إنسان من حروف
ترى ما الذي أسدل الستار — في أوروبا — على عصورها الوسطى، ثم كشف لها الطريق إلى عصرها الحديث؟ كيف جاءتها النذور، فاتحةً أعينها على عوامل الركود والجمود، لتزيحها وتنطلق إلى حضارةٍ جديدة، هي الحضارة التي يعيش العالم كله اليوم في خيراتها؟ ذلك سؤال نسأله لعلنا نقع على جوابٍ، ينفع الأمة العربية، وهي تتأهب لتستقبل العصر الجديد؟ ما هي أقوى المصابيح التي توجَّهت بضيائها في أوروبا، ساعة انتقالها من حياةٍ إلى حياة؟ فلعلنا لو عرفناها أضأنا مثلها، لتنزاح الظلمة عن الطريق.
إنها قِلةٌ قليلة جدًّا من الكتب، بين ملايينها التي تراها، أو تسمع عنها: مخزونة في مكتبات العالم، هي التي صنعت للإنسانية تاريخها الفكري، ومن تلك القلة القليلة كانت قصة دون كيخوته للأديب الإسباني سيرفانتيس (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي)، ولست أشك في أن القصة معروفة ومألوفة، فمن ذا الذي يسمع بهذا الفارس الأسطوري — دون كيخوته — الذي ملأته الأوهام، حتى لقد امتشق حسامه، وادَّرع بدرعه، وراح يقاتل طواحين الهواء، ويهاجم قطعان الغنم، حاسبًا إياها قلاعًا وجيوشًا! لكن الذي أشك في أن يكون معروفًا مألوفًا — اللهم إلا عند القلة القارئة — هو ما علق به النقاد، وشرح به الشراح، تلك الآية الأدبية الكبرى. فلا نهاية لما يقوله أولئك وهؤلاء، في استخراج المغزى الكامن في غضون القصة. ولقد كان من أهم ما قيل عنها، استخراجًا لمغزاها، أنها كانت الحد الفاصل بين عصر أوروبا الوسيط — بأضوائه وظلماته معًا — وعصرها الحديث، فكيف كان ذلك؟
المحور الأساسي في القصة — أو على الأقل هذا هو الجانب الذي يهمنا منها في هذا المقال — هو أن دون كيخوته قرأ قراءةً مُستفيضة عن حياة الفرسان كما كانت في العصور الوسطى، وتشبَّع بما قرأ حتى اعتزم أن يحيا فارسًا على منهاجهم. فلو كان دون كيخوته يعيش في قلب العصور الوسطى، مع سائر الفرسان عندئذٍ، وسلك كما سلكوا؛ لما كانت هناك مفارقة تلفت النظر، لكن تلك العصور كانت قد جاوزت نهارها، وانحدرت إلى غروبها، فإذا ما أراد إنسان، ساعة الغروب، أن يرد الزمن إلى ساعة الظهيرة التي انقضت وانقضى أوانها، كان ذلك هو العبث بعينه؛ لأنه يحاول المستحيل، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى نقول، إنه لو كان دون كيخوته، قد قرأ عن حياة الفرسان ما قرأ، ثم وقف عند حد القراءة وحدها؛ لعددناه مثقفًا استوعب التاريخ من إحدى زواياه، ولكنه قرأ، ثم صمم على تنفيذ ما قرأه في حياته الحقيقية، بأن يعيد حياة الفرسان في شخصه؛ فكان هذا الجانب منه هو الذي نقله في أعين الناس من كونه مثقفًا، إلى كونه مهزلةً تثير السخرية.
فعندما صوَّر سيرفانتيس هذه الشخصية — شخصية دون كيخوته — كان بمثابة من يقدِّم للناس صورة رجل، يجسد عهدًا مضى، فمن أراد أن يعيده كما كان، بكل قواعده وأصوله، كان بذلك أعجوبة تدعو إلى الضحك، حتى ولو مازج هذا الضحك، شيء من العطف على ذلك المسكين، الذي لم يستطع أن يفرق بين الممكن والمحال، فقد ملأ رأسه بالصور المقروءة في الكتب، ثم خرج ليحياها، فإذا الواقع من حوله، قد تغيَّرت معالمه عما قرأ، فبدل أن يعدل من الصورة المقروءة؛ ليجعلها تساير الواقع، حاول العكس؛ وهو أن يُغيِّر من الواقع ليجعله مسايرًا للمقروء في الكتب، ومن هنا جاءت غفلته.
إن المراحل التاريخية التي ينعم الناس فيها، بالاستقرار وسكينة النفس وراحة البال، هي تلك التي يحدث فيها توافق بين المكتوب من جهة، والواقع الذي يعيشونه من جهةٍ أخرى، لكن المراحل المطمئنة بهذا التوافق، لا تمتد إلى آخر الدهر، بل لا بد أن تتغيَّر ظروف الواقع المعيش شيئًا فشيئًا، فتحدث بالتالي فجوة بين الوارد في الكتب والأمر الواقع، وتأخذ الفجوة في الاتساع، حتى تصل إلى درجةٍ، يستحيل معها أن يطمئن للناس عيش، ويصبح حتمًا أحد أمرين: إما أن نُعدِّل من المكتوب، بمكتوبٍ جديد يلائم الواقع الجديد — وتلك هي سنة التقدم — وإما أن نحاول إرجاع الواقع الجديد إلى الوراء، ليعود إلى ملاءمته القديمة مع ما هو مسطور في الكتب، وهي محاولة إذا نجحت كان نجاحها، هو نفسه موت الأمة التي نجحت فيها.
خرج دون كيخوته في مغامراته، وهو يتوهَّم أن المجال لم يزل هو نفسه المجال، الذي نشط فيه الفرسان الأقدمون، الذين قرأ عنهم أخبارهم وأراد أن يحيا على نموذجها، فكان المسكين يضرب في فجاج الأرض، وكأنه حفنة من حروف طارت من صفحاتها التي هي مدونة فيها، لم يكن عندئذٍ إنسانًا كسائر الأناسي من حوله: تجري في عروقه مثلما يجري في عروقهم من دماء، بل كان كتابًا يسير على ساقين، ولم يكن كسائر الناس يرى الأشياء من حوله، ثم يصطنع لها ما يناسبها من حَرفٍ وكلمة وعبارة، بل كان على عكس ذلك، يبدأ بما عنده هو من حرفٍ وكلمة وعبارة؛ ليقحمها على الأشياء الخارجية إقحامًا، فكان وكأنه إنسانٌ من ورق، عظامه لغة قرأها في قصص الفرسان، كما رواها الرواة، ولحمه نصوصٌ محفوظة، ودماؤه هي المداد الذي سال على صفحات الكتب كلمات.
كان دون كيخوته في سعيه الواهم، تجسيدًا لتراثٍ مكتوب؛ فأخذ يلتمس له في حياة الواقع شبيهًا يؤيده ويحميه؛ ولأمرٍ واضح المرمى، جعله المؤلف رجلًا نحيلًا ضعيفًا، أثقل جسده بدروعٍ، لم تخلق إلا لأجسادٍ قويةٍ سليمة؛ فازداد هزاله هزالًا، وهو تحت دروعه الثقال، ولأمر واضح كذلك، جعله المؤلف يركب حمارًا عليلًا، ويحسب أنه إنما يعتلي جوادًا، كجياد أسلافه من الفرسان، فكانت كلها رموزًا مكثفة، تصرخ بالدلالة على أن أوان الفروسية قد فات ومات، ومن أراد إحياءه في غير عصره، كان كمن أراد أن يُخرج من الماء شعلة نار.
كان دون كيخوته في تجواله منسوجًا من حروفٍ، التقطها من صفحات الكتب، بل لم تكن تلك الحروف هي لحمة كيانه وسداه فحسب، بل زادت على ذلك، فأصبحت هي القانون الذي يحدد له ما يجب، وما يجوز وما يمتنع؛ ولذلك كان كلما صادفته على الطريق ظروفٌ طارئة، رجع إلى النصوص المنقولة المحفوظة؛ ليرى فيها ماذا يجب على الفارس أن يصنعه إزاءها؛ ليؤدي واجبه على الوجه الذي ترضى عنه الفروسية وقوانينها. لقد كانت القصص التي قرأها دون كيخوته عن الفرسان الأسبقين، بمثابة الأساطير؛ ولذلك كانت لها خصائص الأساطير، ومن هذه الخصائص أن الأسطورة لا تتقادم مع الزمن، فهي في أي وقت، وفي كل وقت، تبدو وكأنها بنت يومها؛ ولذلك فالأسطورة تلمع دائمًا ببريق الحق، وإذن فلم يكن شذوذًا من دون كيخوته، أن يتأثر بما قد قرأ، على النحو الذي تأثر به، معتقدًا دائمًا أنه أمام نصوصٍ أزليةٍ أبدية، تحمل الحق في سطورها، وترسم طريق الواجب بحروفها.
وكان من أول تلك الواجبات المفروضة عليه، أن يعيد نثر الحياة المحيطة به، إلى شعر الحياة التي كانت، أن يردَّ صلابة الواقع، كما يُحسُّه ويعانيه، إلى ملحمةٍ من ملاحم الماضي المجيد، فمحتومٌ عليه أن يظل في أرجاء الأرض، باحثًا عن المواقع التي يراها مطابقة للصور التي قرأ عنها في حياة الفرسان، وهم في عزِّ مجدهم؛ لأن كل موقع وكل موضع، يرى فيه تطابقًا مع النصوص، ينهض شاهدًا على أن النصوص، تحمل الحق في كلماتها، وما دامت تحمل الحق، فلا بد من أن يسلك على هداها، وهو مطمئن لسلامة ما يفعله.
وحتى إذا أعجزتْه الحيلة عن أن يجد التطابق المنشود، بين العالم كما هو واقع، والنصوص كما قرأها في الكتب ووعاها، حاول أن يقرأ ذلك العالم الواقع، قراءةً جديدة يهتدي بها بخياله، فيحوِّله بالوَهْم عما هو عليه، إلى ما كان ينبغي في رأيه أن يكون عليه. إن الأشياء في هذه الدنيا الواقعة، قد يمكن تفسيرها على أوجهٍ كثيرة، فلماذا لا تبحث فيها عن الرؤية، التي تجعلها تعبر الفجوة التي حدثت بينها وبين نصوص الكتب، تعود فتطابقها من جديد، كما كانت تطابقها أيام الفرسان؟ فكأنما كائنات الدنيا — بهذه النظرة — هي رموز يقرؤها القارئ على نحو ما يشتهي أن يقرأها، وليست هي بواقعٍ صلبٍ عنيد، لا مناص للإنسان من الإذعان له، والتكيف لطبائعه.
فهذه — مثلًا — قطعان من الغنم ترعى، وتلك أكواخٌ صغيرة تناثرت فوق المرج، وأولئك فتياتٌ راعياتٌ ساذجاتٌ فقيرات، فلماذا لا نرسل الأوهام في كل هذه الأشياء؛ لتصنع لنا من قطيع الغنم جيشًا، يصلح أن نواجهه مواجهة الأعداء في ساحة القتال، ولنصنع من الأكواخ قلاعًا حصينة تستحق التأهب للهجوم والغزو، وتجعل لنا من أولئك الراعيات سيداتٍ مهذَّبات، ممن كن في حماية الفرسان الأولين؟ وإذا ظل الاختلاف قائمًا بين ما هو واقع من جهة، وما هو منصوص عليه في الكتب من جهةٍ أخرى، لجأنا إلى السحر، نُنزل فعله على الأشياء لتخرج من طبائعها، وتتحول إلى ما يجعله على الصور التي نريدها لها، والتي تكون بها مسايرة للنصوص ذات العصمة والخلود، ذلك هو المغزى وراء شخصية دون كيخوته، وهو أن يرسم للناس صورة من يريد للزمن، أن يكرَّ راجعًا إلى الوراء، وصورة من يظن أن الماضي، هو وحده الزاهر الزاهي، الذي يُقاس عليه! ولكن ماذا لو حاول دون كيخوته، أن يلوي مجرى الزمن عن اتجاهه؟ ماذا لو أراد أن يرغم الأشياء الواقعة، على أن تطابق نصوصه، فلم يستطع؟ أليست النتيجة الحتمية عند المشاهد، هي أن يجد كلمات الكتب القديمة، قد أفرغت من مضمونها؛ لأنها فقدت قدرتها على أن تشير إلى أمور الواقع؟ وإذا هي فقدت دلالتها الحقيقية، فهل يبقى أمامها إلا أن تنطوي في صفحاتها، وتنغلق في محابس كتبها، ليعلوها العفار، فتذهب عنها النضارة، وتصيبها صفرة المرض؟ إن الكتب القديمة عندئذٍ تنعزل وحدها، وتبتر الصلة بينها وبين الدنيا التي حولها، فلا تعود أنفاسها تستمد الهواء من خارج، فتضطر إلى امتصاص نفسها، وابتلاع ريقها، إلى أن يشاء الله لها أمرًا.
وأما الواقع الجديد، الذي استعصى على السحرة، أن يردوه إلى صورة النماذج المخزونة في الكتب، فيمضي قدمًا، باحثًا له عن كتبٍ جديدة تسايره، يكتبها كُتابٌ آخرون، وفي هذا تكون الصحوة التي يسميها التاريخ بالنهضة، كان ذلك في اليقظة الأوروبية، فهل يصلح لنا سواه في اليقظة العربية؟