عزلةٌ وسط الزحام
شعورٌ غريب هو ذلك الذي خامر ويخامر نفرًا غير قليل من أفذاذ الرجال، وأعني ما يشعرون به من غربةٍ أو من عزلةٍ، برغم وجودهم في أوطانهم بين أهلهم وذويهم، فليكن تعليل هذا الشعور عند هؤلاء ما يكون، فهو على أية حال شعور يدل على أن التجانس الفكري أو الشعوري، ليس كاملًا بين هؤلاء وبين من يحيطون بهم، دون أن يكون في الأمر تنكُّر وعقوق من ناحيتهم، أو أن يكون فيه صوابٌ مؤكَّد هنا، وخطأٌ مؤكد هناك، لكن الأعم الأغلب في هؤلاء، أن يكونوا أنفذ فكرًا وأغزر شعورًا من عامة الناس، فأولئك بالنسبة لهؤلاء كجبال شمخت برءوسها العالية، التي تجاوز منطقة السحاب؛ فتصفو لها الرؤية دائمًا، على اختلاف في ذلك مع السهول، التي قد تجثم عليها طبقاتٌ كثيفة من السحاب، تحجب عنها رؤية الشمس إلى حين.
مثل هذه الغربة أو العزلة، التي قد تنتاب المرء، وهو بين أهله ومواطنيه، أحسها أبو حيان التوحيدي، فقال وهو بصدد تصويره بقلمه البارع وفكره اللمَّاح: «… أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه.» فلماذا أحس التوحيدي هذه الغربة الغريبة؟ لا بد أن يكون ذلك لفجوة فصلت بينه وبين سائر الناس، كأن يرى نفسه جادًّا ويراهم هازلين، أو أن يرى نفسه صادقًا ويراهم كاذبين، فتوجه إليهم بقول فيه حرارة القلب وصفاء النظر: «… إلى متى نعبد الصنم بعد الصنم؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندَّعي الصدقَ والكذبُ شعارنا ودثارنا؟ إلى متى نستظل بشجرةٍ تقلَّص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟»
وشعور كهذا أيضًا أحسه ابن باجة، فألَّف كتابًا هو من عيون تراثنا الفكري، جعل عنوانه: «تدبير المتوحد»، والمتوحد هو من يحسُّ العزلة في ذاته، برغم أنه يعيش في زحامٍ كثيف من الناس، ويقول في وصفه إنه «الإنسان الفاضل يعيش في مدينة غير فاضلة.» وقد يكون في المجتمع أكثر من فرد واحد من هؤلاء الفاضلين، لكنهم لا يكونون إلا قلة قليلة على كل حال، يسميهم ﺑ «النوابت» (من النبات الذي ينمو من تلقاء نفسه، وكأنه يتحدى عناصر بيئته).
ولقد شاع في عصرنا هذا الحديثُ عن «اللامنتمي»، ولعل أبرز فرق بين النابتة المنعزل عند ابن باجة، وبين اللامنتمي الشاعر باغتراب عند أدباء عصرنا ومفكريهم، هو أن النوابت كانوا قلةً ضئيلة، تميزت من سواد الناس بفكرٍ نافذ أو شعور مرهف، وأما اللامنتمون اليوم فهم الناس أجمعون في عصر الصناعة الراهن، ولكن الجانب المشترك بين مفكر الأمس ومفكر اليوم، هو الرؤية التي ترى في جمرة الناس جماعة تعيش بيولوجيًّا وفسيولوجيًّا، لكنها لا تعيش على أسسٍ من المنطق والجمال.
هو إذن شعور يُساوِر نفرًا من الناس في مختلف العصور، ولأسبابٍ قد تختلف باختلاف تلك العصور، فقد يكون العصر ممعِنًا في معاييره المادية، وعندئذٍ ترى من هو أَميَل إلى الحياة الروحية، قلقًا بين الناس، حتى لقد يشتد به هذا القلق فينعزل بالفعل — لا مجرد عزلة سيكولوجية وهو مع الناس — بل عزلة بجسده، فيختفي في كهفٍ من الجبل، أو يلوذ بصومعةٍ في متاهة الصحراء، أو ربما أمعن الناس في مجاوزتهم لدنيا الواقع، مستجيرين بما وراء هذا الواقع من غيب، يلتمسون عنده الراحة مما يحيط بهم من مرارةٍ وعناء، فها هنا أيضًا ترى المتشبث بدنيا الواقع المشهود قلقًا بين الناس، يشعر معهم بالاعتزال والغربة، إذا قال قولًا أنكروه عليه، وإذا آثر الصمت أنكر ذلك هو على نفسه.
هي غربة تعزل صاحبها عن قومه، برغم وجوده معهم على صعيدٍ واحد، وإن فيها لخيرًا يعود على الناس، ووبالًا يعود عليه، أما هم فكثيرًا ما يأخذون عن هذا الغريب المعتزل، علومًا وفنونًا ومبادئ للحياة الأفضل، وأما هو فكثيرًا ما تنصبُّ على رأسه اللعنات؛ لشذوذه عن الجمع المتجانس.
مراجعة الحياة الجارية لتقويمها وتصحيحها، هي إحدى دعائم البناء الاجتماعي نفسه؛ ولأنه إذا لم يكن في جوف هذا البناء من يصيح بأهله صيحات النذير، كلما رأى خللًا في أركان البناء وسقوفه وجدرانه؛ تحتم أن ينهار ذات يوم على رءوس ساكنيه، بل إنها لخصيصة من أهم خصائص الأجهزة العلمية العصرية المعقدة — كالحاسبات الإلكترونية مثلًا — أن تعد بحيث تصحح نفسها بنفسها، فإذا وقع فيها الخطأ، ارتد هذا الخطأ نفسه إلى مصدره ليعود صوابًا، قبل أن تكمل العملية الآلية سيرها إلى غايته، فلو نظرنا إلى مجتمعنا من زاوية كونه آلةً ضخمةً مركبة الأجزاء والعناصر، كانت مراجعة النقد بمثابة ما يسمونه في الأجهزة العلمية بإعادة التغذية، فبدل الغذاء الخاطئ نضع فيها الغذاء الصحيح، وإلا لتضخم الخطأ وباض وأفرخ، وضرب فينا بجذوره واستحال على الناقدين منا أن ينالوا منه شيئًا.
إن حديثي هنا عن المغترب وهو في داره، المنعزل وهو في زحمة الناس، فقد يكون ذلك من علةٍ مرضية، وعندئذٍ يكون هو الانحراف الذي يضر صاحبه ويضر الناس معًا، وليس هذا هو ما أردت الحديث عنه وإبرازه أمام الأبصار، ولكنه كذلك قد يكون — لا عن انحرافٍ مرضي — بل عن امتياز عند صاحبه في الفكر والشعور، وها هنا يكون الضلال أفحش الضلال، في أن نردع هذا الغريب المعتزل بفكره وشعوره، رغبةً منا في أن تسوَّى الأرض عاليها مع سافلها … المتصوف الذي يهجر الناس، وينعزل في محرابه متعبِّدًا، هو بعزلته تلك أشد احتجاجًا على جور الحكومة، ممن يملئون الدنيا صياحًا بكلمات الاحتجاج، ولا عجب إن رأينا بعض الأمراء الحاكمين في تاريخنا القديم، يضيقون ذرعًا بمن ترك الناس وانعزل؛ لأنه إنما يجعل من وجوده كله لسانًا ناطقًا بالثورة على ما هو كائن وفاسد. وفي التراث الأدبي — أعني التراث الإنساني بغير تحديد لقوميةٍ معينة — صورٌ كثيرة للعزلة، التي تجسد تمردًا مطلوبًا ليوقظ الغافلين، من ذلك مثلًا تلك القصص الكثيرة، التي تروى عن سفينةٍ تتحطم، لينفرد رجلٌ واحدٌ آخر الأمر على الجزيرة، فهي صورة للرغبة في الفرار، كقصة روبنسون كروزو التي نعرفها جميعًا، وقصةٌ أخرى في عصرها مجهولة المؤلف اسمها «الراهب».
الموضوع يغريني بفيضٍ من حديث، لكن جملةً واحدة قد تُفصِح عما أريد: إن من الأفراد من يستحيل على طبائعهم، أن تخرط في قوالب الجمهور، كلا ولا هي مصلحة الجمهور، أن يذوب فيه أمثال هؤلاء الأفراد، وإلا لما كان الناتج إلا أن يصبح المليون مليونًا وآحادًا.