توابع وزوابع
«التوابع والزوابع» عنوان لكتابٍ من عيون تراثنا العربي، كتبه ابن شهيد الأندلسي، قبيل كتابة أبي العلاء لرسالة الغفران بزمنٍ وجيز، وبين الكتابَين شبه ليس هنا مكان الحديث فيه، فلقد طار الخيال بابن شهيد إلى وادي الجن، حيث رأى بين الجان في ذلك الوادي العجيب، خصوماتٍ أدبيةً بين المؤيدين والمعارضين، بالنسبة لكل من عرفهم عالم الأنس من كتاب وشعراء، فلكل كاتب ممن نعرفهم في حياتنا نحن، ولكل شاعر، تابعٌ من الجن يحبه ويدافع عنه، ولقد فرق المؤلف بين أنصار الشعراء وأنصار الكتاب تفرقةً لفظية، فأطلق على أحد الفريقين اسم «التوابع»، وعلى الفريق الآخر اسم «الزوابع».
وصور لنا هؤلاء الأتباع جميعًا تصويرًا مناسبًا يتفق مع صفات الشاعر أو الكاتب الذي جاء «التابعة» أو «الزابعة» ليناصره، مثال ذلك أن يكون صاحب المتنبي فارسًا على فرسٍ بيضاء، ينظر من مقلةٍ مُلئت تيهًا وعجبًا، وأن يكون شيطان أبي نواس مخمورًا، افترش أضغاث الزهور، واتكأ على زق خمر، وأن يكون صاحب الجاحظ شيخًا أصلع، جاحظ العين اليمنى، عليه قلنسوةٌ طويلة، يكره السجع والتكلف، وهكذا.
دارت الحرب النقدية، التي ترفع شاعرًا وتخفض شاعرًا، وتصب الضوء على كاتبٍ، وتخفي في الظلام كاتبًا، دارت تلك الحرب النقدية — لا بين الشعراء والكتاب أنفسهم — بل دارت بين الذيول والأتباع، وها هنا تكمن الفكرة، التي أريد عرضها على القارئ، وخلاصتها أن المكاييل والموازين التي تقوم بها أقدار العاملين في دنيا الفكر والأدب — عندنا وعند غيرنا — تخطئ بمقدار ما تصيب، فقد يحدث أحيانًا أن تجيء الشهرة لمن لا يستحقها، كما يحدث — بالطبع — أن يظفر بها من هو أهلٌ لها، وعلة الخلل عندما تختل الموازين والمكاييل، هي في هؤلاء «التوابع» و«الزوابع»، الذين تُضلُّهم الشياطين، فيُطبِّلون لأنصارهم ويزمِّرون، لتكون ثمرة صياحهم مجدًا لسادتهم، الذين يُهلِّلون لهم ويُكبِّرون، وكثيرًا جدًّا ما تؤتي شجرتهم أُكُلها، وأعجب عجبي هو أن هؤلاء التوابع أو الزوابع، تأخذهم حماستهم لسادتهم، لا لنفعٍ يعود عليهم، ولا دفاعًا عن فكرة يؤمنون بصوابها، بل ليؤكدوا لأنفسهم الشعور بالتبعية، كأنما يمتعهم أن يكونوا أذنابًا وأتباعًا، فإذا كان في الأمر رئيس ومرءوس — مثلًا — تبرع المرءوس بمناصرة رئيسه، فجعل منه شاعرًا أو كاتبًا أو باحثًا عالمًا، ولا عليه أن يكون للرجل نصيب من ذلك كله أو لا يكون، فليس من الحالات النادرة في حياة الناس الثقافية، أن يعلو الصيت برجلٍ حتى يبلغ الأوج، وأن تمنحه الدولة وهو في أوجه ذاك ما يتناسب معه من أوسمةٍ وجوائز، ثم ما هو إلا أن تمضي السنون، وتزول دواعي التأييد المفتعل، فإذا صاحبنا قد هوى من أوجٍ إلى حضيض، والعكس صحيح كذلك، بمعنى أن ينخسف الرجل في عصره لافتقاره إلى أنصارٍ، يدقّون له الطبول وينفخون في المزامير، ثم يلمع له نجمه بعد ذلك، حين يُقام للتقدير ميزان الحكم النزيه، ومن هنا أوجبت الضرورة على رجال النقد، أن يراجعوا أسس التقويم عصرًا بعد عصر، حتى تثبت القيمة لمن يستحقها، ويذهب الباقون في غمرة النسيان.
إن دنيا الفكر والأدب شبيهة بدنيا البيع والشراء، فهنالك في دنيا البيع والشراء، نوعان من عوامل ارتفاع الأسعار وانخفاضها، أحدهما وهو السوق المعتادة، التي تحمل على الرفع والخفض فيها، عوامل يمكن تقديرها بضبط الحساب ودقَّته، والآخر هو «صالات المزاد»، ففي هذه الصالات قد تُباع السلعة النفيسة بأبخس ثمن، أو تُباع السلعة الخسيسة بأعلى ثمن، فالعلاقة في المزاد مبتورة — أو تكاد — بين جودة السلعة المعروضة، وثمنها الذي يرسو عليه المزاد، وكذلك الأمر في دنيا الفكر والأدب؛ فلهذه الدنيا سوق، ولها أيضًا «صالة مزاد»، أما السوق فهي ما ينتهي إليه حكم الناس، على قيمة المفكر أو الأديب، بعد طول تمحيصٍ وتحليل، على مدار الزمن، وأما «صالة المزاد»، فهي ما يح دث لرجال الفكر والأدب في عصرهم، حين تكاد تنقطع الصلة بين جودة الإنتاج وثمنه، الذي يدفع لصاحبه شهرةً ومالًا وأوسمةً وجوائز تقدير.
وهناك مثلًا يبين لك كم تفعل الأهواء فعلها في التقدير.
فلا بد أن يكون القارئ على علمٍ بمكانة «أزرا باوند» في عالم الشعر الحديث؛ فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك عالم الشعر الحديث، فهو الذي يكاد يجمع الرأي عليه، بأنه في ذلك العالم الشعري إمام في طليعة الطليعة من رواده، ولقد عرف أزرا باوند بعداوته لليهود، حتى جعل هذه العداوة جزءًا ظاهرًا في شعره، ولعله لم يهجر وطنه أمريكا، ليقيم في إيطاليا، إلا ليجد فرصةً أوسع للتعبير عن كراهيته لهم، ولقد أقام تلك الكراهية على مسلكهم في دنيا الاقتصاد، مما لا يتفق مع كرامة الإنسان، كما يتصورها هو، وكما ينشدها للإنسان في حياته المثلى.
فقد حدث منذ عامين، وكان ذلك قبيل وفاة الرجل بقليل (مات في خريف ٧٢) أن رشح عند «الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم» لنيل وسام الشرف — وكانت سِنُّه عندئذٍ سبعة وثمانين عامًا — فرفضت إدارة الأكاديمية قبول الترشيح، وبَنَتْ رفضها على ما أسمته أسبابًا خلقية، تمس بعض جوانب حياته، بعيدًا عن دائرة الشعر وتقديسه، ويلفت النظر هنا بصفةٍ خاصة أن الأكاديمية، أوصت بألَّا تذاع تفصيلات المناقشة التي دارت بين الأعضاء، لكن السر سرعان ما ذاع في الناس وفي الصحف، وهو أن مجلس إدارة الأكاديمية فيه أعضاءٌ يهود من ذوي النفوذ، وقيل صراحة بأنه لا يجوز أن يُكرَّم شاعر كهذا بوسام الشرف، مع عدائه السافر للسامية، وينتمي إلى تلك الأكاديمية نحو ألفين وسبعمائة عضو، فكم منهم احتج على هذا الخلط بين تقويم الشعر والموقف الاجتماعي السياسي؟ احتجَّ ثلاثة أعضاء واستقالوا، ووافق الباقون على حرمان الشاعر من التكريم إرضاءً للأعضاء اليهود، وورد ذلك صراحة في خطابٍ سرِّي، أرسله مدير الأكاديمية إلى الأعضاء.
تلك كانت قيمة أزرا باوند في «صالة المزاد»، أما قيمته في سوق الشعر على مدى الزمن فشيءٌ آخر، لم يكن يساوي في صالة المزاد وسامًا، وهو أعظم شعراء هذا العصر؛ إذ هو الشاعر الرائد، الذي قدم إليه ت. س. إليوت مخطوط قصيدته «الأرض اليباب» التي يقال عنها إنها أهم وأخطر، ما أبدعه الشعر على طول القرن العشرين، لكثرة ما أثارته بين نقاد الأدب في العالم كله، من تحليلات وتأويلات ومجادلات. أقول إن أزرا باوند كان هو الشاعر الرائد الذي وضع بين يديه ت. س. إليوت رائعته تلك، ليرى فيها رأيه، وليُصلِح منها ما شاء أن يصلح، قبل طبعها ونشرها، فحذف منها باوند ثلثها — وقيل بل مما يقرب من ثلثيها — وخلع عليها وحدة كانت تنقصها؛ هذا الشاعر الرائد لم يكن يساوي في صالة المزاد التي أقامتها الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وسامًا لتكريمه، وأما في سوق الأدب التي يستند فيها التقويم إلى أسسٍ موضوعية، فسوف يكون له القدر الرفيع في تاريخ الأدب، ما بقي للأدب تاريخ.
وأعود إلى ابن شهيد وكتابه «التوابع والزوابع» لأختم هذا المقال، بخلاصة لما ختم به كتابه ذاك؛ ففي تلك الخاتمة زعم أن بغلةً وحمارًا كانا من الشعراء، وانعقدت المحاورة بين «التوابع» في وادي الجن، ليقرِّروا أيهما أجود شعرًا البغلة أم الحمار؟ واتجه الرأي نحو تفضيل البغلة على الحمار، وكان إلى جانب المكان الذي انعقدت فيه المحاورة، بركة ماء تسبح فيها إوزة أديبة لها دراية بالشعر ونقده، وأغضبها هذا الحكم الجائر؛ لأن شعر الحمار في رأيها أجود من شعر البغلة، بدرجة لا تترك مجالًا للتردد إلا عند أصحاب النزوة والهوى.
فكانت هذه الخاتمة سخريةً لاذعة، لا أدري ماذا قصد بها ابن شهيد، لكنها سخرية ترد إلى خاطري، كلما رأيت «توابع أو زوابع» — عندنا أو عند غيرنا — يناصرون أو يعارضون، أو يفاضلون في الفكر والأدب بين بغلة وحمار.