وحدة النظر
لقد جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، منذ اليوم السادس من أكتوبر؛ لتقيم لنا البرهان واضحًا، على أن الفكر والأدب والفن جميعًا، تستطيع أن تلتقي كلها في اتجاهٍ واحد؛ فالفكرة، والنغمة، واللفظة، والخط واللون، إن هي إلا جوانبُ متعددة، من منشورٍ زجاجيٍّ واحد، يسقط عليه شعاع الضوء، فيتفرق ألوانًا مختلفة، تؤكد ما بينها من اتساقٍ وتكامل؛ ففي غضون هذه الأسابيع القليلة الماضية، رأينا كيف انسابت الأفكار في مقالتها، والأنغام في معزوفتها، والألفاظ في قصائدها وأغنياتها، والخطوط والألوان في لوحاتها، وكأنما جميعًا قد انبثقت من عينٍ واحدة، ونطقت بلغةٍ واحدة، واختفت الفوارق التي تفصل بين قديم وجديد، أو بين وجدان وعقل، أو بين علمٍ وفن؛ لأن هذه كلها — وإن تعددت وسائلها — جاءت لتُعبِّر عن كيانٍ واحد، بكل ما في مقوماته من جوانب، ثم جاء ذلك التعبير — وهذا هو المهم — صادقًا لا محاكاة فيه ولا تصنُّع.
لم تكن هذه حالنا دائمًا، فقد سألت نفسي ذات يومٍ قريب، وكان ذلك قبل السادس من أكتوبر: تُرى إلى أي حدٍّ تتجه أوجه نشاطنا في ميادين الفكر والأدب وجهةً واحدة، كما ينبغي لها أن تفعل، لو كانت بيننا الروابط الحيوية، التي تجعل من الأمة أمةً واحدة؟ وليست وحدة النظر بين المجموعة المترابطة من الناس، تقتضي بالضرورة أن يتَّحد أفراد تلك المجموعة في وسائلهم، إذ في وسع هؤلاء الأفراد أن يوجِّهوا أنظارهم وجهةً واحدةً معينة، كأنما تشيع بينهم النظرة إلى مجدهم القديم، أو تشيع النظرة إلى المستقبل المأمول، ومع ذلك يختلفون في طرائق التعبير باللفظة والنغمة واللون، وأعتقد أنه بغير الاتحاد في اتجاه النظر، يتعذَّر أن يعيش القوم في مناخٍ وجدانيٍّ واحد.
والحق أن العصور المختلفة — وكذلك الشعوب المختلفة في العصر الواحد — إنما يتميز بعضها من بعضٍ بنوع «اهتماماتها» أكثر مما تتميز بمجموعة الوقائع المحيطة بها، وتلك «الاهتمامات» هي فروع تنبثق من المناخ الوجداني العام، الذي يميل بالناس إلى أن يحبُّوا هذا الشيء، وأن ينفروا من ذلك، فقد تتشابه الوقائع المحيطة بمجموعتَين من الناس، لكن تختلف اهتماماتهم، فتختلف بالتالي حياتهم الثقافية، كأن تهتم إحدى المجموعتين بالنتائج العملية، بغضِّ النظر عن المبادئ المضمرة وراءها، على حين تهتم الأخرى بتلك المبادئ النظرية، مهما يكن من أمر النتائج المترتبة عليها، ومع هذا الاختلاف البعيد في وجهة النظر بينهما، تراهما متشابهتَين في كونهما تشتغلان بالزراعة أو بالصناعة أو غير ذلك من وسائل العيش. إننا إذا وصفنا قومًا بالروحانية، وقومًا آخرين بالمادية، فلسنا نعني بذلك أن طرائق القومَين في الزراعة أو في الصناعة، تختلف عند أحدهما عنها عند الآخر، بل نعني أنهما — برغم تشابه المناشط العملية — يختلفان في محور «الاهتمام»، وبالتالي فهما يختلفان في المناخ الثقافي، الذي يعيشان في كنفه ويتنفسان هواءه. أريد أن أقول إن الواقع المرئي المسموع الملموس شيء، ونوع الاهتمام به شيءٌ آخر، فقد يقصد رجلان إلى مسجد، أحدهما يريد الصلاة، والآخر يريد القيام ببحثٍ أثري، والمسجد نفسه في كلتا الحالتين واحد لم يتغير، فالذي ميَّز بين الرجلين هو نوع الاهتمام به، فجعل أحدهما — في تلك اللحظة المعينة — عابدًا، وجعل الآخر عالمًا.
تجانس الشعب الواحد في ثقافةٍ واحدة، معناه أن أفراد ذلك الشعب، قد ربطتهم «اهتمامات» متشابهة، يتجهون بها جميعًا نحو أفقٍ واحدٍ مشترك، ولا ينفي ذلك أن تتفاوت بينهم درجات الإجادة والإبداع، إذا كانوا من أهل الفكر أو الأدب والفن، فالاهتمام الواحد قد يتجسد في مائة مقالة أو كتاب، ومائة قصيدة من الشعر، ومائة لوحة أو تمثال أو أغنية، فلا تكون وحدانيةُ الاهتمام بينها جميعًا دليلًا، على أنها من درجةٍ فنيةٍ واحدة، ولولا هذا التجانس في الاهتمامات بين أفراد الشعب الواحد، لما استطاع مؤرخ الفكر أو مؤرخ الفن والأدب، أن يفرق بين العصور ولا بين الأمم.
على ضوء هذا كله، سألت نفسي ذات يومٍ قريب، كما أسلفت القول: تُرى إلى أي حدٍّ يعيش رجال الفكر والأدب والفن بيننا في مناخٍ ثقافيٍّ واحد؟ بعبارةٍ أخرى: إلى أي حدٍّ ينتمي هؤلاء جميعًا — من الناحية الثقافية — إلى شعبٍ واحد، وعصرٍ واحد؟ ولست أزعم أنني كنت قد وصلت مع نفسي، إلى إجابةٍ أتشبث بصوابها، ولكني لا أرى بأسًا في أن أشرك القارئ معي، فيما خُيل إلي أنه الجواب الصحيح.
وذلك أني رأيت في حياتنا الثقافية خيوطًا مُبعثرة، لم تُنسَج في قماشةٍ واحدة، لا لأن أحدًا من رجال الفكر النقدي، لم يتناولها بمنواله لينسجها معًا في ثقافةٍ موحدة، بل لأنها من التنافر بحيث يستحيل اجتماعها في رقعةٍ واحدة، ولنختر لأنفسنا مجموعة من المفكرين والأدباء وأصحاب الفن، ثم نحاول أن نعيش مع أفرادها فيما أنتجوه، واحدًا بعد واحد، لنرى: هل يتجانس إحساسنا، كلما انتقلنا من هذا المفكر في كتبه أو مقالاته، إلى ذلك الشاعر، ثم إلى ذلك الفنان؟ أعتقد أننا لن نجد ذلك الإحساس المتجانس إزاءهم جميعًا، وسنشعر أحيانًا عند الانتقال من أحدهم إلى الآخر، أننا في الحقيقة قد انتقلنا من عصرٍ إلى عصر، أو من إقليم إلى إقليم.
ففي ميدان الفكر النظري، يتجاوز القرن الثامن الميلادي وأواخر القرن العشرين، كما تتجاوز أفكارٌ فرنسية وإنجليزية وأمريكية وروسية، بحسب المورد الذي ينهل منه الكاتب، وأعجب من ذلك أن الكاتب الواحد قد يتشكل مع الأيام؛ لاختلاف الكتب التي وقعت له بين يديه بالمصادفة البحتة، وفي ميدان الفن التشكيلي يغلب أن يقدِّم لك الفنان لوحات، تؤكد عندك النزعة الذاتية الفردية؛ لأنها لوحاتٌ تعنى بأحكام الشكل من خط ولون، فلا يسعك أنت المشاهد إلا أن تعيش داخل بنائها، دون أن توحي لك بمضمون. ونقيض ذلك تراه في ميدان الفنون التعبيرية — من مسرحٍ وشعر وموسيقى — فها هنا يغلب على الفنان إبراز الموضوع، حتى وإن جاوز في سبيل ذلك مواصفات الفن الرفيع في طريقة البناء. إنني هنا أصف ما أظن أني أراه، ولست بما أقوله أريد المفاضلة أو النقد، ولقد خلصت من ذلك كله إلى نتيجة رجحت لنفسي صوابها، وهي أننا في حياتنا الثقافية مفرقون، لم تجمعنا نظرةٌ واحدة في مناخٍ وجداني واحد.
ثم جاءت هذه الأسابيع القليلة الماضية، فرأينا كيف استقطبتنا الأحداث في جهازٍ عصبي واحد، فماذا يمنع أن يطول الأمد بهذه النظرة الواحدة، التي خُلقت لنا في لحظة التوتر، بحيث تتحول إلى مناخٍ واحدٍ دائم نعيش فيه جميعًا، وإن اختلفت بيننا الوسائل والأساليب؟