ديمقراطية بغير سياسة
فكرة الديمقراطية هي إحدى أفكارٍ كثيرة، خلقها فلاسفة السياسة منذ قديم، ثم أخذوا يزيدونها مع الأيام خصوبةَ مضمونٍ وثراءَ معنًى، ولقد ازدادت بهذه الإضافات المتوالية، انتفاخًا في حجمها، واتساعًا في رقعة تطبيقها، حتى لتبدو آخر الأمر، وكأنها كائنٌ مختلف عما كانت عليه أول الأمر، وسواء أكان فلاسفة السياسة هم الذين خلقوها من أذهانهم حقًّا، ثم عرضوها على الناس فاعتنقها الناس وطبَّقوها، أم كان هؤلاء الناس هم الذين أداروها في صدورهم آمالًا غامضة، فجاء الفلاسفة ليخرجوها لهم مصوغة في عباراتٍ تُحدِّدها، فلا اختلاف بين الطريقين في النتائج، وإحدى هذه النتائج التي ليس عليها اختلاف، هي أن فكرة الديمقراطية وغيرها من «الأفكار السياسية» لا تُفهم حق الفهم، إلا مقرونة بزمن استعمالها، فنقول: كانت الديمقراطية في العصر الفلاني تعني كذا وكذا، وهي اليوم تعني كيت وكيت، بل ربما كان لها في العصر الواحد — كعصرنا الحاضر — معنًى عند قومٍ يختلف عن معناها عند قومٍ آخرين.
وهكذا قُلْ في سائر الأفكار الرئيسية في مجال السياسة، كالحرية، والمساواة، والاشتراكية وغيرها، وبغير هذا التحديد يحدث الخلط في أفهام الناس، خلطًا نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا، حين نرقب الناس وهم يتجادلون في هذه المعاني، فندرك كيف يتجادلون على غير أرضٍ مشتركة، إذ يكون لكلٍّ منهم معنًى في ذهنه، غير المعنى الذي يجادل به زميله.
ولقد عَنَّ لي خلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرة، أن أُسجِّل عندي كل معنًى للديمقراطية أجده واردًا في الصحف، فإذا بالحصيلة كشكولٌ عجيب، يدلُّ أوضح الدلالة على مقدار التباعد بين الناس في تصورهم للديمقراطية ماذا تكون، برغم كونها محورًا رئيسيًّا في الحياة السياسية كلها، وبرغم أننا نعيش معًا في عصرٍ واحد وفي بلدٍ واحد؛ فالديمقراطية عند كاتب هي حرية المناقشة وتعدد الآراء، وهي عند كاتبٍ آخر ارتفاع الحد الأدنى للأجور مع انخفاض الحد الأعلى، وعند كاتبٍ ثالث هي التوزيع العادل لأعباء الضرائب، وهي عند كاتبٍ رابع استقلال السلطات بعضها عن بعض، وهكذا.
وبينما كنت أجمع تلك الحصيلة من الصحف، لمعت في رأسي عبارة خرجت من عمق الذاكرة، وكأنها القبس يلمع فجأة وسط الظلام! كم هي عجيبة ذاكرة الإنسان فيما تحتفظ به، وما ترفض الاحتفاظ به، فيُلقى في بحر النسيان! فما أكثر ما دهشت لحادثة قفزت إلى ذاكرتي، بغير داعٍ ظاهر يدعوها إلى الظهور، ولحادثةٍ أخرى أكدُّ لها الذهنَ كدًّا لأستعيد تفصيلاتها، فلا تستجيب!
وأقول ذلك بمناسبة تلك العبارة التي وثبت إلى الذاكرة فجأة، وبغير داعٍ ظاهر، وأعني بها عبارة كنت سمعتها أيام الدراسة من أستاذ، قالها لنا في سياق حديث له عن رحلة كولمبس، التي كشف بها أمريكا، إذ قالك ذلك الأستاذ إن رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعدُ! لكن ما علاقة كولمبس ورحلته، إن كانت نتائجها كلها قد ظهرت أو لم تظهر، ما علاقتها بما أنا بصدد الحديث فيه؟ وإني لأكاد أوقن أن هذه العبارة حين سمعتها من قائلها، لم تكن قد أثارت في نفسي شيئًا من الاهتمام بتحليلها تحليلًا أتقصى به معانيها القريبة والبعيدة، لكنها حين جاءتني الآن، غير مدعوَّة ولا مطلوبة، وقفتُ عندها لحظة، فإذا هي مصباح ينير الطريق.
أعدت على سمعي تلك العبارة التي برزت من جوف الظلام: «رحلة كولمبس لم تظهر كل نتائجها بعدُ.» فأمسكت بهذا القول كما يُمسك الطفل بعصفورٍ بين يديه خشية أن يطير، فماذا كانت تلك النتائج — يا ترى — التي توقع لها أستاذنا القديم أن تظهر، والتي لم تكن قد ظهرت في أيامه بعدُ؟
كانت أولى نتائج الرحلة — بالطبع — كشف القارة الجديدة، التي ما لبثت أن أصبحت هي العالم الجديد، ثم شاء الله لهذا العالم الجديد، أن تنبت على أرضه حضارةٌ جديدة، قوامها علم وصناعة بمعنًى جديد لهاتين الكلمتَين، ولسنا هنا بصدد التقويم، لنقول عما حدث أكان خيرًا هو أم كان شرًّا، لكننا إنما نذكر ما حدث نتيجة لحياةٍ جديدة، نشأت في عالمٍ جديد، ويهمني جدًّا في هذا الموضع من سياق الحديث، أن يتنبَّه القارئ هنا إلى لفظة «جديد»، فلقد عرف الإنسان شيئًا من «العلم» وشيئًا من «الصناعة»، منذ خلقه الله إنسانًا يسعى في فجاج الأرض، لكن علم اليوم وصناعة اليوم لهما من الطابع المتميز، ما يقيم حدًّا فاصلًا بينهما وبين الذي كان؛ مما أجاز لكثيرين جدًّا من كتاب عصرنا، أن يستخدموا عبارة «ما قبل العلم» ليشيروا بها إلى العصور الماضية جميعًا، برغم كل ما شهدته تلك العصور من علومٍ وصناعات؛ لأنها جميعًا كانت من صنف، وأما علم يومنا وصناعته فمن صنفٍ آخر.
نعم إن بذور العلم الجديد والصناعة الجديدة، كانت قد بُذرت بادئ ذي بدء في بقاعٍ من أوروبا — وفي إنجلترا أيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر بوجهٍ خاص — لكنني لا أظن أن ثمة موضعًا لشكٍ، في أن العالم الجديد هو الذي طوَّر البداية، تطويرًا أنتج للعالم هذا الذي نسميه بحضارة العصر.
وليس الذي يعنينا في هذا الحديث، من حضارة العصر هذه، جماعة العلماء في المعامل، ولا مجموعة المكنات في المصانع، بل الذي يعنينا هنا بصفةٍ خاصة هو ما قد صاحب ذلك، أو تلاه من نظم للحياة جديدة، نشأت نتيجة طبيعية للعلم والصناعة في صورتهما الجديدة، وهي نظم حملت في ثناياها «ديمقراطية»، لا يقتصر أمرها على المفهوم السياسي بكل معانيه المختلفة، التي ترد على أقلام الكتاب، بل مدَّت أطرافها لتشمل صورًا من الحياة الخاصة والعامة، مما لا يندرج تحت مفهوم السياسة بمعناها المعروف، فكيف كان ذلك؟ هاك أمثلة توضح ما نريد:
قرأت في كتاب «صلة العلم بالمجتمع» — تأليف كراوزر — (وله ترجمةٌ عربية) أن ظهور الحرير الصناعي في اليابان، كان له أثرٌ واضح في إزالة الفوارق الطبقية في تلك البلاد، فلقد تميزت طبقات الناس قديمًا — في اليابان وغيرها بأنواع ثيابها، فكان الحرير في اليابان مقصورًا على الطبقة العليا، التي كان منها رجال الحكم، فما إن استطاعت الصناعة الجديدة أن تخلق نوعًا من الحرير، لا يختلف في مظهره عن حرير دود القز، حتى بات المظهر متشابهًا بين حاكمٍ ومحكوم؛ مما أوحى إلى الناس بفكرةٍ ظلت تكبر وتنمو، وهي ألَّا يكون الحكم مقصورًا على أسرةٍ حاكمة، وحتى إن بقيت للحكم أسرة بعينها، فلا ينبغي أن يجاوز ذلك حدوده الشكلية، التي لا تؤثر في سير الأحداث.
لقد لبث الناس في عصور ما قبل الصناعة الجديدة، لا يعرفون لثيابهم إلا المصادر «الطبيعية»، كالصوف والقطن والكتان والجلد، وكانت هذه تتفاوت في قيمتها، بتفاوت الصعوبة في الحصول عليها، لكن العلوم الجديدة والصناعة الجديدة، جاءتا لتخلقا ما لم تكن للطبيعة عهد به، فأخرجتا للناس صنوفًا من الأقمشة المركَّبة في المعامل، كادت تسوي بين عباد الله في مظهر الثياب، ولست أملك نفسي من ابتسامةٍ ساخرة، كلما رأيت أسرةً مصرية، حرصت على أن تضع خادمتها منديل الرأس على شعرها؛ ليكون بمثابة الفارق الذي يعلن اختلاف الطبقتين (ونحن الدولة التي تستهدف إذابة الفوارق بين الطبقات)، أقول إني لا أملك سوى السخرية من هذه البقايا، بعد أن كان الاختلاف في طبيعة الثياب نفسها!
وعلى ذكر اليابان وحريرها الصناعي، وما أحدثه من تذويبٍ حقيقي بين الطبقات، أذكر — عابرًا — شيئًا آخر، هو اللؤلؤ الذي عرفت اليابان أيضًا كيف تستزرعه، فبدل أن ننتظر على الأصداف دهرًا طويلًا، حتى تفرز لنا اللؤلؤ إفرازًا طبيعيًّا، استعان أهل اليابان بعلوم اليوم وصناعاتها، فعرفوا كيف يستثيرون تلك الأصداف نفسها؛ لتُعجِّل بإفرازها من اللآلئ، وهكذا ازدادت انتشارًا، ورخصت ثمنًا، فأصبحت السيدة من عامة خلق الله تُطوِّق عنقها، بما لم تكن تستطيعه في الأزمان الخوالي إلا أميرات.
ألا ما أكثر المعاني التي تمر على الإنسان مع مر الأيام، فلا يفهمها حق الفهم في حينها، حتى إذا ما أسعفته خبرة الحياة بعد ذلك بما يعين، تبين له من خفايا المعنى ما لم يكن قد تبيَّن، فلست أذكر متى ولا أين قرأت للأديب الفرنسي «إميل زولا» قوله: إن ظهور المتاجر الكبرى ذات الأقسام المتعددة، قد أنزل أدوات الترف منازل الديمقراطية، فماذا كان يعني إميل زولا بقوله هذا؟ إننا لنرى بعض جوانب الحياة اليومية فلا نلحظ — من شدة من ألفناها كم فيها من عواملٍ أنشأت في حياة الناس الجارية ديمقراطية لم يكن يحلم بها الحالمون، ولعل ما أراده «زولا» بعبارته السابقة عن المتاجر الكبرى، هو أن البضائع فيها معروضة أمام الأعين، لا فرق بين النفيس منها وغير النفيس، وأثمانها مُحدَّدة، بغضِّ النظر عن مكانة المشتري، وقد تقول: وماذا في ذلك؟ أقول إن في ذلك الشيء الكثير من التسوية بين الناس، ولعلي لا أقذف بالقول قذف المستهتر، إذا زعمت بأن تفاوت الأثمان للسلعة الواحدة، بحسب المواقف المختلفة في عملية البيع والشراء، هو قرين للمجتمع إذا سادته التفرقة بين الطبقات، وأن اجتماع الأفراد جميعًا عند ثمنٍ واحد للسلعة الواحدة في المتجر الواحد، هو أيضًا قرين للمجتمع إذا شاعت فيه الروح الديمقراطية الصحيحة.
كانت البضائع الثمينة فيما مضى مصونةً عن أعين العابرين، يخرجها بائعها لمن يتوسم فيه الملاءمة لشرائها، وكانت أثمان السلعة الواحدة تعلو وتهبط بتفاوت الزبائن في تقدير البائع، دون أن يكون في ذلك معنًى للغش أو الخيانة ﻓ «التجارة شطارة.» كما سمعت تاجرًا عربيًّا يقول لمن جاءه لائمًا لبيعه السلعة الواحدة بأثمانٍ مختلفة. تغيرت الصورة في البلاد التي تأثرت بروح العصر الجديد، وتلكأت الصورة القديمة في البلاد الأخرى، تلكَّأت كثيرًا أو قليلًا بمقدار ما تأثَّر البلد المعين بروح العصر.
ولم تكن الثياب وحدها، أو المساكن أو ضروب العمل، أو صور البيع والشراء، هي التي تفرِّق بين فئات الناس، بل كان يفرق بينها كذلك ضروب التعليم التي تتلقَّاها، وأنواع الوسائل التي تملأ بها أوقات الفراغ، إلى أن أنتج العلم الجديد والصناعة الجديدة للناس وسائل، يجتمع عندها الأعلَون والأدنَون على سواء، فالإذاعة — مرئيةً ومسموعةً — والصحيفة وشاشة السينما، لا تفرق بين مُشاهِد ومُشاهِد، ولا بين قارئ وقارئ، أو سامع وسامع، فأعلى فئات الناس وأدناها — كلٌّ في داره — يقضي ساعات فراغه بالطريقة نفسها، وبالمادة الفكرية والفنية نفسها، وفي اللحظة نفسها.
كان القادرون وحدهم هم الذين يحصلون على الفاكهة أو غير الفاكهة، في موسمها وفي غير موسمها، وفي منبتها وفي غير منبتها على السواء، فأصبح الأمر في هذا مُوزَّعًا بالتساوي على البشر أجمعين، بفضل التعليب وطرائق الحفظ — وكلها من نتائج العلوم — حتى ليكون الإنسان في يومنا من سكان الصحراء، وأمامه فاكهة الدنيا بأسرها ولحومها وخضرها على مدار العام؛ فانمحت بذلك فوارق الزمان وفوارق المكان. إننا لو استطردنا في هذا الحديث؛ لتفتَّحت لنا أبوابه إلى غير نهاية، وكلها أبواب تُدخلنا في رحاب الديمقراطية عن غير طريق السياسة.