الشهداء
لم يبقَ لها بعد موت زوجها وأبويها إلا ولدٌ صغير يؤنسها، وأخٌ شفيق يحنو عليها، وصبابةٌ من المال تترشَّف الرزق منها ترشفًا مصانعةً للدهر فيها.
أما الصبابة فقد نضبت، وأما الأخ فقد ضمه الدهر ضمةً ذهبت بماله وبجميع ما تملك يده، فهاجر هجرةً بعيدةً لا تعرف مصيره فيها، فأصبحت من بعده لا تملك مالًا ولا عضدًا.
لقد لقيت هذه المرأة المسكينة من الشقاء في طلب العيش ما لا يستطيع أن يحتمله بشرٌ، فخاطت الملابس حتى عَشِي بصرها، وغسلت الثياب حتى يبست أطرافها، ودخلت المصانع حتى كَلَّت، وخدمت في المنازل حتى ذَلَّت، ولكنها استطاعت أن تحيا ويحيا ولدها بجانبها.
ما كان لمثلها أن يحيا على مثل ذلك، ولكن الله كان أرحم بها من أن يسلبها السعادة ويسلبها العزاء عنها معًا، فقد كانت إذا دجا ليل الحوادث حولها، وأظلمت الحياة أمام عينيها، رأت في الأفق البعيد ثلاثة أشعةً تنبعث من سماء الرحمة الإلهية حتى تتلاقى في فؤادها فتملأه عزاءً وصبرًا: شعاع الأنس بولدها، وشعاع الرجاء في أخيها، وشعاع السرور بما وُفِّقت إليه من صيانة عرضها.
دارت الأيام دورتها، فاكتهلت الأم، وشبَّ الولد، وانتقل همُّ قلبها إلى قلبه، وكان لا بد له أن يعيش، وأن يحسن إلى تلك التي طالما أحسنت إليه، فمشى يتصفَّح وجوه الرزق وجهًا وجهًا، ويَرِدُ مناهله منهلًا منهلًا، حتى وقف به حظه على مهنة الرسم، فأَنِسَ بها، وما زال يعطيها من نفسه وجدِّه حتى مهر فيها.
والمهارة لا تدل على صاحبها وحدها، بل هو الذي يدل عليها بحيلته ورفقه، وما كان الفتى يملك أداة ذلك، ولا يعرف السبيل إليه، فاستمر خاملًا مغمورًا، لا تدرُّ له مهنته إلا القطرة بعد القطرة في الفَيْنة بعد الفَيْنة، فلم يستطع أن يُسعد أمه، ولكنه استطاع أن يسد خلَّتها، فقنعتْ منه بذلك ولزمت منزلها، ووجدت برد الراحة في صدرها.
إلا أنها كانت إذا ذكرت ذلك الغائب النائي عنها، حنَّت إليه حنين النِّيب إلى فصالها، وأحزنها أنها لم ترَهُ منذ خمسة عشر عامًا، ولم تَرَ منه كتابًا منذ عشرة أعوام حتى اليوم، فلا تجد لها بدًّا كلما هاجها الوجد إليه إلا أن تلجأ إلى ذلك الملجأ الوحيد الذي يفزع إليه جميع البائسين والمحزونين في بأسائهم وضرائهم، خلوتها ودموعها، فتبكي ما شاء الله أن تفعل، ثم تخرج لاستقبال ولدها باشَّةً باسمة كأن لم تكن باكية قبل ذلك!
دخل عليها ولدها يومًا في خلوتها فرآها تبكي، ورأى في يدها صورةً فتبيَّنها، فإذا هي صورة خاله، فألمَّ بسريرة نفسها، وأمسك بين أهداب عينيه دمعةً مترقرقةً ما تكاد تتماسك، فمشى إليها حتى وضع يده على عاتقها، وقال: «رفِّهي عن نفسك يا أماه، فستعلمين خبر غائبك عما قليل.»
فتطلق وجهها وأضاء، وقالت: «وكيف السبيل إلى ذلك؟»
قال: «قد علمت أن معرضًا سيقام للرسم في واشنطون حاضرة أمريكا بعد بضعة أشهرٍ، وأنهم قدروا له جوائز مختلفة، صغرى وكبرى، وقد وعدني بعض أصدقائي أن يساعدني على الشخوص إليه، علَّني أستطيع أن أنال ما أقيم به وجهي وأنقذ به نفسي ونفسك من هذا الشقاء، وهنالك أفتش عن غائبك حتى أجده أو أجد منقطع أثره.»
فاستسرَّ بشرها الذي كان متلألئًا، وقالت: «لا تفعل يا بني، فما أنا بشقيَّةٍ ما رأيتك بجانبي، وما أنت بشقيٍّ ما قنعت بما قسم الله لك، ولئن فعلت لا تكونن امرأةٌ على وجه الأرض أعظم مني لوعةً ولا أشقى، ولئن بكيت لفراق أخي مرةً فسأبكي لفراقك ألف مرة، وإني كلما ذكرته وجدت في وجهك العزاء عنه، فمن لي بالعزاء عنكما إن فقدت وجهيكما معًا؟»
فما زال يروِّضها ويَسْمَحُها ويُمنِّيها في رحلته الأماني العذاب حتى أسلست وهدأت وأسلمت إلى الله أمرها.
وما هي إلا أيامٌ قلائل حتى ضرب الدهر بينهما بضرباته، فإذا الأم وحيدة في فرنسا لا مؤنس لها، وإذا الولد غريبٌ في أمريكا لا يعرف له سندًا، ولا عضدًا.
وصل الفتى إلى معرض الرسم فعرض رسمه هناك، وكان يمثل فيه موقف الوداع الذي جرى بينه وبين أمه على شاطئ البحر يوم رحيله، وكان موقفًا محزنًا فأحسن تمثيله، فأعجب القوم بجماله، وأثَّر في نفوسهم منظره، فقضوا له بالجائزة التي كان يمنِّي نفسه بها، فما حصلت في يده حتى خيِّل إليه أنه أسعد أهل الأرض طرًّا، وأن هذا اليوم هو أول يوم هبط فيه عالم الوجود، وأنه ما ذاق قبل الساعة مرارة العيش، ولا رأى صورة الشقاء!
وكذلك يعبث الدهر بالإنسان ما يعبث، ويُذيقه ما يذيقه من صنوف الشقاء وألوان الآلام، حتى إذا علم أنه قد أوحشه وأرابه وملأ قلبه غيظًا وحنقًا، أطلع له في تلك السماء المظلمة المدلهمة بارقةً واحدة من بوارق الأمل الكاذب فاسترده بها إلى حظيرته راضيًا مغتبطًا، كما تُقاد السائمة البلهاء بأعواد الكلأ إلى مصرعها، فما أسعد الدهر بالإنسان! وما أشقى الإنسان به!
أرسل الفتى إلى أمه بعض المال واستبقى لنفسه بعضًا، وكتب إليها أنه لن يبرح هذه الأرض حتى يفي لها بما عاهدها عليه، ومشى في طريقه يفتش عن خاله في أنحاء البلاد ويُسائل عنه كل من لقيه من القاطنين والطارئين، حتى حدَّثه بعضهم أن آخر عهدهم به رحلة رحلها عنهم من بضع سنوات إلى بعض الجزر الجنوبية في التفتيش عن معدن نحاس هناك، ثم لم يعد بعد ذلك.
فمشى في الطريق التي علم أنه سلكها حتى وصل إلى جزيرة موحشةٍ مقفرة، وكانت لا تزال تغشى سماء تلك البلاد بقيةٌ من ظلمات العصور الأولى، فمرَّ بقبيلةٍ من قبائل الزنج نازلةً هناك وراء بعض الجبال المنقطعة، فما رأوه حتى هاجت في صدورهم أحقاد تلك العداوة اللونية التي لا يزال يضمرها هؤلاء القوم لكل شيءٍ أبيض، حتى للشمس المشرقة، والكواكب الزاهرة، فداروا به دورةً سقط من بعدها أسيرًا في أيديهم، فاحتملوه حتى وصلوا به إلى ديارهم، فاحتبسوه هناك في نفقٍ تحت الأرض كانوا يسمونه «سجن الانتقام».
هنالك علم أن تلك البارقة التي لاحت له في سماء السعادة من الأمل يوم المعرض، إنما هي خدعةٌ من خدع الدهر، وأكذوبةٌ من أكاذيبه، وأن ما كان يقدره لنفسه من سعادةٍ وهناء في مستقبل أيامه قد ذهب بذهاب أمس الدابر، وأصبح صحيفةً باليةً في كتاب الدهر الغابر.
ولقد كان في استطاعته أن يخلد للنازلة التي نزلت به ويستمسك لها لو أنه استقل بحملها، ولكن الذي آدَهُ وأثقله، أن هناك إنسانًا آخر كريمًا عليه يقاسمه إياها، فقد أصبح يحمل مصيبته ومصيبة أمه فيه على عاتقٍ واحد.
نزلوا به إلى المحبس وقادوه إلى سلسلةٍ غليظة الحلقات فسلكوه فيها، ثم أغقلوا الباب من دونه وتركوه وشأنه، فما انفرد بنفسه حتى فتح عينيه فلم يَرَ أمامه شيئًا، فلم يعلم: هل كُفَّ بصره أم اشتدت الظلمة أمام عينيه فحجبت عن ناظره كل شيءٍ حتى نفسها؟ فلم يزل في حيرته حتى انقضى الليل، فانحدر إليه من ثقبٍ صغير في حائط المحبس خيطٌ أبيض دقيقٌ من شعاع الشمس حتى استقر بين يديه، فأَنِسَ به أُنس الغريب بالغريب، وشكر للشمس رسولها الذي أرسلته إليه ليؤنسه في وحدته، واستمر بصره عالقًا به لا يفارقه أينما سار وحيثما انتقل، حتى رآه يقبض شيئًا فشيئًا، ويتراجع قليلًا قليلًا، ثم علا إلى ثقبه الذي انحدر منه، ثم طار إلى سمائه التي هبط منها، فحزن لفراقه حزن العشير لفراق عشيره، ودار بعينيه حول نفسه، فإذا قطعٌ سوداء مظلمةٌ تتدجَّى وتتكاثف من حوله، ويَمْلَسُ بعضها في أحشاء بعض.
وإذا هو نفسه قطعةٌ من تلك القطع هائمة بينها هيمان الروح الحائر في ظلمات القبور، فما كاد يعرف مكانه منها، فمشى في ذلك المعترك المائج يفتش عن نفسه ويتلمسها بيده تلمسًا، حتى سمع صلصلة السلسلة الملتفة على قدميه، فوجدها وكان قد أجهده المسير، فتساقط على نفسه باكيًا منتحبًا.
وكذلك انقطع هذا المسكين عن العالم كله خيره وشره، ولم يبقَ بينه وبينه من صلةٍ إلا ذلك الشعاع الأبيض الذي يزوره كل صباح، وذلك السجان الأسود الذي يطرقه كل مساء.
وما مرت به على حاله تلك سنة واحدة حتى نسي نفسه، ونسي أمه، ونسي العالم الذي كان يعيش فيه، والعالم الذي انتقل إليه، ونسي الليل والنهار، والظلمة والنور، والسعادة والشقاء، وأصبح في منزلةٍ بين منزلتي الحياة والموت، فلا يفرح ولا يتألم، ولا يذكر الماضي، ولا يرجو المستقبل، ولا يعلم هل هو حجرٌ بين تلك الأحجار، أو قطعةٌ بين قطع الظلام، أو جسدٌ يتحرك، أو خيالٌ يسري، أو وهمٌ من الأوهام، أو عدم من الأعدام؟
مرت على تلك الأم المسكينة بضعة أعوام لا ترى ولدها ولا تجد من يدلها عليه، فأصبح من يراها في طريقها، يرى عجوزًا حدباء والهةً متسلِّبة مذهوبًا بها قد توكأت على عصًا ما تزال تضطرب في يدها، وأسبلت فوق جسمها الناحل المحقوقف أهدامًا خُلْقانًا يحسبها الناظر إليها — لكثرة ما نالت يد البِلَى منها — أهدابًا متلاصقةً أو مزقًا متطايرة، تقف صدر النهار بأبواب المعابد والكنائس، تسأل الله أن يرحمها، والناس أن يطعموها.
حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء أخذت سمتها إلى شاطئ البحر، وجلست فوق بعض صخوره تناجي أمواجه ورماله، وترقب أفقه البعيد كما يرقب المنجِّم كوكبه في أفق السماء، فإذا سرت إليها نسمةٌ وجدت ريح ولدها فيها، وإذا أقبلت عليها موجةٌ ظنت أنها رسولٌ منه إليها، وإذا تراءت لها سفينة ماخرةٌ على سطح الماء حسبتها السفينة التي تحمله، فلا يزال بصرها عالقًا بها لا يفارقها حتى ترسو على الشاطئ، فتقف في طريق ركبانها تتصفح الوجوه، وتتفرس الشمائل، وتهتف باسم ولدها صارخةً مُعْوِلَةً، وتقول: «عباد الله، من يدلني على ولدي، أو ينشده لي في معالم الأرض ومجاهلها، فقد أضللته منذ عهد بعيد، فحار بي الدهر من بعده، فلا أنا سالية عنه ولا واجدة إليه سبيلًا، فاحتسبوها يدًا عند الله وحدثوني عنه هل عاد معكم، أو تخلف عنكم ليأتي على إثركم، أو انقطع الدهر به فلا أمل فيه بعد اليوم؟» فلا يلتفت إليها أحدٌ، ولا يفهم أحد ما تقول، وربما لمحها بعض الناس فظنها امرأة ملتاثةً فرثى لها، أو سائلة فتصدق عليها!
ولا يزال هذا شأنها في موقفها هذا حتى ترى الأمهات والأخوات والفتيات، قد عُدنَ بأولادهن وإخوانهن وآبائهن إلى منازلهن، ولم يبقَ على شاطئ البحر مِن غادٍ ولا رائح سواها، فتتناول عصاها وتعود أدراجها إلى بيتها، فتأخذ مجلسها من حافة قبرٍ كانت قد احتفرته بيدها في أرض قاعتها وتوهمته مدفنًا لولدها، فتظل تبكي وتقول: «في أي بطنٍ من بطون الأرض مضجعك يا بني، وتحت أي نجم من نجوم السماء مصرعك، وفي أي قاع من قيعان البحر مثواك، وفي أي جوف من أجواف الوحوش الضاربة مأواك؟
لو يعلم الطير الذي مزق جثتك، أو الوحش الذي ولغ دمك، أو القبر الذي ضمك إلى أحشائه، أو البحر الذي طواك في جوفه، أن وراءك أمًّا مسكينة تبكي عليك من بعدك لرحموك من أجلي؟!
عد إليَّ يا بني فقيرًا أو مقعدًا أو كفيفًا، فحسبي منك أن أراك بجانبي في الساعة التي أُفارق فيها هذه الحياة، لأُقبِّلك قبلة الوداع، وأعهد إليك بزيارة مضجعي مطلع كل شمس ومغربها لتخفَّ بزورتك عني ضَمَّة القبر، وتستنير بوجهك الوضاء ظلماته الحالكة!
ما أسعد الأمهات اللواتي يسبقن أولادهن إلى القبور! وما أشقى الأمهات اللواتي يسبقهن أولادهن إليها! وأشقى منهن تلك الأم المسكينة التي تدب إلى الموت دبيبًا وهي لا تعلم: هل تركت ولدها وراءها، أو أنها ستجده أمامها؟»
وهكذا كان شأنها صباحها ومساءها، فلم تزل تبكي ولدها بكاء يعقوب ولده، حتى ذهب بصرها ذهاب بصره، ولكنها لم تستطع عن يُوسُفِها صبرًا.
دخل السجان على الفتى عشية ليلةٍ في محبسه، فاقترب منه، ومد يده إلى سلسلته المثبتة في الجدار فانتزعها من مكانها، فلم يقل شيئًا، ولم يسائل نفسه هل هي ساعة نجاته أو ساعة حِمامه، ثم قاده إلى خارج المحبس حتى وصل به إلى صخرةٍ جاثمة على مقربة من مجتمع القبيلة، فشد سلسلته إليها وتركه مكانه ومضى، ففتح عينيه فرأى مكانًا غير مكانه، ومنظرًا غير منظره، وسماء وأرضًا غير سمائه وأرضه، فبدأ شعوره يعود إليه شيئًا فشيئًا، حتى استفاق فتذكَّر ما كان فيه ورأى ما صار إليه.
هنالك تذكَّر السعادة والشقاء، والغربة والوطن، والسجن وظلمته، والقيد ووطأته، ثم طار بخياله إلى ما وراء البحار، فذكر أمه وشقاءها من بعده، وحنينها ويأسها من لقائه، فذرفت عيناه دمعةً كانت هي أول دمعة أرسلها من جفنيه من تاريخ شقائه، وما زال يرسل العبرة إثر العبرة، لا يهدأ ولا يستفيق، حتى مضى شطرٌ من الليل، وهدأ الناس جميعًا في مضاجعهم، فأسلم رأسه إلى ركبتيه وذهب بخياله إلى حيث شاء أن يذهب.
فإنه لكذلك وقد رَنَّقَتْ في عينيه سِنَةٌ من النوم إذ شعر بيدٍ تلمس كتفيه، فرفع رأسه، فإذا شبحٌ أبيض قائمٌ فوق رأسه، فخُيِّل إليه أن مَلكًا نورانيًّا نزل إليه من علياء السماء لينقذه من شقائه، فتبيَّنه فإذا فتاة جميلة بيضاء، ما التفَّتِ الأُزُر على مثلها حسنًا وبهاءً، تتمشى في بياضها سُمرة رقيقة كسمرة السحاب الرهو الذي يخالط وجه الشمس في صحوة النهار، فسألها: «من أنت؟»
قالت: «أنا فتاة من فتيات هذا الحي، وقد ألممت بشيءٍ من أمرك، فعلمت أنك شقيٌّ فرحمتُك مما أنت فيه، فجئتك أطلق وثاقك لتذهب حيث تشاء، فلا مثوبة يقدمها المرء بين يدي ربه يوم جزائه أفضل من مواساة البائس وتفريج كربة المكروب!»
فعَجِبَ لزنجيةٍ بيضاء ووثنية تعبد الله، وبربرية تحمل بين جنبيها قلبًا يعطف على البؤساء والمنكوبين، وقال في نفسه: «ما لهذا الفتاة بُدٌّ من شأن.» وورد عليه من أمرها ما ذهب بلبِّه، وملك عليه نفسه وهواه، وأنساه كل شأنٍ في الحياة إلا شأنها، فلبث صامتًا واجمًا لا ينطق.
وقال لها: «اذهبي لشأنك يا سيدتي فإنني لا أريد النجاة!»
فعلمتْ أنها ثورةٌ من ثورات اليأس، فدنتْ منه ووضعت يدها على عاتقه، وقالت: «لا تجعل لليأس إلى قلبك أيها الفتى سبيلًا، وانجُ بحياتك من يد الموت، فليس بينك وبينه إن بقيت هنا إلا أن ينحدر عن وجهك قناع هذا الليل، فإذا أنت فِلَذٌ طائرةٌ مع شفرات السيوف، فلا تفجع نفسك في نفسك، ولا تفجع هذه المسكينة الواقفة بين يديك، فإن شديدًا عليَّ جدًّا أن أراك بعد قليل ذبيحةً في يد الذابح، أو مضغةً في فم الآكل!»
قال: «إنك لا تستطيعين نجاتي.»
قالت: «لا أفهم ما تقول، فإنني ما جئتك إلا وأنا عالمة ماذا أصنع.»
قال: «قد كنت قبل اليوم موثقًا بوثاق واحدٍ فأصبحت موثقًا بوثاقين، فإن استطعتِ أن تحلي وثاق قدمي فإنك لا تستطيعين أن تحلي وثاق قلبي.»
فألمَّت بسريرة نفسه فرفعت وجهها إلى السماء ولبثت شاخصةً إليها ساعة، فرفع رأسه إليها ولبث شاخصًا إلى وجهها نَظَرَ المصوِّر الماهر إلى تمثاله البديع، حتى شعر بدمعة حارة قد سقطت من جفنها على وجهه، فجرت في مجرى الدموع من خده، فانحدرت من جفنه دمعةٌ مثلها فالتقت بدمعتها فامتزجتا معًا.
فمد يده إلى ردائها فاجتذبها إليه، وقال: «قد طال وقوفك يا سيدتي فاجلسي بجانبي نتحدث قليلًا.»
فجلست على مقربة منه، فقال لها: «إن امتزاج دمعي بدمعك في هذه الساعة قد دلني على أننا لن نفترق بعد اليوم أحياءً أو أمواتًا، فإن كنتِ تريدين لي النجاة فإنني لا أنجو إلا بك.»
قالت: «ليتني أستطيع ذلك يا سيدي.»
قال: «وما يمنعك منه؟»
فنظرت إليه نظرة دامعة، وقالت: «أخاف أن أحبك!»
قال: «ولِمَ تخافين؟»
قالت: «لا أعلم.»
قال: «أنا لا أسألك عما تكتمين في صدرك من الأسرار، ولكني أسألك أن تتركيني وشأني في يد القدر يفعل بي ما يشاء، فقد كنتُ أخاف الموت قبل أن أراك، أما اليوم فحسبي عزاءً عما ألاقيه من غصصه وآلامه نظرة رحمةٍ تلقينها عليَّ في مصرعي، ودمعة حزن تسكبينها من بعدي على تربتي.»
فما استقبلته إلا بدموعها تنحدر على خديها كالعقد وهى سِلْكُه فانتثر، ثم مدت يدها إلى قيده فعالجته حتى انصدع، وقالت: «إني ذاهبة معك وليقضِ الله فِيَّ وفيك قضاءه.»
مشيا يطويان القفار، ويعبران الأنهار، ويضحيان مرة ويَخْصَران أخرى، ويَرِدَان آجن المياه وصفوها، ويقتاتان يابس الثمار ورطبها، فإذا لاح لهما ظل شجرة أو شاطئ غدير أو سفح جبلٍ أويا إليه فاستراحا بجانبه قليلًا ثم عادا إلى شأنهما.
وكانت لا تزال تغشى وجه الفتاة مذ فارقت موطنها سحابةٌ سوداء من الحزن ما تكاد تنقشع عنه، وكانا إذا نزلا منزلًا وأخذا مضجعهما من تربه وأحجاره نهضت من مرقدها بعد هدأةٍ من الليل وانتحت ناحية من حيث تظن أنه لا يشعر بمكانها، ومدت يدها إلى صدرها فتناولت صليبًا صغيرًا فقبَّلته.
ثم أنشأت تهمهم بكلامٍ خفيٍّ، كأنها تناجي به شخصًا غائبًا عنها فتستغفره من ذنب جنته إليه مرة، وتطلب معونته على أمرٍ لا تعرف مصيره، ولا تعلم وجه الصواب فيه أخرى، حتى ينبثق نور الفجر فتعود إلى مرقدها.
وكان كلما سألها عن شأنها، التوت عليه ودافعته عنها حتى تَلَوَّم أن يُعاودها، فتركها وشأنها، وقد أصبح يحمل في صدره من الهم فوق ما تحمل من هم نفسها، حتى أشرفا بعد مسير ثلاثين يومًا على سواء العمران، فاستبشرا وعلما أنهما قد أصبحا في الساعة الأخيرة من ساعات الشقاء.
وكانا قد وصلا إلى نهر صغير هناك، فجلسا بجانبه تحت شجرة مورقةٍ يتحدثان، وهي أول مرة جلسا فيها للحديث، فقال لها: «ما حفظ الله حياتنا في هذه السفرة الطويلة في هذه القفرة الجرداء الموحشة إلا وقد كتب لنا في لوح مقاديره سعادةً لا أحسب أنه قد أعد خيرًا منها لعباده المتقين في جنات النعيم.»
قالت: «ومتى كانت هذه الحياة موطنًا للسعادة أو مستقرًّا لها؟ ومتى سعد أبناؤها بها فنسعد مثلهم كما سعدوا؟ وإن كان لا بد من سعادة في هذه الحياة فسعادتها أن يعيش المرء فيها معتقدًا أن لا سعادة له فيها، ليستطيع أن يقضي أيامه المقدرة له على ظهرها هادئ القلب، ساكن النفس، لا يكدر عليه عيشه أملٌ كاذب، ولا رجاء خائب!»
قال: «إن السعادة حاضرة بين أيدينا، وليس بيننا وبينها إن أردناها إلا أن نطوي هذه المرحلة الباقية من هذا القفر، فنلجأ إلى أول بيت نلقاه في طريقنا من بيوت الله، فنجثو أمام مذبحه ساعةً نخرج من بعدها زوجين سعيدين لا يحول بيننا حائل، ولا يكدر صفونا مكدر.»
فأطرقت هنيهةً، ثم رفعت رأسها فإذا دمعة صافية تنحدر على خدها، فقال: «ما بكاؤك يا سيدتي؟»
فقالت: «أتذكر ليلة النجاة إذ دعوتني إلى الفرار معك، فقلت لك إني أخاف إن فررت معك أن أحبك؟»
قال: «نعم.»
قالت: «وا أسفاه لقد وقع اليوم ما كنت منه أخاف.»
ثم صرخت صرخةً عالية وقالت: «ماذا يا أماه؟»
وسقطت مكبةً على وجهها، فدنا منها وأمسك بيدها فإذا رعدةٌ شديدة تتمشى في أعضائها، فعلم أنها البُرَدَاء، وعمد إلى بعض الأشجار فاقتطع منها بضعة أعواد، ومشى يفتش عن الناس في كوخ كان يتراءى له على البعد، حتى بلغه، فوجد على بابه كاهنًا شيخًا جليل المنظر، فدنا منه وحياه تحيةً حيَّاه بأحسن منها، وقال له: «ما شأنك يا بني؟»
قال: «إن بجانب ذلك النهر فتاةً مسكينة تركتها ورائي تشكو البرد، فهل أجد عندك جذوة نار أعود بها إليها لتصطلي بها؟»
فمكَّنه من طلبته، وقال له: «كتب الله لك ولعليلتك السلامة يا بني، فاذهب فإني على إثرك.»
فعدا الفتى عدوًا شديدًا حتى بلغ النهر، فأدهشه أن رأى الفتاة هادئةً ساكنةً، طيبة النفس، لا تشكو بردًا ولا ألمًا، فأقبل عليها متهللًا.
وقال لها: «لعل ما كان يخالط نفسك من الألم لذكر أهلك ووطنك قد ذهب بذهاب الأيام.»
قالت: «ما كان يخالط نفسي من ذلك شيءٌ، فاجلس أحدِّثك حديثي فقد آن أن أفضي به إليك.»
فجلس بجانبها فأنشأت تحدثه، وتقول: «أنا فتاة غريبةٌ مثلك عن هذه الديار، لا أعرف من ساكنيها غير نفسي، ولا من أرضها غير قبرٍ قد زال اليوم رسمه وبَلِيَ مع الأيام دفينه، فقد ولدتني أمي على فراش رجلٍ أبيض وفد من دياركم منذ عشرين عامًا، فالتقى بها عند مروره بحيها فأحبها وأحبته، ثم فرت معه إلى ما وراء هذه الصحراء، فدانت بدينه، ثم تزوجها فولداني، وعشنا جميعًا من الدهر عيش السعداء الآمنين.
وكان رجال قبيلة أمي لا يزالون يتطلبون السبيل إلينا حتى سقطوا علينا سقوط القضاء في جنح ليلةٍ من ليالي الظلام، فاقتادونا جميعًا إلى أرضهم، وكنت إذ ذاك لم أسلخ العاشرة من عمري، فقتلوا أبي أمامي وأمام أمي قتلةً لا يزال منظرها حاضرًا بين يدي حتى الساعة لا يفارقني، فحزنت أمي عليه حزنًا شديدًا ما زال يدنو بها من القبر شيئًا فشيئًا حتى جاءت ساعتها، فحضر موتها رسولٌ من رسل المسيح كان لا يزال يختلف إليها من حين إلى حين، فدعتني إليها أمامه، وقالت لي: «يا بنية، إن أمي قد ولدتني للشقاء في هذا العالم، وأحسب أني قد ولدتُك له كذلك، فحسبنا ذلك، ولا تكوني سببًا في شقاء أحدٍ من بعدك، وانذري نفسك للعذراء نذرًا لا يحله إلا الموت.» فأذعنت لأمرها وأشهدت الكاهن على نذري، فتلألأ وجهها بشرًا وسرورًا، ثم نظرت نظرةً في السماء وقالت: «هأنذا على إثرك يا رافائيل، ثم فاضت روحها».»
فاضطرب الفتى عند سماع هذا الاسم وقال لها: «هل تعرفين وطن أبيك وأسرته؟»
قالت: «نعم.»
وسمتهما له، فاستطير فرحًا وسرورًا، وقال: «أحمدك اللهم فقد وجدت ضالتي!»
فعجبت لأمره، وقالت: «وأي ضالةٍ تريد؟»
قال: «أتذكرين ليلة اللقاء إذ امتزجت دمعتانا معًا فقلت لك إنها صلةٌ بيني وبينك لا يقطعها إلا الموت؟»
قالت: «نعم.»
قال: «قد كنت أمُتُّ إليك قبل اليوم بحرمة الحب وحدها، فأصبحت أمت إليك بحرمة الحب والقربى، فأنت اليوم حبيبتي وابنة خالي معًا!»
فقالت بصوت خافتٍ: «أحمد الله، فقد وجدت لي في هذه الساعة العصيبة أخًا.»
وأخذ جسمها يضطرب اضطرابًا شديدًا، ووجهها يربد شيئًا فشيئًا، فذعر الفتى وارتاع، وحنا عليها وقال: «ماذا أرى؟»
قالت: «لا تُرَعْ، فأصغ إليَّ؛ فإن لحديثي بقيةً لم تسمعها، إنني منذ حفظت وصية أمي ووهبت العذراء نفسي، كان لا بد لي أن أتخذ لي ملجأ أفزع إليه في اليوم الذي أخاف أن يغلبني فيه هواي على ديني، فكنت لا أزال أحمل تلك القارورة معي حتى جاء اليوم الذي خفته، فلجأت إليها، فنجوت، وأستودعك الله.»
فنظر الفتى حيث أشارت، فرأى قارورة مطروحة وراءها فتناولها، فإذا هي فارغة إلا بقية صفراء في قرارتها ففهم كل شيء.
هنالك شعر كأن شعبةً من شعاب قلبه قد هوت بين أضلاعه، وكأن طائرًا قد نفض جناحيه، ثم طار عن رأسه إلى جو السماء، فصعق في مكانه صعقةً لم يشعر بعدها بشيءٍ مما حوله، فلم يستفق إلا بعد حين، ففتح عينيه فإذا الفتاة بجانبه جثة باردة، وإذا الكاهن صاحب الكوخ واقفٌ أمامه يحمل على كفِّه طعامًا كان قد جاء به إليهما، ويقلب نظره حائرًا لا يفهم مما يرى شيئًا، فوثب الفتى إليه حتى صار أمامه وجهًا لوجه ونظر إليه نظرةً شزراء كتلك النظرة التي يلقيها الموتور على وجه واتره، وكأن قد خُولط في عقله فأخذ يهذي، ويقول: «أتدري أيها الرجل لِمَ ماتت هذه الفتاة؟ لأنها وهبت نفسها للعذراء، ثم عرض لها الحب في طريقها فوقفت حائرة بين قلبها ودينها، فلم تجد لها سبيلًا إلى الخلاص إلا سبيل الانتحار فانتحرت. تلك جرائمكم يا رجال الأديان التي تقترفونها على وجه الأرض، ما كفاكم أن جعلتم أمر الزواج في أيديكم تحلون منه ما تحلون، وتربطون ما تربطون، حتى قضيتم بتحريمه قضاءً مبرمًا لا يقبل أخذًا ولا ردًّا!
إن الذي خلقنا وبثَّ أرواحنا في أجسامنا هو الذي خلق لنا هذه القلوب وخلق لنا فيها الحب، فهو يأمرنا أن نحب، وأن نعيش في هذا العالم سعداء هانئين، فما شأنكم والدخول بين المرء وربه، والمرء وقلبه؟
إن الله بعيد في علياء سمائه عن أن تتناوله أنظارنا، وتتصل به حواسنا، ولا سبيل لنا أن نراه إلا في جمال مصنوعاته وبدائع آياته، فلا بد لنا من أن نراها ونحبها لنستطيع أن نراه ونحبه.
إن كنتم تريدون أن نعيش على وجه الأرض بلا حبٍّ، فانتزعوا من بين جنوبنا هذه القلوب الخفافة ثم اطلبوا منا بعد ذلك ما تشاءون؛ فإننا لا نستطيع أن نعيش بلا حبٍّ ما دامت لنا أفئدة خافقة.
أتظنون أيها القوم أننا ما خُلقنا في هذه الدنيا إلا لننتقل فيها من ظلمة الرحم إلى ظلمة الدير، ومن ظلمة الدير إلى ظلمة القبر؟ بئست الحياة حياتنا إذن، وبئس الخلق خلقنا، إننا لا نملك في هذه الدنيا سعادةً نحيا بها غير سعادة الحب، ولا نعرف لنا ملجأ نلجأ إليه من هموم العيش وأرزائه سواها، ففتشوا لنا عن سعادة غيرها قبل أن تطلبوا منا أن نتنازل لكم عنها.
هذه الطيور التي تغرد في أفنائها إنما تغرد بنغمات الحب، وهذا النسيم الذي يتردد في أجوائه إنما يحمل في أعطافه رسائل الحب، وهذه الكواكب في سمائها، والشموس في أفلاكها، والأزهار في رياضها، والأعشاب في مروجها، والسوائم في مراتعها، والسوارب في أحجارها … إنما تعيش جميعًا بنعمة الحب، فمتى كان الحيوان الأعجم والجماد الصامت — أيها القساة المستبدون — أرفع شأنًا من الإنسان الناطق وأحق منه بنعمة الحب والحياة؟!
فهنيئًا لها جميعها أنها لا تعقل عنكم ما تقولون، ولا تسمع منكم ما تنطقون، فقد نجت بذلك من شرٍّ عظيم، وشقاءٍ مقيم.
إننا لا نعرفكم أيها القوم ولا ندين بكم، ولا نعترف لكم بسلطان على أجسامنا أو أرواحنا، ولا نريد أن نرى وجوهكم أو نسمع أصواتكم، فتواروا عنا واذهبوا وحدكم إلى معابدكم أو مغاوركم، فإنا لا نستطيع أن نتبعكم إليها، ولا أن نعيش معكم فيها.
إن وراءنا نساءً ضعاف القلوب ورجالًا ضعاف العقول، ونحن نخافكم عليهم أن يمتد شركم إليهم، فلا بد لنا أن نقف في وجوهكم ونعترض سبيلكم لنذودكم عنهم حتى لا تصلوا إليهم فتفسدوا عليهم البقية الباقية من قلوبهم وعقولهم.
إنا لا نعبد إلا الله وحده، ولا نشرك به غيره، وفي استطاعتنا أن نعرف الطريق إليه وحدنا بدون دليل يدلنا عليه، فلا حاجة لنا بكم ولا بوساطتكم.
كتاب الكون يغنينا عن كتابكم، وآيات الله تغنينا عن آياتكم، وأناشيد الطبيعة ونغماتها تغنينا عن أناشيدكم ونغماتكم، هذا الجمال المترقرق في سماء الكون وأرضه، وناطقه وصامته، ومتحركه وساكنه، إنما هو مرآةٌ نقيةٌ صافية ننظر فيها فنرى وجه الله الكريم مشرقًا متلألئًا، فنخر بين يديه ساجدين، ثم نصغي إليه لنستمع وحيه، فنسمعه يقول لنا: أيها الناس، إنما خُلق الجمال متعةً لكم فتمتعوا به، وإنما خُلقتم حياةً للجَمال فأحيوه.
ذلك أمر الله الذي نسمعه ولا نسمع أمرًا سواه.»
وما إن وصل في حديثه إلى هذا الحد حتى ثقل لسانه، ووهنت عزيمته، وارتعدت مفاصله، فسقط في مكانه يزفر زفيرًا شديدًا، ويئن أنينًا محزنًا، فاقترب منه الشيخ ووضع يده على رأسه، وقال له: «ارفق بنفسك يا بني؛ فما أنت بأول ثاكلٍ على وجه الأرض، ولا فقيدك بأول راحلٍ عنها، وإن في رحمة الله ورضوانه عزاءً للصابرين وجزاءً للمحسنين.»
فأهوى الفتى على يده وأخذ يقبِّلها، ويقول: «اغفر لي ذنبي يا أبتِ، فقد كنت من الظالمين.»
قال: «غفر الله لك يا بني؛ فما دون رحمة الله بابٌ موصَّدٌ ولا رتاجٌ معترِضٌ.»
قال له: «يا أبتِ، إن هذه الفتاة غريبةٌ عن هذه الأرض، وليس لها فيها أحدٌ سواي، وقد ماتت من أجلي وفي سبيلي، فهل تأذن لي أن أدنو منها لأقبِّلها قبلة الوداع في آخر ساعة من ساعاتها على وجه الأرض؟»
قال: «افعل يا بني.»
فزحف على ركبتيه حتى بلغ مكانها فضمها إليه ضمةً شديدة وأهوى بفمه على فمها، فقبلها لأول مرة في حياته قبلةً فاضت روحه فيها.
في الساعة التي دُفن فيها هذان الشهيدان تحت تلك الشجرة المورقة على شاطئ ذلك النهر الجاري، مرت بكوخ العجوز امرأةٌ من جاراتها كانت تعتادها الزيارة من حين إلى حين، فنظرت إلى مكانها الذي اعتادت أن تتخذه من حافة ذلك القبر المفتوح فرأته خاليًا، فأشرفت على الحفرة فوجدتها متردية فيها، معفرةً بترابها، لا حراك بها، فملأت بالتراب الذي كان مجتمعًا حول الحفرة تلك الأشبار الخمسة التي هي مسافة ما بين الحياة والموت، ثم أسبلت فوق تربتها دمعةً كانت هي كل نصيبها من الدنيا!