النغمة الهادئة
النغمة الهادئة هي نغمة المصري في حياته، إذا ما أُطلقت له تلك الحياة على سجيتها، لم تعترض سبيلها حوائل وموانع، المصري في حياته العملية مطرد منتظم مهذَّب، ينساب انسياب النيل في مجراه، لا يفاجئ ولا يباغت، فنهر النيل حتى في فيضانه مُقيَّد بموعده، كأنما هو ينذر بقدومه؛ لكيلا يأخذ أحدًا على غرَّة وخديعة، المصري بانٍ للحضارات، صانع للثقافات، ولولا نغمة حياته المطمئنة الهادئة ما صنع ولا بنى، ولكنه إذا فاجأته فاجئة استدار لها وأزالها؛ لكي يعود إلى هدوئه فيبني ويصنع.
وللإنسان في حياته العملية — كما للكاتب في كتابته وللمتحدث في حديثه — أسلوبه الخاص الذي يميزه من سواه، وأسلوب الإنسان في حياته العملية — كأسلوب الكاتب وأسلوب المتحدث — هو الجانب المنظور من حقيقته، وهو مؤلَّف من مجموعة اختيارات وحذوف، فهو يختار لنفسه في كل موقف — والمواقف الحاسمة من حياته بصفةٍ خاصة — هذا الفعل دون ذاك، يختار في حديثه هذه اللفظة دون تلك، فهو إذ يختار ويحذف، يعكس نفسه أمام الناس، كما يريدها أن تكون، وحياة المصري كما يبديها في الظروف المعتادة سلوكًا وحديثًا، تتميز بهدوء الاعتدال.
إنه إذا رضي إنسان عن نفسه، أبداها في تعامله مع الناس، ومع الأشياء كما هي على حقيقتها، لا يدعوه داعٍ أن يُسدل عليها أقنعةً ليخفيها، ولقد عاش المصري في أزمة النكسة ست سنوات وأربعة أشهر، خرج فيها على طبيعته، فأخذه الضيق، واستبدَّ به القلق، وتوترت أعصابه حتى لتستثيرها توافه الأسباب، ثم ما هو بعد يومٍ واحد من النصر، إلا أن عادت له طبيعته، وها أنا ذا ألحظ في كل من أصادفهم حولي من الناس، أينما توجهت، وكائنة ما كانت الصلة بيني وبينهم، هدوءًا في النغمة؛ نغمة الحديث هادئة، الحركة هادئة، يزدحم الناس هنا وهناك، ولكنه زحام يوشك أن يكون صامتًا، لم تعد وجوه الناس عابسة، التعاطف والتراحم والتعاون، أصبحت في لمح البصر هي قاعدة السلوك، كشأن المصري إذا ترك لطبيعته.
كنت أتصفح كتابًا يؤرخ لأعلام الرجال في الوطن العربي إبان القرن السادس عشر، فكانت تلفت نظري صورٌ طريفة، لرجالٍ يمثلون المعايير المقبولة في حياتنا، فهم في رأيي ليسوا «أعلامًا» بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، ولكنهم نماذج لمتوسط الإنسان المصري في حياته العملية، حين تكون تلك الحياة موضع مدح وثناء من عامة الناس، وهاك صورة من تلك الصور، لترى فيها الملامح الرئيسية التي أسلفتُ القول بأنها هي قسمات من الطابع المصري الأصيل في هدوئه وعذوبته، وتعاطفه وتراحمه وتعاونه، وفي شعوره العام بأن كل مصري — أو قل إن كل عربي — هو واحد من أفراد أسرته، يعامله كما يعامل أخوته وأبناء عمومته.
والصورة التي أقتبسها، هي لرجلٍ يُدعى محمد بن النجار الدمياطي، كان خطيبًا لمسجدٍ في القاهرة، جمع الله له بين العلم والعمل، فهو في علوم الشرع إمام، وهو في التعبد قدوة، وكان غاية في التواضع، يخدم العميان والمساكين ليلًا ونهارًا، ويقضي حوائج الفقراء والأرامل، يجمع لهم من أموال الزكاة ما استطاع أن يجمع، وكان يلبس الثياب الزرق والجيب الأسود، ويتعمم بقماشٍ من قطن، من عاداته كل يوم أن يتلو بعد صلاة الفجر، نحو ربع القرآن سرًّا، فإذا أذن الصبح، قرأ جهرًا قراءةً تأخذ بجوامع القلوب، وكان يخدم نفسه بنفسه، يحمل الخبز على رأسه من الفرن، ويحمل حوائجه من السوق، ومع ذلك فقد كان ذا هيبةٍ عظيمة، ولقد حدث له أيام السلطان قانصوه الغوري، أن استودعه تاجرٌ مالًا؛ ليعطيه لولده بعد موته، وجاءه الولد وهو دون البلوغ، فأبى أن يعطيه ماله إلى أن يبلغ رشده، فشكاه الغلام للسلطان، وطلب منه السلطان مال الغلام، فأقسم للسلطان أن ليس عنده شيء، ولما بلغ الغلام رشده، جاءه فأعطاه ماله، فسأله السلطان في ذلك، فقال إن فقهاء الشافعية أفتوا بأن الظالم، إذا طلب الوديعة ممن أؤتمن عليها، فلهذا المؤتمَن أن ينكرها ويحلف على ذلك، وأنت ظالم!
صورة — كما ترى — فيها سذاجة، قد لا تصلح نموذجًا لعصرنا الراهن، لكن فيها أركانًا أساسية، هي التي يُقام عليها الخلق المصري الأصيل، إذا لم تمنع دون ظهوره موانع، ففيها الهدوء الذي أشرت إليه، والذي يضمر في ثناياه النظرة الجادة العاملة، والعاطفة المتعاونة الأمينة، وهي صفات لا تتوافر إلا إذا غزرت الثقافة، وعمقت بعد ماضٍ طويلٍ عريق، فالنغمة الهادئة في الكلمة وفي الحركة، هي نتيجة ضبط للجوارح وإلجام للسان، فلا تسرع إذا أمكن التأني، ولا صياح إذا أمكن الهمس، ولا جزع إذا توافرت للقلب سكينة الإيمان، وإذا شئت فانظر إلى أسرةٍ ريفية، اجتمعت حول طعام العشاء: فلا تهتز الأبدان بحركةٍ تزيد على الحاجة، ولا تنطق الألسنة بلفظةٍ لا تقتضيها ضرورة السياق.
هذه النغمة الهادئة في الحديث، وفي العمل، وفي التعامل، وهي صورة حياتنا إذا لم يطرأ عليها طارئٌ دخيل. لقد قال سقراط ذات يوم، لمن جلس بجانيه صامتًا: يا هذا كلمني لكي أراك! وعلى أساس هذا المبدأ السقراطي، في أن النفس تكشف عن حقيقتها، في نوع الحديث وطريقة السلوك، نقول إننا — وقد أزحنا عن صدورنا كابوس النكسة — نعود اليوم إلى حقيقة نفوسنا، من هدوءٍ ينطوي على تاريخٍ طويل، كنا فيه صناع ثقافة وبناة حضارة، بل حضارات تعاقبت واحدةً بعد واحدة.