حلقة مفقودة
هنالك في حياتنا الثقافية حلقة مفقودة — أو هكذا يُخيَّل إليَّ — فلقد لبثت أمدًا طويلًا على هذا الإحساس، بأن البناء الثقافي في حياتنا تنقصه حلقة لتكتمل دورته، وظللت على هذا الإحساس الغامض بوجود النقص، دون أن أتبيَّن على وجه التحديد والدقة ما طبيعته؟ وبالتالي كيف نعالجه؟ وها هي ذي فكرة تراودني، فلعل فيها قبسًا يضيء.
ماذا كنا لنجد في حياة الناس الثقافية، لو كانت تلك الحياة مكتملة البناء؟ كنا لنجد فيها أركانًا أساسية ثلاثة: أولها أدب يصور الواقع بتفصيلاته، على النحو الذي يرضي مقاييس الفن الأدبي في التصوير، فمن شأن القصة والمسرحية والشعر، أن تعطينا الشعور بما هو كائن، سواء كان هذا الواقع الموجود كائنًا في دنيا الناس كما يعيشونها، أو كان هذا الواقع الموجود كائنًا في الصدور أملًا وألمًا، وفي ظني أن أدباءنا — أصحاب القصة والمسرحية والشعر — قد أدَّوا معظم المطلوب، فمن ذا يزعم أنه إذا قرأ مجموعة ما أنتجه رجال الأدب، فإنه لن يخرج بصورةٍ وافية، لأنماط العيش في القرية وفي المدينة، عند الأغنياء والأوساط والفقراء على حدٍّ سواء؟ من ذا يزعم أن القصة والمسرحية والشعر في أدبنا الحديث، قد قصرت كل التقصير، في تعقب ما يعتمل في صدور الناس، من ضروب الصراع وأنواع الكفاح: صراع بين القدرة الاقتصادية من ناحية، والأمل الطامح من ناحيةٍ أخرى، وكفاح للتغلب على العقبات، التي تحدُّ من حرية الإنسان وكرامته؟
فالركن الأساسي الأول — من الأركان الثلاثة التي تخيلتها ضرورية لكل بناءٍ ثقافي مكتمل الكيان — قد تحقق إلى حدٍّ كبير في حياتنا، وقد كان ينبغي أن يجيء بعد هذا التصوير الذي قدمه الأدباء في القصة والمسرحية والشعر، فكرٌ نظري يستخلص من الصور المعروضة أوجه كمالها وأوجه نقصها، بالنسبة إلى حياةٍ جديدة يُراد خلقها، بعبارةٍ أخرى: كان ينبغي أن يلحق «المفكر» «بالأديب»، فلئن قدَّم لنا الأديب حياتنا بكل ما فيها من ألوان الصراع والكفاح والأمل والألم، فإن طريق السير يقتضي أن ينهض رجل الفكر النظري بصياغة مجموعة القيم الجديدة، التي يُراد لها أن تنتظم مرحلة من الحياة القادمة، يُرجى أن تزول فيها تلك الألوان من الصراع، وأن يتحقق فيها ما يكافح الناس من أجله، حتى إذا ما فرغ الفكر النظري من تخطيط الحياة الجديدة، جاء بعدئذٍ الركن الأساسي الثالث في البناء، ألا وهو فريق التنفيذ؛ فرجال القانون يضعون التشريع الذي يتفق مع الوضع الجديد، ورجال الاقتصاد يوجِّهون النشاط الاقتصادي في الاتجاه الذي يرونه ملائمًا، ورجال الخدمات الاجتماعية بشتى صنوفها يؤدون ما يُنتظر منهم أن يؤدوه لخلق المجتمع الجديد، ورجال السياسة وراء هذا كله يدبِّرون وينسقون؛ لتنسجم النغمات في لحنٍ واحد.
والفكرة التي راودتني، والتي رأيتها توضح لي موضع النقص، الذي أحسست وجوده في حياتنا الثقافية، هي أن المرحلة الوسطى التي كان ينبغي لها أن تجيء بين صورة الحياة الواقعة كما قدمها لنا الأدباء، من جهة، وما يقوم به فريق التنفيذ — رجال القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والطب، والتعليم، والسياسة — من جهةٍ أخرى، أقول إن المرحلة الوسطى التي كان يجب أن تجيء بين تصوير الواقع كما يقع، وبين خلق الجديد المنتظر، لم تجد من يضطلع بها على الوجه الأكمل، فكان بين أيدينا واقعٌ شائك يُراد إصلاحه، ثم محاولاتٌ عملية نحو ذلك الإصلاح، دون أن يتوسط الطرفين فكرٌ نظري، يستخلص من الواقع الشائه صورًا نظرية، لما ينبغي أن يكون؛ فلا عجب إن رأينا المحاولات العملية نحو الإصلاح، معرضة لكثيرٍ من العشوائية في طريق سيرها، فنقيم اليوم ما نهدمه غدًا، ثم ترانا بعد غد، قد عُدنا إلى إقامة ما هدمناه، وهكذا.
لقد شهدت حياتنا «الفكرية» نشاطًا ملحوظًا في الهدم — هدم القديم الذي يُراد له أن يزول — أكثر جدًّا مما شهدته من النشاط الإيجابي، الذي يصوغ الأسس النظرية لما هو مطلوب، فما زلت أذكر ضروب الفاعلية الفكرية التي سادت بيننا، خلال العقدين الثالث والرابع، أعني في العشرينيات والثلاثينيات، وهي الفترة التي امتدت من ثورة ١٩١٩م حتى قيام الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م، فقد كان هنالك أمام النشاط الفكري عددٌ ضخم من الأصنام، التي كان لا بد من تحطيمها وإزالتها، قبل أن نأخذ في إقامة أركان الحياة الجديدة؛ وضعٌ سياسي كان لا بد له أن يتغير، فكرة الخلافة كان لا بد أن تنمحي، حتى لا يفكر الطامعون في نقل الخلافة إلى القاهرة، بعد أن أزالها مصطفى كمال من تركيا، تصورٌ قديم للشعر، كان لا بد أن يُستبدل به تصورٌ جديد، تراثنا الأدبي القديم، كان لا بد أن يُمحَّص ويراجَع، فكرة التطور البيولوجي، كان لا بد أن يُلهَم بها الناس؛ ليتعلموا كيف يسبغون التغير الحتمي في بنية المجتمع، نسبتنا إلى الماضي، كان لا بد أن تتحدد لتتضح، فنعرف إلى أي الأسلاف ننتمي، وغير ذلك من الثورات الجارفة، في كل أوضاع الحياة الفكرية؛ ولذلك كنا جميعًا نشم في الهواء رائحة الدخان المنبعث من المعارك الدائرة، بين ما كان يُسمَّى حينئذٍ بالجديد والقديم.
كنا في العشرينيات نهدم الأوثان الفكرية، ثم نبني التماثيل الجديدة للأفكار الجديدة، ولعلنا في ذلك كنا على نغمةٍ واحدة، مع مجمل النشاط الفكري في أوروبا، إبان تلك الفترة نفسها، حيث كان القوم هناك في شغلٍ، كذلك يزيلون الأقنعة عن الوجوه الشائهة، حاولوا أن يزيلوا عن الحياة الريفية شاعريتها الرومانسية المزعومة؛ لتتكشَّف أوجه الفقر والمرض المختفية، حاولوا أن يزيلوا عن الإنسان قشرة «العقل»؛ ليتبيَّن كم هو في سلوكه مُسيَّر بغرائزه لا بعقله!
حاولوا أن يفكُّوا الروابط، التي اعتاد الناس إلى ذلك الحين، أن يروها قائمة بين أطراف الحياة، فلم يجدوا بين الغريزة الجنسية وقيام الأسرة علاقةً ضرورية، تحتم ألا تكون تلك بغير هذه، حاولوا أن يكشفوا عن «العبث»، الذي يتسم به الوجود كله، حتى يزيلوا عن أعينِ الناس غشاوة الغايات النهائية المثلى، بل حاولوا هدم الجانب الدلالي من اللغة، فأخذوا عامدين يرصُّون اللفظ في غير معنًى مفهوم؛ ليساير ذلك العبث باللغة، عبث الحياة نفسها، عندما قال الشاعر إليوت: إن شهر أبريل هو أقسى الشهور، أراد أن يفك الرابطة بين الربيع وتجدُّد الأمل، حاولوا ذلك كله هناك في أوروبا؛ لعلهم يمحون به أنقاض حياة تهدمت أركانها، لتقوم مكانها حياة تزدهر بالقيم الأعلى والأكرم.
فعلوا ذلك هناك، وفعلنا مثله عندنا، ولكننا بالطبع وجهنا فئوسنا، نحو ما أردنا هدمه من حياتنا، اللهم إلا نفرًا من أصحاب الفكر الزائف، طفقوا يهدمون ما أراد مفكرو الغرب أن يهدموه، مع أنه ليس موجودًا هنا، حتى وإن يكن موجودًا هناك، فكم من كاتبٍ عندنا، أخذ يدير قلمه حول فكرة «العبث» وفكرة «الاغتراب» وفكرة «الوجودية»، وهي أفكار كانت، وما تزال، محاورَ أساسية في الفكر الأوروبي؛ لأنها منبثقة من حياتهم، لكنها ما تزال واهنة الصلة بحياتنا؛ لأننا لم نتصنَّع بعدُ، ولم نتعلْمَن بعدُ إلى الدرجة التي قد توحي بالعبث، والغثيان والشعور بالاغتراب.
قام رجال الفكر عندنا — إذن — في العشرينيات والثلاثينيات بقسطٍ كبير من الهدم، لكنهم لم يقوموا بقسطٍ يماثله في الحجم تجاه البناء الإيجابي، وبعد فترةٍ من الحيرة فيما بين الحرب العالمية وقيام الثورة سنة ١٩٥٢م، تدفَّق نشاطٌ جبار في ميادين التغيير الفعلي، فكأنما قفزنا من الطرف الأول إلى الطرف الثالث، بغير وقفةٍ طويلة، كان لا بد أن يقفها رجال الفكر النظري بين الطرفين، كانت هذه الحلقة الوسطى المفقودة من واجب الجامعات، ومراكز البحوث ورجال الفكر بصفةٍ عامة، والذي أزعمه هو أنها لم تجد من العناية، ما وجدته ميادين التعبير الأدبي، من جهة، وميادين النشاط الفعلي الثائر، والهادف إلى التغيير نحو ما هو أفضل، من جهةٍ أخرى.
إن من يرفض أن يكون كالخرتيت — كما رفض ذلك بطل مسرحية أيونسكو — لا بد أن يتبع رفضه هذا، ببيان ماذا يريد أن يكون؟ إن رَفْض الواقع المريض أمرٌ ضروري في ذاته، لكنه وحده لا يكفي؛ إذ يجب أن يسايره تصورٌ واضح، لواقعٍ صحيٍّ جديد، لكن مثل هذا التصور لا يضعه إلا رجل الفكر النظري، بجانبه الفلسفي والعملي، وهو ما أظنه مفقودًا، أو شبه مفقود في حياتنا الثقافية الحاضرة.