طريقنا إلى إحياء الدين
كيف السبيل إلى إحياء الدين، ليعود قوةً دافعة كما كان أول عهده؟ سؤال طرحتُه على نفسي منذ أمدٍ بعيد، ولم يزل يظهر في حياتي ويختفي إلى يومي هذا، وكثيرًا ما كان يراودني الطموح — وكدت أقول الجموح — بأن أنكبَّ على هذا السؤال ملتمسًا له جوابًا أقتنع بصوابه، لكنني كنت سرعان ما أجدني أمام موضوع لا قِبَل لي به، لا لعجز في الإرادة فحسب، بل — قبل ذلك وفوق ذلك — لقصورٍ في المعرفة بخفايا هذا الميدان وثناياه، فكنت أنصرف عنه، لكن السؤال لم ينصرف قط عن ذهني، فلم يزل يلحُّ ويريد أن نجد له الجواب.
إنني مؤمنٌ أشد ما يكون الإيمان، بأن نهوضنا بعد الكبوة الحضارية التي طال بنا عهدها، وأعني نهوضنا الذي يتيح لنا، أن نسير مع سائر الدنيا سير الشركاء لا سير الأتباع، لن يتحقق إلا إذا جاءت الحوافز من الدين والوسائل من العلم، لماذا؟ لسببٍ ظاهر، وهو أن الحوافز في صميمها قيم، نريد لها أن تتحقق في دنيا الواقع، فمن أين نأتي بهذه القيم الحافزة؟ إنها ليست ملقاة على قارعة الطريق لنلتقطها كما نلتقط العصي! إنها ليست في الخزائن لنستخرجها، كما نستخرج قطع الثياب لنرتديها ثم نعيدها إلى خزائنها! إنها — اختصارًا — ليست أشياء نعثر عليها بين سائر الأشياء، بل هي «صور» تتمثل أمام الذهن، نشعر بأننا مكلفون بتجسيدها في شئون الحياة الجارية! فما مصدر تلك الصور العقلية التي هي معايير السلوك؟ مصدرها الأول، وربما كان مصدرها الوحيد هو الدين.
ما سبيلنا إذن إلى إحياء الدين؟ كيف أضع في رءوس الناس مجموعة القيم التي يدعو إليها الدين، بحيث تتحول تلك القيم إلى حوافز، لا يستقر صاحبها إلا إذا أخرجها للناس، ولنفسه عملًا مرئيًّا مثمرًا؟ وبحيث لا تظل في رءوس أصحابها من قبيل المحفوظات التي نكتفي منها بأن نعيدها على الأسماع ميتة أو كالميتة، لا يهتزُّ لها عصب ولا ينبض بها عرق؟
إننا نبذل في سبيل «التعليم» الديني جهودًا بالنهار والليل، وبكل ما بين أيدينا من وسائل التوصيل، ولكنها جهود يذهب الجزء الأكبر منها هباء مع الهواء؛ وذلك لأننا نفتح الأعين على «الفكرة»، لكننا لا نجد السبيل الذي تتحول به الفكرة إلى إرادة تعمل، إننا — مثلًا — نعرض على الناس آيةً قرآنيةً كريمة، ثم نشرحها أوفَى شرح، وقد نستخرج منها بواطن لم تكن مرئية لمعظم الناس، وإلى هنا نقول إن الجهد جليل، وإن الغاية نبيلة، لكن الذي يجعل الجليل أكثر جلالًا، والنبيل أعظم نبلًا، هو أن نسوق ما نسوقه من المعاني على نحوٍ، يحمل الملتقى على العمل بمقتضاه، وأما إذا بقي في الرءوس علمًا محفوظًا، ثم لا شيء بعد ذلك، فلا نكون قد قطعنا من الشوط الطويل إلا خطوةً أولى، فربما عرضنا على الناس إحدى نتائج العلم الحديث، ثم نعقب ذلك بآياتٍ قرآنية تشير إشارةً مباشرة أو غير مباشرة، إلى النتيجة العلمية التي عرضناها، فأفرض أن سامعًا سأل المتحدث آخر الأمر قائلًا له: ثم ماذا؟ ماذا تريدني أن أفعل؟ فأغلب ظني أن هذا المتحدث لن يجد ما يجيبه به، لا بل إنه (أي المتحدث) ربما يسيء إلى ما أراد أن يحسن إليه؛ لأنه سيضع المصدر الديني في موضع الزائدة، التي لا تضيف جديدًا، إذ أين يكون الجديد، ما دمت تبين لي ما قد وصل إليه العلم، ثم تضيف إليه في نهاية الأمر شيئًا لم يكن ليغيِّر مما عرضته أمرًا؟
فمثل هذا الجهد هو شر من جهدٍ ضائع؛ لأنه يضع الأمور في غير مواضعها الصحيحة؛ لأن الترتيب الصحيح في هذه الحالة، هو أن أبين للناس كيف كانت الحوافز السابقة على العمل العلمي حوافز، ليست هي نفسها جزءًا من العلم وإن تكن ضرورية له، وإنما هذه الحوافز مستقاة من الدين.
إننا بكل جهودنا في سبيل «التعليم» الديني، لا نزيد على كوننا نشير بأصابعنا للناس، إلى ثمرةٍ عالقة في غصنها البعيد، لكننا لا نبين لهم كيف السبيل إلى قطفها؟ فنحن نعرض النصوص ومعانيها، وكانَ اللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، إننا كمن أخذ ناشئًا إلى البحر؛ ليدله على مواضع السمك تحت الماء، دون أن يزوِّده بأدوات الصيد، فيظل الناشئ شاخصًا ببصره إلى السمك في جوف البحر، يشفُّ عنه الماء الصافي، ثم يعود إلى داره وليس معه مما رأى سمكةً واحدة، تُشبِعه بعد جوع.
لعلك قد لاحظت أنني قد وضعت كلمة التعليم بين حواجز أو أقواس، حين أشرت إلى «التعليم» الديني الذي نؤديه، ولقد تعمدت ذلك لألفت انتباهك إلى حقيقة الموقف الراهن، فما نفعله اليوم في هذا السبيل منحصر كله في عملية التعليم التي — إذا نجحت — تزيد المستمع أو القارئ علمًا بما هنالك، ثم لا نكاد نفكر بعد ذلك في الخطوة الثانية الهامة، وهي خطوة التدريب التربوي على أن ينتقل «العلم» إلى «عمل» — وفي هذا الانتقال يكمن الإحياء الديني كما أتصوره.
إننا إذ نتكلم عن الإحياء الديني، لا بد أن يرد إلى أذهاننا «إحياء علوم الدين» للغزالي، فماذا أراد الغزالي أن يحققه بذلك «الإحياء»؟ أظنه أراد أمرين: أراد أن يعود بالإسلام إلى عهده الأول، ثم أراد أن يقاوم الذين حسبوا أن معرفة الحق وحدها تكفي، فقال في ذلك: بل لا بد إلى جانب المعرفة من سلوك، وأن يجيء ذلك السلوك محقِّقًا للشريعة.
وعندما نقول إن الغزالي أراد بإحيائه لعلوم الدين، أن يعود الإسلام إلى عهده الأول، فمن الواضح أن هذه العودة، لا تكون بمجرد «الحفظ»، لما كان يقوله الأولون؟ بل إن هذه العودة لا تعني شيئًا، إذا لم تكن تعني أن أعود إلى ذلك الضرب من الإيمان، الذي يُحوِّل العقيدة إلى عمل.
كان التحول الذي أسماه الغزالي «إحياء»، هو في عمقه تحوُّل من الفكر مجرد الفكر، إلى الإرادة التي تخرج من ذلك الفكر إلى مجرى السلوك، فإذا لحظنا نحن اليوم أن جهودنا كلها، تدور في دائرة «الفكر» وحده، دون أن تتعدى ذلك إلى الإرادة التي تعمل بناء على ذلك الفكر، فنحن على حق إذا زعمنا أننا بعيدون عن «الإحياء» المطلوب.
إن «الشطارة» في تخريج المعاني تخريجًا، يجعلنا نتصور أن ما جاء به الدين، هو نفسه ما يجيء به العلم في عصرنا، أقول إن هذه «الشطارة» لا تحولنا قيد ظفر مما نحن فيه، وهي «شطارة» لا تجعل الدين أكثر دينًا، ولا تجعل العلم أكثر علمًا، فهي أقرب إلى شطارة من يمشي على حبلٍ مشدود وهو حافظ لتوازنه، وإنما المهارة كل المهارة هي في أن تبصرني بالطريق، الذي أعرف منه كيف آخذ من الدين حافزًا يحرك الإرادة، إلى «صنع» علمٍ جديد أقدمه لنفسي وللإنسانية جمعاء.
أحيا الغزالي — مثلًا — فكرة «الخوف من الله»، فبعد أن كانت جملة تتحرك بها الألسنة في الأفواه، جعلها دستورًا للعمل، حوَّلها من مجرد لفظٍ إلى حالةٍ شعورية، تهدي صاحبها في ميدان النشاط الفعلي، إلى ما يجوز فعله وما لا يجوز، القول بأن «الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه.» قول نحفظه جميعًا عن ظهر قلب — نسمعه في تلاوة القرآن — ونسمعه في دروس الشرح والتعليق، لكن كم منا «أراد» بكل عزيمته، أن يجعل من هذا القول المحفوظ خطة للسير؟ فما الذي يحُول دون أن ننتقل بالقول من مجرد التلاوة والحفظ، إلى أن يصبح عادةً سلوكية تتحكَّم في توجيهنا، كلما عمل منا أحد عملًا؟ لو وقفنا على هذه الحوائل وأزلناها، كان في ذلك ما ننشده من إحياء الدين.
لكنني لا أدَّعي لنفسي قدرة على رسم الطريق، فالأمر لم يزد عندي على شعورٍ، بضرورة الإحياء الديني في نفوسنا، دون أن أكون على علمٍ — أدنى العلم — بما يمكن فعله في هذا السبيل.