شعبٌ مكافح
كانت الفنانة الموهوبة التي جاءت لتسمر معنا منذ قريب هي التي ألقت علينا السؤال، فقالت: ما الذي تلحظونه من أوجه النقص في حياتنا الفنية — وكانت تعني عالم السينما بصفةٍ خاصة — وماذا ترونه أجدر بجهودنا نحن المشتغلين في عالم التمثيل؟ ما هي أفضل الأدوار التي يجدر بمثلي أن تختارها، إذا أرادت أن تؤدي في الفن السينمائي دورًا له قيمه الثابتة؟
فأخذنا نحاول الإجابة، كلٌّ من وجهة نظره، وما هو إلا أن برزت لنا خلال السمر المسترسل الهادئ، نقطةٌ رأيتها تلمع ببريق الصدق، وكانت تستحق منا مزيدًا من التحليل والتوضيح، لولا أن أمثال هذه الجلسات الحوارية العابرة، من طبيعتها ألا تتقصى ولا تطول.
والنقطة التي رأيتها تلمع ببريق الصدق في مجرى الحديث، هي أن أفلامنا السينمائية — حتى وهي جادة في تصوير حياتنا — تشبه من يحوم حول الحصن ولا يغزوه، إنها حين تعرض علينا صورًا من الجهود المبذولة في تطوير حياتنا، ونقلها من مرحلةٍ في تاريخنا إلى مرحلة، وحين تقدم لنا صورًا من بطولة أبنائنا في شتى الميادين؛ بطولتهم في حرب التحرير، وبطولتهم في المصانع، وفي المزارع، وفي ميادين البحث العلمي، وفي غير هذه وتلك من مجالات الفكر والعمل، يحسُّ المشاهد بشيءٍ من التكلف والتصنُّع، يحس كأنما هو أمام نشرة جاءت من مصلحة الاستعلامات، كتبها موظفون تنفيذًا لأوامر جاءتهم، ومعها التوجيه وطريقة التنفيذ، ولعل مصدر هذا الإحساس عند المشاهد، هو أن الصور المعروضة تكتفي، في معظم الحالات، بظواهر الأمور دون بواطنها ولبابها.
إنه لا يكفي أن يقتصر الأمر في قصة كفاحنا، عند مجموعة من الأخبار الإعلامية تحشر في قصة الفيلم حشرًا، كأن الفيلم كتاب من الكتب المقررة على المدارس، حتى وإن نسجنا في ثوب القصة خيوطًا من الحب والزواج والأسرة والأبناء؛ وذلك لأن كفاح الشعب لا يظهر على حقيقته، إلا فيما هو كامن في صدور الناس من خلجاتٍ، تضطرب بها الأفئدة من صدقٍ وعزيمة؛ فالسد العالي، والمصانع والمعاهد والجامعات ومراكز البحوث، وغير ذلك من ألوف المنشآت التي أقمناها لننهض بها، إنما تستمد حرارتها وغزارتها ومعناها من نبض القلوب ومن مضاء العزيمة، أما هي في ذاتها فقد كان من الجائز، أن يقيمها مستعمر أراد استغلالنا لصالحه، فالوقوف عندها وحدها قد لا يدل على شيء، وربما كان أكثر منه دلالةً، أن نتعقَّب أسرةً واحدة فيما تضطرب به جوانح أفرادها من نوازع الطموح، فنرسمها رسمًا صادقًا، فنرى في مشاعرها من الداخل، وفي مسالكها من الخارج، ما يصرخ بالبرهان على كدح هذا الشعب وكفاحه، لا ليقف عند ضرورات العيش وحدها، بل ليتفوق على نفسه نهوضًا نحو ما هو أعلى.
ولا يحتاج الأمر منا إلى بحثٍ طويل، لنجد النماذج التي تستحق التصوير، والتي إذا صورناها، صورنا معها وبها هذه المرحلة من تاريخنا، تصويرًا حيًّا لا يثير في المشاهد الشعور بالتكلف المصطنع؛ لأنه بالفعل حقيقة لا تظاهر فيها ولا كذب.
ليس هو إسرافًا في القول، أن أزعم بأنني لا أكاد أعرف واحدًا ممن حولي، سواء كانوا من ذوي القربى، أو كانوا من الأصدقاء والمعارف، الذين صادفوني وصادفتهم على طريق الحياة؛ إلا وتاريخه الشخصي هو في ذاته قصة جهد وكفاح، ولم يكن الجهد والكفاح فيها ليقنع بملء البطون الجائعة وكفى، بل جاوز ذلك — في الكثرة الكاثرة من الحالات التي أعرفها — ليطمح فيما هو أعلى، على درجات الصعود، ولا تقلْ إنها حالاتٌ فردية صادفتك، لكننا مطالبون بأن نصوِّر جهد الشعب في مجموعه، لا تقُل ذلك، وإلا فقد ضاعت منك الرؤية الواضحة، كما هي ضائعة في أفلامنا، حتى وهي جادة وهادفة؛ إذ يُخيَّل إليَّ أنها — لكي تجعل القصة شاملة للشعب كله — تتعمد أن تنزع من الأفراد فرديتهم، لتتركهم وكأنهم رموزٌ شبحية لمجهول، ومن هنا يجيء شعور المشاهِد بما في القصة من تكلُّف، ولولا هذا الغواء لما ألقت علينا الفنانة الموهوبة، التي جاءت لتسمر معنا، سؤالها الدالَّ على قلقها، فالشعب هو مجموع أبنائه، وكفاحه هو حصيلة كفاحهم، ولن ترى صورته الحقيقية التي لا زيف فيها، إلا إذا رأيتها مجسدة في حياة أفراده الخاصة، هذا رجل قد اكتمل نموه الاجتماعي والثقافي، يستطيع أن يقص عليك قصته منذ كان طفلًا، يحثه أبوه على التفوق، كأن النجاح المجرد لا يكفيه، أراد من ولده تفوقًا على زملائه وعلى نفسه، لو روى لك قصته … كيف كان ذلك الوالد رقيق الحال، وربما كان من حقه أن ينظر إلى حاله وحال أسرته نظرة إنصاف، فيقول: لا، إن راتبي الضئيل لا فيض فيه، بعد ضرورات العيش، يفيض به لتعليم الأولاد، وخير لي ولهم أن يعاونوا في كسب الخبز والثياب. إنه لو قال ذلك لما حق للائمٍ أن يلوم، لكنه لم يقله، وأقبل على المغامرة القاسية التي كان يعلم في يقينٍ، منذ اللحظة الأولى أنها مغامرة ستأكل حياته أكلًا، وستدنو به وبعياله من حافة العري والجوع، ومع ذلك فقد أقبل عليها، وراح يقطع من لحمه الحي كل قرش، لينفق على أولاده في المدارس وفي الجامعات، وننظر الآن فإذا هم اليوم الدكتور فلان والدكتورة فلانة.
وربما مضى هذا الراوي في حكاية حياته؛ ليُصوِّر لك أنه منذ تخرج هو في الجامعة، لم يجد الأرض ممهدة ومفروشة بالبساط الناعم؛ فطفق على طريق الصعاب مُجاهدًا، لا يقنعه الكفاف، والذي يعنينا من قصته، هو أنه إذا أراد أن ينهض بنفسه، فيزيد من علمه علمًا، ومن منصبه ارتفاعًا، إنما كان ينهض بوطنه حتى ولو لم يكن ذلك عن قصدٍ مباشر؛ وذلك لأنه يكفي أن يسير على طريق القيم الرفيعة الطامحة، من أجل شخصه هو لتنعكس الثمرة على أمته، وها هنا على وجه الدقة يكون الفاصل فيما نشاهد على شاشات السينما، بين إخلاصٍ وزيف.
نعم، إنك لا تحتاج إلى بحثٍ طويل عن نماذج المواطنين، الذين يكدحون من أجل الصعود بأنفسهم وبذويهم، فإذا صعودهم الخاص صعود في الوقت نفسه للناس أجمعين، فهذه النماذج المكافحة تراها متمثلة في جميع من حولك، من أهلٍ وأصدقاء ومعارف وجيران، إذا أنت أمعنت النظر، ونفذت خلال الظواهر إلى البواطن، وانتقلت ببصرك من الفروع إلى الأصول … وهل أنسى ما حدث لغلامٍ فقير لكنه نابغ، عندما كانت مجانية التعليم لا تشمل إلا قلة من الأفذاذ النابهين، ومع ذلك فقد كان يُشترط على هؤلاء أن يدفعوا القسط الأول، قبل أن يُتاح لهم الدخول، فقد أراد ذلك الغلام وأراد له أبوه، أن يدخل المدرسة الثانوية، بعد أن أكمل المرحلة السابقة، بتفوقٍ وضعه في مقدمة الزملاء جميعًا؛ فذهب الغلام في صحبة أبيه، ومعهما خطاب يوصي بالغلام خيرًا لأنه موهوب، ووجه التوصية هو أن يُعفى من القسط الأول، وأما المجانية فمكفولة للغلام بعد ذلك، بحكم القانون لتفوُّقه، من أين ذلك القسط الأول، والوالد لا يملك من دنياه قرشًا واحدًا يزيد على الخبز الجاف؟ لقد رزقه الله ذلك الابن النابه، لكنه لم يرزقه بالجنيهات القليلة، التي كان لا بد من دفعها قبل الالتحاق بالمدرسة، وكان ناظر المدرسة طيب القلب، تأثر بالموقف تأثرًا عميقًا، لكن ماذا كان في وسعه أن يصنع؟ إن عينه بصيرة بحقيقة الأمر، لكن يده كانت أقصر من أن تصنع شيئًا للغلام وأبيه، وكان الغلام وأبوه واقفَين في فناء المدرسة، ينتظران الجواب، وجاءهما الجواب الحزين، فبكى الوالد مُردِّدًا من خلال دموعه «يا خسارة» «يا خسارة»، واحتضنه ابنه، يمر بكفيه الصغيرتين على ظهره، في عطف يذيب الصخر، قائلًا له: لا عليك يا أبي لا عليك! لا عليك يا أبي، لا عليك!
فهل استسلم الوالد المُعدِم؟ أبدًا أبدًا! لم يستلم، والله أعلم ماذا فعل ليعود بعد أيام بالجنيهات المطلوبة، وبدأ الفتى شوطه المدرسي، ليتلوه شوط الجامعة، وليظل على تفوقه، فيسافر إلى فرنسا، ويصبح اليوم هو الأستاذ الدكتور فلان، أستاذ ورئيس قسم مادة كذا بكلية كذا … فادخل معي إلى حبات الأفئدة في صدور هؤلاء الناس، تجد إصرارًا على التسامي، إصرارًا على التفوق على أنفسهم، إصرارًا على تحطيم الحواجز أو الوثوب فوق رءوسها. وليست هذه النماذج من مضاء العزيمة، بالشيء النادر في بلادنا، بل هي هناك عند كل خطوة تخطوها، عند كل حنية من حنايا الطريق، في كل ركن من أركان الريف، فكلها قلوب ملئت بالإرادة، إرادة أن تغير الحياة بادئة من بواطنها، وهنا نكرر القول — لأنه هو الذي يعنينا في موضوعنا الراهن — بأن الأسرة، أو أحد أفرادها حين تفوز بعوامل الطموح، فهي تفعل ذلك من أجل نفسها، ثم يجيء الارتفاع بالوطن نتيجة مباشرة بعد ذلك، هذا هو الموقف الطبيعي، أما إذا أصرت السينما على تصوير جهود المجاهدين على أنها مبذولة — عن وعيٍ وبعمدٍ وتصميم — من أجل المجتمع وفي سبيل الوطن، بدأت الصورة تهتز في أعين المشاهدين، واختلط صدقها بباطلها، وضاع أثرها مع الدخان.
في اعتقادي أن من بين الدوافع العميقة التي تدفع الناس في بلدنا، نحو هذا التسامي، حتى ولو جاء ذلك على حساب الرغيف والجلباب، هو الرغبة القوية في أن يزيلوا الفوارق بين المواطنين لتتساوى القامات، وإلا فما الذي يبرر لهذه العاملة في خدمة المنازل، ولهذا الشاب الذي يشقى، ما الذي يبرر لهما — وهما اثنان على مرأى العين مني، وليسا من خلق الخيال — أن يكدحا، كارهين لنوع العمل؛ لينفقا على إخوةٍ لهما في مراحل التعليم؟ وسألت الفتاة وسألت الفتى، فكان جوابهما واحدًا، وكأنه جوابٌ متفَق عليه، وهو: لقد حرمنا من التعليم، فأردنا أن نعوِّض ما فاتنا في رفعة إخوة لنا.
ومع كل هذه القصص الشريفة الطموحة من حولنا، التي كان مُحالًا على أمثالها أن يقع، ما لم تكن الأمة تحيا في مناخٍ تسوده إرادة الحياة وإرادة القوة معًا، ترانا نبحث عن حكايات للسينما، ونلجأ إلى التزييف في مواقفَ مصطنعة لا تقنع أحدًا، ونرى الفنانة الموهوبة تُلقي علينا سؤالها؛ لنهديها إلى دور في دنيا التمثيل يشرفها أن تؤديه.