نرجسية بغيضة
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر؛ تريد أنت أن تديم الغزل في ملامح صورتك، فلا تبصر منها إلا الحسن الجميل، وأريد أنا ألَّا أطيل الوقوف عند مواضع الجمال والحسن — وهي كثيرة — لأفرغ لأوجه النقص الشائهة، فأبرزها أمام الأبصار لعلها تصلح، هل سمعت بنارسيس — أو نرجس — في الأسطورة اليونانية القديمة؟ لم يكن نارسيس قد رأى وجهه في مرآة؛ فلم يكن يعرف شيئًا عن ملامحه، فما إن شهد صورة وجهه، ذات يوم على سطح الماء حتى فُتن بها عشقًا، لكنه كان كلما أراد أن يضمَّ هذا الحبيب الطارئ بين ذراعَيه، اضطرب الماء، واضطربت معه صورة الحبيب، فامتلأ صدره همًّا وغمًّا، ولبث في يأسه يذبل ويذوي حتى تحول إلى فناء، وأرادت عرائس الماء، أن تصون رفاته في قبر تعده له، فلم يجدن من جسده إلا نرجسة نبتت على حافة الغدير. وجاء علماء النفس في عصرنا، فاختاروا اسم «النرجسية» عنوانًا لمن أحب نفسه، حتى عميت عيناه عن نقائصها.
مختلفان نحن يا صاحبي: فلقد أوغلت فيك النرجسية إيغالًا، حتى كرهتَ أن يُشار لك إلى عيب فيك، وأما أنا فقد أخذت مني الواقعية، مأخذًا قيدني إلى الأرض وأهلها، حتى لم أعد أطيق الطيران عنها مع وهم الخيال. أتذكر كيف صممت أذنيك عن سمع حديثي، حين هممتُ بالتحدُّث إليك عن تلك الفجوة المخيفة، التي تفصل — عند بعضنا — بين القول والعمل؟ إن الذي حزَّ نفسي حزًّا، هو علمي بأنك ما صممت أذنيك عن سمع حديثي ذاك لأنه كذب، بل إنك قد فعلت ذلك لعلمك أنه صادق، فما الذي أغضبك يا صاحبي من الحق يُعلَن في الناس؟ فيمَ إشفاقك من أن يتعرَّى نفرٌ منا قليل، أصيب بهذه الفجوة المخيفة حتى لنخشى أن يصيبنا معه؟ وهل زاد حديثي عنهم يومئذٍ، عن أن يكون بسطًا للقول الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
أتعرف من هم أولئك الذين عنيتُهم بحديثي ذاك؟ لم يكن بينهم الفلاح الذي يعزق الأرض ويحرثها، ويرويها ويرعاها أكثر مما يرعى بنيه، والذي لولا كدحه هذا كل يوم، منذ يبزغ الفجر إلى أن تغيب الشمس، لما كان بين أيدينا قمح نأكله، ولا قطن نبيعه أو ننسجه، فلا فجوة هناك في حياة الفلاح بين قولٍ وعمل؛ لأن قوله هو نفسه ضربات فأسه، كلا، ولا هو الخباز الذي يصطلي اللهب ساعاتٍ متصلة، والذي لولاه لما وُجدتَ أنت ولا وُجدتُ أنا رغيف الخبز على موائد الطعام … لا، إنه لا فجوة بين قولٍ وعمل عند العاملين بكل صنوفهم، الطبيب في المستشفى، والمهندس في المصنع، والمدرس في قاعة الدرس، عامل البريد، وعامل النقل والبقال والكواء والخياط … كل هؤلاء عاملون لم أقصد إلى أحدٍ منهم، حين حدثتك عن الازدواجية المخيفة التي تفصل — عند قلة بارزة من الناس — بين القول والعمل، وهو الحديث الذي لم يصادف عندك هوًى فسددت عنه أذنيك، لم أكن أقصد إلى أحدٍ من هؤلاء العاملين الألوف، الملايين؛ لأن أحدًا من هؤلاء جميعًا، لم ينعم عليه الله بترف التأرجح بين دنيا القول ودنيا العمل، فحياتهم توشك أن تكون عملًا كلها، بلا قول يسبقه أو قول يلحقه، اللهم إلا كلماتٍ متقطعات يسمرون بها، مع أهليهم ساعة إفطار أو ساعة عشاء.
لكن الذين قصدت إليهم بحديثي الذي أغضبك، قلةٌ قليلة بضاعتها كلام، هي قلة تمسي في كلام وتصبح في كلام، فيرفعهم كلامهم هذا إلى صدارةٍ ملحوظة، لقد قلت لأحدهم ذات يوم، وكنت على صلةٍ به تجيز مثل هذا القول، قلت له: ترى لو جمعنا كلامك كله، الذي ظللت تمسي به وتصبح عامًا بعد عام، فكم رغيفًا من الخبز يخرج منه للجائعين؟ كم ثوبًا ننسجه منه لمن ينقصهم الكساء؟ كم مترًا من الطريق نرصفه؟ وكم جدارًا نبنيه؟ أليست هي يا صاحبي طواحين تملأ أوعيتها هواء، فيخرج لنا من عيونها هواء، ويظل الجائع في حاجةٍ إلى الرغيف، ويظل العاري في حاجةٍ إلى الثوب، ويظل الطريق المتهدم ينظر من يرصفه، والجدار من يبنيه؟
ولو كان أولئك الذين يملئون أوعية الطواحين هواءً لتخرج للناس هواءً، يقصرون مشغلتهم على أنفسهم، لتركناهم وشأنهم حتى ولو رفعتهم طواحينهم تلك إلى الصدارة الملحوظة، لكنهم يجرون الفلاح والعامل وربة البيت، والطبيب والمهندس والمدرس، وراصف الطريق وباني الجدار وخابز الرغيف، يجرُّونهم من ميادين العمل؛ ليشهدوا الطواحين وهي تعبأ بالهواء، ثم وهي تلفظه هواء، وينصرف المتفرجون بعد الموكب: لا الجائع قد طعم، ولا العاري قد اكتسى، ولا المريض قد برئ، ولا الجاهل قد زالت عنه غشاوته … وقلب المأساة يا صاحبي هو في أن تكون هذه «الشطارة» سلمًا للنجاح، فلماذا غضبت يا صاحبي، حين هممت أتحدث إليك عن هذه القلة الكاسبة بلا عمل؟ أهي النرجسية البغيضة قد أبت عليك، أن يُشار فينا إلى عيبٍ يُعاب؟
يا صاحبي هذا وطنك ووطني، هذا بيتك وبيتي، فمن منا ينافق من؟ لو كنا نزلاء بيت لا نملكه، لنافقنا رب البيت ابتغاء حياةٍ آمنة، لكننا نسكن بيتًا نحن أصحابه، فهل نسكت عن جدارٍ تشقق أو باب فسدت مفاصله؟ أم تريدني أن أقسم لك بالله العظيم — أولًا — بأن البيت بيتنا لكي تؤمن حقًّا بأننا مالكوه؟ إذن فأنت تريد من يقسم لك هذا القسم العظيم، بأن الشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، وأن المربع قائم الزوايا والمثلث ذو ثلاثة أضلاع!
هي قلةٌ قليلة منا تكسب مناصبها بالكلام، وأما الكثرة الكاثرة فينا فلا تعرف لقمة العيش طريقها إلى أفواههم، إلا بعد عملٍ كادح، وكل ما خشيته وأخشاه، هو أن يكون لتلك القلة الكاسبة، أثرها في صرف الناس عن مواقع العمل، وأن الوطن ليكسب كسبًا كبيرًا، لو أن تلك القلة نفسها ارتدَّت هي الأخرى إلى ميادين عملها، فكلهم كان في الأصل صاحب عملٍ منتج، ثم تركه ليعيش حياة الكلام، لما أن وجدها أجدى عليه وعلى عياله، منهم أستاذ الجامعة والمهندس والمدرس والطبيب والعامل، ولست أعقل أن يكون أستاذ القانون — مثلًا — أو أستاذ الاقتصاد أصلح في أي مكانٍ آخر منه أستاذًا للقانون أو الاقتصاد، لست أعقل أن يكون للطبيب مكانٌ أنسب له، من مكانٍ يطب فيه للمرضى، وكذلك قل عن المهندس والمدرس والعامل، وأن هؤلاء جميعًا ليعلمون في بواطن نفوسهم، أنهم قد تركوا المواقع الأنفع، ليأخذوا المواقع الألمع، فهم كغيرهم من البشر يريدون البريق.
لست من رجال السياسة، ولا أصلح أن أكون؛ فحياتي خطوطها مستقيمة، والسياسة — هكذا يقال لي — خطوطها تنحني؛ ولهذا فقد لا تكون لي العين المبصرة، التي ترى الحكمة في وجود هؤلاء النفر حيث هم، إذ قد تكون في ذلك «سياسة» لم تتهيأ لي القدرة على إدراك خبثها، ولكني إذا ما سئلت: وماذا تريد؟ لأجبت بلغة الخطوط المستقيمة قائلًا: أريد أن يثبت كلٌّ في موضعه من دنيا العمل، وإذا أنت وضعت في المكنة تروسها وصواميلها ومساميرها، كل واحدة في مكانها الصحيح، دارت المكنة على أكمل وجهٍ مستطاع، وبهذا نجد الزوائد التي تعيش وتعلو على كدِّ سواها.
مختلفان نحن يا صاحبي في طريقة النظر، ولا بأس في أن نختلف: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا صدق الله العظيم.