كشف حساب
ذات يوم من ربيع العام ١٩٧٦م تسلمت وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، الذي تفضل السيد الرئيس محمد أنور السادات، رئيس الجمهورية فمنحني إياه، وعدت إلى داري بالوسام والقلب ينبض، والذهن في شرود، وما إن أخذت مجلسي من الدار حتى فتحت العلبة المخملية لأملأ عيني بما ترى وقرأت «براءة» الوسام التي تقول: «تقديرًا لحميد صفاتكم، وجليل خدماتكم للأدب، قد منحتكم وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى.» فدمعتْ عيناي، ثم انتقل بي الدمع إلى بكاءٍ مكتوم، ولا تسلني لماذا؟ فأنا أروي لك ما حدث وعليك أنت التعليل، فربما كان ذلك لطول ما عانيته من عسفٍ فيما مضى، فلما جاءني التقدير برغم المنكرين، دمعت مني العين وأجهش الحلقوم!
لكن ذلك لم يصرفني عن أن أنصب لنفسي الميزان؛ لأحاسبها — أمام هذا التقدير العظيم من الوطن ورئيسه الكريم — لأحاسبها على مدِّ صنعته من أجل مصر وشعبها، لقاء ما وهبتني إياه! لقد وهبتني الحياة وما يقيم أود الحياة، أن هذه الأنفاس التي يعلو بها الصدر ويهبط هي من هوائها، وهذا البدن من أرضها ومائها وشمسها وهوائها، بل إن أفكاري وعواطفي هي من نسج أهلها الذين هم أهلي، فماذا صنعتِ — يا نفسي — لمصر لقاء هذا العطاء الغزير؟!
فكان جوابها الساخر: صنعتُ لها كلمات أرسلتُها في الهواء، وسميتُها «تعليمًا»، وصنعت لها كلمات بعثرتها على الورق، وسميتُها «كتابة» … إنها «كلمات، كلمات، كلمات» — كما قال هاملت — وذلك حين رآه بولونيوس يقرأ، فسأله: ماذا تقرأ يا مولاي؟ فأجابه بقوله: كلمات، كلمات، كلمات! فعاد بولونيوس ليقول إنما سالتك عن مادة تلك الكلمات ما هي؟ فأجابه هاملت: فضائح — يا سيدي — فضائح! فهذا المؤلف الوغد الساخر، يذكر عن الشيوخ أنهم يلتحون بلحًى بيضاءَ، ولهم وجوه تغضنت جلودها، وأعين تفرز العماص … نعم إنهم لكذلك، لكن هل يليق إثبات ذلك على صفحات الكتب؟!
وما دمت قد ذكرت هاملت، فلقد نبَّهني ذلك إلى حقيقتي وحقيقة طائفةٍ ضخمة من المثقفين عندنا، إننا جميعًا من طراز هاملت، نجعل من الأولوية لذواتنا نتأملها كأنها هي محور الكون، وننصرف بها عن دنيا العمل المنتِج النافع، الذي يزيد من أقوات الناس قوتًا، ومن مساكنهم مسكنًا، ومن كسوتهم كساءً، إننا ننفق جهودنا في أنانية، وشك وتحليل وجدل، نجعل من أنفسنا نقطة انطلاق لنعود إلى أنفسنا من جديد، لا يكاد البلد وشعبه يحس بوجودنا إلا جعجعة، لا تحل له مشكلًا ولا تزيح عن صدره همًّا، إننا مشغولون بأوضاعنا لا بأداء واجباتٍ عملية كان ينبغي أن نؤدِّيها، إننا ساخرون والشعب من حولنا يكدح لينتج لنا لقمة العيش، وهدمة الثياب، وإننا لنعلم ذلك حق العلم عن حقيقة أنفسنا، ومع ذلك نشمخ بالأنوف ونتعالى، إننا — نحن جماعة المثقفين الذين هم من أمثالي — هو هاملت في تردده ودورانه حول نفسه، إنه يوهم نفسه بأن مشكلته الرئيسية هي: هل يحيا أو يموت؟ ومع ذلك فهو مُتشبِّثٌ بحياته، كأنما الفكر النظري عنده شيء أما حياته العملية فشيءٍ آخر، نعم إننا — جماعة المثقفين الذين هم على شاكلتي — مثل هاملت، يلبس رداءه من المخمل النفيس المزركش بأسلاك الذهب والفضة، ومع ذلك يحلو له أن يطلق اللسان بعبارات الفقر والبؤس والشقاء.
قلت لنفسي: ما دمتِ — يا نفسي — قد ذكَّرتِني بهاملت، فإنني أتهمك بالجحود، وأتهم معك معظم المثقفين في مصر «وهل أقول أيضًا في الوطن العربي كله؟» فالشعب يطعمكم من جوعٍ ويؤمِّنكم من خوف، ومع ذلك لا يقول قائلكم إلا مردِّدًا ما قاله القدماء، بأن حرفة الأدب مجلبة للعري والجوع والفزع! أعرف أديبًا من أدباء الجيل الماضي، درَّت عليه حرفة الأدب — هذه المفترى عليها — أرضًا زراعيةً فسيحة الرقعة؛ حتى جعلته من سادة ذلك الزمان، فلما حمل القلم ليكتب، لم يكتب إلا شكاة من الفقر والإملاق، كأن هذه الشكاة من الرواسم «الكليشيهات»، التي يحتم على المثقفين في بلدنا أن يقولوها، ويعيدوا قولها ما كان لهم قلم وكانت كتابة؟ ورحمك الله يا سلامة موسى، جزاء هجمتك العنيفة يومئذٍ على ذلك الكذب القبيح.
وأعود إلى نفسي وحسابها على ما قدمته لهذا البلد، إزاء ما أطعمها وآمنها وعلَّمها، فلم أجد لديها إلا كلمات! لكم وددت — ليرضى عني ضميري — أن شاركت العاملين المنتجين بيدي، بأظافري، لا أعرف ماذا يعني العمل؟ لقد ذهب الشباب وذهبت عني فتوَّته، وباتت حسرتي كلامًا في كلام … كنت منذ قريب أصلح سيارتي، وجلست أنظر إلى العامل وهو يصلحها، فرأيته وقد فرش الأرض من تحته بلوحٍ معوجٍّ من الصاج، ورقد عليه وزحف بجسده تحت السيارة، فسقطت في إحدى عينيه قطعة من رماد النار، وزحف بجسده من تحت السيارة مُسرعًا، لا يسعفه في مسح عينه المصابة، إلا طرف قميصه الذي تحول إلى خرقةٍ من زيت مزج بالقذر والحمد لله، جاءت سليمة، لكن هل يجوز لأحدٍ من السادة المثقفين أمام هذا المنظر، أن يشكو من قلة كسبه وكثرة كسب هذا العامل؟
كانت كلها «كلمات» — منطوقة مرة ومكتوبة مرة — هي التي قدمتها للناس على طول السنين، ومع ذلك فماذا لقيت منهم؟ كافأني الشعب الكادح على كلماتي تلك، برواتب أجراها ولا يزال يجريها، وكافأني بما دفعه أثمانًا لكتبي، ولم يكن ذلك كله ملاليم، كما يزعم المثقفون فينا نكرانًا للجميل، بل كان قروشًا وجنيهات، مهما قلَّت فهي كثيرة بالنسبة للمتوسط العام الذي كان من العدل أن يشملنا كما يشمل طوائف العاملين.
على أن هناك كلمات وكلمات، وليس الكلام كله سواء، فهنالك كلمات يكتبها الطبيب وصفًا للدواء الشافي، وكلمات يكتبها المهندس تخطيطًا لبناء يُقام، فتلك وأمثالها كلمات وثيقة الصلة بالعمل، وليس فيها القصور النظري الشكلي الذي يُعاب، ولكن هناك أيضًا كلمات — كالتي هي بضاعتي — تبدأ كلامًا وتنتهي كلامًا! والحمد لله فلم يصبني بالغرور، الذي يوهم صاحبه بأن الفلك الدوار، إنما يدور على محوره هو، فما فتئت على مدى السنين أقول وأعيد — في ميدان تخصصي الجامعي — بأنه إذا كان لا بد من كلام، فليكن كلامًا من الضرب الذي يضيء طريق العمل، فكل كلام يبدأ باللفظ وينتهي باللفظ، ثم لا شيء بعد ذلك؛ هو هراء، بل شر من الهراء؛ لأن الهراء الصريح يصمُّ الناس دونه آذانهم فلا يضر، أما هذا الهراء المتستر وراء طلاءٍ خادع، فهو الذي قد نفتح له آذاننا في غير جدوى.
ألم أقل ذات يوم (في مقالٍ عنوانه «مداد مغشوش»، نشر في ٢٠ مايو ٧٦) إنني على سبيل المراجعة، استخرجتُ من مكتبتي مجموعة المقالات الإصلاحية، التي كتبها الشيخ محمد عبده؛ لأرى ماذا يكون الفرق بين المشكلات التي عرضت له، والمشكلات التي تعرض لنا، فإذا هي في جملتها متشابهة؛ مما دعاني إلى السؤال: ماذا صنعت — إذن — كتابة الكتاب في زمنٍ طوله قرنٌ كامل؟ فلو كنا قد أدرنا تعليمنا على الربط الوثيق، بين الكلام الذي نقوله والعمل الذي نؤديه، لتغيرت حتى طريقة كلامنا نفسه، فتقل السيولة اللفظية التي تذهب هواءً مع الهواء، وتبقى حالنا هي حالنا، لا يغيرها إلا سواعد العاملين.
وعدت إلى نفسي أناقشها الحساب، وألحُّ عليها بالسؤال: ماذا قدمتِ للناس لقاء ما قدموا؟!
قالت: تعليم هناك، كان وما زال، وكتابة هنا، كانت وما زالت، فماذا تريد؟ وإذا جعلنا الكتابة ضربًا من التعليم، أجبتك بأن حياتي قد ذهبت تعليمًا داخل الأسوار وخارج الأسوار، أليس في ذلك ما يكفي؟!
قلت: كان يكفي لو أن التعليم جاء هدايةً، تنقل الناس من قولٍ إلى عمل، الفرق كبير يا صاحبتي بين أسلاكٍ من اللفظ تنثرينها على الأرض باردة، وتلك الأسلاك وقد سرت فيها حرارة التطبيق، في الحالة الأولى يتعثر السائرون فيسقطون، وفي الحالة الثانية يهتزُّ الوجود حرارة وكهرباء. لقد زارنا هنا في مصر كاتبٌ إنجليزي منذ سنين، والتقيتُ به مصادفةً في فندق كنت أقيم فيه، فعلمتُ أنه بصدد الكتابة عن مصر، وأنبأني بأنه يتأهب للرحيل إلى بعض قرى الصعيد، يخالط الناس فيها ويشاركهم أعمالهم كما يعملونها، وذهب وقضى ما قضى من أسابيع، ثم عاد، وجلسنا معًا نتحدث فيما وجد وما أحسَّ، فكان من أطرف ما قاله لي، أنه قد وجد بعض الأعمال أشقَّ في حقيقتها مما تبدو في ظاهرها، من ذلك العمل على الشادوف، ثم أضاف إلى قوله: الفرق بعيد بين أن أكتب لأقول «إن بعض المزارعين يستخدمون الشادوف في ري الأرض.» وبين أن أكتب ذلك نفسه، لكن بعد أن أحسَّ من داخلي إحساس هؤلاء المزارعين وهم يعملون. في هذه الحالة الثانية تسري في كلماتي حرارة الحياة ونبضات الصدق، وأما كلماتي إذا ما قيلت وأنا بعيد، فلا بد أن تجيء وكأنها قطع من الثلج.
وهكذا أنتِ يا نفسي — هكذا عدتُ إلى نفسي أحدثها — كأن شأنك شأن معظم المثقفين في بلدنا، نقول القول ولا نمارس ما ينطوي عليه من مشقة العمل فيسهل النقد، ويهون تصوير النماذج المثلى، وكأن نجوم السماء يجوز لها، أن تنتثر أمامنا أصدافًا على الأرض، استجابةً لكلام نقوله أو نكتبه، ماذا كانت دنيا الناس لتخلو منه، إذا لم يكن لك يا نفسي اللسان الذي تكلم والقلم الذي كتب؟! هل كان بناء فيها لينقضَّ، أو طريق لينسدَّ، أو جسر لينهدم؟ ذلك لأن بضاعتك كانت كلامًا لا تسري في مفاصله حرارة العمل، أفلا تذكرين — يا نفسي — كيف استهان رئيس للتحرير بما تكتبينه؛ فقرَّر حذف ما تكتبين، وشاءت الأحداث الساخرة أن يكون الرجل ممن تعلموا على يديك؟ أرأيت كيف ذهب تعليمك؟ وأيَّ موقع وقعت كتابتك؟
فإذا كان هذا مبلغ ما ذهبتْ إليه جهودك، ثم قدَّم إليك هذا الشعب — العريقة أصوله، الكريم عنصره — ما قدَّمه من رغد العيش، ومن علائم التقدير، أفلا يكون من حقه كل ما في وسعك الضئيل، أن تقدميه إليه من تضحية، ومن إخلاص، ومن حب؟!