ثقافة أخرى
كم هي الأعوام التي انقضت منذ جلست آخر مرة، هنا، في مدينة «توركي» على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، وهي مدينة ترقد بين البحر والجبل، وتنبت منازلها على السفوح المخضرَّة بالعشب والشجر، حتى لكأنها زهرات أخرجتها الطبيعة بيضاء وحمراء، فكل شيء هنا متسق مع كل شيء، فلا السماء ارتفعت وحدها، ولا البحر انعزل، ولا استقل بكيانه الخاص جبل، أو شجر، أو طير، أو حيوان، أو منازل، أو إنسان!
نعم، كم هي الأعوام التي انقضت منذ جلست آخر مرة هنا، والحرب العالمية الثانية تدور رحاها، والفزع يملأ الهواء وتسري رعشته في اليابس والماء، ووجوه الناس واجمة، لا تفتر فيها شفة عن ابتسامة! فأين تلك الجلسة الماضية بأحزانها وهمومها، من هذه الجلسة — في المكان نفسه بعد عشرات السنين التي انقضت — وجموع الناس من حولي لاهيةٌ ضاحكة، كأنهم في يوم عيد؟!
فأطلت الجلوس ما أسعفتني ظروف الساعة أن أطيل، الصحيفة اليومية في يدي، وقد كدت أفرغ من قراءتها، والبصر زائغ هنا وهنا وهناك، يبحث في الناس عن الظواهر، التي يمكن أن تتخذ علاماتٍ مميزة لما نسميه بثقافة «الغرب» الحديث، أهي في هذه الطرز العجيبة من الثياب، التي يتعمد أصحابها أن تبدو وكأنها أقدم من القدم، ذهبت ألوانها وتمزقت أطرافها؟! يا سبحان الله! كنت أفهم لو أن هؤلاء الناس قد أرادوا أن يقيموا الدليل على القوة والغنى، فارتدوا من الثياب جديدها اللامع بزخارفه، لكن لا! إن القوة والغنى يبدوان في هذه «الهلاهيل»، الكالحة الممزَّقة التي يلبسونها، ولله في خلقه شئون! فالأقوام تتظاهر بما ليس عندها، فإذا رأيت قومًا يتظاهرون أمام الغرباء، بالطعام الغزير وبالثياب الفاخرة، فاعلم أنهم في حقيقة أمرهم، يعوزهم الطعام وتنقصهم الثياب؟ إنها مفارقة من مفارقات الحياة، فحيث يكثر الجوع والعري، يشتد التنافس بين ذوي اليسار على بدانة الأجسام وضخامة الكروش، وعلى الإسراف في زخرف الثياب، كأنما الواحد منهم أو الواحدة يريد أن يقول للناس: إنني لست واحدًا من الجائعين العريانين، فأنا ذو مالٍ وجاه! وأما إذا كانت وفرة الطعام والثياب أمرًا مفروغًا منه، انقلب الوضع، وأصبح الناس أميل إلى نحافة الأجساد وإلى بساطة الثياب، فهذه الملابس الكالحة الممزقة، التي أراها هنا فيمن أرى من الناس، إنما هي علامة مقصودة، تدل على أن العصر هو عصر وفرة إلى حد التخمة.
لا، لا — قلت لنفسي — إنك لن تجد علامات العصر التي تبحث عنها، في هذا الذي يقع عليه البصر، فالبصر إنما يقع على «ظواهر»، على حين أن ملامح العصر تتمثل فيما هو «باطن» مخبوء، وعندئذٍ خطرت لي خاطرة، في أن أُعيد النظر في الصحيفة اليومية التي طويتها في يدي؛ لأرى «الغرب» على صفحاتها، فماذا فيها من صورٍ لا تحدث إلا هنا؟
وأخذت أُقلِّب الصفحات، فإذا بالصور تتزاحم في كثرةٍ لم أتوقعها، لقد طرحت من حسابي، ما كان يمكن أن أجد مثيلًا له في حياتنا نحن في مصر؛ لأن ما هو مشترك بيننا وبينهم — حتى إن دل على العصر الجديد — فهو لا يعد سمة خاصة «بالغرب» وحده، وإلا لما شاركناه فيه، وهاك بعض ما وجدته من صور الحياة في الغرب الحديث، مأخوذًا من صحيفةٍ واحدة في يومٍ واحد.
كنا قد شهدنا ليلة أمس برنامجًا في التليفزيون، يصور للناس قصةً غريبة لسيدةٍ في الستين من عمرها، أخذت تغري أمها التي أوشكت على التسعين، والتي سكنت غرفةً في أحد بيوت العجائز الكثيرة، التي أعدت لمن تقدمت بهم السن، ولحقهم مرض الشيخوخة دون أن يكون إلى جوارهم من يعينونهم على الحياة، أقول إن السيدة الابنة أخذت تغري أمها تلك بالانتحار حتى زينته لها، فأحضرت لها في زيارتها الأخيرة أقراصًا مُخدِّرة لتضعها في شرابها، حتى ينسدل على حياتها ستار الموت، وكانت الشرطة قد علمت بالجهود التي تبذلها الابنة في إقناع أمها، بأن تنزع حياة نفسها بيديها، ولقد جاء النبأ إلى الشرطة عن طريق أخت لها، فترصدت الشرطة للسيدة، ووضعت جهازًا تليفزيونيًّا مستورًا، يسجل زياراتها لأمها وما يدور بينهما من حديث، حتى كانت تلك الزيارة الأخيرة، التي قدمت فيها الابنة إلى أمها أقراص التخدير.
وقُبض على الجانية عند خروجها من غرفة أمها — ولم تكن الأم قد فقدت حياتها بعدُ — وقدمتها الشرطة إلى المحاكمة وهمت بالإنكار، فصدموها بالشريط التليفزيوني الملون، بكل ما دار وحدث في غرفة الأم، وحُكم عليها بالسجن لمدة عامين، فرأينا ليلة أمس على شاشة التليفزيون قصة الأم وابنتها، منذ كانت الابنة طفلة مات أبوها وهي صغيرة، إلى أن تطورت بها الحياة وأصبحت بدورها أمًّا ثم جدة، وشاءت لها الأيام أن تعسر بها الحياة بعد يسر، فهنا أدار الشيطان في رأسها فكرة حمل أمها على الانتحار؛ لأنها كانت تعلم أنها ترث عن أمها أربعين ألفًا من الجنيهات.
كان الحوار الذي سمعناه بين الأم وابنتها، محرِّكًا للعواطف، فلقد سألت الأم ابنتها: أأنت واثقة من أن هذه الأقراص، كافية حتمًا للقضاء على الحياة؟ وأجابتها الابنة بالإيجاب، محرِّضةً إياها أن تضعها في كأس من الخمر؛ لأن ذلك مما يقضي على الشك، قالت الأم لابنتها: إنني خائفة، فشجعتها الابنة قائلة لها: ممَّ تخافين؟ هل تجدين حياتك هذه جديرة بالبقاء؟ أإذا كان لديك كلب في مثل ضعفك هذا، ألا تأخذينه للبيطري مختارة ليقتله؟ أجابت الأم: نعم، ولكن ليس للكلب روح، كالتي وهبني الله إياها، وإني لأخاف أن أنزعها عن بدني بإرادتي، فأنال العقاب يوم الحساب، فأخذت الابنة في إقناعها بأن الله لا يعاقب على فعلٍ كهذا، لكن الابنة لم تكد تخرج ويقبض عليها، حتى أسرعت الممرضات بأمر الشرطة، فجمعن من الأم أقراص الموت.
رأينا القصة كاملة ليلة أمس في التليفزيون، وأصبحنا هذا الصباح، فإذا بالصحيفة اليومية التي في يدي، تُسجل ردود فعلٍ غاضبةً من الجمهور، يحتجُّ فيها الناس على نشر مثل هذه القصة الموجِعة، وكان الأساس فيما أرسله القراء إلى الصحيفة هو «أخلاقية» هذا النشر، هل يجوز خلقيًّا أو لا يجوز؟ يقول أحدهم: إن السيدة الجانية قد حوكمت ونالت عقابها، فلماذا تحاكَم مرة أخرى على الملأ؟ ويقول آخر: كيف يحق للتليفزيون أن ينشر الشريط الذي سجلته الشرطة سرًّا، دون أن يؤخَذ رأي الجانية وذويها؟ ويقول ثالث: هل كان من حق الشرطة بادئ ذي بدء، أن تُصوِّر حياة الناس على غفلةٍ منهم؟ وهكذا وهكذا.
تلك — إذن — هي شريحة من حياة «الغرب» الحديث، مما أعتقد أنه مستحيل الحدوث في حياتنا؛ فأولًا يكاد يستحيل علينا أن نترك الأم في عجز شيخوختها، لتسكن غرفة وحدها في بيت العجائز، فما دام لها البنات، فلا بد لإحداهن أن ترعاها، مهما ثقلت رعايتها على أفراد أسرتها، لا سيما والأم برغم شيخوختها الضعيفة لم يكن بها مرضٌ ظاهر، ولم تكن فقيرة بحيث يعجز رعاتها عن نفقاتها، بل كانت ذات ثراء ليس بالقليل.
لقد أنعم الله علينا بثقافةٍ ترفض رفضًا قاطعًا مثل هذا التحُّجر في القلوب، فالعلاقات الرابطة بين أفراد الأسرة عندنا، توشك أن تكون أمرًا مقدسًا، لا تدنسه أبالسة الشر والطمع، إلا في حدودٍ ضيقة يقتضيها ضعف الطبيعة البشرية آنًا بعد آن، وأما من حيث «المبدأ» فنحن بحمد الله ننعم بالدفء في علاقاتنا الأسرية، وكأن كلًّا منا قد أمِن الكوارث بفضل أفراد أسرته، الذين قد يُظن بينهم التباعد، ولكن ما أن تكرث أحدهم الكارثة، حتى تراهم قد التفُّوا حوله من حيث يدري ولا يدري.
وأعود إلى الصحيفة اليومية في يدي؛ لأستعيد قصة امرأة خرجت من السجن لتوِّها، بعد أن أمضت بين جدرانه أربعة أسابيع، لماذا؟ لأنها نذرت حياتها للحيلولة بين الثعالب وصائديها، فها هنا ما زال صيد الثعالب في الغابات هواية محبَّبة للقادرين عليها، فقالت هذه المرأة لنفسها: كيف يجوز للإنسان مطاردة حيوان ليلهو؟ أليست تلك الثعالب كائناتٍ حية أراد لها خالقها أن تحيا؟ ومن هذه العقيدة عند المرأة، انطلقت لتنفق جهودها وأموالها في معاكسة اللاهين بمطاردة الحيوان وصيده، فرفع بعضهم إلى المحاكم لما ناله من ضرر، وحكمت عليها المحكمة بالسجن أربعة أسابيع، خرجت بعدها بالأمس، لتعلن في الصحف أنها لن تكفَّ عن الدفاع عن الحياة في أية صورةٍ كانت، ولينلها من عنت القضاء ما ينالها، ولم يفتها أن تندد بالعدالة في بلادها، إذا كان معناها قد انحدر في أذهان القائمين عليها إلى هذا المنحدر المشين.
وإذن فهذه شريحةٌ أخرى من حياة «الغرب»، فيها المثل الأعلى، وفيها الإصرار على الجهاد، في سبيل ما يقيمه الإنسان لنفسه من نماذج المثل العليا، ولعل هذا الجانب من حياة «الغرب»، تؤيده قصةٌ أخرى في هذه الصحيفة اليومية نفسها، عن امرأةٍ شابة تطلعت إلى أن تجوب منطقةً صحراوية في قلب أستراليا، فذهبت وحدها واستأجرت أربعة جمال، وكان معها كلبها، وظلت تتحسَّس طريقها هناك أربعة أشهر، تكشف لنفسها الجديد، فما وهنت لها عزيمة، ولا أغراها شبابها أن تحيا حياة المتعة في المدن، وبمثل هذه العزائم تُبنى الحضارات.
وصورةٌ أخرى تقدمها الصحيفة، وهي أن رجلًا من أصحاب الأعمال في فرنسا، ذهب أثناء النهار إلى منزله لطارئٍ عارض، فإذا هو أمام مفاجأة أفقدته صوابه؛ إذ رأى أحد العاملين عنده مع امرأته في فراشه، فكان أن فصله من العمل فور لحظته، فهل يخجل العامل من فعلته؟ أبدًا رفع أمره إلى القضاء؛ لأنه لم يكن من حق صاحب العمل أن يفصله بغير إنذارٍ ومهلة من زمن، وبغير تعويض يحدد القانون مقداره. والأعجب أن تأخذ المحكمة بوجهة نظره، وتحكم على صاحب العمل بغرامتَين يدفعهما للعامل؛ إحداهما للفصل الفوري، والأخرى للتعويض عن الضرر. لكن صاحب العمل قد هاله هذا الظلم، فاستأنف، ومن حسن الحظ أن المحكمة هذه المرة، قدرت ظروفه وأعفته من الغرامتَين.
وأعود إلى الصحيفة لأستخرج من صفحاتها عجبًا من العجب: جمعية هدفها المطالبة بأن يكون للراشدين من الرجال أو النساء حق الاتصال الجنسي بصغار السن، وأرادت هذه الجمعية أن تعقد مؤتمرًا، فاتفقت مع أحد الفنادق في لندن، أن يؤجر لها بهوًا من أبهائه ووافق مدير الفندق، لكن حدث أن سمع العاملون بالفندق بأمر هذا الاجتماع وأهدافه، فهدَّدوا صاحب الفندق بأن يتركوا أعمالهم إذا ما تم الاجتماع، لكن أعضاء الجمعية أصرُّوا على الاجتماع في ظل ما اتفقوا عليه، دونما أدنى خجل من وضعهم الشاذ، بل إنهم ليعلنونه في صراحةٍ تُثير العجب.
ثم أفتح الصفحة في منتصفها، فإذا أنا أمام ذخر من الأدب والفن، ملأ صفحتَين متقابلتَين؛ ترجمة حديثة لحياة جلادستون، كتاب عن الشيوعية في كمبوديا، تعليق على المجلد الثالث من الترجمة الذاتية، التي يخرجها عن حياته رونالد دنكان، عرض لكتابٍ جديد عن الطعام، وكيف كانت ألوانه، وطرائق طهوه في التاريخ القديم، موجزٌ سريع عن محتوى ثلاثة كتبٍ جديدة، عن حياة الجريمة بين أناسٍ في العصور القديمة والوسطى، كانوا يدعون الورع في ظاهر حياتهم، لا سيما من رجال الدين عندئذٍ، تعليق على خمس قصص مما أخرجته المطبعة هذا الأسبوع، ثم استعراضٌ غني للمهرجان السنوي الذي يقام في أدنبرة، عن الفنون بكل صنوفها.
وما دمت أتحدث عن الحياة الفكرية، فلا بد لي من ذكر حديث ربما كان أبرز ما وقع في مجال التأليف، وهو أن جماعةً من رجال الدين هنا، كانوا منذ نحو شهرَين، قد أصدروا معًا كتابًا عن العقيدة المسيحية، التي تقول إن الله قد تجسد في المسيح، فرفضوا هم هذا التصور، وأطلقوا على كتابهم ذاك عنوان «أسطورة تجسد الله في المسيح»، فسرعان ما تألفت جماعةٌ أخرى من رجال الدين أيضًا، وأخرجوا معًا كتابًا للرد على الكتاب الأول، وأسموا كتابهم هذا «حقيقة تجسد الله في المسيح»، ولقد امتلأت الصحف الأدبية بالمقارنة بين الكتابَين، وأرجح الرأي عند المعلقين، هو أن الجماعة الثانية كانت أعمق بحثًا من الجماعة الأولى.
جُمعت هذه الأشتات بعضها إلى بعض، وهي أشتاتٌ مأخوذة من صحيفةٍ واحدة في يومٍ واحد، فألفيتها تُصوِّر مناخًا ثقافيًّا ليس بينه وبين مناخنا الثقافي شبه، لا من قريبٍ ولا من بعيد، فخرجت بنتيجةٍ مؤكدة، وهي ضرورة أن يكون لكل ثقافةٍ قومية معاييرها الخاصة، بالإضافة إلى المجال المشترك، الذي يجب أن يتفق فيه الناس جميعًا، وأعني به مجال العلوم وأشباهها، ومن هذه وتلك تكون صورة العصر.