخَّص رسالته الحضارية الكبرى، في أنه هو الذي جمع أشتات التراث العربي، عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء، على أيدي التتار، ولولا هذا الجمع الذي اضطلع به الأزهر، لما كان بين أيدينا اليوم، ما يسمى بالتراث العربي، ومرةً أخرى نجد «الدوام» ومقاومة التشتت والفناء هدفًا رئيسيًّا، تنتظم خطوات السير على هداه.
وأم كلثوم التي ترسل الغناء، وكأنها تقيم عمارة على عُمُدٍ مكينةٍ ثابتة؟ إنها لتسلك أرقَّ العواطف في جوٍّ من الوقار المهيب، لا تكاد تفرق فيه بين قصيدة في مدح النبي عليه السلام، ونشيدٍ وطني، وقطعةٍ غزلية مما يتبادله العاشقون، كل ذلك في إطار الفن الغنائي، عندما يتخذ الصورة التي تضمن له الدوام. وشيء كهذا يقال في شعر أحمد شوقي، إنه يقول الشعر — كائنًا ما كان الموضوع — وكأنه يخاطب به الزمن غير المتقيد بأفرادٍ من البشر يجيئون ويذهبون، والحقيقة هي أن هذه الخاصة، تبدو لي مميزة للشعر العربي كله.
ومولد السيد البدوي — كأي مولدٍ آخر يُقام في مصر مع اختلاف الحجم — يعطيك إحساسًا عجيبًا بالحياة المصرية بشتى عناصرها، إنها ليست تعبُّدًا كلها، ولا هي مرح كلها، ولا هي تجارة كلها، إنها كل ذلك في مزيجٍ واحد، تحمل في طيِّها من الرمز في مثل ما تحمل من الواقع. إن حلقة الذكر الصوفي قد تنعقد بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان معًا على مقربةٍ لصيقة ببائع الحمص والحلوى وحَبِّ العزيز … حياة لها عرفها الذي يتكرر عامًا بعد عام، لم توضع لها القواعد والقوانين، ولكنها تجري في انبثاقها الفطري، كما جرت في أعوامٍ مضت، وكما ستجري في أعوام تتلو.
وماذا عن خان الخليلي؟ إنه في مُجمله رواسب عصورٍ تأبى أن تزول، تدخل عليها عوامل العصر الجديد، كما تلبس النساء سوارًا حول معصمها، فهو حليةٌ مضافة، لكنه ليس هي، وهذا هو ما يشدُّ السائحين الأجانب إليه، إنهم لا يذهبون إلى شارع قصر النيل وشارع طلعت حرب؛ لأنهم لو فعلوا، كانوا ما يزالون في بلدهم وفي عصرهم، وضاعت عليهم تكاليف السفر، لكنهم يذهبون إلى خان الخليلي؛ لأن الماضي يزاحم الحاضر ويزحمه، والمعنى نفسه قائمٌ في كل قطعةٍ مصنوعة هناك، ففي كل قطعةٍ معروضة تلمح التكامل البشري، الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، كما هي الحال في الصناعة الآلية الجديدة، ففي مصنوعات الخان تمتزج الصناعة بالفن، ويمتزج المصنوع بالصانع.
خذ ما شئت مما تراه في حياتنا، ولا ترى مثله في حياة الآخرين، تجد فكرة الدوام الذي يعلو على اللحظة العابرة، تجد فكرة الدوام كامنة فيه بشكلٍ ظاهر أو بشكلٍ خفي، الدوام هو معيارنا في التغيُّر الذي نقبله، أو التغيُّر الذي لا نقبله، فما جاء على أطر حياتنا العميقة، كالزائدة التي تفيد ولا تضر، قبلناه، وأما ما جاء ليهدم لنا الإطار فهو مرفوض، حرية المفكر وحرية الفنان وحرية الإنسان بصفةٍ عامة، مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم.
أما أن يكون هذا خبرًا أو لا يكون، فليس ذلك موضوع هذا الحديث.