قاماتٌ متساوية
من الفوارق المألوفة بين العلم والفن، أن العلم «يتقدم» مع الزمن، بمعنى أن القوانين الطبيعية التي أخذ بها العلماء في القرون الماضية، لم تعدْ مما يقبله علماء اليوم، إذا أحلُّوا محلها قوانينَ أخرى، أصدق انطباقًا على ظواهر الطبيعة، وأما في الفن فليس ثمة معنًى مفهوم لفكرة «التقدم»، فربما كان أقدم شاعر عرفه التاريخ، أروع في شعره من أعظم شاعر يعيش بيننا الآن، من ذا يجرؤ على القول بأن أدباء المسرح في عصرنا هذا، هم أعلى في درجات الفن الأدبي من شيكسبير بل من سوفوكليز عند اليونان الأقدمين؟ من ذا يجرؤ على القول بأن فن التصوير على أيدي أعلام هذا العصر، متفوقٌ على ما أبدعه رافائيل ومايكل أنجلو؟ من ذا يستطيع الزعم بأن فن النحت على أيدي نوابغه المعاصرين، أعظم — بمعايير هذا الفن — مما أبدعه أزميل النحات المصري القديم؟ ألم تقل لي أستاذةٌ ناقدة في الفنون التشكيلية ذات يوم، وقد وقفنا في القسم المصري من متحف المتروبوليتان بنيويورك، أمام تمثالٍ فرعونيٍّ صغير، ولكنه رائعٌ رائع، ألم تقل لي الأستاذة الناقدة يومئذٍ إنها لو وضعت فن النحت المعاصر بأجمعه في إحدى كفتي الميزان، ووضعت ذلك التمثال الصغير في الكفة الأخرى، لرجحت عندها كفته؟
لا، ليس ثمة معنًى واضحٌ مفهوم لفكرة «التقدم» في الفنون، بمثل ما هو واضح مفهوم في مجال العلوم، أو على الأقل هذا ما كنت أراه وما زلت أراه، لولا أن مؤلفةً حديثة قد أخرجت كتابًا في تاريخ الفن، تزعم به غير ذلك، وكان مما وقفتُ عنده من أفكارها في ذلك، فكرة هي غاية في الطرافة، لم أستطع لا أن أؤيدها ولا أن أنفيها؛ لأن علمي بتاريخ الفن أقل جدًّا مما يسعفني بالأمثلة التي تؤيد أو تنفي، وأما الفكرة الطريفة التي أشرت إليها، فهي قول المؤلفة بأنه من علامات النمو والتقدم في الفنون — كفن التصوير مثلًا أو فن النحت — أنها تساير التقدم الحضاري، بما تدخله في مضموناتها من تغيراتٍ جوهرية، ومن ذلك — على سبيل المثال — أن الفنان القديم كان يفاوت بين قامات الناس، بحسب تفاوتهم في مكاناتهم الاجتماعية، فلا يرسم الملوك في أحجام أفراد الناس من العامة، ومع سير التاريخ، أخذ الفنان يقارب بين هذه القامات شيئًا فشيئًا، حتى جاء عصرنا ومعه المساواة الاجتماعية شبه الكاملة، فأزال الفنان كل ضروب التفاوت التي روعيت في العصور الماضية، ومعنى ذلك هو أن يكون في حياة الفن «تقدم»، يوازي التقدم الذي نراه في أي مجالٍ آخر من مجالات النشاط الإنساني.
تلك كانت هي الفكرة الطريفة التي وقفت عندها، وتقاطرت الذكريات كما شاءت أن تتقاطر، لا كما شئت لها، فكان مما ورد على خاطري، ذكرياتٌ عزيزة من مرحلةٍ طويلة في حياتي، كنت خلالها أَوثقَ صلة بالفن، وما ينتج في ميدانه هنا في مصر، وهي مرحلة سعدت فيها بصحبةٍ موحية لصديقين كريمين، من أئمة الحياة الفنية في دنيانا الثقافية، وهما صلاح طاهر، وحامد سعيد، وما إن جاءتني هذه الذكرى، حتى قفزت لأقف عند لوحات أقتنيها من فن صلاح طاهر، ولأجمع شيئًا عندي مما رسمه أو كتبه حامد سعيد.
فمن لوحات صلاح طاهر التي أقتنيها، صور لمجموعاتٍ بشرية، لعلها تمثل مرحلة من أخصب وأمجد ما أنتجه هذا الفنان؟ ولولا الفكرة التي تزودتُ بها من المؤلفة التي أشرت إليها، لما تنبهت بكل هذه القوة التي تنبهت بها إلى قامات لأشخاصٍ في هذه المجموعات البشرية، التي صوَّرها صلاح طاهر أشكالًا أشكالًا وألوانًا ألوانًا، وإذا هي في الحق ناطقة بهذا المعنى، بل بأكثر منه، فالقامات فيها متجانسة تنعدم بينها ضروب التفاوت، حين يكون للتفاوت مغزاه السياسي أو الاجتماعي، ثم هي أيضًا متجانسة في شيءٍ آخر، وهو أنها جميعًا في الخفاء سواء، فترى مجموعة النسوة قد تلفَّعن بملاءاتٍ سوداءَ، أو ترى مجموعة الرجال قد لفوا أنفسهم بأثوابٍ بيضاء، وبذلك تقف أمام اللوحة، فلا ترى إلا تكوينًا قوامه أشخاص، تعاونوا معًا على تكامل التكوين، دون أن يتبين من أحدهم ما يميزه ممن عداه.
فهل نقول — على ضوء ما قرأته عند تلك المؤلفة — إن الفنان هنا قد جسد القيم السياسية والاجتماعية في الحياة المصرية الجديدة، والتي من أهمها أن تزول الفوارق الفردية، ليبقى المجموع المتعاون على إنتاجٍ متكامل، وحتى إذا لم تكن هذه الفكرة قد تحققت في حياتنا تحققًا كاملًا، أفلا نقول هنا إن الفنان قد سبق برؤيته الفنية، ما لا بد أن يصل إليه المجتمع ذات يوم، ما دام سائرًا على الطريق الذي بدأه؟
وجلست بعد هذه النظرة الجديدة، التي نظرت بها إلى ما عندي من لوحات صلاح طاهر، جلست لأقلب فيما كتبه صديقي الآخر، وهو رائد الفن، الصديق حامد سعيد، وأخذت أقرأ ما كنت قرأته له قبل ذلك، مما كتبه بمناسبة إنشائه منذ سنواتٍ عديدة، لما أسماه بمركز الفن والحياة، فهذا الرائد لم يكفه أن يضع نفسه في فنه الروحي الصوفي الشفاف، بل أضاف إلى ذلك أن يبث رؤيته في حوارييه، حتى إذا ما تخرج على يديه نفرٌ يعتز الفن المصري المعاصر بإبداعهم، أضاف إضافةً أخرى، وهي أن يقيم ذلك «المركز»، الذي جعل مدار العمل فيه، هو إعادة الشخصية المصرية إلى الوعي بذاتها، عن طريق الرؤية الفنية.
فها هنا برزت فكرة التعادل والمساواة والتجانس بين أفراد الناس، لا من حيث هم أطوالٌ جسدية تتكافأ في ارتفاعها، بل من حيث هم أنفس قبل أن يكونوا أجسادًا، فصميم الفكرة الاشتراكية عنده هي إنسانية الإنسان، فهذا هو جوهر الموضوع، وأما كل ما يجيء بعد ذلك — كما يقول حامد سعيد — فهو امتدادات وانبثاقات من هذا الأصل الروحي، فنحن إذا تناولنا الأمور من جذورها، استقامت أمامنا سبل التفكير، واستقامت — بالتالي — سبل العمل على اختلاف نواحيه، وحقًّا إن من دواعي الأمل في صحة الحياة الثقافية التي نحياها، أن يكون فيها هذه الأركان الحية بنشاطها، الواعية بأهدافها؛ ولذلك فقد أذهلني ما سمعته منذ قريب، من أن هيئة من الهيئات الرسمية المشرفة على الفنون، قد اتجهت نحو الحد من نشاط ذلك «المركز»، فلعل ما سمعته لم يكن صوابًا.
إلا أن اللحظات التي تنقضي مع الفن، إبداعًا أو تذوقًا، لهي اللحظات التي تكشف لنا عن الحق في جوهره، بعد تخليصه من الشوائب التي تحول دون رؤيته على الوجه الصحيح، إنها لحظاتٌ يمكن تشبيهها بالجبال في الأرض، فليس الجبل كائنًا غريبًا وضعوه فوق سطح الأرض، بل هو الأرض نفسها، وقد ارتفعت عن المستوى العام، وكذلك اللحظة الفنية — سواء كانت لحظة إبداع من الفنان نفسه، أو كانت لحظة تذوق بصير ممن يتأمل العمل الفني — أقول إن اللحظة الفنية هي كذلك مرتفع في مجرى الخبرة البشرية، لم يُقحَم عليها إقحامًا، بل هي جزء من تلك الخبرة البشرية نفسها، وقد ارتفع عن المستوى العام.
فإذا كان الفن قد أخذ يميل في عصرنا، نحو أن تتعادل قامات الناس، وأن تتكافأ أنفسهم وأرواحهم، فكذلك ينبغي للحياة العملية أن تكون، ولسنا نريد لهذا الكلام أن يمضي، وكأنه صنوف من الألفاظ كُتبت ثم قُرئت، وبعد ذلك يذهب كل شيء إلى فراغ العدم، بل نريد لهذا الكلام أن يدق أُذن القارئ دقًّا، حتى يدق في عظمه — كما نقول — لعله يتحول عنده إلى أسلوب في النظر وطريقة في الحياة.
وأول خطوة نحو هذا التحول، هي أن نغير أفكارنا عن البطولة والأبطال، فمن الواضح أن هنالك نسبةً عكسية بين الفكرتين؛ فكرة التقارب بين أقدار الناس — في الواقع وفي الفن على السواء — وفكرة البطولة وعبادة الناس لها، بمعنى أنه كلما زالت الفوارق في الأحجام، قل الميل نحو عبادة الأبطال.
إن اختفاء «العملاق» من مسرح الحياة المعاصرة، له صورٌ عديدة، منها — مثلًا — أنه بينما كان المألوف في الحياة الفكرية أو الحياة السياسية، قيام عملاقٍ جبار يحيط به أتباعٌ أقزام بالقياس إليه، نرى أن الصورة في عصرنا، هي أن تتوزع القدرة على مجموعة من القادة، بدل أن تتركز في أشخاصٍ بأعينهم، فيزدادون بها ضخامة بالنسبة إلى أقرانهم، ففي الحياة الفكرية — مثلًا — كان يسيطر على العصر الواحد من العصور فيلسوفٌ واحدٌ ضخم، يُنسب إليه العصر كله، بحيث يصبح الباقون أتباعًا تحت لوائه، فيُقال: عصر ديكارت، وعصر كانط، وهكذا، ويكون لكل من هؤلاء «مدرسته» الفكرية، أي مجموعة الفلاسفة الذين يسيرون على دربه؟ وأما في يومنا هذا، فلن تجد العمالقة الذين يبتلعون العصر في أجوافهم، لن تجد في يومنا هذا رجلًا مثل أفلاطون أو أرسطو أو ابن سينا أو الغزالي، وكذلك قل في دنيا الإبداع الأدبي، إذا كان من المألوف أيضًا أن ينهض في العصر المعين، أديب يرتفع كأنه الجبل الشامخ، لا يترك لمن يعاصرونه إلا القليل؛ فهكذا كان الجاحظ في عصره، وأبو العلاء المعري في عصره، ولعل هذه النقطة أكثر وضوحًا في الأدب الغربي، فنرى هومر دانتي أو شيكسبير أو جيته، وكأن الواحد منهم كان يعيش وحده في فراغ يخلو من الأنداد؛ ولذلك كان كلٌّ منهم يستوعب عصره، ويعتصره ليكون منه بمثابة الممثل الشرعي الذي يمثل أمة بأسرها، تفكر بعقله وتكتب بقلمه، وتنطق بلسانه … وأما في عصرنا هذا فالأمر مختلف؛ إذ يتقسم هذه النيابة الشرعية مجموعة بأسرها من المفكِّرين أو من الأدباء.