قناة السويس، وهل تُغلَق؟
منذ قديم الزمان فكر المصريون ومن حكموا مصر في وصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بترعة، وكان من رأي أسرتسن الثالث من ملوك الأسرة الثانية عشرة حفر خليج يستمد ماءه من فرع النيل الشرقي «فرع دمياط»، وقد أنشأ هذا الخليج. ولكن كانت الرمال التي يجري فيها تطمره، وأعاده سيتي الأول ونخاو الثاني وبطليموس الثاني ودارا الأول، ثم أعاده عمرو بن العاص وسمَّاه خليج «أمير المؤمنين»، ولما وُلِّي أبو جعفر المنصور الخلافة ردم الخليج حتى لا تجري فيه المياه إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المتمرد عليه في الحجاز.
وفكر نابليون الأول وهو في مصر في إنشاء قناة تستمد ماءها من البحرين لا من النيل، وأخفق المهندس الفرنسي لابير في تحقيق الغرض بحجة أن سطح البحر الأحمر يعلو سطح البحر الأبيض المتوسط بتسعة أمتار أو عشرة. وعرضت بعثة فرنسية على «محمد علي الكبير» تحقيق المشروع؛ فأبى قائلًا: «لا أريد أن أخلق في مصر بسفورًا آخر.» مشيرًا إلى ما أثاره بسفور تركيا من متاعب لها.
أن تتألف شركة مدة امتيازها ٩٩ سنة تبدأ من افتتاح القناة، وبعد المدة تصبح ملكًا للحكومة المصرية، وتحفر الشركة ترعة عذبة تخرج من النيل عند القاهرة، ولها فرعان عند الإسماعيلية: فرع إلى الشمال إلى بورسعيد، وفرع إلى الجنوب إلى السويس. وتكون الترعة ملكًا للشركة، وتمنح الحكومة للشركة — بدون مقابل — الأراضي البور التي تحتاج إليها الشركة لمهمتها في حفر القناة وإقامة المباني، وأن يكون أربعة أخماس عمال الحفر من المصريين، وتعطي الشركة لهم أجرًا: قرشان لمن دون الثانية عشرة، وقرشان ونصف أو ثلاثة للأكبر سنًّا. وتُلزَم الحكومة بتقديم العمال «٢٠ ألفًا» وإلا لزمها التعويض، وتكون الشركة مصرية تخضع لقوانين البلاد، وتُقسَّم أرباحها: ١٥ في المائة للحكومة المصرية بعد خصم فوائد أموال المساهمين بنسبة ٥ في المائة لمؤسسي الشركة، و٧٥ في المائة للمساهمين والمديرين والعمال، وتكون القناة حرة لنقل أية سفينة تجارية بغير استثناء بشرط دفع الرسوم المقررة، وكان الباب العالي معارضًا في المشروع، وكذلك عارض الإنجليز بشدة بحجة أن القناة ستكون خطرًا على الهند وتعطي نفوذًا لفرنسا.
وفتح ديلسبس باب الاكتتاب في أسهم الشركة — وقدرها ٤٠٠٠٠٠ سهم — ثمن السهم ٥٠٠ فرنك، والثمن كله ٢٠٠ مليون فرنك. اشترت فرنسا الجزء الأكبر واشترى سعيد الجزء الباقي.
ووضع الفأس الأول ديلسبس في بورسعيد، وفتح باسم «شركة قناة السويس البحرية العامة». وقد ساعد سعيد باشا ديلسبس، فنزل عن حقوق الحكومة في القناة، وأرسل العمال مسخَّرين لا مأجورين.
ولما وُلِّي الخديو إسماعيل باشا قال: «أريد أن تكون القناة لمصر، لا مصر للقناة.» وأصلح كثيرًا من الأخطاء والنزول الذي فعله سعيد باشا، فقام نزاع بين ديلسبس والشركة من جهة وبين الخديو إسماعيل، وقَبِل الخديو تحكيم صديقه الإمبراطور نابليون الثالث؛ فقضى نابليون لمصلحة الشركة على حساب مصر، قضى لها بتعويض ٣٣٦٠٠٠٠ جنيه ثمنًا للأراضي التي كانت بين الشركة وصارت للحكومة، وثمنًا لنزول الشركة عن حق حفر الترعة العذبة، وعن إلزام الحكومة بتقديم العمال.
وصدر فرمان سلطاني في مارس سنة ١٨٦٦ بناء على كتاب إسماعيل في فبراير سنة ١٨٦٦ بقبول المشروع.
واحتفل إسماعيل بافتتاح القناة في ١٧ نوفمبر ١٨٦٩، وبلغت نفقات الاحتفال ١٤٠٠٠٠٠، وتكلفت مصر ١٦ مليون جنيه في سبيل القناة.
ومجلس الإدارة في باريس، وأعضاؤه: ٢١ فرنسيًّا، و١٠ إنجليز، وهولندي واحد. وليس به مصري واحد.
وباعت الحكومة سنة ١٨٧٥ أسهمها في شركة القناة لإنجلترا بأربعة ملايين جنيه، وأصبح ثمنها ٥٢ مليون جنيه إنجليزي سنة ١٩٣٢.
وربحت إنجلترا ٤٣ مليون جنيه إنجليزي من تاريخ الشراء إلى سنة ١٩٣٢، وأصبح ما تملكه إنجلترا يعادل ٤٤٪.
وكان دزرائيلي — رئيس الوزارة الإنجليزية — هو صاحب فكرة شراء الأسهم من إسماعيل باشا، وتم الشراء بمساعدة بنك روتشيلد سنة ١٨٧٥، وكانت العملية رابحة ماليًّا وسياسيًّا، وقد نص قانون الشركة على أنه: «يجب أن تظل القناة مفتوحة في جميع الأوقات وكل الظروف.»
واحتُفِل بافتتاح القناة في ١٧ نوفمبر سنة ١٨٦٩، ومدة الامتياز ٩٩ سنة، وينتهي في ١٧ فبراير سنة ١٩٦٨. وقد جرت محاولات قبل الحرب الكبرى في عهد وزارة بطرس غالي باشا، وفي عهد خلفه محمد سعيد باشا لإطالة أمد الامتياز لمدة أربعين سنة أخرى، وجرت محاولات أخرى عقب الحرب في سنة ١٩٢٢، وفي عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة ١٩٣١، ولكنها لم تفلح، والرأي العام في مصر يعارض المعارضة كلها في إطالة أجل الامتياز.
ولم تقِلَّ الأرباح حتى في سِني الأزمة في أثناء الحرب؛ حيث قلَّ عدد السفن التي كانت تجتاز القناة عن ١٣ في المائة. وفي سنة ١٩٢٧ بلغت الأرباح ٣٧ في المائة.
•••
وقد نصت اتفاقية استانبول سنة ١٨٨٨ على أن كل عمل حربي محظور في ماء القناة، بل يجب أن تظل القناة ممرًّا لجميع البواخر مهما كانت جنسيتها، وليس للشركة حق منع حرية مرور أي سفينة حربية أو تجارية ولو استُخدِمت لنقل الجيوش والأسلحة والمهمات. على أن قانون الشركة قد نص على «أن الشركة تحتفظ بحق منع استخدام القناة بالنسبة لكل سفينة من شأنها أن تسبب خطرًا للملاحة.» ولكن الشركة لم تلجأ إلى تطبيق هذا النص، حتى إنه في الحرب الروسية اليابانية سنة ١٩٠٤ استطاع قسم من الأسطول الروسي المرور من القناة والذهاب إلى الشرق الأقصى، واستطاعت إيطاليا أن ترسل جنودها لتأديب الثائرين في أريتريا والصومال، وأن تنقلهم سفن اجتازت القناة.
وقد ظلت القناة في خلال الحرب الكبرى بين سنة ١٩١٤ وسنة ١٩١٨ مفتوحة أمام السفن الألمانية وفي وجه المتحاربين والمحايدين على السواء، ولكن الشركة قد منعت بعض السفن الألمانية التي أرادت الالتجاء إلى القناة في أوائل الحرب أن ترسو فيها، وحرمت بقاء السفن في مراسيها أكثر من المدة المنصوص عليها.
حيدة القناة واتفاق سنة ١٨٨٨
أثار التهديد بإغلاق القناة في وجه سفن إيطاليا البحث في حيدة القناة المقررة باتفاقية سنة ١٨٨٨، وقد عهد مجلس الوزراء المصري إلى حضرة صاحب السعادة الدكتور عبد الحميد بدوي باشا رئيس قضايا الحكومة ببحث هذه المعاهدة، وعقد مجلس الوزراء في شهر سبتمبر واستمع لمذكرة وضعها بدوي باشا في هذا الصدد؛ لتعيين مركز مصر بمقتضى المعاهدة.
شركة القناة وسلطتها
التي أنشأها فردنان ديلسبس، وهذه الشركة مصرية مركزها الرئيسي في باريس، فهي تخضع للقوانين الفرنسية والمصرية، ويديرها مجلس إدارة مكوَّن من ٣٢ عضوًا منهم ٢١ فرنسيًّا و١٠ بريطانيين — منهم ٣ تعينهم الحكومة البريطانية — وواحد هولندي.
ويبلغ عدد الأسهم الصادرة ٨٠٠٠٠٠ سهم، يمتلك البريطانيون منها ٣٥٣٢٠٤ سهم؛ أي ما يزيد بقليل على ٤٤ في المائة نتيجة لشراء الحكومة البريطانية للأسهم التي خُصِّصت للحكومة المصرية طبقًا لعقد الامتياز، وعدد هذه الأسهم ١٧٦٦٠٢ سهم، وعلى ذلك تكون أكبر وحدة هي التي تملكها بريطانيا والباقي موزَّع بين أفراد أكثرهم فرنسيون.
وليست لهذه الشركة حقوق سياسية؛ فالقناة جزء من الأراضي المصرية، وقد اعترفت الشركة في سنة ١٨٦٦ بحق الحكومة المصرية في حراستها والدفاع عنها بشرط أن لا يتعارض ما يُتخَذ من إجراءات في هذا السبيل مع حرية الملاحة، وقد فُرِض على الشركة بمقتضى المادتين ١٤ و١٥ من امتياز سنة ١٨٥٦ أن تبقى القناة مفتوحة بصفة ممر محايد لأي سفينة تجارية، على أن امتياز سنة ١٨٥٦ هذا لم يكن إلا اتفاقًا بين مصر والشركة، فكان من الممكن لأي دولة تدخل في حرب مع الإمبراطورية العثمانية أن تهاجم القناة، وقد تقدمت عدة اقتراحات من دول مختلفة ترمي إلى وضع نظام دولي لضمان حريتها، واجتهدت الحكومة البريطانية في سنة ١٨٨٢ — في أثناء الثورة العرابية — في الحصول على تدخل مشترك من الدول لشد أزر الحكومة المصرية، ولكن فرنسا ترددت؛ فأنزل البريطانيون في سنة ١٨٨١ جيوشهم وأرسلوها عن طريق القناة ضد عرابي، وظلت القناة مقفلة عدة أيام.
اتفاقية سنة ١٨٨٨
وبعد ذلك عقدت بريطانيا، وألمانيا، والنمسا، والمجر، وإسبانيا، وفرنسا، وهولاندا، وروسيا، وتركيا بمؤتمر القسطنطينية اتفاقية في ٢٩ أكتوبر سنة ١٨٨٨.
المادة الأولى: «إن قناة السويس البحرية تظل دائمًا حرة ومفتوحة، وقت الحرب أو السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية بدون تمييز بين الجنسيات؛ ولذلك اتفقت الدول المتعاقدة على عدم التدخل في حرية استعمال القناة في زمن الحرب أو السلم على السواء كما أنها لن تكون عرضة لاستعمال حق الحصر.»
وجاء في المادة الرابعة: «بما أن القناة ستظل مفتوحة في وقت الحرب كممر حُر حتى للسفن الحربية المملوكة للمتحاربين؛ فإن الدول المتعاقدة قد اتفقت على ألا يُمارَس «حق الحرب» ولا يُقام «بعمل عدائي» لا في القناة ولا في دائرة قطرها ثلاثة أميال من موانئ الدخول؛ وذلك ولو كانت الإمبراطورية العثمانية أحد المتحاربين.»
وأخيرًا، قضت هذه الاتفاقية بأن يُعهَد إلى موقعيها من وكلاء الدول المقيمين في مصر، ملاحظة ضمانات حرية الملاحة في القناة، كما قضت بأن مصر تتولى الدفاع عن القناة. فإذا لم يتيسر لها الوسائل اللازمة فلها أن تلتجئ إلى تركيا التي «عليها أن تشاور الدول في هذا الصدد إذا لزم الأمر».
على أن بريطانيا وضعت تحفظًا عامًّا فيما يختص بفقرات الاتفاقية التي تشير إلى الملاحظة الدولية، فقررت أنها توافق «بشرط أن الملاحظة الدولية لا تتعارض مع حالة مصر الراهنة المؤقتة والاستثنائية»، وبشرط ألا تتدخل في المصالح البريطانية في ذلك القطر. ومنذ ذلك الوقت وُوفِق من حيث المبدأ على حق السفن الحربية الأمريكية والإسبانية في استعمال القناة، كما سمحت بريطانيا في سنة ١٩٠٤ وسنة ١٩٠٥ للسفن الحربية الروسية باستعمال القناة في طريقها لمحاربة اليابان، وكذلك استعملتها السفن الحربية الإيطالية في الحرب الإيطالية العثمانية سنة ١٩١١ على الرغم من أن مصر كانت وقتئذ جزءًا من الدولة العثمانية.
الحرب وما تلاها
في ١٥ أغسطس سنة ١٩١٤ أعلنت الحكومة المصرية أنها رخصت للسلطات الحربية البريطانية بممارسة حق الحرب في الموانئ والأراضي المصرية، وأصدر القائد العام للجيوش البريطانية أمرًا بمنع أية سفينة من سفن الأعداء من الدخول في القناة، على أن الحرب بين تركيا — التي كانت صاحبة السيادة على مصر وقتذاك — وبين بريطانيا المحتلة لمصر لم تبدأ إلا من ٥ نوفمبر سنة ١٩١٤. وفي ديسمبر سنة ١٩١٤ أعلنت بريطانيا الحماية على مصر «نظرًا إلى حالة الفتن الناشئة من عمل تركيا»، وحصنت القناة ودافعت عنها، وفضلًا عن ذاك فإن البحرية البريطانية مارست العمل في الأميال الثلاثة بحجة أن السفن التي تسير في القناة قد تكون حاملة لمواد هدمها، وكان يمكن نقل المواد المهربة التي يُحتمَل العثور عليها أثناء هذا التفتيش عن طريق القناة بدون معارضة غير أن السفن البريطانية كانت تصادرها في الحال خارج حدود ثلاثة الأميال.
ومهما كان من اختلاف وجهات النظر بالنسبة لحق مصر وبريطانيا في تغيير اتفاقية سنة ١٨٨٨ بهذا الشكل أبان الحرب، فإن معاهدات الصلح بعد الحرب اعترفت بهذه الاتفاقية، كما وقعتها ألمانيا وتركيا والنمسا والمجر — ولا تزال سارية المفعول — ووافقت الدول المنهزمة على نقل السلطات الخاصة التي مُنِحت للسلطان بمقتضى هذه الاتفاقية إلى بريطانيا، كما اعترفت المعاهدات بالحماية البريطانية التي فُرِضت على مصر. على أنه في معاهدة لوزان سنة ١٩٢٣ تنازلت تركيا فقط عن «جميع الحقوق والسيادة أية كانت، على المناطق الواقعة خارج الحدود». المبينة في المعاهدة، وتركت تسوية المسائل التي قد تُثار من جراء الاعتراف بالحماية البريطانية على مصر إلى «مفاوضات تجري بعد ذلك بطريقة تُبيَّن فيما بعد بين الدول التي يهمها الأمر».
فالمسألة حينئذ هي: هل بريطانيا ومصر هما فقط الدولتان اللتان يهمهما الأمر أو كل الدول التي وقعت اتفاقية سنة ١٨٨٨؟
- (أ)
تأمين المواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.
- (ب)
الدفاع عن مصر ضد كل تدخل أجنبي، أو اعتداء مباشر أو غير مباشر.
- (جـ)
حماية المصالح الأجنبية والأقليات في مصر.
- (د)
السودان.
ولم تقبل الحكومة المصرية هذه التحفظات، ولكن من الواضح أن هذه التحفظات تشمل حماية قناة السويس بواسطة بريطانيا.
إذن فمصر من وجهة إقليمية ذات سيادة على القناة، ولكنها ليست طرفًا في اتفاقية سنة ١٨٨٨ لضبط الملاحة في القناة، وليست عضوًا في جمعية الأمم، وقد احتفظت بريطانيا — تصريحًا في سنة ١٩٢٢ وضمنًا في عدة مناسبات منذ ذلك الوقت — بحق الدفاع عن القناة الذي نالته بعد الحرب؛ نتيجة للاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.
عهد الجامعة واتفاقية سنة ١٨٨٨
هل يحل عهد العصبة محل اتفاقية سنة ١٨٨٨ إذا وُجِد خلاف بينهما؟
طبقًا لنص المادة اﻟ ٢٠ من عهد الجامعة اتفق الأعضاء على إلغاء كل التعهدات أو التفاهم الذي بينهم إذا كان لا يتفق مع نصوص العهد، كما تعهد الأعضاء في المادة نفسها باتخاذ إجراءات عاجلة بإبراء ذممهم من كافة التعهدات السابقة التي لا تتفق مع نصوص العهد.
ويدافع عدد كبير ذو خطر من المحامين الدوليين عن وجهة النظر القاضية بأن نصوص عهد العصبة يجب أن تُنفَّذ إذا ما وُجِدت اختلافات، الأمر المنتظر حدوثه إذا بُدِئ في توقيع «العقوبات» تطبيقًا لنص المادة ١٦ من العهد واستلزم ذلك إقفال قناة السويس ضد دولة معتدية مخالفة بذلك لنصوص اتفاقية سنة ١٨٨٨. وفضلًا عن ذلك فإن كل الدول التي وقعت اتفاقية سنة ١٨٨٨ هي أعضاء في جامعة الأمم، وتعطيل تنفيذ «العقوبات» بالاستناد إلى اتفاقية سابقة بين هؤلاء الأعضاء هي في الوقت نفسه مخالفة لنصوص عهد الجامعة، فيه عبث بأغراضها وإضاعة للقصد الذي أُنشِئت من أجله، غير أن إيطاليا من ناحية أخرى يمكنها أن ترفع مسألة إقفال القناة إلى محكمة العدل الدولية الدائمة، وفي هذه الحالة يُحتمَل أن تبحث هذه المحكمة في الوضع القانوني الدقيق للعلاقات بين بريطانيا ومصر، وبالرغم من أن بريطانيا أعلنت في سنة ١٩٢٢ احتفاظها بحق اعتبار علاقاتها مع مصر مسألة لا يمكن أنه تطرقها أية دولة أجنبية.
هل إغلاق القناة ضروري؟
تلخص نشرة الأخبار الدولية المسألة العملية — بالمقارنة مع المسألة القانونية — التي تنشأ عن إغلاق القناة، فتقول: إن إقفال القناة معناه وجود القدرة على تنفيذ الإقفال، وبما أن الإقفال سيُقرَّر على الأرجح من الجامعة ضد الدولة المعتدية؛ فإن تنفيذه معناه الاستعداد للحرب في البحرين الأحمر والأبيض المتوسط.
•••
ونشرت جريدة الصندي تيمس المقال التالي في صدد مسألة إغلاق القناة: قال السير إدوارد جراي في يوليو سنة ١٩١٠ — أي منذ ٢٥ سنة — في مجلس النواب البريطاني: «إن امتياز ترعة السويس مسألة معقدة كل التعقد ويجب بسطها.» وفي مدة الخمس والعشرين سنة التي مرت منذ ما قِيل هذا القول حدثت حوادث كثيرة للشركة ولمساهميها ولعملائها، وبعض تلك الحوادث بسطت الموقف وبعضها زادته غموضًا وإبهامًا. وغرض هذه المقالة بيان الموقف بلا تعليق ولا محاجة.
الشركة من الوجهة التجارية
شركة ترعة السويس شركة دولية قامت على امتياز منحته السلطة العثمانية القديمة مدة ٩٩ سنة بعد فتح الترعة، وقد افتُتِحت رسميًّا في ١٧ نوفمبر سنة ١٨٦٩، فينتهي الامتياز لذلك في ١٧ نوفمبر سنة ١٩٦٨، وبُذِلت المساعي قبل الحرب لمد الامتياز ٤٠ سنة أخرى — أي إلى سنة ٢٠٠٨ — فلم تنجح؛ فمقام الشركة لا يزال إلى الآن مركز مستأجرة لاحتكار تدنو نهايته.
وقد كان هذا الاحتكار — فعلًا — عظيم الربح إلى درجة تفوق المعتاد؛ ففي السنتين الأولى والثانية أو في السنوات الثلاثة الأولى من تأليف الشركة لقيت أمامها بعض المصاعب، ولكنها ما فتئت بعد ذلك توزِّع ربحًا منتظمًا على المساهمين كل سنة.
وكان هذا الربح ٢٨ في المائة سنة ١٩٠٤ و٣٣ سنة ١٩١٣، ثم هبط إلى ١٣ في المائة سنة ١٩١٧ التي كانت أعظم سني الحرب، ثم عاد فارتفع على التوالي بعد الحرب حتى بلغ ٣٧ في المائة سنة ١٩٢٧.
وبلغ من عظم ربح هذا العمل أن أصحاب البواخر — وهم المصدر الوحيد لذلك الربح — احتجوا على فداحة رسوم الترعة وعزَّزوا حجتهم هذه بقولهم أن أزمة الملاحة لم تؤثر في نجاح الشركة.
ومما يجدر ذكره هنا أن الحكومة البريطانية التي اشترت ٤٤ في المائة من الأسهم مدة رياسة دزرايلي — اللورد بيكنسفيلد فيما بعد — سنة ١٨٧٦ بمال قدره أربعة ملايين جنيه قدرت سعر السوق لتلك الأسهم سنة ١٩٣٢ بمبلغ ٥٢ مليون جنيه، وكانت في خلال ٥٦ سنة (١٨٧٦–١٩٣٢) قد تناولت ٤٣ مليون جنيه ربحًا وفوائد.
الشركة من الوجهة السياسية٣
حُدِّد موقف الشركة السياسي بمعاهدة استانبول سنة ١٨٨٨، فحُرِّمت بموجبها «أعمال العداء» في مياه الترعة، وقضت بجعل الترعة ممرًّا لجميع المحاربين، فيلوح من ذلك أن الشركة بوصف كونها شركة، مقيدة بقبول نقل الجنود والنقالات والسفن الحربية في الترعة. وقد تستطيع الاعتراض — طبقًا لقوانين الملاحة التي لها — على نقل بعض أصناف الميرة والذخيرة بحجة «أن الشركة تحتفظ بحق منع السفن التي قد تُعَد خطرًا على الملاحة عامة من المرور في الترعة». ولكنها لم تعمل بهذا الحق إلى الآن.
وشاهدنا على ذلك مرور جزء من الأسطول الروسي في حرب روسيا واليابان سنة ١٩٠٤ في الترعة ذاهبًا إلى الشرق الأقصى.
وعملت إيطاليا بهذه السابقة في حملتها الحاضرة إلى أريتريا والصومال، ولم يتغير الموقف تغيرًا جوهريًّا حتى إن الحرب العالمية لم تُغيِّره.
•••
ولما كانت الترعة حلقة حيوية في الإمبراطورية البريطانية تولى الجيش البريطاني والبحرية البريطانية حمايتها وأُقِيمت بعض الحصون على ضفتيها، وقد تُعَد هذه الحصون من الوجهة الفنية مخالفة للمعاهدة لأنها عدت الترعة بقعة غير محصنة، ولكن هذه الحصون وُجِدت لازمة فعلًا لحماية الترعة من هجوم المعتدين.
ولم تُقفَل الترع في وجه السفن الألمانية في الحرب، بل إن هذه السفن لجأت إليها محتمية سنة ١٩١٤ فلم تحجزها القوات الإنجليزية التي كانت تحمي الترع ولا هاجمتها، ولكنها أنذرت بأنه ليس في الترعة «حق ملجأ» وأن المرور الحر فيها هو مرور حر لا أكثر من ذلك، وما يحدث للسفينة الألمانية عند خروجها من الترعة ليس من شئون الشركة.
وقد رأى الإنجليز أنك ما دمت في الترعة فإنك لا تُصاب بأذى، وحالما تخرج منها يجب عليك ألا تعمل ضررًا.
•••
إذا عمد أحد أعضاء الجامعة إلى حرب غير عابئ بعهدها وبالمواد ١٢ و١٣ و١٥ منه عُدَّ لذلك مرتكبًا لعمل حربي ضد سائر أعضاء الجامعة، وفي هذه الحالة يتعهد هؤلاء الأعضاء بأن يعرضوه لقطع كل تجارة معه أو أي علاقة مالية، ومنع كل أخذ وعطاء بين رعاياهم ورعاياه، وكل معاملة مالية أو تجارية أو شخصية بين رعاياه ورعايا أي دولة سواء كانت عضوًا في الجامعة أم لم تكن.
أما المادة ١٦ من عهد الجامعة فنهي أو حرم بمعنى الحرم البابوي — بكسر الحاء وسكون الراء — في القرون الوسطى لأنها كما هي الآن تحرم على قسيس فرنسوي في بورسعيد أن يعرف — بتشديد الراء — بحارًا إيطاليًّا بعد إعلان تنفيذها؛ لأن المادة لم تفرق بين التعامل الزمني والروحي، ولا ريب أن «الاعتراف والحل» معاملة شخصية كما ورد في المادة.
وغني عن البيان أن كون الحكومة البريطانية مالكة لمقدار ٤٤ في المائة من أسهم الشركة لا يؤثر من الوجهة العملية في الشركة تأثير تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ في مصر؛ فإن ذلك التصريح جاء بعد سعي جديد من وزارة الخارجية البريطانية لمد أجل امتياز الترعة ٤٠ سنة، ولما لم يُتَّفَق على ذلك صرحت الحكومة البريطانية بأن علائقها بمصر «حيوية للإمبراطورية البريطانية» وتحفظت ببعض المسائل والتحفظات الأربعة المعروفة.
وأول هذه التحفظات «سلامة المواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر» وهذه الجملة تشير إشارة واضحة إلى ترعة السويس وتتناولها.
وبناء على ما تقدم أعلنت الحكومة البريطانية رسميًّا — والحكومة البريطانية وحدها — مصلحتها الخصوصية في الترعة بوصف كونها أمينة على الإمبراطورية، ولما كانت عضوًا في جامعة الأمم فإنها تستطيع أن تدنو من هذا الموضوع من زاوية أخرى، ولكنها لا تستطيع أن تشرح مبادئ ونظريات أخرى.
لذلك يلوح أن لا مفر من هذه النتيجة، وهي أنه إذا أُرِيد إنفاذ المادة ١٦ وفرض عقوبات؛ فإن معاهدة ترعة السويس تُعلَّق ويحل محلها العمل الذي تشير جامعة الأمم به، فيقع تنفيذ الحكم بالضرورة على الحكومة البريطانية بموجب القانون الدولي.
كيف أغلقت بريطانيا القناة سنة ١٨٨٢
اشتدت الثورة العرابية المشئومة على مصر في سنة ١٨٨٢ حتى تدخلت إنجلترا وفرنسا بالقول أولًا، ولما تخلت فرنسا لإنجلترا بانسحاب أسطولها من ميناء الإسكندرية انتهزت إنجلترا الفرصة للعمل على تنفيذ نياتها المشتهاة من مائة سنة — كما قال اللورد ملنر للمرحوم سعد باشا في المفاوضات الأولى — فضربت حصون الإسكندرية بقنابل مدافعها لغير سبب ظاهر، واستعدت للهجوم على جيش العرابيين، وكل ذلك بدعوى حماية الخديو توفيق وإرجاعه إلى عرشه.
فكانت الوقائع الأولى عند خط كفر الدوار، وكان قد أقام فيه الحصون المنيعة المهندس الكبير المرحوم محمود باشا فهمي، وقد ألجأته أحوال العرابيين فيما بعد إلى التخلي عن العمل معهم، ثم توالى الهجوم الإنجليزي على هذا الخط من دون أن ينال منه شيئًا، وتسربت الأخبار وقتئذ بأن الدول العظمى استعجلت إنجلترا بسبب تعطيل مصالحها في مصر فعيَّنت يوم ١٤ سبتمبر من تلك السنة لانتهاء الحملة؛ بناء على رأي قائدها الجنرال «جارنت ولسلي». ولتعيين يوم ١٤ سبتمبر بالذات قصة سأذكرها فيما بعد على سبيل الاستطراد.
ولما علم بذلك المسيو ديلسبس عمد إلى السعي لدى عرابي ليقنعه بحياد قنال السويس، فتوجه إلى بورسعيد وقابله في هذا الشأن وتقرر بينهم احترام حرية الملاحة في القنال؛ وبذلك نجح مؤقتًا في الحيلولة دون نزول الجنود الإنجليز على ضفة القنال. عند ذلك رأت إنجلترا أن هذا العمل مما يشجع الثوار على التمادي في المقاومة ولا يمكِّن جيشها من الالتفاف بمواقعهم، فعمد الجنرال ولسلي إلى إنزال جيشه في يوم ٢٠ أغسطس سنة ١٨٨٢ ببورسعيد، واحتل مكاتب شركة القنال، وأقفل هذا القنال عدة أيام دون الملاحة فيه فاشتد ساعد الجيش الإنجليزي، وحدثت معارك مع جيش العرابيين في الصالحية والقصاصين. وفي هذه لقي الجيش الإنجليزي مقاومة شديدة من الطوبجية المصرية.
ثم كانت خاتمة المعارك في التل الكبير، ولم يُكتَب فيها النصر للعرابيين؛ فقد فاجأتهم الفرق الإنجليزية نحو الساعة الرابعة بعد نصف ليل ١٤ سبتمبر سنة ٨٢ «يوم الخميس ٢ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ»، وكانت هزيمة كبيرة للعرابيين. وكذلك انتهت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر.
ولا أتولى هنا بيان العوامل الداخلية والخارجية التي عملت عملها في هذه الكارثة بل المجزرة التي قضت على جيش العرابيين في دقائق معدودة، لم يصمد فيها لهجوم الجيش الإنجليزي المفاجئ سوى الأورط السودانية، وقد فنيت على آخرها في الدفاع ومعها قائدها المرحوم عبيد بك؛ فهذا قد تكفلت به الكتب التاريخية في تلك الحوادث، ولا سيما كتاب «تاريخ الاحتلال الإنجليزي في مصر» لمؤلفه «هنس زرنر الألماني»؛ فقد أيَّد ما رواه فيه بالوثائق الرسمية.
ومن مدهشات السياسة الإنجليزية أن إنجلترا لم تكتفِ بما تم لها وبإقفال قناة السويس — كما تقدم — بل وجهت همَّها إلى مناهضة شركة القنال في سنة ١٨٨٣ التالية، فقامت فيها حملة شديدة منظمة عمادها الصحافة وشركات الملاحة البريطانية على شركة القنال، حتى أنكروا عليها اختصاصها بالحق في إنشاء القنال بين البحرين، وطعنوا في تلك الحيدة التي اعتزمتها فرنسا في الشئون المصرية، وهددوا المساهمين في القنال في ملكيتهم للأسهم بأن اقترحوا إنشاء قنال آخر بجانب قنال السويس يكون خالصًا للإنجليز.
ولما رأى مسيو ديلسبس ذلك قصد لندن وجاهد في تسكين ثورة الإنجليز، ولما كانت الحكومة الإنجليزية قد اشترت من الخديو إسماعيل في سنة ١٨٧٦ ما كان لمصر من أسهم القنال — وقدرها ١٧٧٦٤٢ — تدخلت في الموضوع وبحثت مع مديري شركة القنال في إيجاد تسوية بين حقوق المساهمين ومصالح التجار الإنجليز، حتى لقد اتفق المسيو ديلسبس مع المستر غلادستون رئيس الوزارة الإنجليزية وقتئذ على إنشاء قنال آخر «كذا» بواسطة الشركة وتخفيض الرسوم. ومع ما كان في هذا العمل من عظيم المصلحة لأصحاب السفن الإنجليزية وصموه بالخيانة؛ فاضطر رئيس الوزراء إلى سحب المشروع الذي قدمه في هذا الموضوع إلى البرلمان الإنجليزي في يوليو سنة ١٨٨٣.
وفي شهر ديسمبر من تلك السنة نجح رئيس شركة القنال بعد مفاوضات طويلة شاقة في أن يعقد مع أصحاب السفن البريطانية تسوية، كان في ضمن موادها أن تتعهد الشركة بإجراء الأعمال اللازمة لضمان سرعة مرور السفن؛ بناء على بحث تبحثه لجنة من المهندسين وأصحاب السفن يكون نصف أعضائها على الأقل من الإنجليز، وأن تتنازل الشركة عن رسوم قيادة السفن «القبطانية» في القنال، وأن تنقص رسوم المرور بمقدار نصف فرنك عن كل طن من أول يناير سنة ١٨٨٥، ثم تنقصها نسبيًّا كلما تجاوزت إيردات الشركة ١٨ في المائة … إلى غير ذلك من الشروط، حتى أصبحت في تلك السنة ٩ فرنكات ونصف فرنك عن صافي الطن الواحد.
وعلى الرغم من هذه الامتيازات العظيمة لم يسكن غضب الإنجليز مع ما ترتب على ذلك من نزول سعر أسهم الشركة في فرنسا؛ فقد ظن القوم فيها أن قنال السويس ومصر سيكونان لقمة سائغة لبريطانيا العظمى، وبذلك انتهت تلك المناورة السياسية الإنجليزية.
والآن أعود لأوافي القراء بما وعدتهم آنفًا من أني أذكر لهم السبب التاريخي — من طريق الاستنتاج — الذي حدا بإنجلترا أن تعيِّن يوم ١٤ سبتمبر لإنهاء مهمتها في إخماد الثورة العرابية ودخول مصر؛ فأقول:
يذكر المطلع على تاريخ مصر الحديثة أن محمد علي باشا لما صدر له فرمان السلطنة العثمانية بولايته على مصر بتاريخ ٩ يوليو سنة ١٨٠٥ على أن يدفع جزية سنوية قدرها ٤٠٠٠ كيس «٥ ملايين فرنك». اطمأن لذلك بعض الاطمئنان، ومع ذلك لم يكن مطلق الأمر إلا في الوجه البحري من مصر، أما في الإسكندرية فقد كان يدير شئونها ضابط مندوب من السلطان، وبقي الأمر في الوجه القبلي لأمراء المماليك، وأصبحت السلطة لهم في الصعيد، واستمر محمد بك الألفي يناهض محمد علي باشا مستعينًا عليه بإنجلترا، حتى وعدها إن عادت إليه السلطة في مصر أن يسلم إليها أهم الثغور المصرية، وعاونهم في ذلك سفير إنجلترا في الأستانة، ولكنهم أخفقوا في سعيهم بسبب معاونة مسيو «دروفتي» قنصل فرنسا بالإسكندرية لمحمد علي باشا؛ فقد استمال رجال عثمان البرديسي من المماليك إلى جانب محمد علي للقضاء على محمد بك الألفي عدوهما المشترك.
وأخيرًا كُتِب النجاح التام لمحمد علي باشا بأن تُوفِّي البرديسي في نوفمبر سنة ١٨٠٦، ثم الألفي في يناير سنة ١٨٠٧، وصفا له الجو بعدهما.
غير أن إنجلترا كان قد ساءها فشل مساعيها في الأستانة لمعاونة الألفي كما ذكرنا، فأنزلت بمصر في ١٧ مارس سنة ١٨٠٧ نحو سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف من الجنود الإنجليزية لتبعث الحمية في نفوس المماليك ومد يد المساعدة إليهم؛ فاستولت على مدينة الإسكندرية بقيادة الجنرال «فرازر»، ومكثت ستة أشهر من دون أن تتمكن من الإقدام على عمل آخر، وتوجهت شرذمة من ذلك الجند إلى رشيد، وهناك التقت بالعساكر الألبانية التي أسرع بجمعها محمد علي باشا، فانهزمت الشرذمة الإنجليزية، ووقع عدد كبير منها في الأسر، أُرسِلوا إلى القاهرة ثم أطلق محمد علي باشا سراحهم بدون فدية؛ مما عدته إنجلترا شهامة منه. ولما رأت إنجلترا فشل هذه الحملة اضطرت إلى الجلاء عن مصر في يوم ١٤ سبتمبر سنة ١٨٠٧.