بين ماضٍ وحاضر
عندما نقول إن حياتنا الفكرية في عصرنا، يجب أن تختلف اختلافًا بعيدًا عن الحياة الفكرية لأسلافنا في عصورهم، فلسنا بذلك نقول شيئًا لنا فيه اختيار، أو قل: إن الاختيار الوحيد أمامنا في هذا المجال، هو أن نختار بين أن تكون لنا حياةٌ فكرية أو لا تكون، فإذا كانت الأولى، أي إننا إذا اخترنا أن تكون لنا حياةٌ فكرية، فعندئذٍ يصبح حتمًا علينا أن تجيء حياتنا الفكرية مختلفة عن حياة أسلافنا، رضينا ذلك أم كرهناه.
وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين ماضٍ وحاضر، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية في كثيرٍ جدًّا من ميادين الفكر والأدب، فاللفظة المعنية تظل قائمة بيننا، كما كانت قائمة بين أسلافنا، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم، فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف، وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين، لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم، ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل، وأرادوا تعاملًا وتبادلًا مع أهل المدينة، وسأقدِّم هنا مثَلين أختارهما من المعاني الوثيقة الصلة بدنيا الأدب والفكر.
المثل الأول خاص بالكتابة والكاتب والكتاب، فماذا نفهم اليوم من قول القائل عن رجلٍ إنه: «كاتب»؟ ألسنا نفهم من هذه الكلمة معنى، كالذي نصف به رجلًا مثل العقاد أو طه حسين؟ فالكاتب عندنا اليوم هو من يعالج «الأفكار» بسطًا وتحليلًا، أو يصور تفاعلات «السلوك» البشري متمثِّلًا في أفراد، يخلقهم خلقًا في قصصه ومسرحياته، أو يعيد خلقهم ابتعاثًا من صفحات التاريخ، ومن العجب أننا نستخدم هذه الكلمة نفسها — كلمة «كاتب» — لندلَّ بها على مهنةٍ أخرى، لا نكاد نذكرها إذا ما كان حديثنا حديثًا عن الفكر والأدب، وأعني بها المهنة الإدارية التي يُناط بها كتابة الرسائل الحكومية أو حفظها، وهي المهنة التي يرتقي صاحبها من «كاتب» إلى «باش كاتب».
وعكس ذلك هو ما كان سائدًا بين أسلافنا، فإذا قيل عن رجل إنه «كاتب»، لم يرد إلى أذهان السامعين قط أنه ذو علاقة بنقد «الأفكار» وتمحيصها، ولا بتصوير السلوك البشري في قصةٍ ومسرحية، وإنما المعنى الذي يرد إلى الأذهان هو تهذيب المعنى الثاني في حياتنا، أي المعنى الذي نفهم به مِن الكاتب أنه رجل يعمل في دواوين الحكومة أو ما يشبهها؛ ليشرف على كتابة الرسائل الرسمية وحفظها، فلو طولب مؤرخ بأن يذكر أعلام الكُتَّاب (بضم الكاف وتشديد التاء) في تاريخنا القديم، لما ذكر بينهم الجاحظ والتوحيدي وأبا العلاء؛ لأن هؤلاء كتاب بمعنى هذه الكلمة عندنا نحن اليوم، وكذلك لو طولب مؤرخٌ معاصر بأن يذكر أعلام الكتاب في حياتنا الحديثة، لما ذكر إلا رجالًا من أمثال طه حسين والعقاد والحكيم، ومحال أن ينصرف ذهنه إلى من يعملون في دواوين الحكومة وغيرها بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه.
ففي دنيا الفكر والأدب، يمتنع التفاهم بين السلف والخلف، إذا ما دار الحديث حول «الكاتب» وما ينبغي له أن يفعل، فمن هو كاتب عندنا لم يكن كذلك عندهم، ومن هو كاتب عندهم ليس كذلك عندنا. إنهم إذا أرادوا وصف الكاتب الأمثل قالوا كلامًا كهذا: من صفة الكاتب اعتدال القامة، وكثافة اللحية، وملاحة الزي، حتى لقد أوصى والد والده أن يتخذ أسلوب الكاتب في حياته، فيكون نقيَّ الملبس، نظيف المجلس، طاهر المروءة، عَطِر الرائحة. وقد يستطرد الواصفون عندهم للكاتب النابغ في دنيا الكتابة، فيذكرون طريقته في كتابة الحروف، وفي إعداده لأقلامه، «فيتخيَّر من القصب أقلَّه عقدًا، وأكثره لحمًا، وأصلبه قشرًا، وأعدله استواء، ويجعل لقرطاسه سكينًا حادًّا؛ لتكون عونًا له على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصبة، واعلم أن محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.»
قد نقول نحن اليوم هذه العبارة الأخيرة نفسها: «محل القلم من الكاتب كمحل الرمح من الفارس.» لكننا إذا قلناها، عنينا بها شيئًا آخر غير الذي عناه بها قائلها القديم، فقد أراد بها حين قالها: عناية الكاتب بالقلم من حيث هو قطعة من قصبة، يجب أن يختارها على صفاتٍ معينة، وأن يبريها بسكينةٍ على طريقةٍ معينة، وأما نحن — إذا قلناها — فلا نعني بها إلا «الأفكار» أو «الصور السلوكية» التي يجري بها القلم، كيف يجب أن تسدد في الهجو وفي الدفاع، كما يحدث للرمح في يد الفارس.
ويطول بنا الحديث إذا استرسلنا في ذكر الفوارق بيننا وبين أسلافنا، عندما يرد في الحديث ذكر للكتابة والكاتب، فنكتفي بما أسلفناه، لننتقل إلى المثل الثاني: وهو خاص بلفظتي «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟
أما نحن اليوم، فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» — في دنيا الفنون — اختلافاتٍ كثيرة، لكننا جميعًا نقع في إطارٍ فكريٍّ واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتَين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد يحدثانه في نفس المشاهد أو السامع من نشوةٍ من طرازٍ معين، نحاول تحديده، فنختلف في طريقة التحديد، لا في تلك النشوة نفسها وحدوثها، وقليلون منا هم الذين عُنوا بالتفرقة في هذا المجال، بين نشوةٍ يحسُّها الرائي للزهرة الرقيقة — مثلًا — ونشوة أخرى يحسُّها المشاهد للجبل العظيم أو للمبنى الضخم، أو البحر الضخم، أو الصحراء الممتدة، وهكذا. والذين فرقوا بين الحالتين، اقترحوا أن يقتصر «الجمال» على الحالة الأولى، وأن يُطلق «الجلال» على الحالة الثانية، وسواء فرقنا بين الجمال والجلال في دنيا الفنون وعالم الطبيعة أو لم نفرق، فللكلمتين عندنا معناهما التقريبي، إن لم نستطع لهما تحديدًا حاسمًا في مجال النقد الفني، وفي الفلسفة الجمالية، كما يعرفها الدارسون.
ونعود إلى أسلافنا فنفاجأ بشيءٍ آخر، لا يمتُّ بصلة، أو يوشك ألا يمت بصلة، بما يطوف في أذهان المعاصرين، فاقرأ — مثلًا — رسالةً صغيرة لابن عربي عنوانها: «كتاب الجلال والجمال»؛ لترى في أي عالمٍ ينظر؟ إنني ما زلت أذكر اللحظة التي وقعتُ فيها على هذه الرسالة، فما كدت أقرأ عنوانها، حتى سرت في نفسي فرحة، وسحبتُ الكتاب من الرف، وعدت به إلى مقعدي من المكتبة، لأنكبَّ عليه، ظنًّا مني أنني قد وقعت على ما يشبه نظريات «الجمال» و«الجلال» في الكتابات الفلسفية أو النقدية التي أعهدها في ثقافتنا المعاصرة؛ وذلك لأنني لم أقع قبل ذلك — ولا بعد ذلك — عند أي مفكرٍ عربيٍّ قديم، على شيء مما يجوز أن نسميه بالنظرية الجمالية — الاستاطيقية — في التراث العربي.
عُدت برسالة ابن عربي إلى حيث كنت أجلس يومئذٍ من المكتبة، فإذا بي أجد المتعة التي لم يكن فوقها متعة، ولكنها متعة جاءتني من عالمٍ فكريٍّ آخر، غير العالم الذي توقَّعته من العنوان.
بدأت الرسالة بتفرقةٍ لطيفة ونافذة، لم أجد لدقَّتها مثيلًا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين، عربًا كانوا أم من غير العرب، وذلك أنه وصف الحالة التي تعتَوِر الإنسان أمام «الجميل» بأنها أُنس، والحالة الأخرى التي يحسُّها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم؛ فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح — مثلًا — لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل، ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة، هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة — أمام الجميل وأمام الجليل — إنما هو شعورٌ خاص بالإنسان المشاهد، لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة. إلى هنا والدنيا بخير، فلا فرق بين مجال الكاتب ومجال القارئ في طريقة التصور.
لكن أمضي مع الكاتب، فإذا هو يعني بالجمال والجلال أمورًا لم تتوقعها قط — لو كنت مثلي — إذ هو يعني بهاتين اللفظتين، حالتين مختلفتين في توجيه الله تعالى لآياته إلى الناس فهو آنًا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسَّط معهم، ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنًا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال)، وينطلق ابن عربي بعد ذلك؛ ليبين لنا أنه ما من موضعٍ في القرآن الكريم، كان فيه الجمال، إلا وقد قابله موضع فيه الجلال، فقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ يقابله قوله: شَدِيدِ الْعِقَابِ، وقوله: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ يقابله: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ يقابله قوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، وهكذا يأخذ المؤلف في ذكر أمثلة كثيرة، تبين هذا التقابل المطرد بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» — كما يسميها.
فبأي قاسمٍ مشترك يتحدث المعاصرون مع القدماء في شئون الفكر والأدب، إذا ما دار بينهم حديث عن «الكتابة» و«الجمال» و«الجلال»؟ ألم أكن على حقٍّ حين قلت إن الاختلاف بيننا محتوم؛ لأنه أمرٌ ليس لنا فيه اختيار.