الثورة الصامتة
شهد هذا القرن حربَين كبيرتين، شملتا العالم بأسره، وشهد معهما كذلك عشرات الحروب الصغرى، التي اقتصر كلٌّ منها على إقليمٍ واحد، ومع ذلك فهنالك من أصحاب الرأي، من يزعمون لنا بأن عصرنا هذا، إذا قيس إلى العصور السابقة، كان عصر ثورات أكثر منه عصرًا للحروب، على خلافٍ في ذلك مع العصور السابقة، التي كانت عصورًا للحرب أكثر منها عصور ثورات.
ولقد وقفت عند هذه التفرقة طويلًا، لعلي أقتنع بصدقها، فأخذت أقلِّب النظر في القرون القليلة الماضية — وهي تُسمى عادةً بالعصر الحديث — لكني لم أجد ما يؤيد هذه التفرقة، إلا أن يكون «للثورة» عند صاحب هذا الرأي معنًى آخر غير معناها المألوف؛ إذ لو أخذنا بهذا المعنى المألوف، لألفينا الحروب والثورات قائمتَين جنبًا إلى جنب، أو متلاحقتَين تلاحق الأسباب بمسبباتها؛ فالثورة الفرنسية وحروب نابليون — مثلًا — قد تداخلتا تداخلًا جعلهما ثورة وحربًا في آنٍ واحد معًا.
على أن الثورة كما نراها في القرون الأخيرة، قد اتخذت صورًا مختلفة، ولا أفضلية لصورة منها على صورة، فهنالك الثورة التي اتخذت صورة العنف، الذي كاد يجعلها مع الحروب في قائمةٍ واحدة، وهنالك الثورة التي اتخذت صورة المقاومة غير العنيفة، كالتي دعا إليها غاندي — كما كان قد دعا إليها من قبله تولستوي في الروسيا وثورو في أمريكا — ثم هنالك الثورة التي اتخذت صورةً ثالثة، جعلتها أقرب إلى «التطور»، الذي يعمل على تحويل الحياة، كالثورة الصناعية — مثلًا — والثورات الاجتماعية الإصلاحية بكافة ضروبها.
فبأي معنًى يقال عن عصرنا إنه عصر ثورات، بعد أن كانت سوابقه عصورًا للحروب؟ نعم، إن هذه الضروب الثلاثة كلها قد شهدها عصرنا في ثوراته، فثورة الروسيا وثورة الصين كلتاهما، قد اصطنعتا وسيلة العنف، وثورة الهند قد آثرت وسيلة المقاومة المسالِمة، والثورات الاشتراكية التي ظهرت في أجزاءٍ كثيرة، قد جاءت في الوقت نفسه تطورًا في بنية المجتمع وطرائق العيش، لكن هذه الضروب الثلاثة نفسها قد ظهرت في غير عصرنا، وإذن فليست هي وحدها مبررًا كافيًا لتمييز هذا العصر بأنه — على خلاف سوابقه — عصر ثورات.
وإنما المبرر الكافي لهذه الصفة، هو أن التاريخ لم يشهد عصرًا آخر كعصرنا، قد بلغ فيه التغير الثوري كل هذه الأبعاد التي بلغها في عصرنا، وهي أبعادٌ أفقية ورأسية معًا، فقد امتدت ثورات عصرنا أفقيًّا حتى شملت قاراتٍ بأسرها دفعةً واحدة، وشملت تبعًا لذلك بلايين البشر، وامتدت رأسيًّا حتى نبعت من أعماق الشعوب، ولم تكن مجرد حركات تقوم بها حكومات أو أقلياتٌ اقتصادية أو ثقافية.
على أن الأمر — على كل حال — لا يقتصر على الثورات المسموعة، فهنالك ثوراتٌ أخرى من نوعٍ صامت، تتسرب عواملها في أوصال المجتمع، فتفعل فعلها فيما يشبه الخفاء، فهي ثورات تفتت الجرانيت بقطراتٍ من الماء، واهنة لكنها دءوب، يقول كولردج — الشاعر الإنجليزي في أوائل القرن الماضي — يقول في كتابه «حديث المائدة»: «لقد شهدت إنجلترا في تاريخها ثلاث ثوراتٍ صامتة، كانت الأولى حين انسلخت المهن عن الكنيسة، وكانت الثانية حين انسلخ الأدب عن المهن، وكانت الثالثة حين انسلخت الصحافة عن الأدب.» ولكي أجسد أمام القارئ صورة هذه الثورات الصامتة الثلاث، التي ذكرها كولردج عن التاريخ الثقافي لبلاده، أقول: تصور رجلًا من رجال الدين قد ارتدى أربعة أثواب بعضها فوق بعض، كل ثوب منها يرمز إلى انتمائه إلى مجموعةٍ معينة من الناس، فثوب يدل على انتمائه إلى عالم الأدب، وآخر يدل على أنه من رجال الصحافة، وثالث يرمز إلى أنه مُعلِّم، ورابع يبين أنه من رجال الدين، كانت هذه الصورة المكدَّسة الأثواب، فوق رجلٍ واحد، هي صورة الحياة الثقافية في العصور الوسطى لإنجلترا، ثم أخذ الرجل، شيئًا فشيئًا مع مراحل التطور، يخلع عن نفسه ثوبًا بعد ثوب، حتى لم يبقَ على جسده إلا عباءة الكنيسة، على أن كل ثوب من الأثواب المخلوعة، كان يلقفه رجلٌ آخر ليستقلَّ به، فبعد أن كان القسيس هو نفسه الأديب، وهو المعلم، وهو الصحفي، أخذت هذه الجوانب الثقافية تستقل، ليقوم كل جانب منها على أسسه، حتى وإن حدث بعد ذلك أن تواصلت شتى الجوانب؛ لتنشئ معًا حياةً ثقافيةً واحدة.
كانت هذه الانسلاخات — في رأي كولردج — بمثابة الثورات التي حوَّلت صورة المجتمع في هدوءٍ وصمت، لم يشعر بها أحد إلا حين برزت نتائجها واضحة أمام الأبصار، وفي ظني أن ثوراتٍ صامتة كهذه، قد دبَّ دبيبها في حياتنا نحن الثقافية، لولا أنها لم تستكمل عملها بعدُ، لتصل به إلى نهايته، وليس من الضروري — بطبيعة الحال — أن تكون الفروع المراد سلخها لتستقلَّ بذاتها، هي نفسها الفروع التي لحظها كولردج في التاريخ الثقافي لبلاده، ويكفي أن يكون اتجاه السير متشابهًا في الحالتَين.
انظر إلى شريط حياتنا الثقافية خلال القرن العشرين، واجعل أحد طرفيه محمد عبده في أول القرن وتوفيق الحكيم في يومنا الحاضر، تجد الفرق بين الأول والثاني شبيهًا بما قصد إليه كولردج؛ كان الشيخ محمد عبده إمامًا في الدين، وفي السياسة، وفي الصحافة، وفي الأدب، وكانت كل هذه الجوانب منصهرة في شخصه الواحد، فكان لا بد أن ينساق كل جانب منها إلى دواعي الجوانب الأخرى، فأدبه يتسق مع الصحافة، وصحافته تتسق مع السياسة، وسياسته تتسق مع عقيدته الدينية؛ فلم يكن في مستطاع الناقد في كل فرع من هذه الفروع، أن يحاسبه بما تقتضيه الأصول الفنية لذلك الفرع، ومع الأيام أخذت تنفرط هذه الجوانب، ليضطلع بكل منها من يُجيد فنونه، وها هو ذا توفيق الحكيم، الذي جعلناه طرفًا يمثل الصورة الحاضرة، أديب يرعى فنه الأدبي ليصون له قواعده، فنتج لنا بذلك أدبٌ جديدٌ قوي.
على أن أطوار السير في حياتنا الثقافية، لم تجئ متطابقة مع المراحل التي ذكرها كولردج عن بلاده؛ فقد جاءت العشرة الأُول من هذا القرن برجال من طرازٍ يختلف عن طراز محمد عبده، من أمثال لطفي السيد وقاسم أمين، ثم جاءت العشرة الثانية بطرازٍ ثالث، من أمثال هيكل والعقاد وطه حسين، وأعقبتها العشرة الثالثة بطرازٍ رابع، من أمثال سلامة موسى وعلي عبد الرازق، ثم العشرة الرابعة بطرازٍ خامس، تمثل في توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومدرسة أبولو، وفي العشرة الخامسة حدثت حيرة، وإرهاصات بالفكرة الاشتراكية، وقامت ثورة ١٩٥٢م، فأصبحت الفكرة الاشتراكية محورًا رئيسيًّا، واشتدت الصلة بين الفكر والحياة.
وواضح أن هذه الموجات المتلاحقة قد تداخل بعضها في بعض؛ فأبناء الموجة المعينة منها يبقون على مسرح الحياة الثقافية ليضاف إليهم — لا ليحل محلهم — أبناء الموجات التالية، والذي يعنيني هنا هو المقارنة بين السوابق واللواحق؛ لنرى هل كان بينها «ثورةٌ صامتة»، تتجه نحو أن تنسلخ الفروع، لتستقل فتشتد أعوادها وتقوى جذورها؟ إننا إذا تذكرنا أن الهدف أمام الجميع هو هدفٌ مشتركٌ واحد، وهو الحرية بكل فروعها وشعابها، والانفتاح على رحاب العصر، وجدنا كل فئة تسلك نحو ذلك الهدف سبيلًا، يختلف بعض الشيء في محور ارتكازه عن الفئة التي بدأت قبلها، فكان رجال الموجة الأولى — بعد مرحلة محمد عبده — أقرب إلى الساسة، ورجال الموجة الثانية أقرب إلى الأدباء، ورجال الموجة الثالثة أقرب إلى العلماء، على أن الصحافة كانت قاسمًا مشتركًا بين أولئك وهؤلاء جميعًا، حتى جاءت الموجة الرابعة في الثلاثينيات، فاستطاعت لأول مرة أن تسلخ الأدب عن السياسة وعن الصحافة معًا.
نحن — إذن — نتقدم على الطريق بثوراتٍ صامتة، لكن ضربًا من الدمج الممقوت الكريه، ما يزال جاثمًا على صدورنا، وكثيرًا ما يقف عقبة في سبيلنا، والله أعلم متى يزول لنبرأ من كوارثه، هو ضرب لم يكن من الجوانب التي لحظها كولردج في بلاده، لكنه عندنا بارزٌ ملحوظ، وهو الدمج بين صاحب المنصب وصاحب الفكر أو الأدب، فقد يكون صاحب المنصب مفكِّرًا أو أديبًا وقد لا يكون، وما لم ننضج إلى الحد الذي نفرق به بين مكانة الرجل ومكانة أدبه أو فكره، فلن تبلغ بنا الثورة الصامتة مداها.