الهاوية
ما أكثر أيام الحياة وما أقلها؟!
لم أَعِش من تلك الأعوام الطوال التي عشتها في هذا العالم إلا عامًا واحدًا، مرَّ بي كما يمر النجم الدهري في سماء الدنيا ليلةً واحدة، ثم لا يراه الناس بعد ذلك.
قضيتُ الشطر الأول من حياتي أفتش عن صديقٍ ينظر إلى أصدقائه بعين غير العين التي ينظر بها التاجر إلى سلعته، والزارع إلى ماشيته، فأعوزني ذلك حتى عرفت «فلانًا» منذ ثمانية عشر عامًا، فعرفت امرأً ما شئت أن أرى خلَّة من خلال الخير والمعروف في ثياب رجلٍ إلا وجدتها فيه، ولا تخيلتُ صورةً من صور الكمال الإنساني في وجه إنسان إلا أضاءت لي في وجهه، فجلَّت مكانته عندي، ونزل من نفسي منزلةً لم ينزلها أحد من قبله، وصَفَتْ كأس الود بيني وبينه لا يكدرها علينا مكدرٌ.
حتى عرض إليَّ من حوادث الدهر ما أزعجني من مستقري، فهجرت القاهرة إلى مسقط رأسي، غير آسفٍ على شيء فيها إلا على فراق ذلك الصديق الكريم، فتراسلنا حقبةً من الزمن، ثم فَتَرَتْ عني كُتُبه ثم انقطعت، فحزنتُ لذلك حزنًا شديدًا، وذهبتْ بي الظنون في شأنه كل مذهب، إلا أنْ أرتاب في صدقه ووفائه، وكنت كلما هممت بالمسير إليه لتعرُّف حاله قعد بي عن ذلك همٌّ كان يقعدني عن كل شأنٍ حتى شأن نفسي، فلم أعد إلى القاهرة إلا بعد أعوامٍ، فكان أول همِّي يوم هبطتُ أرضها أن أراه، فذهبت إلى منزله في الساعة الأولى من الليل، فرأيت ما لا تزال حسرته متصلةً بقلبي حتى اليوم.
تركت هذا المنزل فردوسًا صغيرًا من فراديس الجنان تتراءى فيه السعادة في ألوانها المختلفة، وتترقرق وجوه ساكنيه بِشرًا وسرورًا، ثم زرته اليوم فخُيِّل إليَّ أنني أمام مقبرة موحشة ساكنة، لا يهتف فيها صوت، ولا يتراءى في جوانبها شبح، ولا يلمع في أرجائها مصباح، فظننت أني أخطأت المنزل الذي أريده، أو أنني بين يدي منزلٍ مهجورٍ، حتى سمعت بكاء طفلٍ صغيرٍ، ولمحت في بعض النوافذ نورًا ضعيفًا، فمشيتُ إلى الباب فطرقتُهُ، فلم يُجِبني أحد، فطرقته أخرى، فلمحتُ من خَصَاصِهِ نورًا مقبلًا، ثم لم يلبث أن انفرج لي عن وجه غلامٍ صغير في أَسْمَالٍ بالية يحمل في يده مصباحًا ضئيلًا، فتأملته على ضوء المصباح فرأيتُ في وجهه صورة أبيه، فعرفت أنه ذلك الطفل الجميل المدلل الذي كان بالأمس زهرة هذا المنزل وبدر سمائه، فسألته عن أبيه فأشار إليَّ بالدخول ومشى أمامي بمصباحه، حتى وصل بي إلى قاعة شعثاء مغبرة بالية المقاعد والأستار، ولولا نقوشٌ لاحت لي في بعض جدرانها كباقي الوشم في ظاهر اليد، ما عرفت أنها القاعة التي قضينا فيها ليالي السعادة والهناء اثني عشر هلالًا.
ثم جرى بيني وبين الغلام حديث قصيرٌ عرف فيه من أنا، وعرفت أن أباه لم يعد إلى المنزل حتى الساعة، وأنه عائدٌ عما قليل، ثم تركني ومضى، وما لبث إلا قليلًا حتى عاد يقول لي إن والدته تريد أن تحدثني حديثًا يتعلق بأبيه، فخفق قلبي خفقة الرعب والخوف، وأحسستُ بشرٍّ لا أعرف مأتاه.
ثم التفتُّ فإذا امرأة ملتفة برداء أسود واقفة على عتبة الباب، فحيَّتني فحيَّيتها، ثم قالت لي: «هل علمت ما صنع الدهر بفلانٍ من بعدك؟»
قلت: «لا، فهذا أول يوم هبطتُ فيه هذا البلد بعد ما فارقتُهُ سبعة أعوام.»
قالت: «ليتك لم تفارقه، فقد كنتَ عصمته التي يعتصم بها، وحِماه من غوائل الدهر وشروره، فما هو إلا أن فارقته حتى أحاطت به زمرةٌ من زمر الشيطان، وكان فتًى — كما تعلمه — غريرًا ساذجًا، فما زالت تغريه بالشر وتزين له منه ما يزين الشيطان للإنسان، حتى سقط فيه، فسقطنا جميعًا في هذا الشقاء الذي تراه!»
قلت: «وأي شر تريدين يا سيدتي؟ ومَن هم الذين أحاطوا به فأسقطوه؟»
قالت: «سأقص عليك كل شيءٍ، فاستمع لما أقول: ما زال الرجل بخير حتى اتصل بفلان رئيس ديوانه، وعَلِقتْ حباله بحباله، وأصبح من خاصته الذين لا يفارقون مجلسه حيث كان، ولا تزال نعالهم خافقةً وراءه في غدواته وروحاته، فاستحال من ذلك اليوم أمره، وتنكَّرت صورة أخلاقة، وأصبح منقطعًا عن أهله وأولاده، لا يراهم إلا الفينة بعد الفينة، وعن منزله لا يزوره إلا في أخريات الليالي، ولقد اغتبطتُ في مبدأ الأمر بتلك الحظوة التي نالها عند ذلك الرئيس والمنزلة التي نالها من نفسه، ورجوت له من ورائها خيرًا كثيرًا؛ مغتفِرةً في سبيل ذلك ما كنت أشعر به من الوحشة والألم لانقطاعه عني، وإغفاله أمري وأمر أولاده، حتى عاد في ليلة من الليالي شاكيًا متألمًا يكابد غصصًا شديدة وآلامًا جسامًا، فدنوت منه، فشممتُ من فمه رائحة الخمر، فعلمتُ كل شيء.
علمت أن ذلك الرئيس العظيم هو قدوة مرءوسه؛ في الخير إن سلك طريق الخير، والشر إن سلك طريق الشر، قاد زوجي الفتى المسكين إلى شر الطريقين، وسلك به أسوأ السبيلين، وأنه ما كان يتخذه صديقًا كما زعم، بل نديمًا على الشراب، فتوسلت إليه بكل عزيزٍ عليه، وسكبتُ على يديه من الدموع كل ما تستطيع أن تسكبه عين، رجاء أن يعود إلى حياته الأولى التي كان يحياها سعيدًا بين أهله وأولاده، فما أجديت عليه شيئًا.
ثم علمت بعد ذلك أن اليد التي ساقته إلى الشراب قد ساقته إلى اللعب، فلم أعجب لذلك؛ لأني أعلم أن طريق الشر واحدة، فمن وقف على رأسها لا بد له أن ينحدر فيها حتى يصل إلى نهايتها، فأصبح ذلك الفتى النبيل الشريف — الذي كان يعفُّ بالأمس عن شرب الدواء إذا اشتمَّ فيه رائحة النبيذ، ويستحي أن يجلس في مجتمع فيه قوم شاربون — سكِّيرًا مقامرًا، مستهترًا لا يحتشم ولا يتلوَّم، ولا يتقي عارًا ولا مأثمًا.
وأصبح ذلك الأب الرحيم والزوج الكريم — الذي كان يضنُّ بأولاده أن يعلق بهم الذرُّ، وبزوجه أن يتجهَّم لها وجه السماء — أبًا قاسيًا، وزوجًا سليطًا، يضرب أولاده كلما دنوا منه، ويشتم زوجته وينتهرها كلما رآها، وأصبح ذلك الرجل الغيور الضنين بعرضه وشرفه لا يبالي أن يعود إلى المنزل في بعض الليالي في جمعٍ من عشرائه الأشرار، فيصعد بهم إلى الطبقة التي أنام فيها أنا وأولادي فيجلسون في بعض غرفها، ولا يزالون يشربون ويَقصِفون حتى يذهب بعقولهم الشراب، فيهتاجوا ويرقصوا ويملئوا الجو صراخًا وهتافًا، ثم يتعادوا بعضهم وراء بعض في الأبهاء والحجرات حتى يلجوا على باب غرفتي، وربما حدَّق بعضهم في وجهي أو حاول نزع خماري على مرأًى من زوجي ومسمعٍ فلا يقول شيئًا، ولا يستنكر أمرًا، فأفرُّ بين أيديهم من مكان إلى مكان، وربما فررتُ من المنزل جميعه وخرجتُ بلا إزار ولا خمارٍ، غير إزار الظلام وخماره، حتى أصل إلى بيت جارةٍ من جاراتي؛ فأقضي عندهم بقية الليل.»
وهنا تغيَّرت نغمة صوتها، فأمسكت عن الحديث وأطرقت برأسها، فعلمتُ أنها تبكي، فبكيتُ بيني وبين نفسي لبكائها، ثم رفعتْ رأسها، وعادت إلى حديثها تقول: «وما هي إلا أعوامٌ قلائل حتى أنفق جميع ما كان في يده من المال، فكان لا بد له أن يستدين، ففعل، فأثقله الدين، فرهن، فعجز عن الوفاء، فباع جميع ما يملك حتى هذا البيت الذي نسكنه، ولم يبقَ في يده غير راتبه الشهري الصغير، بل لم يبقَ في يده شيء حتى راتبه؛ لأنه لا يملكه إلا ساعة من نهار، ثم هو بعد ذلك مِلكٌ للدائنين، أو غنيمةٌ للمقامرين!
هذا ما صنعت يد الدهر به، أما ما صنعت بي وبأولادي، فقد مرَّ على آخر حليةٍ بعتها من حلاي عامٌ كامل، وها هي ذي حوانيت المرابين والمسترهنين ملأى بملابسي، وأدوات بيتي وأثاثه، ولولا رجل من ذوي قرباي رقيق الحال يعود عليَّ من حين إلى حين بالنزر القليل مما يستلُّه من أشداق عياله لهلكت وهلك أولادي جوعًا.
فلعلك تستطيع يا سيدي أن تكون عونًا لي على هذا الرجل المسكين، فتنقذه من شقائه وبلائه بما ترى له في ذلك الرأى الصالح، وأحسب أنك تقدر منه — للمنزلة التي تنزلها من نفسه — على ما عجز عنه الناس جميعًا، فإن فعلتَ أحسنتَ إليه وإلينا إحسانًا لا ننسى يدك فيه حتى الموت.»
ثم حيَّتني ومضت لسبيلها، فسألتُ الغلام عن الساعة التي أستطيع أن أرى أباه فيها في المنزل، فقال: إنك تراه في الصباح قبل ذهابه إلى الديوان. فانصرفتُ لشأني، وقد أضمرت بين جنبي لوعةً ما زالت تقيمني وتقعدني وتذود عن عيني سِنَةَ الكرى حتى انقضى الليل، وما كاد ينقضي.
ثم عدت في صباح اليوم الثاني؛ لأرى ذلك الصديق القديم الذي كنت بالأمس أسعد الناس به، ولا أعلم ما مصير أمري معه بعد ذلك، وفي نفسي من القلق والاضطراب ما يكون في نفس الذاهب إلى ميدان سباقٍ قد خاطر فيه بجميع ما يمتلك، فهو لا يعلم أيكون بعد ساعة أسعد الناس أم أشقاهم!
الآن عرفت أن الوجوه مرايا النفوس، تضيء بضيائها وتظلم بظلامها، فقد فارقتُ الرجل منذ سبع سنوات فأنستني الأيام صورته، ولم يبقَ في ذاكرتي منها إلا ذلك الضياء اللامع، ضياء الفضيلة والشرف الذي كان يتلألأ فيها تلألؤ نور الشمس في صفحتها، فلما رأيته الآن — ولم أَرَ أمام عيني تلك الغلالة البيضاء التي كنت أعرفها — خيِّل إليَّ أنني أرى صورةً غير الصورة الماضية، ورجلًا غير الذي كنت أعرفه من قبل.
لم أرَ أمامي ذلك الفتى الجميل الوضَّاح، الذي كان كل منبت شعرة في وجهه فمًا ضاحكًا تموج فيه ابتسامةٌ لامعة، بل رأيت مكانه رجلًا شقيًّا منكوبًا، قد لبس الهرم قبل أوانه، وأوفى على الستين قبل أن يسلخ الثلاثين، فاسترخى حاجباه، وثقلت أجفانه، وجمدت نظراته، وتهدَّل عارضاه، وتجعَّد جبينه، واستشرف عاتقاه، وهوى رأسه بينهما هويَّه بين عاتقَي الأحدب، فكان أول ما قلت له: «لقد تغيَّر فيك كل شيءٍ يا صديقي، حتى صورتك!»
وكأنما ألمَّ بما في نفسي، وعرف أني قد علمت من أمره كل شيءٍ، فأطرق برأسه إطراق من يرى أن باطن الأرض خير له من ظهرها، ولم يقل شيئًا، فدنوت منه حتى وضعت يدي على عاتقه، وقلت له: «والله ما أدري ماذا أقول لك، أأعظك، وقد كنت واعظي بالأمس، ونجم هداي الذي أستنير به في ظلمات حياتي؟! أم أرشدك إلى ما أوجب الله عليك في نفسك وفي أهلك ولا أعرف شيئًا أنت تجهله، ولا تصل يدي إلى عِبرة تقصر يدك عن نيلها؟ أم أسترحمك لأطفالك الضعفاء وزوجتك البائسة المسكينة التي لا عضد لها في الحياة ولا معين سواك وأنت صاحب القلب الرحيم الذي طالما خفق بالبعداء، فأحرى أن يخفق رحمةً بالأقرباء؟!
إن هذه الحياة التي تحياها يا سيدي إنما يلجأ إليها الهُمَّل العاطلون الذين لا يصلحون لعملٍ من الأعمال، ليتواروا فيها عن الناس حياءً وخجلًا حتى يأتيهم الموت فينقذهم من عارهم وشقائهم، وما أنت بواحدٍ منهم.
إنك تمشي يا سيدي في طريق القبر، وما أنت بناقمٍ على الدنيا ولا بمتبرمٍ بها، فما رغبتك في الخروج منها خروج اليائس المنتحر؟! عذرتك لو أن ما ربحت في حياتك الثانية يقوم لك مقام ما خسرت من حياتك الأولى، ولكنك تعلم أنك كنت غنيًّا فأصبحت فقيرًا، وصحيحًا فأصبحت سقيمًا، وشريفًا فأصبحت وضيعًا، فإن كنت ترى بعد ذلك أنك سعيد، فقد خَلَتْ رقعةُ الأرض من الأشقياء!
إن كل ما يعنيك من حياتك هذه أن تطلب فيها الموت، فاطلبه في جرعة سم تشربها دفعة واحدة، فذلك خير لك من هذا الموت المتقطع الذي يكثر فيه عذابك وألمك، وتعظم فيه آثامك وجرائمك، وما يعاقبك الله على الأخرى بأكثر مما يعاقبك على الأولى.
حسبنا يا صديقي من الشقاء في هذه الحياة ما يأتينا به القدر، فلا نضم إليه شقاء جديدًا نجلبه بأنفسنا لأنفسنا! فهاتِ يدك وعاهدني على أن تكون لي منذ اليوم كما كنتَ لي بالأمس، فقد كنا سعداء قبل أن نفترق، ثم افترقنا فشقينا، وها نحن أولاء قد التقينا، فلْنَعِشْ في ظلال الفضيلة والشرف سعداء كما كنا.»
ثم مددت يدي إليه، فراعني أنه لم يحرك يده، فقلت له: «ما لك لا تمد يدك إليَّ؟»
فاستعبر باكيًا وقال: «لأنني لا أحب أن أكون كاذبًا ولا حانثًا.»
قلت: «وما يمنعك من الوفاء؟»
قال: «يمنعني منه أنني رجل شقيٌّ، لا حظَّ لي في سعادة السعداء.»
قلت: «قد استطعت أن تكون شقيًّا، فلِمَ لا تستطيع أن تكون سعيدًا؟»
قال: «لأن السعادة سماء والشقاء أرض، والنزول إلى الأرض أسهل من الصعود إلى السماء، وقد زلَّت قدمي عن حافة الهوة فلا قدرة لي على الاستمساك حتى أبلغ قرارتها، وشربتُ أول جرعة من جرعات الحياة المريرة، فلا بد لي أن أشربها حتى ثمالتها، ولا شيء من الأشياء يستطيع أن يقف في سبيلي إلا شيء واحد فقط، هو ألا أكون قد شربت الكأس الأول قبل اليوم، وما دمت قد فعلت فلا حيلة لي فيما قضى الله.»
قلت: «ليس بينك وبين النزوع إلا عزمة صادقة تعزمها فإذا أنت من الناجين.»
قال: «إن العزيمة أثر من آثار الإرادة، وقد أصبحت رجلًا مغلوبًا على أمري، لا إرادة لي ولا اختيار، فدعني يا صديقي والقضاء يصنع بي ما يشاء، وابكِ صديقك القديم منذ اليوم، إن كنت لا ترى بأسًا في البكاء على الساقطين المذنبين!»
ثم انفجر باكيًا بصوتٍ عالٍ وتركني مكاني دون أن يحييني بكلمة، وخرج هائمًا على وجهه لا أعلم أين ذهب، فانصرفتُ لشأني وبين جنبي من الهم والكمد ما الله به عليم.
لم يستطع رئيس الديوان أن يحمل نديمه بالأمس زمنًا طويلًا، فأقصاه عن مجلسه استقلالًا له، ثم عزله عن وظيفته استنكارًا لعمله، ولم تذرف عينه دمعة واحدة على منظر صريعه الساقط بين يديه، ولم يستطع مالك البيت الجديد أن يهمل فيه المالك القديم أكثر من بضعة أشهرٍ ثم طرده منه، فلجأ هو وزوجته وولداه إلى غرفة حقيرة في بيت قديمٍ في زقاق مهجور، فأصبحتُ لا أراه بعد ذلك إلا ذاهبًا إلى الحانةً أو عائدًا منها، فإن رأيته ذاهبًا زويت وجهي عنه، أو عائدًا دنوت منه فمسحت عن وجهه ما لصق به من التراب أو عن جبينه ما سال منه من الدم، ثم قدته إلى بيته.
وهكذا، ما زالت الأيام والأعوام تأخذ من جسم الرجل ومن عقله، حتى أصبح ظلًّا من الظلال المتنقلة، أو حلمًا من الأحلام السارية، يمشي في طريقه مشية الذاهل المشدوه، لا يكاد يشعر بشيءٍ مما حوله، ولا يتقي ما يعترض سبيله حتى يدانيه، ويقف حينًا بعد حين فيدور بعينيه حول نفسه، كأنما يفتش عن شيءٍ أضاعه وليس في يده شيء يضيع، أو يُقلب نظره في أثوابه، وما في أثوابه غير الرقاع والخِرَق! وينظر إلى كل وجهٍ يقابله نظرةً شزراء كأنما يستقبل عدوًّا بغيضًا وليس له عدو ولا صديق، وربما تعلَّق بعض الصبيان بعاتقه فدفعهم عنه بيده دفعًا لينًا غير آبهٍ ولا محتفل، كما يدفع النائم المستغرق عن عاتقه يد موقظه، حتى إذا خلا جوفه من الخمر وهدأت سورتها في رأسه، انحدر إلى الحان فلا يزال يشرب ويتزايد حتى يعود إلى ما كان عليه.
ولم يَزَلْ هذا شأنه حتى حدثت منذ بضعة أشهرٍ الحادثة الآتية: عجزتْ تلك الزوجة المسكينة أن تجد سبيلًا إلى القوت، وأبكاها أن ترى ولدها وابنتها باكيَيْن بين يديها، تنطق دموعهما بما يصمت عنه لسانهما، فلم تَرَ لها بدًّا من أن تَركَب تلك السبيل التي يركبها كل مضطرٍّ عديم، فأرسلتهما خادمَيْن في بعض البيوت يقتاتان فيها ويُقيتانها، فكانت لا تراهما إلا قليلًا، ولا ترى زوجها إلا في الليلة التي تغفل فيها عنه عيون الشرطة، وقلما تغفل عنه، فأصبحت وحيدةً في غرفتها لا مؤنس لها ولا معين إلا جارة عجوز، تختلف إليها من حين، فإذا فارقتها جارتها وخلت بنفسها، ذكرت تلك الأيام السعيدة التي كانت تتقلب فيها في أعطاف العيش الناعم والنعمة السابغة، بين زوج كريمٍ وأولادٍ كالكواكب الزُّهْر حُسنًا وبهاءً، ثم تذكر كيف أصبح السيد مَسُودًا، والمخدوم خادمًا، والعزيز الكريم ذليلًا مهينًا، وكيف انتثر ذلك العقد اللؤلؤي المنظوم الذي كان حليةً بديعة في جيد الدهر، ثم استحال بعد انتثاره إلى حصياتٍ منبوذات على سطح الغبراء، تطؤها النعال وتدوسها الحوافر والأقدام، فتبكي بكاء الواله في إثر قوم ظاعنين حتى تتلف نفسها أو تكاد!
على أنها ما أضمرت قط في قلبها حقدًا لذلك الإنسان الذي كان سببًا في شقائها وشقاء ولديها، ولا حدَّثتها نفسها يومًا من الأيام بمغاضبته أو هجرانه؛ لأنها امرأةٌ شريفه، والمرأة الشريفة لا تغدر بزوجها المنكوب، بل كانت تنظر إليه نظرة الأم الحنون إلى طفلها الصغير، فترحمه وتعطف عليه، وتسهر بجانبه إن كان مريضًا، وتأسو جراحه إن عاد جريحًا، وربما طرده الخَمَّار في بعض لياليه من حانِهِ حينما لا يجد معه ثمن الشراب، فيعود إلى بيته ثائرًا مهتاجًا يطلب الشراب طلبًا شديدًا، فلا تجد بدًّا من أن تعطيه نفقة طعامها، أو تبتاع له من الخمر ما يسكن به نفسه، رحمةً به وإبقاءً على تلك البقية الباقية من عقله.
وكأن الدهر لم يكفِهِ ما وضع على عاتقها من الأثقال، حتى أضاف إليها ثقلًا جديدًا، فقد شعرت في يوم من أيامها بنسمة تتحرك في أحشائها، فعلمت أنها حاملٌ، وأنها ستأتي إلى دار الشقاء بشقيٍّ جديد، فهتفت صارخة: «رحمتك اللهم، فقد امتلأت الكأس حتى ما تسع قطرة واحدة!» وما زالت تكابد من آلام الحمل ما يجب أن تكابده امرأة مريضة منكوبة، حتى جاءت ساعة وضعها، فلم يحضرها أحد إلا جارتها العجوز، فأعانها الله على أمرها فوضعت، ثم مرضت بعد ذلك بحمى النفاس مرضًا شديدًا، فلم تجد طبيبًا يتصدق عليها بعلاجها؛ لأن البلد الذي لا يستحي أطباؤه أن يطالبوا أهل المريض بعد موته بأجرة علاجهم الذي قتله، لا يمكن أن يوجد فيها طبيبٌ محسن أو متصدقٌ، فما زال الموت يدنو منها رويدًا رويدًا حتى أدركتها رحمة الله، فوافاها أجلها في ساعة لا يوجد فيها بجانبها غير طفلتها الصغيرة عالقة بثديها.
في هذه الساعة دخل الرجل ثائرًا مهتاجًا يطلب الشراب ويفتش عن زوجته لتأتي له منه بما يريد، فدار بعينيه في أنحاء الغرفة حتى رآها ممدة على حصيرها، ورأى ابنتها تبكي بجانبها، فظنها نائمة، فدنا منها ودفع الطفلة بعيدًا عنها، وأخذ يحركها تحريكًا شديدًا فلم يشعر بحركة، فرابه الأمر وأحس برعدة تتمشى في أعضائه حتى أصابت قلبه، فبدأ صوابه يعود إليه شيئًا فشيئًا، فأكبَّ عليها يحدق في وجهها تحديقًا شديدًا، ويزحف نحوها رويدًا رويدًا حتى رأى شبح الموت يحدق إليه من عينيها الشاخصتين الجامدتين، فتراجع خوفًا وذعرًا، فوطئ في تراجعه صدر ابنته، فأنَّتْ أَنَّةً مؤلمة لم تتحرك بعدها حركة واحدة، فصرخ صرخةً شديدة وقال: «وا شقاءاه! وا شقاءاه!»
وخرج هائمًا على وجهه يعدو في الطرق ويضرب رأسه بالعُمُد والجدران، ويدفع كل ما يجد في طريقه من إنسان أو حيوان ويصيح: «ابنتي! زوجتي! هلموا إليَّ! أدركوني!» حتى أعيا فسقط على الأرض، وأخذ يفحص التراب برجليه ويئن أنين الذبيح، والناس من حوله آسفون عليه، لا لأنهم يعرفونه، بل لأنهم قرءوا في وجهه آيات شقائه، فكانت تلك اللحظة القصيرة التي استفاق فيها من ذهوله الطويل سببًا في ضياع ما بقي من عقله.
وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى أصبح مقيدًا مغلولًا في قاعة من قاعات البيمارستان. فوا رحمتاه له ولزوجته الشهيدة ولطفلته الصريعة ولأولاده المشردين البؤساء!