هذه بعض سماتنا
عندما تزهر الشجرة أو تثمر، فإن لحظة إزهارها أو إثمارها، لا تكون كسائر اللحظات في حياتنا؛ لأنها لحظة أكثر تعبيرًا من سواها، عن طبيعة تلك الشجرة أصلًا وهدفًا، فشجرة القطن لا تصبح شجرة قطن بكامل معناها، إلا عند تَفتُّق الزهرة وظهور الثمرة آخر الأمر، وأما قبل ذلك فهي في طريق الإعداد للهدف، فإما حققته؛ فحققت طبيعتها ووجودها، وإما أخفقت؛ فكانت إلى حطب الطريق أقرب منها إلى شجر القطن. ولقد أتصور الشجرة ساعة إزهارها أو إثمارها، تستجمع كل كيانها في فعلٍ واحد، هو فعل الولادة للكائن الجديد، وربما حدث لأجزائها نوع من التوتر، ينفرج لخروج الزهرة أو الشجرة، من عالم الخفاء إلى عالم الشهرة.
وقد يكون هذا نفسه هو ما يحدث في حالة الإبداع الفني، فهنالك إرهاصات مبهمة تسبق ذلك الإبداع، وتُشيع في كيان الفنان شيئًا من القلق الغامض، ثم ما هو إلا أن تجيء اللمعة، فيتحدد الهدف والطريق، هكذا يكون الكائن الفرد في حياته، وهكذا أيضًا تكون الأمة، فلكل أمة لحظاتها الفريدة، التي تتبلور فيها أخص خصائصها، لا لإنهاء خصائص تظهر فجأة من عدم، بل لأنها كائنة هناك، تنتظر اللحظة — لحظة الأزمات — فتتجمع بعد تشتُّت، وتتبدَّى بعد غموض واختفاء، وفي لحظةٍ كهذه تتقاطع كل الخطوط، لتلتقي في نقطةٍ واحدة، لو أحسنَّا تحليلها ورؤيتها، كشفت لنا عن غوامض النفس وخوافيها.
وأعتقد أن الأمة العربية اليوم تعيش لحظةً من هذه اللحظات الكاشفة، فلكم سأل منا كاتب: من نحن؟ ما حقيقتنا؟ وأين نكون؟ لكم قال فينا قائل: إننا في هذه المرحلة المرتجلة من تاريخ العالم، نريد البحث عن هويتنا، حتى لا نذوب وننمحي في هويات الآخرين! وها هي ذي لحظة مخبارية نجتازها، قد تهدينا إلى بعض الإجابات عن أسئلة الكاتبين وأقوال القائلين، فماذا نرى في لحظتنا الراهنة على سبيل الإجمال، إلى أن يُتاح لنا سبيل البحث المفصل المستفيض؟
نرى أول ما نرى أمة تتحقق وحدتها بفعلٍ موحَّدٍ مشترك، فلقد قالها الإمام ابن تيمية منذ زمنٍ بعيد، حين قال إن فكرة «الأمة»، لا تتحقق لمجموعةٍ من الناس، إلا إذا اشتركوا في «فعلٍ» واحد. إن فكرة الأمة لا تتحقق — عند ابن تيمية — لمجرد أن يعيش أفراد المجموعة على رقعةٍ جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخٍ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغةً واحدة، بل تتحقق فكرة «الأمة» في حالةٍ واحدة وبشرطٍ واحد، هو أن تلتقي فاعلياتهم في فعلٍ واحد، يستهدف هدفًا واحدًا؛ وذلك لأنه بالفعل المشترك يجاوز كل فرد حدود نفسه، لينفتح على الآخرين الذين يشاركونه في أداء ذلك الفعل، إن التجاوز المكاني وحده، لا يكفي في إيجاد الرابطة الحيوية العضوية، التي تجعل من الأمة أمةً واحدة، فالمتفرجون في دار السينما يتراصُّون متجاورين على مقاعدهم، بل وتتجه أنظارهم جميعًا إلى شاشةٍ واحدة، ويتتبعون قصةً واحدة، ومع ذلك فلا شأن للواحد منهم بمن يجلس على يمينه أو على يساره، دع عنك من يجلسون وبينه وبينهم صفوف، لكن ما هكذا الحال في فريق الكرة، فها هنا يتفرق اللاعبون على أرض اللعب، لكنهم يترابطون معًا برباط الفاعلية الواحدة، المشتركة المنبثقة من الداخل؛ فالكسب لهم جميعًا والخسارة عليهم جميعًا، وضربات الكرة بأقدام اللاعبين تأتي متكاملة يعاون بعضها بعضًا، على إصابة الهدف المشترك.
هنالك مجموعاتٌ بشرية تجمع أفراد المجموعة الواحدة منها «دولة» واحدة، لكنك لا تشعر بين أفرادها بمثل هذا الرباط العضوي الذي أشرنا إليه، فسكان الولايات المتحدة لم ينصهروا بعدُ في «أمةٍ» واحدة، ولا يصعب على الزائر أن يرى بين الأفراد، مثل الرابطة التي يترابط بها الشركاء في عملٍ تجاريٍّ واحد، أو في إدارة مصنعٍ واحد، هي ما تزال رابطة المصلحة — والمصلحة المادية فوق كل شيء — ولا غرابة أن يكون أول ما تسمعه ممن تلاقيهم من أفراد، هو أن يذكر لك المتحدث إليك عن أصله الأوروبي أو غير الأوروبي الذي ينتمي إليه أول الأمر، فيقول لك: أنا ألماني، أو أنا إيطالي وهكذا، ولقد لحظتُ أثناء مقامي هناك فترة، بعض الجهود التي يبذلها كتابهم نحو «أمركة» الأمريكيين في «أمة»، وليس ذلك بغريب عنا نحن العرب، وقد رأينا كيف ينتمي الأمريكي اليهودي إلى ما يتصل بيهوديته، قبل أن ينتمي إلى وطنه الأمريكي.
إذن فمن أبرز سماتنا هذا الرباط الأسري، الذي يجعل العلاقة بين أفرادنا تجاوز حدود المصلحة، إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهي علاقة قد تخفى عن الرائي، في فترات الحياة العادية، لكنها تشتد ظهورًا في لحظات التأزم، كاللحظة التي نعيشها اليوم، ولا يجوز أن نخلط بين مثل هذه العلاقة «الأُخوية»، التي لا تكون إلا بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين تلاحم الأفراد، الذين جمعتهم المصادفات ساعة الخطر، كأن تشرف سفينة على الغرق، فتظهر بين ركابها روابط، لم تكن قبل وقوع الخطر، ولن تكون بعد زواله.
سمةٌ أخرى نتميز بها أكثر مما تتميز بها أمةٌ أخرى فيما أعتقد، وتلك هي الحاسة المرهفة، التي نميز بها بين ما يستحق الاهتمام الجاد وما لا يستحقه، إننا أمة قطعت على طريق الزمن أكثر من ستة آلاف عام، وحملت على كتفيها أربع حضاراتٍ متعاقبة، وهي الآن تدخل الخامسة، ومحالٌ أن يكون وراءها هذا الرصيد الضخم من خبرات متراكمة، دون أن يترك على وجهة نظرها أثرًا باقيًا، يشبه ما تتركه الأعوام في حياة الفرد الواحد، فعلى خلاف الحدث الغر، ترى من أثقلته السنون بخبراتها بطيء الانفعال أمام الحوادث، فلا يستثيره منها إلا ما يمس صميم الحياة. لقد طبع ليوناردو دافنشي، ابتسامةً مُلغِزة على شفتي موناليزا، فلبث النقاد يعلقون ويشرحون؛ لعلهم يكشفون الغطاء عن سر تلك الابتسامة الغامضة، وفي عقيدتي أن مئات التماثيل التي نحتها الفنان المصري القديم، بادئًا من أبي الهول فصاعدًا مع تاريخ الفن عند أجدادنا أسرة بعد أسرة، تحمل ابتسامة أشد إلغازًا وأعمق غورًا، هي ابتسامة من خبر الحياة وسرها، فأخذ يسخر سخريةً ممتزجة بالإشفاق، ممن تهزهم صغائرها وعوابر أحداثها، لكنه إذا جدَّ من الأمر ما يعلم أنه جد، نفرت همته ونشطت جوارحه، إلى أن تتحقق على يديه المعجزات، وتلك هي صورة المصري إلى يومنا هذا. إنني كثيرًا ما أتفرَّس ملامح الفلاح المصري، وهو ما يزال في بقاء الريف، خصوصًا من تقدمت به السن، فأجد على وجهه وفي نظرات عينيه، تلك الرصانة الرزينة والحكمة الهادئة، مع صمتٍ لا يلغو ولا يثرثر، التي يراها الرائي في تماثيل الأقدمين، إنها غزارة ثقافية صقلت الطبائع، وحدت من نزوات الرعونة. لقد قرأت عبارة تنسب لرجلٍ من رجال الدين المسيحي في أوروبا إبان العصور الوسطى، وقفت عندها لما فيها من غزارة المعنى، وهي عبارة يبتهل بها قائلها إلى ربه قائلًا ما معناه: اللهم أعطني الصبر أمام ما ليس في وسعي أن أغيره، وأعطني الشجاعة لأغير ما يمكن تغييره، ثم أعطني اللهم حكمة أميز بها بين ما يمكن تغييره من الأمور وما ليس يمكن. وتلك الصفات الثلاث التي يبتهل بها هذا الداعي أن يمدَّه الله بها، هي من سمات المصريين بحكم تاريخه وثقافته، فهو يصبر أمام ما يتطلب الصبر، وهو يهم بالتغيير إذا دعت الدواعي، ثم هو بحكمته يفرق بين ما يستحق أن يتغير وما لا يستحق.
والمصري، بل العربي بصفةٍ عامة، متفائل بطبعه؛ فهو مهما ضاقت عليه الدوائر، آمن بكل كيانه أن بعد العسر يسرًا، ولا يجيء تفاؤله هذا عن سطحية المنظر، كالتفاؤل الذي أجاد تصويره تشارلز دكنز في شخصية مكوبر، بل هو تفاؤل صاحب النظرة العميقة، التي تعلم أن في الكون تدبيرًا يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك، إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر، إلا أن يعقب عليه بما يوازنه.
وانظر بعد هذا إلى أي مواطنٍ عربي عابر في الطريق، كيف يقابل اللحظة التي نجتازها، تجد خصائصه الكامنة في طبعه قد وضحت أمام الأبصار: فهو لكل مواطنٍ عربيٍّ آخر أخ تجمعهما أسرةٌ واحدة، وهو على وعيٍ كامل بما تلقيه الظروف عليه من تبعات، حتى ولو لم يكن إبان الحياة العادية، ممن يطيقون تحمل التبعات، وهو هادئ، متفائل، يعلم في يقين أن الأمور صائرة آخر الأمر بإرادة الله — متمثلة في إرادته — إلى خير.