الشرك الأصغر
كانت حياتهم — كما رأيتها — كحفلٍ تنكُّري من طرازٍ بديع، اختفت فيه الوجوه وراء أقنعتها في إحكامٍ تام، حتى لقد كان من أعسر العسر على مُشاهد الحفل، أن ينفذ خلال القناع ليكشف عمن وراءه: من ذا يكون؟ أو ماذا يكون؟ إذ قد يُبدي له القناع بشاشة في لمعة العينين أو بسمة الشفتين، فإذا الحقيقة تنكشف له فيما بعدُ، عن يأسٍ وجهامة وعبوس، أو هو قد يرى في القناع سحنةً مجنونةً بلهاء، حتى إذا ما كشفت له الأيام عما وراء القناع، رأى طلعةً تشعُّ الحكمة الرزينة من قسماتها … وهكذا كانت الحال في حياة الفكر عند هؤلاء الناس، فلم يكن الفاحص ليرى في كتاباتهم دليلًا واحدًا، على أنها قد جاءت صورةً صادقة لكاتبيها؛ إذ قد يرى على الصفحات مرحًا، ثم يعلم عما في نفس كاتبيها من كآبةٍ سوداء، أو هو قد يرى على صفحاتهم ورع الأتقياء، ثم تنكشف له حقيقة الأمر، فإذا الورع التقي مظهرٌ جرى به القلم على الورق، وأما الفؤاد فملؤه فجور!
تلك هي العبارة التي سمعتها — أول ما سمعت — من رجلٍ، لم يكن بيني وبينه أواصر الصداقة المتينة، لكن واجبًا اجتماعيًّا اقتضاني زيارته في يوم عيد، دخلت غرفة مكتبه لأجده هناك مكوَّمًا في ركن أريكةٍ وثيرة، وقد لفَّ جسده بعباءةٍ غريبة، لم يظهر له منها إلا وجه اكفهرت ملامحه، وجدته يتحدث إلى زائريه حديثًا تدفق كأنه السيل المنهمر، يتعذَّر إيقافه لحظةً واحدة، تتيح للداخل أن يُلقي بسلامه، أو للراحل أن ينطق بتحية الوداع، وكان واضحًا لنا — نحن الجالسين أمامه نستمع — أنه ربما أصاب فيما يقول وربما أخطأ، لكنه في أي الحالتين — فيما يبدو — صادرٌ عن صدقٍ أمين في روايته، عن فكره وشعوره، ومضى في حديثه ليقول: «رياء! رياء! حياة هؤلاء الناس الثقافية معظمها رياء، ينطق فيها المتكلم بما ليس يعتقد أنه الحق، ولقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: إياكم والشِّرْك الأصغر! قالوا: وما الشِّرْكُ الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء!»
لم أكن أعلم من هؤلاء الذين يتحدث عنهم هذا الرجل، ولا أردت السؤال؛ لأنني إنما قصدت إلى زيارةٍ قصيرةٍ صامتة، ولقد خُيِّل إليَّ أنني حتى لو أردت مقاطعته بسؤالٍ لما استطعت، لكن أحد الزائرين استطاع الدخول في مجرى التيار الدافق، وسأل قائلًا: كيف يكون الرياء شركًا يا أستاذنا؟ فأجابه الأستاذ: الشرك الأكبر هو الشرك بالله، فهو انتحال حق إلى جانب الحق الأحد، وعلى هذا القياس يكون الرياء شركًا أصغر؛ لأنه مزاوجة بين باطنٍ وظاهر، فيبطن المنافق شيئًا ويظهر للناس شيئًا آخر، والأغلب أن تكون هذه المزاوجة للخداع، ثم مضى الرجل في حديثه ليقول:
«ولقد أصيب هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية بهذا الشرك الأصغر، بأكثر من معنًى واحد: فالكاتب وعبارته كثيرًا ما يتنافران، وهذا أحد المعاني التي أردتها، ثم أردت معه معنًى آخر، وهو أن أحكام المحكمين قلما تجيء مطابقة لعقائدهم، فهم — بعبارة الإمام الغزالي — يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، فالحق عندهم هو ما خدم صاحب الجاه، الذي في وسعه أن ينفع أو يضر …»
قال السائل مقاطعًا: أهي الطبيعة البشرية التي يصعب تغييرها؟ أم هو مرض عابر أصاب القوم، في أعز جانب من جوانب حياتهم، وأعني جانب الأدب والفكر؟
فأسرع المتحدث بالجواب: إنهم لا يكفُّون عن المطالبة بإعادة تشكيل الحياة؛ ليسايروا ركب الحضارة الجديدة، فكيف يتحقق لهم شيء من ذلك، إذا لم يكن المبدأ هو التسامي بدوافع الطبيعة البشرية، حتى لو كان الرياء جزءًا من الطبيعة، التي فُطر عليها الإنسان؟ وماذا تكون الحضارة في أي صورة من صورها، إذا لم تكن إلجامًا لغرائز الطبع؛ لنتَّجه بها حيث نريد لها أن تتَّجه؟ إن الرياء في حياة الفكر والأدب شرٌّ من المرض، المرض لا يرائي صاحبه ولا يجامل، ولو فعل لأودى بصاحبه إلى موتٍ سريع، إنه يظهر نفسه في صدقٍ صريح، فيراه الرائي صفرةً على الوجه، أو رعشة في الأطراف، أو غير ذلك من الصور التي يتبدَّى بها المرض لأصحابه، أما هؤلاء الناس في حياتهم الثقافية، فينطقون بما تقتضيه الظروف، لا بما يمليه الحق في عقولهم وقلوبهم.
صمت الرجل لحظة ليلقط أنفاسه، ثم لم يلبث حتى عاد إلى الحديث: «كان ينقصهم الرأي الشجاع، الذي يوحد في الناس بين باطن وظاهر؛ فقد أفهم أن يرائي الإنسان عدوه ليخدعه، ولكني لا أفهم أن يرائي نفسه فينطق بالباطل وهو يعلم أنه باطل، نعم إنه لأمرٌ عسير على عامة الناس، أن يوائموا بين البواطن والظواهر، لكن ماذا يبقى من المفكر، وماذا يبقى من الأديب، إذا هو لم ينقل إلى الناس صورة الحق كما رآه؟ مثل هذه الشجاعة أمرٌ عسير لكنها هي التي تصنع المتحضر، بل هي التي تصنع العابد القانت. لقد قرأت في هذا التوافق بين باطن المرء وظاهره، كلامًا جميلًا لكثيرين من أسلافنا الأمجاد، أذكر لكم منهم على سبيل المثال الحكيم الترمذي، في قوله إن الحياة الطيبة لا تدرك لمجرد الرغبة فيها أو التظاهر بمظاهرها، وإنما تدرك عندما تصبح تلك الحياة نشاطًا واحدًا متكاملًا، يحتوي الكائن البشري من جميع أركانه، فيحتويه فكرًا وإرادة، ونيةً وعملًا، فإذا تكلم متكلم، أو إذا كتب كاتب، جاءت كتابته أو جاء كلامه صورةً أمينة، لما يعتقد أنه الحق.»
هنا سمعت صوتًا في باطني يقول: إن هذا الرجل بحديثه، كأنما يشير إلى مفتاحٍ وحيد، لمن أراد لنفسه كرامة الإنسان، ولم يلبث الرجل أن عاد إلى الحديث:
«لم أطق صبرًا على حياة أولئك الناس، وأعني حياتهم في دنيا الفكر والفن والأدب؛ فهذه هي دنياي في المقام الأول، كما قد تعلمون، لا، لم أطق صبرًا على حياتهم؛ لأنها مثقلة بالرياء، ويشوبها — تبعًا لذلك — تسرعٌ في الأحكام، وتخبط في الاختيار، لقد تقدمت بي السنون يا أصدقائي، ورأيت من جوانب حياتهم الفكرية كثيرًا وسمعت كثيرًا، رأيت كيف يقول القائل منهم رأيًا تحت ضغط الظروف، ثم ينتقل إلى الغرفة المجاورة ليتنصل منه، التقويم الثقافي عندهم قائمٌ على «الكليشيهات» الجاهزة المحفوظة، فإذا سألتهم: من الكاتبون؟ ومن الشعراء؟ أجابوك بقوائم حفظوها عن ظهر قلب لكثرة ما رددوها؛ ولذلك كان الفالحون في حياتهم الثقافية، إنما جاءهم الفلاح حين استطاعوا بوسائل النشر، أن يدسُّوا أسماءهم وسط حبات المسبحة، التي تكرُّ على الألسنة بغير تفكير، فعندئذٍ تراهم يحصدون، حتى ولو لم يشاركوا — إلا بأقل الجهد — في حرث الأرض وبذر البذور ورعاية الزرع لينمو ويثمر، صدقوني يا أصدقائي، فلقد تقدمت بي السنون، ورأيت من حياتهم كثيرًا وسمعت كثيرًا، رأيت وسمعت نقادًا يقبلون ويرفضون، دون أن يقرءوا للمقبول عندهم أو المرفوض صفحةً واحدة من كتاب، إنه لتكفيهم في ذلك إشاعة يسمعونها، فيزيدونها بدورهم شيوعًا، الحياة الثقافية عند هؤلاء الناس — يا أصدقائي — تنطوي على زيفٍ كثير، العبارة عندهم لا تعبِّر، الصورة عندهم لا تصوِّر، النقد عندهم لا يمحِّص، الرفع والخفض عندهم يستندان إلى كل العوامل، إلا أن يستند إلى العمل وقيمته، وطوبى — عندهم — لمن أتقن فن السباحة في البحر المائج، والويل — عندهم — لمن وقف عند الشاطئ، يرتقب ظهور العدل في دنيا الفكر والفن والأدب، مع ظهور المهدي المنتظر، وقد طال انتظاره، إلا أنه «الشرك الأصغر»، كما قال عنه رسول الله …»
عدت إلى داري، ولم يزل صوت الرجل يملأ مسامعي، وحاولت جهد طاقتي أن أردَّه عني، مستعيذًا بالله من وسواسٍ خناس، وحمدت الله أن لم تكن حياتنا نحن مثل حياتهم.