الضحية
نشأتْ «مرغريت جوتييه» فقيرةً لا تملك مالًا تشتري به زوجًا، ولا تجد بين الرجال من يبيعها نفسه بلا مال، أو يُحسن إليها بما يسدُّ خلتها، ويستر عورتها، وكان لا بد لها أن تعيش، فلم تجد بين يديها سوى عِرضها، فذهبت به إلى سوق الشقاء والآلام، فساومها فيه بعض المساومين بأبخس الأثمان، فباعته إياه كارهةً مرغمة، وكانت من الخاسرين.
ولقد كان جمالها شؤمًا عليها، فلو أنها كانت شوهاء لوجدت في الناس من يرحمها ويحنو عليها، ولكن الجمال سلعة من السلع النافقة، لا يستطيع صاحبه أن ينال ما في أيدي الناس إن كان فقيرًا معوزًا إلا من طريق المساومة فيه.
لذلك نقمت تلك الفتاة المنكوبة على الرجال جميعًا، وأقسمت أن تتخذ من جمالها — الذي هو مطمع أنظارهم وقبلة آمالهم — آلة انتقامٍ تنتقم بها منهم لعِرضها وشرفها.
ولقد برَّت بيمينها برَّ الوفي بعهده، فعاشرت الرجال ولم تحبهم، ونكبتهم في أموالهم وفي أنفسهم ولم تأسف عليهم، ونظرت إلى دموع الباكين تحت قدميها نظرات الغبطة والسرور، وهي تقول: «ويحٌ لكم يا معشر الرجال! ما كنت أطلب منكم باسم الفضيلة والشرف إلا رغيفًا واحدًا لغدائي وآخر لعشائي، فأبيتموهما عليَّ، فلما طلبت منكم باسم الرذيلة جميع ما تمتلك أيديكم من مالٍ ونَشَب، بذلتموه لي طائعين مختارين، فما أصغر نفوسكم وأخس أقداركم!
ولقد كان في استطاعة أصغركم شأنًا، وأهونكم على نفسه وعلى الناس جميعًا، أن يشتري من جسمي وقلبي وحياتي بلا ثمن سوى سدِّ خلَّتي وصيانة عِرضي فلم تفعلوا، فها هم أولاء اليوم عظماؤكم وأشرافكم يجثون تحت قدمي جثي الكلب الذليل تحت مائدة سيده، فلا ينالون مني أكثر مما ينال منها!
أحببتم المال حبًّا جمًّا، فأبيتم إلا أن تتزوجوا ذات مالٍ لتضموا طارفها إلى تليدكم، فابذلوا اليوم لامرأةٍ مومس لا تمنحكم مالًا ولا حبًّا جميع ما في أيديكم من فضة وذهب، حتى لا يبقى لكم طارفٌ ولا تليد.»
ظهرت «مارغريت» في سماء باريس كوكبًا متلألئًا يبعث الأنوار ويبهر الأنظار، ويملأ أجواز الفضاء بهجة وضياء، فطارت حولها العقول طيران النحل حول الزهر، وسال النضار بين يديها سيلان الجدول المتدفق تحت أشعة الأصيل، وعنت لها الوجوه الكريمة، وتعفَّرت تحت قدميها الجباه الرفيعة، وأصبحت أعناق الرجال في يدها، كأنما قد سلكتهم جميعًا في سلك واحد، ثم أمسكت بطرف السلك تحركه فيتحركون، وتمسك عنه فيمسكون.
وكان شأنها معهم شأن صاحب الكلب مع كلبه، لا يشبعه فيستغني عنه، ولا يجيعه فييأس منه، فكانت تملأ نفس عاشقها أملًا ورجاء، حتى إذا ظن أن قد دنا به حظه، وأن ليس بينه وبين أمله إلا أن يمد إليه يده فيناله، ذادته عند ذود الظامئ الهيمان عن وِرْدِهِ أدنى ما يكون إلى فمه، فإذا علمت أن اليأس قد بلغ من نفسه، وأنه قد أزمع أن يركب رأسه إلى حيث لا مرد له، بعثت وراءه شعاعًا من أشعة ابتسامتها العذبة الخلابة فاستردته إليها صاغرًا مستسلمًا.
وكذلك أصبحت تلك الفتاة الجائعة العارية — التي كانت تعوزها بالأمس اللقمة وتعييها الخرقة — سيدة باريس وصاحبة عرشها، ومالكة أزِمَّة رجالها، وفاجعة قلوب نسائها، والنجم الخالق الذي تبتهل إليه العيون، والسر الغامض الذي تحار فيه الظنون.
ذلك ما يعلمه الناس من أمرها، أما ما تعلمه من أمر نفسها، فهي ترى أن جميع ما يبذله لها من فضة وذهب، وأثاث ورياش، وقصور ودور، وجياد ومركبات، لا يساوي دمعةً واحدة من تلك الدموع التي سكبتها على نفسها يوم باعت عِرضها، وأن جميع هذه اللآلئ والجواهر والأردية والتيجان التي يهبونها، إنما يهبونها لأنفسهم ليتمتعوا بمنظرها فوق جسمها، كما يتمتع صاحب الكلب بمنظر القلادة في عنق كلبه، وما له من ذلك شيء، فكأنما باعت عِرضها بلا ثمن ولا جزاء!
وكانت تخلو بنفسها حينًا فتذكر أن جميع هذه القلوب الطائرة حولها إنما تطير على جمالها لا عليها، وأنها إن حُرمت هذا الجمال ساعةً واحدة انفضَّ الناس جميعًا من حولها، وأصبحت وحيدة منقطعة في هذا العالم، لا يعطف عليها قلب، ولا تبكي عليها عين، فتبكي بكاء الأشقياء على أنفسهم، بل ترى أنها شقية مثلهم؛ لأنها تعاشر من لا تُحب، وتحيا بين قوم لا يُحبونها إلا حبًّا كاذبًا.
وربما مرَّت في بعض غدواتها أو روحاتها بغرفة حارس قصرها وهو جالس بين زوجه وأولاده يمنحهم حبه وإخلاصه ويمنحونه من ذلك مثل ما يمنحهم، فتتمنى أن لو كان حظها من هذه الحياة غرفةً كهذه الغرفة، وزوجًا وأولادًا كهذا الزوج وهؤلاء الأولاد، ثم لا تقترح على دهرها بعد ذلك شيئًا.
وما رآها الناس في يومٍ من أيامها استقبلت في قصرها رجلًا متزوجًا أو خاطبًا، فكانوا يحملون هذا الأمر منها على محمل الأثرة، ويقولون إنها امرأة طامعة لا تحب إلا أن يكون عاشقها خالصًا لها، ولو أنهم عرفوا حقيقة أمرها وألموا بسريرة نفسها، لعلموا أنها امرأة حزينةٌ منكوبة، قد فجعها الدهر في سعادة الزوجية فعرفت قيمتها، فهي لا تحب أن تفجع فيها امرأة غيرها.
لقد تحدث بعض الذين ألموا بشئون حياتها الخاصة أنها وهبت مرتين أو ثلاثًا لبعض الفتيات الفقيرات مهورًا يستعنَّ بها على الزواج ممن يردنَ، فلم يُصدِّق الناس هذا الخبر وقالوا: إن السالب لا يكون واهبًا، وإن ينبوع الخير لا يمكن أن ينفجر في قلوب الناس الفاجرات! ولكن الحقيقة أنها فعلت ذلك، وربما فعلت أكثر منه.
هذا هو قلب «مرغريت»، وهذه هي سريرة نفسها، فهي فتاة فاسدة، ولكنها غير راضية عن فسادها، وساقطة، ولكنها لا تحب أن ترى الفتيات ساقطات مثلها، ولو كان في استطاعة المرأة الساقطة أن تسترجع بتوبتها وإنابتها مكانتها في قلوب الناس، وأن تمحو بصلاحها ما سلف من فسادها، لكانت هي أقرب النساء إلى التوبة والنزوع، ولكن المجتمع الذي أسقطها وسلبها ذلك الرداء من الشرف الذي كانت ترتديه يأبى عليها أن يعيد إليها رداءه إن طلبته، فلا بد لها من الاستمرار في سقوطها راضية أو كارهة، وكذلك كان شأنها.
ولم يمضِ على «مرغريت» في حياتها هذه أكثر من بضعة أعوام، حتى نزل بها مرضٌ حجبها في بيتها عدة أيامٍ، ثم اشتد عليها، فأشار عليها الأطباء أن تذهب إلى حمامات «البانيير» للاستشفاء بمائها وهوائها، فسافرت إليها وحدها لا تصحبها إلا خادمتها، وكان في ذلك المصطاف في هذا العام شيخ من الأثرياء اسمه «الدوق موهان»، حضر إليه مع ابنته — وكانت مريضة بداء الصدر — ليستشفي لها من دائها، فلم يُجْدِهَا العلاج وماتت بين يديه، فدفنها هناك، ولبث بعد موتها عدة أيام يختلف إلى قبرها ويبكيها بكاءً شديدًا.
فإنه لعائدٌ من المقبرة ذات يوم إذ لمح في طريقه «مرغريت» سائرةً وحدها، وكان ذلك اليوم الثاني من وصولها إلى «البانيير»، فدهش لمنظرها دهشة عظمى، وخيِّل إليه أن الله قد بعث له ابنته من قبرها، أو أرسل إليه خيالها ليعزيه عنها، وذلك لمكان الشبه بين صورة هذه الفتاة وصورتها، فتقدَّم نحوها ذاهلًا مشدوهًا وأمسك بطرف ردائها، وظل يحدِّق في وجهها تحديقًا طويلًا، فعجبت لشأنه وسألته ما باله، فقال لها: «هل تأذنين لي يا سيدتي أن أقبِّل يدك؟» فمدت إليه يدها وهي لا تعلم ماذا يريد ولا ما الذي أصابه، فلثمها ثم اعتذر إليها عن جرأته، بذهوله ودهشته، ومشى معها يقص عليها قصته وقصة مصابه في ابنته، وما راعه من الشبه بين صورتها وصورتها، فرثت له، وحزنت لحزنه، واستهلت دمعة رآها الشيخ من خلال أهداب عينيها المبتلة بالدموع، فسقط على يدها يقبِّلها ويشكر لها تلك الدمعة التي جادت بها عليه في ساعة شقائه. ولم يَزَل سائرًا معها حتى وصلا إلى النُّزُل، فودعها ومضى بعدما استأذنها أن يختلف إليها من حين إلى حين، فأذنته بذلك وصعدت إلى غرفتها.
فلما خلت بنفسها أنشأت تفكر في أمر تلك الفتاة المسكينة التي اختطفها الموت من يد أبيها في زهرة صباها من حيث لم يستطع طبيبٌ ولا عائدٌ ردَّ عادية القضاء عنها، ثم خطر لها أنها مريضة بمثل المرض الذي ماتت به، وأنها ربما ماتت موتتها فلا تجد بجانبها أبًا كهذا الأب يندبها ويبكي عليها، فأثَّر في نفسها هذا الخاطر تأثيرًا شديدًا، وبكت له بكاءً طويلًا، ولزمت غرفتها في ذلك اليوم لا تُفارقها.
وظل «الدوق» يختلف إليها بعد ذلك فيجالسها طويلًا، ويجد من الأنس بها والاغتباط بعشرتها ما تسكن له لوعة نفسه كلما شَبَّهَا الوجد في صدره، حتى أصبح لا يستطيع مفارقتها ساعة واحدة، وكأنما لذَّ لها أن يرى ذلك الشيخ الثاكل المنكوب في وجهها سلوته وعزاءه، فمنحته من عطفها وحبها ما لم تمنحه أحدًا من قبله، وأَنِست به أنسًا لم تأنسه بإنسان سواه.
وما هي إلا أيام قلائل حتى أَبْلَتْ من مرضها بعض الإبلال، وعاد إلى وجهها الجميل رونقه وبهاؤه، وإلى ثغرها البديع ابتسامه وافتراره، فلذَّ لها المقام في «البانيير» أيامًا طوالًا حتى شعرت بهبوب رياح الشتاء، فأزمعتِ العودة إلى «باريس»، فشقَّ ذلك على الدوق، وعلم أنها إن عادت إليها لا يظفر منها في ذلك المزدحَم العظيم الحافل بخلَّانها وأصدقائها بمثل ما كان يظفر به منها في «البانيير»، فخلى بها ليلة السفر ساعة وحادثها حديثًا طويلًا انتهى بالاتفاق معها على أن تهجر حياتها الأولى، حياة المخالة والمعاشرة وتعيش في منزل يهيئه لها، ويقوم بنفقاتها فيه على أن تأذن له بالاختلاف إليها من حين إلى حين، ثم سَافَرَا في اليوم الثاني إلى باريس.
ومنذ ذلك اليوم تغيَّرت صورة حياتها عما كانت عليه من قبل، فأصبحت تعيش في قصرها الذي هيأه لها الدوق عيشًا بين العزلة والاختلاط، فلا تستقبل الناس فيه إلا قليلًا، ولا تمتزج مع الذين تستقبلهم الامتزاج كله، وربما مرت بها أيامٌ لا يراها الناس خارج قصرها إلا قليلًا، فإذا خرجت ركبت عربتها وحدها دون رفيق أو رفيقة، ومشت في طريقها تقرأ في كتاب أو صحيفة، فربما مر بها كثير ممن تعرفهم فلا تراهم، فإذا وقع نظرها على واحد منهم ابتسمت له ابتسامةً قصيرة موجزة، قلما يشعر بها أحد سواه، ثم استمرت أدراجها حتى تصل إلى منتزه «الشانزلزيه» فتنزل من عربتها وتمشي في الغابة على قدميها ساعة ثم تعود إلى قصرها، فإذا جاء الليل ذهبت إلى ملعب التمثيل وحدها، أو مع الرجل القائم بشأنها، فتقضي فيه أكثر وقتها ناظرةً إلى المسرح، لا يشغلها كثرة الناظرين إليها أو المتهافتين على مقصورتها عن تتبع فصول الرواية والاهتمام بوقعها حتى تنتهي.
فلم تمضِ عليها أيامٌ كثيرة حتى علم الناس جميعًا أن «مرغريت» قد استحالت حالها، وتغيرت صورة حياتها، وأنها قد قنعت بهذه الحياة الجديدة، حياة الهدوء والسكينة، والوحشة والانفراد، ورضيتها لنفسها، فلا سبيل إلى مغالبتها عليها، فقصرت عنها أطماعهم، وانقطعت منها آمالهم، وظلوا يتلمسون الأسباب لتلك الحالة الغريبة التي طرأت عليها، فذهبوا في شأنها المذاهب كلها إلا المذهب الصحيح منها، وهي أن تلك الحادثة المحزنة التي حدثت لابنة الدوق شبيهتها في صورتها ومرضها قد أثَّرت في نفسها تأثيرًا شديدًا، وصوَّرت لها الحياة بصورة غير صورتها الأولى، فأصبحت تعافُّ الرجال؛ لأنهم سبب سقوطها، وتستنكر سقوطها أكثر مما استنكرته من قبل؛ لأنه سبب مرضها، ولا تأسف على ما فاتها مما في أيدي الناس؛ لأنها تعيش من مال الدوق في نعمة لا يطمع طامعٌ في أكثر منها، وربما خطر بها أن حياتها مع هذا الشيخ الهرم الذي لا يطمع منها في أكثر من أن يراها تشبه حياة العذارى الطاهرات اللواتي ينعمن بنعمة الشرف في ظلال آبائهن، فأعجبها هذا الخيال ولذَّ لها، وكثيرًا ما بكت ذلك الشرف قبل اليوم وحنت إليه.
انقضت أيام الخريف وأقبلت أيام الشتاء، وسالت الأجواء بردًا وقُرًّا، فثار ما كان كامنًا من داء «مرغريت»، وعاد إليها نفثها وسعالها، فظلت تكابد من مرضها آلامًا جسامًا، لا تفارقها يومًا حتى تعاودها أيامًا، فإن ألمت بها لزمت سريرها لا تفارقه، وإن روَّحت عنها برزت إلى الخلاء في بكور الأيام وأصائلها تطلب الهواء الطلق والجو النقي، وربما ذهبت في بعض لياليها إلى ملعب التمثيل لتتفرج ما هي فيه، فتخلو بنفسها في مقصورتها ساعة أو ساعتين، ثم تعود إلى منزلها.
وكانت لا تزال ترى في المقصورة المجاورة لمقصورتها كلما ذهبت إلى الملعب فتًى في زي أبناء الأشراف وشمائلهم، لا يزال يخالسها النظر من حين إلى حين، فينظر إليها إن غضَّت عنه ويغضُّ عنها إن نظرت إليه، ولا يلتقي نظرها بنظره حتى يتلهب وجهه حمرةً ويرفضُّ جبينه عرقًا، كأنما جنى جناية لا مُقيل له منها، فلم تحفل به كثيرًا؛ لأنها لم ترَ في أمره شيئًا جديدًا، إلا أنها كانت تعجب لسكونه وجموده، طول إغضائه وإطراقه، ولتلك العَبرة من الحزن المنتشرة على وجهه، وكان أكثر ما يدهشها منه أو يعجبها أنه الفتى الوحيد الذي كان يبكي في ذلك المجتمع لمنظر المشاهد المحزنة التي تُمثَّل على مسرح التمثيل؛ لأنها تعلم أن الفتيان الفرحين المغتبطين بشبابهم وصحتهم لا يحفلون بمناظر الشقاء الحقيقية، فأحرى ألا يحفلوا بتمثيلها.
فإنها لخاليةٌ بنفسها في مقصورتها ذات ليلة — وكان الجو باردًا مقشعرًّا — إذ فاجأتها نوبة سعالٍ اشتدت عليها كثيرًا حتى كادت تسقط عن كرسيها ضعفًا ووهنًا، فشعرت بيدٍ تمسك يدها، فاعتمدت عليها دون أن تستطيع الالتفات إلى صاحبها حتى بلغت عربتها فركبتها، فشعرت بالراحة قليلًا، فالتفتت لتشكر لصاحب تلك اليد يده، فلم ترَ أمامها أحدًا، ورأت على بعد خطواتٍ منها إنسانًا منصرفًا فلم تتمكن من رؤيته، إلا أنها تخيلت صورته تخيُّلًا، فعجبت لأمره، ومضت في طريقها، فما وصلت إلى منزلها حتى شعرت برعدة الحمى تتمشى في أعضائها، فلزمت سريرها بضعة أيام لا تُفارقه حتى أبلت قليلًا، فقدَّمت إليها خادمتها بطاقات الزيارة التي تركها الفتيان الذين زاروها في أثناء مرضها تجمُّلًا وتَلَوُّمًا، فلم تقرأ واحدة منها.
ثم حدَّثتها الخادمة أن فتًى كان يأتي للسؤال عنها في كل يوم مرة أو مرتين، ولا يذكر اسمه، ولا يترك بطاقته، وأنه كان ينقبض انقباضًا شديدًا كلما أخبرته أنها لا تزال طريحة فراشها تشكو وتتألم، فاستوصفتها إياه، فوصفته لها، فلم تعرفه، وعجبت لأمره كل العجب، وتمنَّت لو رأته فشكرت له هذا الإخلاص النادر، الذي لا عهد لها به في أحد من الناس.
وأمرت خادمتها أن تخبرها خبره إن جاء للسؤال عنها مرة أخرى، فلم يلبث أن جاء، وكانت «مرغريت» جالسة في شرفة المنزل المطلة على الطريق فرأته، فعرفت أنه ذلك الفتى الحزين الذي كانت تراه في المقصورة المجاورة لمقصورتها في ملعب التمثيل، وأنه صاحب تلك اليد التي امتدت لمعونتها ليلة النازلة التي نزلت بها هناك، فأشارت إلى خادمتها بالنزول إليه واستدعائه إليها، ففعلت، فاضطرب الفتى لهذه الدعوة اضطرابًا شديدًا حتى كاد يرفضها، ثم شعر بمكان «مرغريت» من الشرفة فتَلَوَّم ومشى وراء الخادمة، حتى صعدت به إلى غرفة سيدتها، فتركته وانصرفت.
فدخل عليها فحيَّاها ووجهه يرفضُّ عرقًا، ولسانه لا يكاد يبين، فمدت إليه يدها، فتناولها وقبَّلها قبلةً طويلة، عرفت «مرغريت» سرَّ ما أودعها من عواطف قلبه، وهي العالمة بأسرار القُبلات، ثم أذنته بالجلوس، فجلس، فأنشأت تسائله عن نفسه وعن قومه، وعن سبب اهتمامه بشأنها، وتبتسم له فيما بين ذلك ابتسامات تلاطفه بها، وتمسح عن فؤاده ما ألمَّ به من الروع.
فحدَّثها أنه غريبٌ عن «باريس»، وأنه وفد إليها منذ عشرين يومًا من بلدته «نيس» ليقضي فيها ثلاثة أشهر أذن له أبوه بها طلبًا لتغيير الهواء وترويح النفس، ثم يعود في نهايتها إلى وطنه، فسألته: «هل وجدت المقام حميدًا هنا؟»
فصمت هنيهة، ثم نظر إليها نظرة منكسرة، وقال: «لا يا سيدتي.»
قالت: «لماذا؟»
فحارت بين شفتيه كلمة لم يستطع أن ينطق بها، فعاد إلى صمته وإطراقه، فأعادت عليه سؤالها.
فقال لها: «هل تأذنين لي يا سيدتي أن أقول لك كل ما في نفسي؟»
فشعرت بما في نفسه قبل أن يقوله، وقالت له: «قل ما تشاء إلا أن تطارحني حبك وغرامك، فإنني امرأةٌ مريضةٌ لا أستطيع أن أحتمل الحياة وحدها خالصة لا مئونة فيها، فأحرى ألا أحتملها مثقلةً بالحب والغرام.»
فاصفرَّ وجهه اصفرارًا شديدًا، ومد يده إلى دمعة تترقرق في عينيه فمسحها، ثم قال لها: «ذلك ما يحزنني يا سيدتي ويبكيني وينغص عليَّ عيشي، منذ هبطت باريس حتى اليوم، فإنني رأيتك فأحببتك للنظرة الأولى، ثم سألت عنك فعرفت من أمرك كل شيء، وعلمت أنك تعيشين منذ شهور عيشة لا مطمع فيها لطامع ولا أمل لآملٍ، فانقطع أملي منك، إلا أن حبي إياك لم ينقطع، ثم رأيتك بعد ذلك في ملعب التمثيل ورأيت هذا القناع الأصفر الذي نسجتْهُ يد المرض على وجهك الجميل، فاستحال حبي إياك رحمةً وشفقة، وأصبحت أبكي لمرضك أكثر مما أبكي لحبك، وأصبح كل ما أتمنى على الله في حياتي أن أراك بارئةً ناعمة، موفورًا لك حظك من سعادة العيش وهنائه، ثم لا أطمع بعد ذلك في شيء مما يطمع فيه المحبون المغرمون، فأنا أقف الساعة بين يديك لا لأطارحك الحب والغرام؛ بل لأسأل أن تأذني لي بالوقوف على بابك كلما جئتُهُ أسأل خادمتك عنك، ثم أمضي لسبيلي من حيث لا ترين وجهي، ولا تشعرين بمكاني.»
فسَرَتْ في أعضائها رعدة غير الرعدة التي تعرفها من الحمى، وخيِّل إليها أنها تسمع نغمةً في الحب غير التي كانت تسمعها قبل اليوم من أفواه الرجال، فنظرت إليه نظرةً لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، ثم قالت له: «إني آذن لك بذلك يا سيدي، وأشكره لك شكرًا جزيلًا، بل آذنك أن تزورني كلما شئت، على أن تَفِد إليَّ صديقًا مساعدًا، لا محبًّا مغرمًا، فإني إلى الأصدقاء المخلصين أحوج مني إلى المحبين المغرمين.»
ومدت إليه يدها، فعلم أنها قد أذنته بالانصراف، فقبَّلها وانصرف مسرورًا مغتبطًا، فأتبعته نظرها حتى غاب عنها، فسقطت على وسادة بجانبها، وقالت: «رحمتك اللهم، فإني أخشى أن أحبه!»
لقد أحبَّته من حيث لا تدري؛ فإن الخوف من الحب هو الحب نفسه، بل شعرت في حبه بسعادةٍ لم تشعر بمثلها من قبل، فأصبحت تستقبله كل يوم في منزلها، وتأنس به وبحديثه أنسًا كثيرًا، وتفضي إليه بذات نفسها إفضاء الصديق إلى صديقه، وتقصُّ عليه قصة ماضيها وحاضرها لا تكذبه شيئًا ولا تكتم عنه أمرًا، ثم ترامى بها الأمر، حتى أصبحت تشعر بالوحشة إن تخلف عن ميعاد زيارته بضع دقائق، ثم حدث أن انقطع عن زيارتها ثلاثة أيام لأمرٍ عرض له لن يتمكن من إخبارها به، فحزنت لانقطاعه حزنًا عظيمًا، وذهبت بها الوساوس والظنون كل مذهب، ثم ذكرت أن ذلك الحزن وهذا الوسواس ليس من شأنها قبل اليوم، فقلقت لذلك قلقًا شديدًا، وخفق قلبها خفقة الرعب والخوف، وعلمت أنها قد وقفت على حافة الهوة، ولم يبقَ إلا أن تتردى فيها، فسهرت ليلةً طويلة عالجت فيها من نوازع النفس وخوالجها ما عالجت، حتى أصبح الصباح وقد أضمرت في نفسها أمرًا.
جاء «أرمان» في صباح اليوم الرابع، فوجدها طريحة فراشها، وفي عينيها حمرة البكاء والسهر، فارتاع لمنظرها، وقال لها: «لعلك سهرتِ بالأمس كثيرًا يا سيدتي أو بكيتِ، فإني أرى في عينيك أثرَ واحدٍ منهما.»
قالت: «هما معًا يا أرمان.»
قال: «وهل حدث شيءٌ جديد؟»
قالت: «اجلس بجانبي قليلًا أيها الصديق أحدثك حديثًا قصيرًا، وربما كان آخر حديث بيني وبينك، ثم لا أراك بعد ذلك ولا تراني.»
فذعر ذعرًا شديدًا، وداخله من الرعب والهول ما ملك عليه عقله ولسانه، فلم يستطع أن يقول شيئًا، وسقط بجانبها واهيًا متضعضعًا، وظل ينظر إلى وجهها نظر المتهم إلى وجه قاضيه ساعة نطقة بالحكم.
فأقبلت عليه تحدِّثه وتقول: «عرفتك يا «أرمان» فعرفت فيك الرجل الكريم الذي أحبَّني لنفسي أكثر مما أحبني لنفسه، والصديق الوفي الذي امتزجت في قلبه عاطفة الحب بعاطفة الرحمة والحنان، فأوى إليَّ مريضةً حينما جفاني الناس لمرضي، وعاش معي بلا أملٍ حينما انقطع الناس عني لانقطاع أملهم مني، فأضمرت لك في قلبي من الحب والاحترام ما لم أضمره لأحد سواك، وسعدتُ بك سعادةً لم أشعر بمثلها في يوم من أيام حياتي.
ولكن الله الذي كتب لي الشقاء في لوح مقاديره من ضجعة المهد إلى رقدة اللحد لم يشأ أن يمتعني طويلًا بهذه السعادة، وأبى إلا أن يسلبنيها وشيكًا، فقد أصبحتُ أشعر منذ أيام أن تلك العاطفة الشريفة المقدسة التي كنت أستمد منها سعادتي وهنائي قد أخذت تستحيل في أعماق قلبي إلى عاطفة أخرى غيرها لا أريدها لنفسي، ولا أرى إلا أنها ستكون سبب شقائي وبلائي، فخادعت نفسي عنها حينًا، أكذِّبها مرة وأصدِّقها أخرى، حتى كان ما كان من انقطاعك عني تلك الأيام الثلاثة، فشعرت لغيابك بحزنٍ أقلقني وأمضَّني، وملك عليَّ جميع عواطفي ومشاعري، ولو شئت أن أقول، لقلت إنه أبكاني كثيرًا، وأسهرني طويلًا.
فعلمتُ — وا أسفاه — أنني قد أصبحت عاشقة، وأن هذا الذي يختلج في قلبي، ويقيمني ويقعدني، إنما هو الحب والغرام، فقضيت ليلة الأمس كلها أفكر في طريق الخلاص من هذه النكبة العظمى التي نزلت بي، فلم أجد أحدًا يخلصني منها سواك، فأنا أسألك يا «أرمان» باسم الصداقة والود الذي تعاقدنا عليه بالأمس، بل باسم الدموع التي طالما كنت تسكبها رحمة بي وإشفاقًا عليَّ، أن تنقطع عن زيارتي منذ اليوم، وأن تسافر إلى أهلك الليلة إن استطعت، ثم لا تَعُدْ إليَّ بعد ذلك، فأحمل نفسي على الصبر عنك حتى يمنَّ الله عليَّ براحة اليأس منك!»
ثم نظرتْ إليه لترى ما يقول، فإذا هو جامد مصفر، كأن وجهه وجه تمثالٍ منحوت، وإذا عيناه شاخصتان إليها شخوص العين القائمة التي تنظر إلى الشيء ولا تراه، وبعد لأيٍ ما استطاع أن يحرك شفتيه، ويقول لها بصوت خافت كصوت الضمير: «وما يخيفك من الحب يا مرغريت؟»
قالت: «يخيفني منه العقاب الأليم الذي أتوقع أن يعاقبني به الله على ما اقترفت من الذنوب والآثام في فاتحة حياتي، فقد كتب الله لنا — معشر النساء الساقطات — في لوح مقاديره أن لا نزال نعبث بقلوب الرجال وعقولهم ونبتليهم بصنوف العذاب وأنواع الآلام، حتى يغضب الله لهم ويغار عليهم، فيبتلينا بحبٍّ نحمل فيه من العذاب جميع ما حملناه للناس من قبل، ونشقى فيه شقاءً لا ينتهي إلا بانتهاء حياتنا، فنموت بين يدي أنفسنا مهملاتٍ مُغْفَلاتٍ، لا ينعانا ناعٍ، ولا يبكي علينا باكٍ، فهذا الذي أخافه وأخشاه، وأحب أن يسبق إليَّ أجلي قبل أن أراه.
أنا لا أتهمك بالخيانة والغدر يا «أرمان»، فأنت أجلُّ من ذلك عندي، ولكني أعلم أنك باقٍ في هذا البلد إلى أجلٍ، فإذا انقضى الأجل سافرت إلى أهلك سفرًا لا تملك بعده العودة إليَّ، فإن أبيْتَ إلا البقاء بجانبي حال أهلك بينك وبين ذلك؛ لأنهم قومٌ شرفاء يضنون بك وبشرفك أن تلوثهما امرأة مومس بعارها وشَنَارِهَا، فلا تجد لك بدًّا من الخضوع لهم والنزول على حكمهم، وهنالك أقف موقف الحيرة واللوعة أطلب السبيل إليك فلا أجدك، والسلو عنك فلا أستطيعه، وربما حاولت بعد ذلك العودة إلى كنف ذلك الشيخ الكريم الذي أحسن إليَّ إحسانًا كبيرًا؛ فطردني من بين يديه عقابًا لي على خيانة عهده وكفر نعمته، فلا أجد لي بدًّا من الرجوع إلى حياتي الأولى — حياة الشرور والآثام، والهموم والآلام — التي أبغضها بغض الأرض للدم، وهنالك العذاب الدائم والشقاء الطويل!
إني أعلم يا «أرمان» أنك تحبني حبًّا جمًّا، وأنك ستكابد في ابتعادك عني عذابًا كثيرًا، ولكني أعلم أن لك قلبًا شريفًا يحتمل العذاب في سبيل الرحمة، فاحتمل هذا العذاب من أجلي، فإنك أقدر مني على احتمال الآلام والأوجاع، وسأدعو الله تعالى ليلي ونهاري أن يمنحني الصبر عنك، ويرزقني راحة النفس وسكونها من بعدك، وأن يمنحك من ذلك مثل ما يمنحني، فلعله يرحمنا جميعًا.»
فلم يكن له جواب على كلمتها هذه سوى أن نهض من مكانه متضعضعًا متهالكًا ومشى إلى باب القاعة يسوق نفسه سوقًا حتى بلغه، فوقف على عتبته، والتفت إلى «مرغريت»، وألقى عليها تلك النظرة التي يلقيها المحتضر على أهله في آخر لحظات حياته، وقال لها: «الوداع يا مرغريت!» ومضى.
فما غاب شخصه عن عينيها حتى نهضت من فراشها هائمةً مختبلة، واندفعت إلى الباب تريد اللحاق به! ثم تراجعت، ثم حاولت ذلك مرة أخرى، فأدركها رشدها وأَنَاتُهَا، فعادت إلى فراشها تبكي وتنتحب، وتعول إعوالًا شديدًا، وتدور في أنحاء الغرفة دوران الثاكلة المفجوعة، وهي تصيح: «أرجعوه إليَّ، لا أستطيع فراقه، سأموت من بعده.»
وإنها لكذلك إذ سمعت صرخة عظمى آتية من ناحية الحديقة، فخرجت تعدو إلى حيث سمعت الصوت حتى بلغت باب المنزل، فرأت «أرمان» ساقطًا تحت عتبته مغشيًّا عليه، فرفعت طرفها إلى السماء وقالت: «ليكن ما أراد الله.» ثم ألقت نفسها عليه ولثمت ثغره لثمة هي أول لثمة ذاقت فيها لذة العيش في حياتها، فشعر بها «أرمان» فاستفاق، وضمها إلى صدره ضمةً لو مات على أثرها ما بكى على شيءٍ من نعيم الدنيا وهنائها!
انقضى الشتاء فانقضى بانقضائه شقاء «مرغريت» وعناؤها، فقد أبلت من مرضها، وأصبحت سعيدة بحبها، فلم يبقَ بين يديها إلا أن تبلغ من تلك السعادة نهايتها، فاقترحت على «أرمان» أن يتركا «باريس» وضوضاءها، ومزدحم الحياة فيها إلى مصيف يختارانه لنفسهما في بعض الأماكن الخالية، فقبل مقترحها وسافرا معًا يفتشان عن المكان الذي يريدان حتى بلغا قرية «بوجيفال»، وهي ضاحية من ضواحي باريس على بعد ساعتين منها، فوجدا في بعض أرباضها منزلًا صغيرًا منفردًا واقعًا على رأس هضبة عالية في سفح جبل مخضر، تجري من تحته بحيرةٌ صافية بديعة كأنما بناه بانيه لهما، فاكترياه، ونقلت «مرغريت» إليه من منزلها في باريس بعض ما يحتاجان إليه من أثاث ومتاع.
ثم عاشا فيه بعد ذلك عيشًا ناعمًا هنيئًا، لا تضطرب في سمائه غيمة، ولا تمرُّ بصفحته غَبْرة، ولا يكدر عليهما مكدِّرٌ من خواطر الشقاء ووساوسه، فكانا يقضيان نهارهما صاعدَيْن إلى قمة الجبل أو منحدرَيْن إلى سفحه، أو راكبَيْن زورقًا صغيرًا يسبح بهما على صفحة البحيرة جيئة وذهوبًا، أو جالسَيْن تحت شجرةٍ فرعاء تُظللهما من لفحات الهجير وتضمهما إليها كما تضم ثمارها، أو مضطجِعَيْن على بساطٍ من العشب الممتد في تلك البطحاء الفسيحة يتناجيان ويلهوان بمنظر الجمال الماثل في الشاطئ، والأمواه والأخاديد، والوديان والغابات والحرجات، والكهوف والأغوار، والغيوم والسحب والأضواء في تشكلها وتلوُّنها، والظلال في تحوُّلها وانتقالها، وفي رءوس الجبال اللاصقة بجلدة السماء كأنها بعض سحبها، وفي قطع الصخور المبعثرة على جوانب الغدران كأنها بعض أمواجها، وفي تلك المعركة التي تدور في كل يوم مرتين بين جيشي الأنوار والظلمات، فينتظر في صدر النهار أولهما، ثم يُدَال في آخره لثانيهما، حتى إذا جاء الليل، عادا إلى منزلهما فنعما فيه بألوان النعيم وضروبه، ورشفا من كل ثغرٍ من ثغور السعادة رشفةً تسري حلاوتها في قلبهما حتى تصيب صميمه.
مر بهما على ذلك عامٌ كامل، هو كل ما استطاعا أن يختلساه من يد الدهر في غفلته، ثم انتبه لهما بعد ذلك، وويلٌ للسعداء من انتباهه بعد إغفائه! فقد نضب أو أوشك أن يَنْضُب ما كان في يد «أرمان» من المال، وكان في يده الكثير منه، فكتب إلى أبيه يطلب إليه أن يبعث إليه بما يستعين به على البقاء في باريس مدة أخرى، زاعمًا أنه لا يزال مريضًا متألمًا لا يستطيع السفر، وكذلك كان يفعل من حينٍ إلى حين، فلم يأتِهِ الرد، فأقلقه ذلك قلقًا شديدًا، وظل يختلف إلى المدينة في كل يوم، يسأل في فندق «تورين» الذي كان ينزل به قبل اتصاله بمرغريت عن الكتاب الذي ينتظره فلا يجده، فيعود حزينًا منقبضًا، حتى إذا وصل إلى بوجيفال، ورأى «مرغريت» بين يديه، تَطَلَّقَ وتبسَّم كأنه لا يضمر في نفسه همًّا قاتلًا.
ولكن عين «مرغريت» أقدر من أن يُعجزها النفاذ إلى أعماق قلبه، فاكتنهت سره فكاشفته به، وقالت: «لا يحزنك شأن المال يا «أرمان»، فإن عندي منه ما يكفينا العيش معًا سنين طوالًا.»
ولم تكن صادقةً فيما تقول؛ لأن الدوق قاطعها ومنع عنها رِفْدَهُ مذ عرف قصتها مع «أرمان»، وعلم أنها خانته وخانت عهده، بل كانت مدينةً بمالٍ كثير لبعض تجار الجواهر والثياب، بل أصبح دائنوها يتقاضونها ديونهم بعدما علموا أن الدوق قاطعها ونفض يده منها.
ولكنها خاطرت بكلمتها مخاطرةً لم تفكر في عاقبتها، فأكبر «أرمان» ذلك وأعظمه، وأَنِفَ منه أنفةً شديدةً، وأبى أن يعيش معها بمالٍ غير ماله، وعزم أن يسافر إلى «نيس» ليأتي منها بالمال الذي يريده، فأزعجها عزمه هذا إزعاجًا شديدًا، وخافت عاقبته، فجثت بين يديه تستعطفه وتسترحمه، وتبذل في ضراعتها ورجائها في سبيل بقائه أكثر مما بذلت قبل اليوم في سبيل رحيله، حتى أذعن واستقاد، ورضي بالتي لم يكن يرضى بمثلها لولا لهفة الحب وضراعة الدموع، وقد أضمر في نفسه أن يتنازل لها عن نصيبه في الميراث الذي ورثه من أمه مكافأةً لها ووفاءً بحقها، فلم يكن لمرغريت بعد ذلك بُدٌّ من أن تمد يدها إلى جواهرها وذخائرها، فأنشأت تبيع القطعة بعد القطعة لتسد بعض دينها، وتقوم بنفقة بيتها، من حيث لا يعلم «أرمان»، واستمرا على ذلك بضعة أشهرٍ، حتى دخل عليهما في يوم من الأيام في ساعات أنسهما وصفائهما خادم فندق «تورين» الذي كان ينزل به «أرمان» في باريس، وقال له إن والده قد وصل الساعة إلى الفندق، وإنه ينتظره هناك.
قال «دوفال» لِوَلَدِهِ: «لقد كذبت عليَّ كثيرًا يا «أرمان»، وما كنتَ قبل اليوم كذابًا ولا خادعًا، ورضيتَ لنفسك بحياةٍ كنتَ أضنَّ الناس بنفسك على مثلها من قبل، ومزقتَ بيدك ذلك القناع الجميل من الحياء الذي لا يزال مسبلًا على وجهك، وأصبحت تتبذل في العيش مع امرأة عاهرةٍ، كل ما لها من الشأن عند نفسها وعند الناس جميعًا أنها نفايةٌ من نفايات الرجال، وفضلةٌ من فضلات الفسَّاق، وفتات المائدة العامة التي يجلس عليها الناس جميعًا صباحهم ومساءهم. فحسبك هذا، وقم الساعة لتعدَّ نفسك للسفر معي إلى «نيس»، فلستُ بتاركك بعد اليوم في هذا البلد ساعة واحدة.»
فرفع «أرمان» رأسه إلى أبيه وقال له بصوت هادئ مطمئن: «لا أستطيع يا أبتاه!»
فنظر إليه أبوه نظرة شزراء، وقال له: «وتلك سيئةٌ أخرى، فقد أصبحتَ لا تعبأ بي، ولا تبالي بمخالفة أمري من أجل امرأةٍ ساقطة، لا شأن لها معك إلا أن تعبث بعقلك، وتسلبك مالك وشرفك، وتفسد عليك حاضرك ومستقبلك.»
قال: «لا يا أبتاه، إنها ليست بعابثةٍ ولا خادعة، ولكنها تحبني حبًّا جمًّا لم يحبه أحدٌ من قبلها أحدًا، وأحسب أني إن فارقتُها قتلتُها، وجنيت عليها جناية لا يُفارقني الندم عليها حتى الموت.»
قال: «ذلك ما يَخْدَعُ به أمثالُها أمثالَك، فليس للنساء العاهرات قلوبٌ يحببن بها، بل لهن ألسنٌ يختلن بها الرجال ويسبلنها حُجُبًا بين بعضهم وبعض، حتى يظن كل واحد منهم أنه الأثير عندها، وصاحب الحظوة لديها من دون أصحابه جميعًا.»
قال: «ربما كان ذلك شأنها قبل اليوم، أما اليوم فهي لا تحب أحدًا غيري، بل لا تعرف أحدًا سواي، فهي تعيش عيشةً تشبه عيشة النساء الشريفات، بل أشرف من عيشة الكثيرات منهن؛ لأن الخليلة التي تخلص لخليلها أشرف من الزوجة التي تخون زوجها، وأخشى إن فارقتها أن تثور في نفسها ثورة اليأس فتردها إلى تلك الحياة الأولى، حياة الشر والفساد، والشقاء والعذاب، بعدما استنقذت نفسها!»
قال: «وهل ترى أن وظيفة الرجل الشريف في هذه الحياة إصلاح النساء الفاسدات؟»
قال: «ذلك خير له من أن تكون وظيفة إفسادهن؛ فإن الأشراف في هذا العصر يفخرون بإفساد النساء الصالحات، واستدراجهن إلى مواطن الفسق والفجور، وإصلاح المرأة الفاسدة أدنى إلى الشرف من إفساد المرأة الصالحة.»
قال: «لقد أصبحت كثير الرحمة يا أرمان!»
قال: «لِمَ لا أرحم فتاةً مريضةً مسكينةً ليس لها في الناس من يعولها من ذي قرابةٍ أو ذي رحم، وقد نزل داؤها من صدرها منزلة لا يبرحها ولا يتحلل عنها، إلا أن يهدأ عنها حينًا ويستيقظ أحيانًا، فهي تكابد الألم مرةً، والخوف من الألم أخرى؟ ولا عزاء لها في حالتيها إلا هذه السعادة التي تتوهمها في الحب، وترى أنها ناعمة بها، فإن فقدتها فقدت كل شيءٍ في الحياة، وعظم حزنها وبؤسها، وثقلت وطأة الداء عليها حتى كادت تأتي على البقية الباقية من حياتها، فدعني معها يا أبتاه عامًا آخر أو عامين أهوِّن عليها فيهما شقاءها، فربما كان ذلك آخر ما قُدِّر لها أن تقضيه من أيامها في هذا العالم، ثم أعود بعد ذلك إليك هادئ القلب، ساكن الضمير، راضيًا عن نفسي وعن عملي، أبكيها بدموع الحزن لا بدموع الندم، ويُهوِّن وجدي عليها كلما ذكرتها أنني لم أَخُنْهَا ولم أغدر بعهدها.»
فأطرق «دوفال» هنيهة كأنما يعالج في نفسه همًّا معتلجًا، ثم رفع رأسه، ونظر إلى ولده نظرةً تشبه نظرة العطف والرحمة، وقال له: «لا أستطيع أن أسافر بدونك يا بني، فحسبي ما كابدتُ من الألم لفراقك قبل اليوم، وقد تركتُ أختك ورائي تندبك وتبكي عليك صباحها ومساءها، وتحن إلى لقائك حنين الظامئ إلى الوُرُود، واعلم أن جميع ما تعتذر به عن نفسك في هذا الشأن لا يغني عنك ولا عني شيئًا يوم يقول الناس كلمتهم التي لا بد أن يقولوها غدًا، وربما قال كثير منهم قبل اليوم إن «أرمان دوفال» سلالة آل تاليراند يعيش مع امرأة مومس في بيت واحد! فَعُدْ إلى نفسك يا بني واستلهم الله الرشد يلهمك، ولا تجعل لهواك سبيلًا على عقلك، ودع هذه الحياة الساقطة التي يحياها من ليست له همةٌ مثل همَّتك، ولا مجد ولا بيت مثل مجدك وبيتك، وإني تاركك الآن وحدك وذاهبٌ عنك لبعض شأني لتخلو بنفسك ساعة تسترد فيها ما عَزَبَ عنك من صوابك، ثم أعود إليك بعد قليل لأسمع منك الكلمة التي أرجو أن تكون شفاء نفسي ورواء غُلَّتي.»
ثم تركه ونزل، فمشى إلى قهوة قريبة من الفندق فكتب فيها لبعض الناس كتابًا خاصًّا، ثم طاف ببعض أصدقائه الذين يعرفهم في باريس، فزارهم زيارة طويلة، فلم يعد إلى الفندق حتى أظل الليل، فرأى «أرمان» لا يزال في مكانه، فسأله ماذا رأى، فلم يجبه إلا بدموعه تنحدر على خديه تحدُّر القطر على أوراق الزهر، وجثا بين يديه يستعطفه ويسترحمه ويكشف له من خبيئة نفسه ما كان يكتمه من قبل، قال: «والله يا أبتِ لو علمتُ أني أستطيع الحياة بدونها لفارقتها بِرًّا بك وإيثارًا لطاعتك، ولكني أعلم أني إن فعلت فقد وضعت أمري في موضع الغَرَر، وخاطرت بعقلي أو بحياتي مخاطرةً لا أعلم ماذا يكون حظي فيها، ولا أحسبه إلا أسوأ الحظين، وأنحس النجمين، ولو أن أحدًا من قبلي استطاع أن يدفع هواه عن قلبه أو يمحو ما قُدِّر له في صحيفة قضائه من شقاء الحب وبلائه لسلكت سبيله التي سلكها، ولكنه بلاءٌ بُليت به لِحَيْنٍ أُريد لي، فلا رأي لي في ردِّه، ولا حيلة لي في اتقائه، وقد نزلت هذه الفتاة من نفسي منزلةً هي منزلة الحياة من الجسم، والغيث من التربة القاحلة، فإن كنتَ لا بد آخذي فخذ معك جسمًا هامدًا لا حراك به، ونبتة ذاوية لا حياة فيها!»
فوضع أبوه يده على عاتقه، وقال له: «قم الآن يا بني واذهب لشأنك، وعد إليَّ صباح الغد لأتمم حديثي معك، وأرجو أن تكون في غدك خيرًا منك في أمسك.»
فخرج محزونًا مكتئبًا يمشي مشية الذاهل المشدوه، لا يرى ما أمامه ولا يشعر بما حوله حتى رأى عربةً، فركبها إلى «بوجيفال» حتى بلغها بعد هدأة من الليل، فلم يَرَ «مرغريت» في شرفة البيت تنتظره كعادتها، فدخل عليها غرفتها فرآها مكبةً على منضدة بين يديها كأنما هي نائمة أو ذاهلة، فشعرت به عند دخوله، فنهضت مذعورة متلهفة، فخُيِّل إليه عند نهوضها أنه لمح في يدها رسالة تضم عليها أصابعها، فظنها بعض تلك الرسائل التي كان يرسلها إليها المركيز «جان فيليب» من حين إلى حين، وهو فتى من أبناء الأشراف الأثرياء كان يحبها في عهدها الأول حبًّا شديدًا، وينفق عليها أموالًا طائلة، فلما انقطعت عنه لم ينقطع منها أمله، فظل يرسل إليها رسائل كثيرة يعرض فيه حبه وماله، ويُمنِّيها الأماني الحسان في عودتها إليه، واتصال حياتها بحياته، فكانت تمزقها عند اطلاعها عليها أو على عنوانها.
فلم يحفل «أرمان» بذلك ومشى إليها فقبَّلها، فقالت له: «ماذا يا أرمان؟»
قال: «أرادني أبي على السفر معه فأبيتُ، وبكيت بين يديه كثيرًا فلم أنل منه منالًا، وقد أمرني بالعودة إليه غدًا ولا أريد أن أفعل؛ لأني لا أحسب حظي منه في الغد خيرًا منه اليوم، وقد أصبحتْ نفسي تحدثني بعصيانه، والبقاء هنا على الرغم منه؛ لأني أعلم أني قد تجاوزت السن التي يحتاج فيها الأبناء إلى إرشاد الآباء، ولأني لا أعرف أحدًا بين الناس يستطيع أن يرسم لي خطة سعادتي كما أرسمها لنفسي.»
ثم أنشأ يقص عليها قصته مع أبيه حتى أتمها، ونظر إليها فإذا هي مطرقةٌ صامتة، وإذا وجهها أصفر مربدٌ كأنما قد نفض الموت عليه غباره! فقال: «ما بالك يا مرغريت؟»
قالت: «أشعر بألمٍ شديد في رأسي وأريد الذهاب إلى مخدعي.»
فأخذ بيدها إليه، وجرَّعها بضع قطراتٍ من الدواء، فاستفاقت قليلًا، ثم نامت في مخدعها نومًا مشردًا مذعورًا، تتخلله أناتٌ طويلةٌ وأحلام مزعجة، حتى أصبح الصباح، فقالت له: «أرى لك يا «أرمان» أن تعود إلى أبيك كما أمرك، وأن تعاود استرحامه واستعطافه لعلك بالغٌ منه اليوم ما عجزت عنه بالأمس، إني لا أكون راضيةً عن نفسي، ولا هانئةً بحياتي إن لم يكن أبوك راضيًا عنك.»
ولم تَزَل به حتى أذعن لها وقام إلى ثيابه فارتداها، ثم مشى إليها وضمها إلى صدره ضمة شديدة، كأنما يضنُّ بها أن ينتزعها من ذراعيه منتزِعٌ، ثم قبَّلها وقال لها: «إلى المساء يا مرغريت.» فلم ترد عليه تحيته حتى أبعد عنها، فقالت بينها وبين نفسها: «أرجو أن يكون كذلك.» وتهافتت على كرسي بين يديها باكية منتحبة.
ولم يزل «أرمان» سائرًا في سبيله حتى وصل إلى «باريس»، فذهب إلى فندق «تورين» فلم يجد أباه هناك، ووجد رسالة تركها له قبل ذهابه يأمره فيها أن ينتظره حتى يعود، فلبث ينتظره وقتًا طويلًا حتى عاد بعد منتصف النهار، وقد رقَّت قليلًا تلك الغمامة السوداء التي كانت تلبس وجهه بالأمس، فتقدم نحوه «أرمان» فحياه، فقال له: «لقد فكرتُ ليلة أمس في أمرك كثيرًا يا بني فرأيت أني قد قسوت عليك وغلوت في أمرك غلوًّا كبيرًا، ونظرت إلى مسألتك بعين أقصر من التي كان يجب عليَّ أن أنظر إليها، فإن للشباب شأنًا غير شأن الكهولة والشيخوخة، وحالًا خاصةً به، لا يخرج عن حكمها شريفٌ ولا وضيع، ولا يختلف فيها سوقةٌ عن ملكٍ، فلك أن تبقى يا بني كما تشاء، وأن تعاشر الفتاة التي تحبها كما تريد، على أن تعدني بالعودة إليَّ في اليوم الذي تنقطع فيه الصلة بينك وبينها انقطاع حياةٍ أو موتٍ، فإني إن أمنتُ عليك شرها فلا آمن عليك شر غيرها من النساء.»
فاستُطِيرَ «أرمان» فرحًا وسرورًا، وأهوى على يد أبيه يقبِّلها ويبللها بدموعه، ويقول: «أعدك بذلك يا أبتاه وعدًا لا أُخالفه، ولا أَخِيسُ به، ولك حكمك ما تشاء إن رأيتني بعد اليوم كاذبًا أو حانثًا.»
ثم نهض يريد الذهاب، فقال له: «أين تريد؟»
قال: «أريد الذهاب إلى «مرغريت» لأبشرها بهذا النبأ وأمسح عن فؤادها ما ألم به من الروع منذ الأمس.» فانتفض أبوه انتفاضة خفيفة لم يشعر بها «أرمان»، ثم أدار وجهه ليغالب دمعةً كانت تترقرق في عينيه.
ثم التفت إليه وقال: «ابقَ معي يا بني فربما سافرتُ غدًا، ولا أعلم بعد ذلك متى أراك.»
فبقي معه اليوم كله حتى جاء الليل، فاستأذنه في الذهاب إلى «بوجيفال» فأذن له، فحياه وخرج، فأتبعه نظره حتى غاب عن عينيه، فانحدرت من جفنه تلك الدمعة التي كان يحبسها من قبل، وقال: «وا رحمتاه لك أيها الولد المسكين!»
حمل «أرمان» بين جنبيه آماله وآمال «مرغريت» وسعادتهما التي يرجوانها في مستقبل حياتهما، وطار بها إليها ليقاسمها إياها حتى دنا من «بوجيفال»، فأدهشه أن رأى البيت مظلمًا ساكنًا لا يضطرب فيه شعاع، ولا يتراءى فيه ظل، فمشى إلى الباب فرآه مُرْتَجًا، فوضع أذنه على خَصَاصِهِ، فلم يسمع حركة، فأخذ يقرعه قرعًا شديدًا، ويهتف باسم «مرغريت» مرة واسم «برودنس» أخرى، فلم يُجِبْهُ أحد، فقال في نفسه: «لعلها ذهبت إلى بيتها في «باريس» لبعض شأنها واستصحبت خادمتها، ولا بد أن تعود الآن.»
فجلس على صخرة أمام باب المنزل ينتظرها حتى مضت هدأةٌ من الليل فلم تعد، فحدَّثته نفسه بالعودة إلى «باريس» للبحث عنها في مظانِّ وجودها، ثم منعه من ذلك خوفه أن يسلك في ذهابه طريقًا غير الطريق التي تسلكها في عودتها، فاستمر في مكانه يقعد مرةً ويقوم أخرى، ويقف حينًا ويتمشى أحيانًا، ويحدث نفسه بكل حديث يمر بخاطر القَلِق المرتاع، إلا حديث خيانتها وغدرها.
ولم يزل في حيرته واضطرابه حتى رأى جَذْوَةَ الفجر تدب في فحمة الظلام، فساء ظنه، وانتشرت عليه وساوسه وأوهامه، وقال في نفسه: «ما لمرغريت بدٌّ من شأن، ولا بد لي من المسير إليها والنظر في الشأن الذي شغلها!» وكان القلق والسهر قد أخذا مأخذهما من جسمه ونفسه من حيث لا يشعر، فمشى في طريقه إلى «باريس» يترنح ترنح الشارب الثمل حتى وصل إلى منزل «مرغريت» وقد علا صدر النهار.
فرأى حارس المنزل قد استيقظ من نومه ووقف بفأسه على شجرة الحديقة يشذب أغصانها، فسأله عن مرغريت، فقال: «إنها حضرت هنا بالأمس في منصرف النهار ووراءها خادمتها تحمل حقيبةً كبيرة فصعدت إلى المنزل فلبثت فيه ساعةً ثم نزلت، وقد لبست ثوبًا من أثواب الولائم، فأعطتني كتابًا، وقالت لي إذا جاء هنا المسيو «أرمان» للسؤال عني فأعطه إياه، ثم ركبت عربتها هي وخادمتها وانصرفت.»
قال: «ألا تعلم أين ذهبت؟»
قال: «أحسب أني سمعتها تقول للحوذي عند ركوبها: إلى منزل المركيز جان فيليب.»
هذا آخر ما بيني وبينك يا «أرمان»، فلا تحدث نفسك بمعاودة الاتصال بي، ولا تسألني عن السبب في ذلك، فلا سبب عندي إلا أني هكذا أردت لنفسي، والسلام.
فعلق نظره بالكتاب ساعة لا يرفع طرفه عنه، ولا يقرأ منه حرفًا، كأنما هو تمثال من تماثيل الحديقة، وكان الحارس قد عاد إلى شجرته يشذب أغصانها، ويتغنَّى في صعوده إليها وانحداره عنها بقطعة من الشعر الغرامي يعجبه لحنها وإن كان لا يفهم معناها.
فإنه لكذلك إذ سمع صوت جسمٍ ثقيلٍ قد سقط على الأرض، فرمى بفأسه وهرع إلى ناحية الصوت، فرأى «أرمان» صريعًا معفرًا تحت عتبة الباب، ففزع فزعًا شديدًا وظنها الصرعة الكبرى، فأهوى بأذنه إلى صدره، فسمع ما بقي من دقات قلبه، فاطمأن قلبًا، وعمد إلى جرَّةٍ بين يديه فأخذ ينضح بمائها وجهه، ويدِّلك براحة يده صدره وصدغيه حتى استفاق بعد قليل، ففتح عينيه فرأى الحارس جالسًا بجانبه، ورأى الكتاب لا يزال في يده، فدار بعينيه حول نفسه، فمرت بخاطره في الحال ذكرى مصرعه القديم في هذا المكان عينه منذ خمسة عشر شهرًا، يوم ألقت «مرغريت» بنفسها عليه ورسمت على ثغره أول قبلة من قبلات الحب، فهاجته تلك الذكرى وصاح: «ما أبعد اليوم من الأمس!»
وأنشأ يبكي بكاء الطفل الذي حيل بينه وبين ثدي أمه، حتى بكى الحارس لبكائه، وأقبل عليه يعزيه عن مصابه، ويهونه عليه حتى هدأ قليلًا، فأمره أن يستدعي له عربة ففعل، فقام يتوكأ على يد الحارس حتى بلغها فركب وقال للسائق: «إلى فندق تورين.» فسارت به العربة إليه، حتى إذا لم يبقَ بينه وبينه إلا منعطف واحد مرت بجانبه عربةٌ فخمة مرور البرق الخاطف، تحمل رجلًا وامرأة لم يتبينهما للنظرة الأولى، ثم راجع صورتهما في خياله فإذا هما «جان فيليب ومرغريت»، وكانت مركبته قد وصلت به إلى الفندق، فدخل على أبيه هائمًا مختبلًا، فقال: «ما دهاك يا بني؟!»
قال: «قد خانتني يا أبتاه!»
قال: «ذلك ما أنذرتك به من قبل يا بني.»
ثم انقضى النهار، وجاء الليل فقضاه «أرمان» ساهرًا في مخدعه يراجع فهرس حياته مع «مرغريت» صفحة صفحة، ويستعرض في نفسه جميع أطوارها وشئونها، فلم تبقَ حركةٌ من حركاتها، ولا كلمةٌ من كلماتها، ولا صورةٌ من صور أعمالها، كان يراها بالأمس حسنةً من حسنات الإخلاص والوفاء، إلا رآها اليوم سيئةً من سيئات الخديعة والمكر، حتى وصل في مراجعته إلى الأمس واليوم الذي قبله.
فذكر عدم انتظارها إياه في شرفة البيت كعادتها يوم عاد إليها من مقابلة أبيه، وشدة احتفاظها بكتاب المركيز في يدها عندما دخل عليها غرفتها وضنها به ضنًّا شديدًا، ولم تكن تفعل ذلك من قبل، وإعراضها عن التبسط معه في الحديث بعدما قص عليها قصته مع أبيه، وزعمها أنها مريضةٌ خائرة لا تستطيع البقاء معه، وإلحاحها عليه في صباح اليوم الثاني إلحاحًا شديدًا في العودة إلى مقابلة أبيه واستعطافه، وقولها إنها لا تكون راضية عن نفسها ولا هانئة بعيشها إن لم يكن أبوه راضيًا عنه، فاستنتج من هذا كله أنها مذ شعرت بفراغ يده من المال وأن أباه إما يحول بينه وبينها وإما أن يقتِّر عليه الرزق تقتيرًا، ملَّته واجْتَوَتْهُ، وفكَّرت في سبيل الخلاص منه، ولم تزل تنتظر ما يأتيها به القدر حتى أتاها بكتاب المركيز، فكان هو طريق خلاصها.
ولم يَزَل هائمًا ما شاء الله أن يهيم في تصوراته وأوهامه حتى غلبته عيناه، فهجع قليلًا، ثم استيقظ في الصباح فدخل على أبيه في مخدعه، وقال له: «لي عندك أمنيةٌ يا أبتاه لا أريد غيرها، وأريد أن أبتاعها منك بخضوعي لك ونزولي على حكمك أبد الدهر فيما سرَّني أو ساءني، فهل لك أن تُبلغنيها؟»
قال: «وما هي؟»
قال: «أريد أن تعطيني الساعة خمسة عشر ألف فرنك.»
قال: «وما تريد منها؟»
قال: «أحب أن أستأثر بهذا السر لنفسي من دون الناس جميعًا حتى من دونك.»
أما وقد عرفت أنني كنت أعيش مع امرأةٍ عاهرة ساقطة لا عهد لها ولا ذمام، فها هي ذي أجرة لياليك الماضية مرسلةٌ إليك.
ثم خرج ليعدَّ نفسه للسفر، فقضى اليوم كله خارج الفندق، ثم عاد إليه دُبُر النهار؛ فوجد فيه كتابًا باسمه ففضَّ ختامه، فإذا الأوراق التي أرسلها إلى «مرغريت» عائدة إليه كما هي وليس معها كلمة واحدة، فحاول أن يعيدها إليها مرة أخرى، فمنعه أبوه من ذلك وقال له: «قد وعدتني ألا تخالفني في أمرٍ، فلا بد لك من الإذعان.» فأذعن ثم سافرا معًا تلك الليلة إلى «نيس».
كذلك قضى الله أن يفترق ذلك الصديقان الوفيان والعاشقان المخلصان، فعاد الفتى إلى أحضان أبيه، وعادت الفتاة إلى حياتها الأولى التي كانت تأباها الإباء كله، وتخافها الخوف الشديد، وفي نفس كل منهما من الوجد بصاحبه والحسرة عليه ما لا تَنِيهِ، ولا تنتقص منه السنون والأعوام.
الأشقياء في الدنيا كثير، وأعظمهم شقاءً ذلك الحزين الصابر الذي قضت عليه ضرورةٌ من ضروريات الحياة أن يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه فيودعها هناك، ثم يغلق دونها بابًا من الصمت والكتمان، ثم يصعد إلى الناس باشَّ الوجه باسم الثغر متطلقًا متهللًا، كأنه لا يحمل بين جنبيه همًّا ولا كمدًا.
ذلك كان شأن «مرغريت» بعد عودتها إلى حياتها الأولى، فقد أصبحت تعيش مع الناس بصورةٍ غير الصورة التي تعيش بها مع نفسها، أما حياتها مع الناس فحياةٌ ضاحكةٌ لاعبةٌ مرحةٌ وثَّابةٌ، تضيء المجامع والمحافل، وتملأ الأنظار والأسماع، فإذا ضمها مخدعها وخلا لها وجه الليل مرَّت أمام عينيها صورة تلك الساعات السعيدة التي قضتها بجانب «أرمان».
ثم ذكرت أنها قد أفلتت من يدها إفلات الطائر من يد صائده، وصارت بعيدة عنها بُعد الشمس عن يد متناولها، وأنها قد أصبحت تعيش بين أقوامٍ لا تعرفهم، ولا تجد في نفسها لذة الأنس بهم، ثم لا تجد لها بدًّا من مُمَاذَقَتِهم والتحبُّب إليهم والتجمُّل لهم بما يريدون ويشتهون، فتقبل الأفواه التي لا تشتهيها، وتعتنق القامات التي لا تطيق رؤيتها، وتشرب مع كل شارب، والشراب يحرق أحشاءها، وترقص مع كل راقص، والرقص يمزق أوصالها، وتضحك ضحكات السرور من قلبٍ باكٍ، وتنشد أناشيد الهناء من فؤادٍ محترق.
فكأنها في يد الناس العُودُ في يد المغني يقطع أوتاره ضربًا ليطرب لنغماته، أو الزهرة في يد المقتطف يعصر أوراقها عصرًا لينعم بشذاها، فتهيجها ذكرى ذلك الماضي السعيد، وهذا الحاضر الشقي، فتطلق السبيل لزفراتها وعبراتها يصعد منها ما يصعد، وينحدر ما ينحدر، حتى تشتفي نفسها، فتقوم إلى خزانة ملابسها فتستخرج منها صورةً تضعها بين سحرها ونحرها، ثم تأوي إلى مضجعها فتجد برد الراحة في صدرها؛ لأنها صورة «أرمان».
ولم تَزَل تكابد من الشقاء في تلك الحياة الساقطة وآلامها ما لا طاقة لمثلها باحتمال مثله، حتى استيقظ في صدرها داؤها القديم بعدما نام عنها حينًا من الدهر، فهزل جسمها، وشحب لونها، وغاض ماء ابتسامتها، وانطفأ شعاع نظراتها، وشغلها شأن نفسها عن شأن المركيز، فلم يلبث أن ملَّها وفارقها، واستبدل بها أخرى غيرها، ثم اختلف عليها من بعده الأخلَّاء الرفقاء، فكان شأنهم معها شأنه، لا يلبث أحدهم أن يعرفها حتى يهجرها، فكسدت سلعتها في سوق الجمال، وطمع فيها من لم يكن يطمع قبل اليوم في لثم مواطئ أقدامها، وخلت منها المجامع والمحافل، ثم خلت من ذكرها وحديثها، وأعوزها المال إعوازًا شديدًا، فمدت يدها إلى ما كان باقيًا عندها من جواهرها ولآلئها فباعته، فلم يفِ بدَيْنها، فطلبت المعونة من كثير من أصدقائها الماضين، فأرسل إليها قليلٌ منهم القليل منها، فلم يغنِ عنها شيئًا.
واختلفت إليها جرائد الحساب يطلب أصحابها سداد ما فيها، فدافعتهم عنها حينًا ثم عجزت، فحجزوا على جميع مقتنياتها وذخائرها وأثات بيتها ورياشه، ولَؤُمُوا في مقاضاتها لُؤْمًا ضاعف حزنها ومرضها، وقضى على بقية ما كانت تضمره في نفسها من الأمل في الحياة والسعادة فيها، فنسيت العالم خيره وشره، والحياة سعادتها وشقاءها، وأصبحت لا تفكر إلا في أمرٍ واحد تقوم وتقعد به ليلها ونهارها، وهو أن ترى «أرمان» ساعة واحدة قبل موتها، ثم تذهب إلى ربها.
تعالَ إليَّ يا «أرمان» راضيًا كنت أو غاضبًا، فإنني مريضةٌ مشرفةٌ على الموت، وأحب أن أراك قبل موتي، لأفضي لك بسر الذنب الذي أذنبته إليك فيما مضى، والذي لا تزال واجدًا عليَّ بسببه حتى اليوم، فلعلك تعفو عني في ساعتي الأخيرة فيكون عفوك ورضاك هو كل ما أتزوَّده من هذه الحياة لقبري، واذكر يا «أرمان» أن أول عاطفةٍ جمعت بيني وبينك وألَّفت بين قلبي وقلبك، كانت عاطفة الرحمة والشفقة، فها هي ذي الفتاة المريضة المسكينة التي رحِمتَها بالأمس وعطفتَ عليها قبل أن تحبها تدعوك اليوم أن ترحمها وتعطف عليها، وإن تكن قد سلوتها. أما كتابك الذي كتبته إليَّ قبل سفرك فقد اغتفرتُ لك كل ما فيه، حتى قولك إنني كنت كاذبةً في حبك، طامعةً في مالك؛ لأني أعلم أن المرأة التي تكذب الناس في حبها طول حياتها لا يمكن أن تجد من يصدقها إذا صدقت فيه، وعدلٌ من الله كل ما صنع.
ثم لبثت تنتظر حضوره أيامًا طوالًا فلم يأتِ، فأحزنها ذلك حزنًا شديدًا، وساء ظنها به، ووقع في نفسها أنه قد سَلَاهَا واطَّرَحَهَا، وأصبح لا يعبأ بها، ولا يبالي بحياتها أو موتها، وسعادتها أو شقائها، وكانت مخطئة فيما ظنت، فإن «أرمان» لم يطلع على الكتاب الذي أرسلته إليه مذ فارقها في العام الماضي وسافر إلى «نيس»، ولم يستطع البقاء فيها إلا أيامًا قلائل، ثم ملكه الضجر وأحاطت به الوحشة، وضاقت في وجهه مذاهب السلوى، فاستأذن من أبيه أن يسافر إلى بعض بلاد المشرق ترويحًا عن نفسه وتفريجًا من كربته، فأذن له، فسافر إلى الإسكندرية فأقام بها بضعة أشهر كاتَبَ أباه فيها قليلًا، ثم تركها وأخذ يتنقل في أنحاء البلاد لا ينزل ببلد حتى يطير به الضجر إلى غيره، فانقطعت رسائله عن أبيه، فأصبح لا يعلم مكان وجوده.
فلما أرسلت «مرغريت» إليه كتابها في «نيس» قرأه أبوه وحفظه عنده ولم يستطع أن يرسله إليه، و«مرغريت» لا تعلم بشيءٍ من ذلك، فحزنت لخيبة أملها حزنًا شديدًا، ودبَّ اليأس في قلبها دبيب الموت في الحياة، ووقع في نفسها أنها ستخرج من الدنيا فارغة اليد من كل شيءٍ حتى من هذه الأمنية التي بقيت في يدها من بين جميع آمالها الضائعة.
فتَنَكَّرَ شأنها، واستحالت حالها، ولجأت إلى صمتٍ طويل لا تقول فيه خيرًا ولا شرًّا، وأصبحت تنظر إلى نفسها وإلى ما يحيط بها من الأشياء كأنها تنظر إلى شيءٍ تنكره ولا تعرفه، فربما دخل عليها طبيبها وهي في أشد حالات ألمها فلا تشكو له ألمًا، أو سمعت ضوضاء الدائنين وصخبهم في فناء المنزل فلا تسأل ماذا يريدون!
وكانت إذا شعرت بقليلٍ من الراحة والسكون ركبت عربتها إلى «بوجيفال» فزارت البيت الذي قضت فيه أيام سعادتها الذاهبة، وكان لا يزال باقيًا على الصورة التي تركته عليها يوم فارقته، ومرَّت بغرفه وقاعاته، وجلست في كل مكانٍ كانت تجلس فيه مع «أرمان»، وأشرفت من كل نافذة كان يشرف منها معها، وقبَّلت جميع آثاره وبقاياه، ولثمت الكأس التي كان يشرب بها، والزهرة التي كان يحبها، والقلم الذي كان يكتب به، والكتاب الذي كان يقرأ فيه.
فإذا نال منها التعب جلست على بعض المقاعد لتأخذ لنفسها راحتها، فربما طار بها خيالها إلى ذلك العهد القديم، فتمثَّل لها أن «أرمان» جالس تحت قدميها يسرد عليها حادثة من حوادث طفولته في «نيس»، أو يبثها ما يضمره لها في نفسه من الوجد والغرام، فتبتسم لحديثه ابتسام السعيد الهانئ، وتستشعر في نفسها لذةً لا يشعر بمثلها إلا المتقون في جنات النعيم، ثم تفتح عينها فلا ترى أمامها غير الوحشة والسكون، والوحدة والانفراد، فتبكي ما شاء الله أن تفعل، ثم تعود إلى بيتها في «باريس»، فتجلس على كرسيها بجانب منضدتها وتناجي «أرمان» في مذكراتها بجميع ما تحدثها به نفسها، كأنه حاضرٌ بين يديها يراها ويسمعها!
(١) مذكرات مرغريت
١٥ ديسمبر سنة ١٨٥٠
أرمان: لم تكتب إليَّ ولم تأتِنِي، كأنما ظننت أني أريد أن أستعيد معك عهد الماضي، وأين أنا من ذلك العهد؟! فلو رأيتني لرأيت امرأة ذاهبةً مدبِرة لا تصلح لشأنٍ من شئون الحياة، ولم يبقَ فيها من صورتها الماضية إلا كما بقي من الزهرة الساقطة عن غصنها بعدما عصفت الريح بأوراقها، وكل ما كنتُ أريده منك أن أراك بجانب فراشي في ساعتي الأخيرة؛ لأعتذر لك عن ذنبي الذي أذنبته إليك، ثم أنظر إليك نظرة وداع أغمض عليها جفني وأذهب بها إلى قبري.
سيدتي:
أريد أن أقابلك غدًا في منزلك من الساعة العاشرة صباحًا في شأن خاص بي وبك، وأريد ألا يكون «أرمان» حاضرًا تلك المقابلة ولا عالمًا بها، ولا بأني أرسلت هذه الرسالة إليك، ولي من حسن الرأى فيك ما يُطمعني في أن يكون ما سألتك إياه سرًّا بيني وبينك حتى نلتقي، والسلام.
فلما قرأتها علمتُ ماذا يريد من تلك المقابلة، وشعرتُ بما وراءها، بل علمتُ بما دار بينك وبينه من الحديث، وأنك امتنعت عليه حتى يئس منك، فحاول أن يدخل عليك من بابي، فحدَّثتني نفسي أن أرفض مقابلته، وأن أكاشفك بكل شيءٍ، ثم استحييتُ من نفسي، وأكبرتُ أن يعتمد عليَّ رجل شريف كأبيك في كتمان سرٍّ بسيطٍ كهذا السر فلا يجدني عند ظنه، وطمعتُ في أن أنال منه عند المقابلة ما يطمع أن يناله مني، فكتمتكَ أمر الرسالة، وكتمتكَ ما في نفسي منها، ولم أكن كاذبةً في شكاتي وألمي حينما قلت لك في تلك الليلة إنني لا أستطيع البقاء بجانبك، وسألتك أن تقودني إلى مخدعي، فقد قضيت في فراشي بعدما فارقتك ليلةً لم أقضِ مثلها في جميع ما مر بي من ليالي الهموم والأحزان، حتى أصبح الصباح فألححت عليك أن تذهب لمقابلة أبيك، وأنا أعلم أنك إن ذهبت إليه لا تراه، ولا تنتفع بمقابلته إن رأيته، ولكني خفت أن يزورني فيراكَ عندي فأصغر في عينيه، ولا أَشَدَّ عليَّ من ذلك.
وما هي إلا لحظات قليلة حتى وصل إلى «بوجيفال» في الموعد الذي ضربه في كتابه، فاستأذن عليَّ فأذنت له، فدخل، فرأيت في عينيه جمرةً من الغضب تلتهب التهابًا، فلم أحفل بها، ودعوته للجلوس فلم يفعل، ولم يحيِّني بيده، ولا بلسانه.
وكان أول ما استقبلني به قوله: «ماذا تريدين أن تصنعي بولدي أيتها السيدة؟» وظل ناظرًا إليَّ نظرًا جامدًا ساكنًا لا يطرف ولا يختلج! فعجبت لمدخله الغريب، ونظراته المترفعة، ولهجته الجافة الخشنة، وامتعضتُ في نفسي امتعاضًا شديدًا حتى كدت أقول له — ولا أكتمك ذلك: «تذكر يا سيدي أنك في منزلي، وأنني لم أدعُكَ إلى زيارتي، بل أنت الذي دعوتَ نفسك بنفسك.»
ثم ذكرت مكانه منك فأمسكت عن كل شيءٍ، حتى عن الجواب على سؤاله، فمشى يضرب الأرض بعصاه وبقدمه حتى دنا مني، وألقى عليَّ تلك النظرة التي اعتاد الأشراف المترفعون أن يلقوها في طريقهم على وجوه النساء العاهرات، وقال: «لقد أنفق ولدي عليك جميع ما كان بيده من المال، وكان في يده الكثير منه، ثم جميع ما أرسلته إليه بعد ذلك، وقد أرسلت إليه فوق طاقتي، فلم يبقَ في استطاعته أن يمدك بأكثر مما أمدكِ، ولا في استطاعتي أن أستنزل له من السماء ذهبًا يمطره عليك، فدعيه وشأنه، فالبلد مملوءٌ بالأبناء الذين لا يحتاج آباؤهم إليهم والذين لا يحتاجون إلى أنفسهم، أما أنا فإني في حاجة إلى ولدي؛ لأني لم أُرزق ولدًا سواه، ومن كانت بيده هذه الثروة من الجمال التي تملكينها لا يضيق به مذهبٌ من مذاهب العيش، ولا يتلوى عليه مأربٌ من مآرب الحياة.»
فسَرَتْ كلماته في نفسي سريان الحمى في عظام المحموم، وخُيِّل إليَّ أن هذا الماثل أمامي لا يحدِّثني، إنما يجرِّعني السمَّ بيده تجريعًا، وشعرتُ بذلةٍ لم أشعر بمثلها في يوم من أيام حياتي، إلا أنني تجلَّدت واستمسكت ورددت نفسي على مكروهها، وقلت له بصوت هادئ ساكن لا يمازحه غضبٌ ولا نزق: «لا يا سيدي، نعم إنني أحب ولدك، ولكني لا أطمع فيه، ولو كان الذي يعنيني منه الطمع في ماله لفارقته منذ ثلاثة أشهرٍ؛ أي منذ خلت يده من المال وأصبح لا يجد السبيل إليه بحالٍ من الأحوال، بل لفارقته قبل ذلك؛ لأن الذين لا يزالون يُساومونني في نفسي من أشراف هذا البلد ونبلائه منذ اتصلتُ به حتى اليوم أفضل منه وأكثر رغدًا، على أن ولدك لم ينفق عليَّ من هذا المال الذي تذكره إلا النزر القليل، وربما أنفق باقيه على نفسه، ولو استطعتُ أن أرفض ذلك القليل وآبَاهُ لفعلت، ولكني كنت أضنُّ به أن يداخل نفسه ما يريبها أو يؤلمها، فقبلتُ منه هداياه الصغيرة التي كان يقدمها إليَّ من حين إلى حين إرعاءً عليه، وإبقاءً على عزة نفسه وكرامتها، ولو أن ما كان بيده من المال انتقل إلى يدي — كما تقول — لأصبحت غنيةً موفورةً لا أحمل همًّا من هموم العيش، ولا أعاني من بأساء الحياة وضرَّائها ما أعانيه اليوم!
فإنني لو تبيَّنتَ أمري امرأةٌ فقيرةٌ معوزةٌ لا أملك من متاع الدنيا إلا حُلَاي ومركبتي وأثاث بيتي، وليتها كانت خالصةً لي، فقد أمتدت يد الضرورة إليها منذ عهد قريب، فأصبح الكثير منها سلعةً في يد المرابين، ولا أعلم ما يأتي به الغد، وإن أبيتَ إلا أن تعرف ذلك بنفسك فسأطلعك على ما كتمته عن الناس جميعًا حتى عن ولدك.» ثم قمت إلى خزانة أوراقي، فجئته منها بالصكوك والوثائق المشتملة على بيع ما بعت من جواهري، وخيولي وأثاث بيتي، ورهن ما رهنت منها، فظل يقلبها بين يديه ساعة، ويتأمل في تاريخها طويلًا، ثم طواها وأعادها إليَّ مطرقًا صامتًا لا يقول شيئًا، ومد يده إلى كرسي بين يديه فاجتذبه إليه وجلس عليه معتمدًا برأسه على عصاه، وقد هدأت في نفسه تلك الثورة التي كانت تضطرم وتعتلج منذ دخوله، وطارت عن وجهه تلك الغبرة السوداء التي كانت تظلله من قبل.
فعدتُ إلى حديثي معه أقول: «على أنني يا سيدي غير شاكية ولا ناقمة، فقد مرَّ بي من نوب الأيام وأرزائها ما محا من نفسي كل شهوة من شهوات الحياة، وأنساني جميع مظاهر الدنيا ومفاخرها، فأصبحتُ لا أبالي بما تأتي به الأيام، وسواءٌ لدي الفقر والغنى، والحلي والعُطْل، وسكنى القصر وسكنى الكوخ، وركوب المركبة وركوب النعل.
وكل ما أرجو من حياتي وأضرع إلى الله وإليك فيه، أن أرى «أرمان» يُقاسمني همَّ الحياة وبؤسها، ويعينني على شدتها ولأوائها حتى يقضي الله في أمري بما هو قاضٍ.
فإن كان في الأجل فسحةٌ قضيتها في شكرك وحمدك، والإخلاص لك في سري وعلني، وإن كانت الأخرى كان آخر ما أنطق به في ساعتى الأخيرة أن أدعو لك الله تعالى ضارعة مبتهلة أن يبارك لك في نفسك، وفي أهلك، وأن يسبل ستره الضافي عليك في حاضرك ومستقبلك!»
ثم جثوت بين يديه وتعلَّقت بأهداب ثوبه، وقد عجزت في تلك الساعة عن أن أملك من دموعي ما كنت مالكةً من قبل، فظللت أبكي، وأقول: «رحماك يا مولاي، إنني امرأةٌ بائسة مسكينة قد قضت عليَّ بعض ضرورات العيش في فاتحة حياتي أن أقف على حافة تلك الهوة التي يقف على رأسها النساء الجائعات، فسقطت فيها كارهةً مرغمةً، ثم أردتُ نفسي على الرضا بتلك الحياة التي قدرها الله لي فلم أستطع، فأصبحت في منزلة بين المنزلتين، لا أنا شريفة أنعم بعيش النساء الشريفات، ولا ميتة القلب أسعد سعادة الفتيات الساقطات، وقد وجدتُ في ولدك الرجل الوحيد الذي أحبَّني لنفسي، ومنحني من وده وإخلاصه ما ضنَّ به عليَّ الناس جميعًا، فأنست به أنسًا أنساني سقوطي وعاري، وحَبَّبَ إليَّ الحياة بعدما أبغضتها وبرمت بها، وكدتُ أقضي على نفسي بالخلاص منها، فلا تحرمني جواره، ولا تفرِّق بيني وبينه، فإنك إن فعلت أشقيتني وبرَّحت بي، وملأت حياتي همًّا وكمدًا، وأنت أجلُّ من أن ترضى لنفسك بأن تبني سعادتك وهناءك على شقاء امرأة مسكينة مثلي.
ماذا يكون مصيري غدًا إذا أصبحتُ وحيدةً منقطعة في هذا العالم لا صديق لي ولا معين؟ أأعود إلى حياتي التي أبغضها وأخشاها، فأعود إلى جرائمي وآثامي؟ أم أقتل نفسي بيدي فرارًا من شقاء الدنيا وبلائها، فأختم حياتي بأقبح مما ختم امرؤٌ به حياته؟ لا أستطيع واحدةً من هاتين، فامدد إليَّ يدك البيضاء وأنقذني من هذه الهوة العميقة التي لا يستطيع أحد أن ينقذني منها سواك.
أنا أعلم أنك في حاجة إلى ولدك، وأنك أولى به من كل مخلوق على وجه الأرض، ولكني أعلم أنك شفيقٌ رحيم لا تأبى أن تتصدق على امرأةٍ مريضة بائسة مثلي بساعات من السعادة تتعلل بها في مرضها الذي تكابده حتى يوافيها أجلها، لا أسألك يا سيدي مالًا ولا نسبًا ولا عَرَضًا من أعراض الحياة، بل أسألك أن تأذن لأرمان بالبقاء معي، فإن في بقائه بقاء حياتي وسعادتي، فتصدق بهما عليَّ إنك من المحسنين.»
وهنا شعرت كأنه يتحرك في كرسيه، فخفق قلبي، خفقانًا شديدًا، ثم رفع رأسه ونظر إليَّ نظرة أهدأ نارًا وأقصر شعاعًا من نظرته الأولى، وقال: «ومن أين تعيشان؟»
قلت: «عندي بقية من جواهري وحلاي سأبيعها وأعيش بثمنها معه في زاوية من زوايا «باريس» عيش الفقراء المقلِّين، لا يرانا أحد، ولا يشعر بوجودنا شاعر، وحسبنا الحب سعادةً نغنى بها عن كل سعادة في هذا العالم وهناء.»
قال: «ذلك هو الشقاء بعينه، فإن الحب نباتٌ ظِلِّيٌّ تقتله شمس الشقاء الحارة، وكل سعادة في العالم غير مستمدة من سعادة المال أو لاجئة إلى ظلاله فهي كاذبة لا وجود لها في سوانح الخيال.
أنتما اليوم سعيدان لأن في يدكما مالًا تعيشان به، ولأنكما تسكنان هذا المنزل البديع، فوق هذه الهضبة العالية، بجانب هذه البحيرة الجميلة، فإذا خَلَتْ يدكما من المال وحرمتما هذا النعيم الذي تنعمان به شقيتما وشغلكما شأن نفسيكما عن شأن الحب ولذائذه، وسرى إلى نفسيكما الضجر والملل، وربما امتدت تلك السآمة بينكما إلى أبعد غايتها.
إن للحب فنونًا من الجنون، وأقبح فنونه أن يعتقد المتحابان أن حبهما دائم لا تغيره حوادث الأيام، ولا تنال منه الصروف والغِيَر، ولو عقلا لعلما أن الحب لون من ألوان النفس، وعَرَضٌ من أعراضها الطائرة، تأتي به شهوة وتذهب به أخرى، ولا يذهب به المثل، مثل الفاقة إذا اشتدت واستحكمت حلقاتها، فإن النفس تطلب حياتها وبقاءها، قبل أن تطلب لذائذها وشهواتها!
أنا أعلم من شأن ولدى يا سيدتي ما لا تعلمين، وأعلم أنه لا يستطيع أن يعيش هذه العيشة النكداء التي تظنين، وهو فتى فقير لا يملك من الدنيا إلا قطعة صغيرة من الأرض ورثها عن أمه لا تغني عنه ولا عنك شيئًا، وما أنا بذي ثروة طائلة أستطيع أن أحفظ له بها زمنًا طويلًا هذا العيش السعيد الرغد الذي يعيشه اليوم في «باريس»، فلم يبقَ بين يديه إلا أن يعيش بمالك، وهو ما لا أرضاه له ولا يرضاه لنفسه، واسمحي لي يا سيدتي أن أقول لك إن جميع مصائب الدنيا وأرزائها أهون عليَّ وعليه من أن يقول الناس إن خليلة أرمان دوفال قد باعت جواهرها وحلاها التي أهداها إليها عشاقها الماضون لتنفق ثمنها عليه.
سامحيني يا بنيتي، واغتفري لي حدتي وخشونتي، فإن شديدًا جدًّا على والدٍ شيخٍ مثلي أن يرى ولده الذي وضع فيه كل آمال بيته يهوي أمام عينيه في هذه الهوة السحيقة التي لا قرار لها دون أن يطير قلبه خوفًا وهلعًا.
إنه مذ عرفك نسيني ونسي أخته، فلا يذكرني ولا يذكرها، وقد مرضتُ منذ شهورٍ مرضًا أشرفت فيه على الموت، فكتبتُ إليه أن يأتي ليعودني فلم يفعل، ولم يردَّ على كتابي؛ أي إنني كنت على وشك أن أموت ولا أراه، ولو تم ذلك لذهبت إلى قبري بحسرةٍ لم يحمل مثلها في صدره راحلٌ عن الدنيا قبلي!
أنت صادقةٌ يا سيدتي في قولك إنه لم ينفق عليك جميع ما كان بيده من المال؛ لأنني علمت بالأمس أنه قامر منذ عهد قريب، وخسر في مقامرته كثيرًا، كما علمت أنك لا تعلمين شيئًا من ذلك، فما يؤمنني إن أنا تركته في هذا البلد ألا يستمر في هذه الغواية الجديدة التي خطا الخطوات الأولى في طريقها، ولا يخسر في بعض مواقفه خسارة عظمي؟ لا أجد لي بدًّا من أن آخذ بيده فيها، فأقدم إليه ذُخْرَ شيخوختي، ومهر ابنتي، فنهلك نحن الثلاثة في يوم واحد.
من أين لك يا بنيتي أنه إن طال عهده بك لا يَمَلُّكِ، ولا تمتد عينه إلى امرأةٍ سواك، فتكون فجيعتك فيه غدًا شرًّا من فجيعتك فيه اليوم؟ ومن أين له أنك لا تضيقين ذرعًا يومًا من الأيام بعيشة الوحشة والوحدة فتحنين إلى حياتك الأولي، حياة الأنس والاجتماع، والضوضاء واللَّجَب، وهو فتى غيورٌ مستطارٌ، فربما أَنِفت نفسه أن يزاحمه فيك مزاحمٌ، وربما امتدت يده بشرٍّ إلى ذلك الذي يزاحمه، فتنازلا، فأصابته من يد مُنازله ضربةٌ تقضي على حياته وتفجعني فيه؟
كيف يكون موقفك يا سيدتي غدًا إن نفذ فيه هذا السهم من القضاء أمام هذا الأب الثاكل المسكين إذا جاءك يسألك عن دم ولده؟ وكيف تكون آلام نفسك ولواعجها أمام مشهد بكائه وتفجعه؟»
ثم ارتعش ارتعاشًا شديدًا، وظل نظره حائرًا مضطربًا كأنما يُخَيَّل إليه أنه يرى أمام عينيه ذلك المنظر الذي يتحدث عنه، ثم سكن قليلًا، ونظر إليَّ نظرة هادئة مملوءة عطفًا وحنانًا، وأنشأ يقول: «مرغريت، أنت أعظم في عيني مما كنتُ أظن، وأكرم نفسًا من أولئك النساء اللواتي يزعمن أنك واحدةٌ منهن، وقد وجدتُ فيك من فضائل النفس ومزاياها ما لم أجده إلا قليلًا في أفذاذ الرجال، وأقل من القليل في فضليات النساء، ولو قُسِّم الشرف بين النساء على مقدار فضائلهم وصفاتهم لكان نصيبك منه أوفر الأنصبة وأوفاها.
لا أنسى لك يا «مرغريت» ما دمت حيًّا كتمانك أمر الكتاب الذي أرسلته إليك، واحتفاظك بسره في ساعة تنفرج فيها الصدور عن مكنوناتها، ولا سكوتك وإغضاءك — وأنتِ في منزلك وموضع أمرك ونهيك — أمام حدَّتي وخشونتي وجنون غضبي، ولا بَذْلَكِ ما بَذَلْتِ من ذات نفسك وذات يدك لولدي — من حيث لا يعلم — وفاءً له وإبقاءً على عزة نفسه وكرامتها!
لقد كانت ضَحِيَّتُكِ التي قدمتها لولدي بالأمس عظيمة جدًّا، واليوم جئتك أطلب إليك أن تقدمي ضحيةً أعظم منها لابنتي، ولا معتمد لي أعتمد عليه في تلبية رجائي عندك إلا شرف نفسك وفضيلتها.
لقد تركت «سوزان» ورائي تتقلب على فراش المرض، وتكابد منه فوق ما يحتمل جسمها الناشئ الغض؛ لأن خطيبها الذي تحبه حبًّا جمًّا قد هجرها منذ شهرين فلا يزورها ولا تراه، وقد كنت أجهل قبل اليوم سبب مرضها إلا الظن والتقدير، حتى سهرتُ بجانب فراشها ليلة كانت الحمى فيها قد نالت منها منالًا عظيمًا، ووصلتْ بها إلى درجة الخبل والهذيان، فسمعتها تهتف باسم خطيبها مراتٍ كثيرة، وتبكي كلما جرى ذكره على لسانها كأنها حاضرة مستفيقة، فعلمتُ موضع دائها، وذهبت في اليوم الثاني إلى والد ذلك الخطيب أسأله عما راب ولده من أمر ابنتي وقطعه عن زيارتها، فذكر لي سببًا غريبًا لك فيه يا سيدتي بعض الشأن، فإن أذنتِ لي حدثتك حديثه.»
فخفق قلبي خفقانًا شديدًا، وأحسست بالشر يدنو مني رويدًا رويدًا، إلا أنني تماسكت وقلت له: «نعم آذن لك يا سيدي.» قال: «لقد أجابني الرجل على سؤالي بقوله: «إن أسرتي أسرةٌ شريفة لا تُصاهر إلا أسرةً شريفةً مثلها من جميع وجهها، وقد عرفتُ أسلوب المعيشة السافلة التي يعيشها ولدك في «باريس»، إنه يُعاشر منذ عهد طويل امرأةً مومسًا معروفة هناك معاشرةَ تهتُّكٍ وتبذُّل يشهدها الناس جميعًا، ولا أسمح لنفسي أن يكون مثل ولدك في تبذله واستهتاره، وصغر نفسه وفُسُولَتِهَا صهرًا لولدي ولا عارًا على بيتي.» فاستقبلت خشونته وجفاءه بصبرٍ واحتمالٍ؛ لأن الخوف على ابنتي شغلني عن الغضب لنفسي، وقلت له: «أواثقٌ أنت مما تقول؟» فأدلى لي بما أقنعني، فلم أرَ بدًّا من أن أُسَلِّمَ له بصواب ما فعل، وسألته ألا يبتَّ في أمر الخطبة شيئًا حتى أسافر إلى «باريس» وأعود منها.
ذلك ما حملني على المجيء إلى «باريس»، وهذه هي قصتي التي جئت أعرضها عليك، وأنتظر حكمك فيها، وقد كتمتها عن الناس جميعًا حتى عن ولدي «أرمان»، فانظري ماذا تأمرين؟»
وهنا أطرق برأسهً طويلًا، ثم رفعها، فإذا عَبرة تترقرق في عينيه، وإذا هو يحاول الكلام فلا يستطيعه، فرحمتُهُ مما به، وأعظمتُ مصابه حتى نسيتُ مصابي بجانبه، وساد السكون بيننا ساعةً لا يقول لي شيئًا، ولا أدري ماذا أقول، حتى هدأ ثائره قليلًا، فمد يده إلى يدي فأخذها بين ذراعيه، وعاد إلى حديثه يقول: «مرغريت، إن حياة ابنتي بين يديك، فامنحيني إياها تتخذي عندي يدًا لا أنساها لك حتى الموت.
إنني لا أستطيع أن أراها تموت بين يدي، ولم تم ذلك لمتُّ على أثرها حزنًا وكمدًا، وضمَّنا في يومٍ واحدٍ قبرٌ واحد؛ لقد رأيت مصرع أمها منذ خمس سنين، ولا يزال أثره باقيًا في نفسي حتى اليوم، ولا أستطيع أن أرى هذا المشهد مرة أخرى في ابنتها وصورتها الباقية عندى من بعدها.
إنني أحبها حبًّا جمًّا، ولا أستطيع أن أراها في ساعة من ساعاتها حزينة أو مكتئبة، فكيف أن أراها تُعالج سكرات الموت؟!
إنك لا تعرفينها يا «مرغريت»، وأعتقد أنك لو رأيتها لأحببتِهَا كما أحبها، ولرحمتِهَا كما أرحمها، ولفديتِهَا بما تستطيعين رأفةً وإشفاقًا عليها.
إنها جميلةٌ جدًّا، وبيضاء مثل الكوكب، وطاهرة طهارة الملك، وغريرة غرارة الطفل، فاسمحي لهذه الحياة الغضة الزاهرة بالبقاء والسعادة، فإنها لا تستحق الشقاء.
إنها اليوم تعيش بالأمل الذي أودعته قلبها يوم سفري، فإن عدت إليها بالخيبة عدت إليها باليأس القاتل والقضاء النازل!
إنك تحبين «أرمان» يا «مرغريت»، وقد أصبحت أعتقد أنك مخلصةٌ في حبه إخلاصًا عظيمًا، فاصنعي ما يصنع المحبون المخلصون، وضحِّي حبك من أجله ومن أجل مستقبله، فإلا تفعلي ذلك من أجله فافعليه من أجلي.
لقد قلتِ لي إنه الرجل الوحيد الذي أحبك لنفسك أكثر مما أحبك لنفسه، فبادليه هذا الحب، بل كوني خيرًا منه فيه، وليكن عزاؤك عما تلاقيه بعد فراقه من حزن وألم أنه قد أصبح سعيدًا من بعدك، وأنكِ قد أنقذتِ من يد الموت فتاةً مسكينة، ومن يد الشقاء شيخًا حزينًا.» وهنا اختنق صوته بالبكاء فهبط من على كرسيه بين يدي، وقال بنغمة المشرف المحتضر: «ارحميني يا «مرغريت» واشفقي على ضعفي وشيخوختي، وتصدقي عليَّ بمستقبل ولدي وحياة ابنتي.»
ثم لم يستطع أن يقول بعد ذلك شيئًا، فألقى رأسه على كرسيه الذي كان جالسًا عليه وانفجر باكيًا.
آه لو رأيتني يا «أرمان» في موقفي هذا، ورأيت لوعتي وتفجعي ودموعي المنهمرة على خدي انهمار الدِّيَمةِ الوَطْفَاء رحمةً بأبيك وإشفاقًا عليه!
لقد كان يتكلم فتسيل مدامعي مع حروفه وكلماته، كأنما هو ينشد مرثية محزنة، أنا المبْكِيَّة عليها فيها!
إن العظيم عظيمٌ في كل شيء، حتى في أحزانه وآلامه، فلقد كان يُخيل إليَّ وأبوك يبكي بين يدي وينتحب أن كل دمعة من دموعه تستنزل غضب الله على الأرض، وكل زفرة من زفراته تلتهب بها آفاق السماء.
لقد أكبرتُ في نفسي جدًّا أن يجثو مثل هذا الشيخ الشريف الطاهر بين يدي فتاة ساقطة مثلي، واستحييتُ من ذلك حياءً تمنيتُ معه أن لو انشقت الأرض تحت قدمي فسِخْتُ فيها أبد الدهر.
وبينما هو مطرق صامت أخذت أفكر فيه وفي مصابه، وفي قصته التي قصها عليَّ، وفي الشأن الذي لي فيها، فعلمت أني قد أصبحت شؤمًا على هذه الأسرة السعيدة جميعها، أبيها وابنها وابنتها، فثقلت نفسي عليَّ، وسمج منظرها في عيني، حتى خيل إليَّ أنها لو كانت حاضرة بين يدي لرميت بها من حالقٍ إلى حيث لا يجمعني وإياها مكان بعد اليوم.
ثم قلت في نفسي: إن حياتي الماضية التي قضيتها في الشرور والآثام قد قطعت عليَّ طريق الشرف، فلا حق لي في أن أطمع في حياة الشرفاء، ولا أن أنازعهم سعادتهم وهناءهم، وإن الإثم الذي اقترفتُهُ في ماضيَّ قد أثمته وحدي، فلا بد لي أن أستقل بعبئه دون أن ألقيه على عاتق أحدٍ غيري، فإن كان مقدَّرًا عليَّ أن أموت موت النساء الساقطات، فذلك لأنني امرأةٌ ساقطة، أو ألاقي في مستقبل حياتي شقاءً وآلامًا، فذلك لأن المستقبل نتيجة الماضي وثمرته الطبيعية.
هنا ذكرتك يا «أرمان»، وذكرت فراقك وكيف أستطيعه، وذكرت أنا التي سأتولى قتل نفسي بيدي؛ لأن الطريق التي لا طريق غيرها إلى بلوغ رضا أبيك وموافاة رغبته أن أقاطعك وأغاضبك، وأظهر أمامك بمظهر الخائنة الغادرة، وربما اضطررت إلى الاتصال بغيرك على مرأى منك ومسمع، حتى تنصرف عني انصراف يائسٍ مغلوبٍ على أمره من حيث لا يكون لأبيك مدخل في ذلك، فأكون قد جمعتُ على نفسي بين فراقك وغضبك في أنٍ واحد، وذكرت أن لا بد لي متى فارقتُكَ أن أعود إلى حياتي الأولى التي أبغضها وأمقتها؛ لأن الدوق «موهان» لم يستطع أن ينسى ذنبي الذي أذنبته إليه حتى اليوم، ولأني في حاجة إلى بسطةٍ من العيش أستعين بها على معالجة مرضي ووفاء ديني، فدارت هذه الخواطر في رأسي ساعة، وطالت دورتها حتى كادت تغلبني على أمري، ثم وقع نظري على وجه أبيك المخضل بدموعه، فتجلدتُ وجمعتُ أمري ومضيتُ قدمًا لا ألوي على شيءٍ مما ورائي.
لقد كان شديدًا عليَّ جدًّا أن أفارقك يا «أرمان»، ولكن كان أشد عليَّ منه أن أرى أباك يبكي بين يدي، وأن أكون سببًا في موت أختك أو شقائها.
إنني أحب يا «أرمان» وأعرف آلام الحب ولوعته في النفوس، ولقد كان يُخيل إليَّ وأبوك يحدثني عن أختك وشقائها أنني أراها من خلال دموعي طريحة فراشها، وهي تمد يدها إليَّ ضارعة متوسلة تقول: أنقذيني يا سيدتي وارحمي ضعفي وشبابي. فأجد لكلماتها من الأثر في نفسي ما لا يستطيع أن يشعر به إلا من كان له شأنٌ مثل شأني.
إنني حُرِمت في مبدأ حياتي السعادة الزوجية وهناءها، ولقيت بسبب ذلك من الشقاء ما لا أزال أبكيه حتى اليوم، فلا يهيج حزني ولا يستثير كامن لوعتي مثل أن أرى بين الناس فتاةً محرومة السعادة مثلي.
إنني أحب وهي تحب، ولا بد لواحدةٍ منا أن تموت فداءً عن الأخرى، فلأَمُتْ أنا فداءً عنها؛ لأنها أختك، ولأنها لم تقترف في حياتها ذنبًا تستحق بسببه الشقاء.
وكنت كلما ذكرت أنها ستصبح سعيدةً هانئة من بعدي — وتراءى لي شبحها وهي لابسة ثوب عرسها الأبيض الجميل، وسائرة إلى الكنيسة بجانب خطيبها — طار قلبي فرحًا وسرورًا، وهان عليَّ كل شيء في سبيل غبطتها وهنائها.
نعم إن الضربة التي سأستقبلها شديدةً جدًّا، لا يقوى عليها قلبي، ولكني سأحتملها بصبرٍ وسكون؛ لأن أباك سيصبح راضيًا عني، ولأنك ستعلم في مستقبل الأيام سرَّ تضحيتي، فتحبني فوق ما أحببتني! ولأن أختك ستصبح سعيدة مغتبطة بعيشها وحبها، وسيكون اسمي بين الأسماء التي تدعو لها الله في صلواتها بالرحمة والرضوان.
جاءت الساعة التي أقول فيها لأبيك كلمتي الأخيرة، ولقد كانت شديدة هائلة، أسأل الله أن يغفر لي بما لقيت فيها من الآلام، ماضي ذنوبي وآتيها، كما أسأله ألا يذيق مرارتها قلب امرأة على وجه الأرض من بعدي!
قمتُ من مكاني كأنني أنتزع نفسي من الأرض انتزاعًا، ومشيت إلى أبيك كما يمشي الحائِن إلى مصرعه حتى جثوت بين يديه، وأخذت بيده، فاستفاق من غشيته ونظر إليَّ ذاهلًا مشدوهًا، فقلت له: «أتعتقد يا سيدي أنني أحب ولدك؟» قال: «نعم.» قلت: «حبًّا هو منتهى ما تستطيع امرأة أن تحتمل؟» قال: «نعم.» قلت: «وأن هذا الحب هو كل آمالي وسعادتي وما أملك في الحياة؟» قال: «نعم يا بنيتي.» قلت: «قد ضحَّيتُهُ من أجل ابنتك، فعد إليها وبشرها بسعادة المستقبل وهنائه، وقل لها إن امرأةً لا تعرفك، ولم تركِ في يوم من أيام حياتها، ولكنها تُحبك وتُشفق عليك، تموت الآن من أجلك، فاسألي الله لها الرحمة والغفران.»
فتهلَّل وجهه بشرًا وسرورًا، ولم يدع كلمة من كلمات الشكر والثناء إلا أفضى بها إليَّ، فأنساني سروره واغتباطه ألم الضربة التي أصابت كبدي، واستحال حزني واكتئابي إلى راحةٍ وسكون، فحمدت الله على أن لم يَرَ في وجهي في تلك الساعة ما ينغص عليه سروره واغتباطه.
وهنا شعرت بحركةٍ عند باب الغرفة، فالتفتُّ فإذا «برودنس» تشير إليَّ بيدها؛ فذهبت إليها فأعطتني كتابًا جاء به البريد، فقرأت عنوانه، فإذا هو بخط المركيز «جان فيليب»، فعلمت ما يتضمنه قبل أن أراه، ووقع في نفسي أن الله قد أوحى إليَّ بما أفعل، فذهبتُ مسرعةً إلى غرفة مكتبي أخاف أن يعرض لي في طريقي ما يزعزع عزيمتي، وهناك قرأت الكتاب وكتبت لصاحبه في بطاقة صغيرة هذه الكلمة: «سأتعشى عندك الليلة.» ثم أعطيتها برودنس لتلقيها في صندوق البريد.
وعدت إلى أبيك فوجدته حيث تركته، فقلت له: «إن «أرمان» لا يعلم شيئًا من أمر زيارتك هذه، فاكتمها عنه حين تلقاه، وسأكتب إليه كتاب مقاطعة لا يشك في أني صاحبة الرأي فيه، وأن لا يد لك فيما كان، وسيعلم اليوم أو غدًا أنني قد اتصلت برجلٍ غيره، فيرى أنني قد خنته وغدرت بعهده، فلا يجد له بدًّا من أن يسافر معك قاطعًا رجاءه مني، وربما تألَّم لهذه الصدمة بضعة أيام أو بضعة أسابيع، فلا تحفل بذلك، فسيبلى حبي في قلبه كما يبلى كل حب في كل قلب. غير أن لي عندك طلبةً واحدة لا أريد منك سواها، فهل تسمح لي بها؟»
قال: «نعم أسمح لك بكل شيء.» قلت: «إني مريضة، وإن العلة التي أكابدها كثيرًا ما يتحدث الناس عنها أنها لا تترك صاحبها — طالت أم قصرت — حتى تذهب به إلى قبره، فكل ما أسألك إياه أن تأذن لأرمان في اليوم الذي تعلم فيه أنني قد أصبحتُ على حافة قبري أن يأتيني لأراه وأودِّعه الوادع الأخير، وأعتذر له عن ذنبي الذي أذنبته إليه حتى لا أخسر حبه واحترامه حية وميتة.»
فنظر إليَّ نظرة دامعة، وقال: «وا رحمتاه لك يا بنيتي! إنني أعدك بما أردتِ، وأسأل الله لك الشفاء والعزاء.» ثم حاول أن يعرض عليَّ شيئًا من المعونة، فأبيت ذلك إباءً شديدًا، وقلت له: «إنني لم أبِع نفسي يا سيدى بيعًا، بل وهبتها هبةً.» فأخذ رأسي بين يديه وقبلني في جبيني قبلة كانت خير جزاءٍ لي على تضحيتي التي ضحيت بها، وودعني ومضى.
فما ابتعد إلا قليلًا حتى قمت إلى خزانتي، فجمعت ثيابي وما بقي لي من حُلَاي ووضعتها في حقيبتي، وسافرت مع «برودنس» إلى باريس، وذهبت إلى منزلي هناك، فكتبت إليك فيه ذلك الكتاب الذي تعلمه، والله يعلم كم سكبتُ من الدموع، وكم وقف قلبي بين كل كلمة وما يليها أثناء كتابته حتى أتممته، فأعطيتُهُ حارس المنزل وأوصيته أن يسلمه إليك عند مجيئك، ثم ذهبت للوفاء بعهد المركيز.
أما حياتي مع ذلك الرجل فلا أستطيع أن أقص عليك منها شيئًا سوى أن أقول لك إنه لم يَرَ فيَّ المرأة التي كان يتخيلها، ويمنِّي نفسه بها، ولم أرَ فيه الرجل الذي يُؤنسني ويخلط نفسه بنفسي، فافترقنا، فأصبحت لا أعرف لي في العالم صديقًا صادقًا ولا كاذبًا.
هذه قصتي يا «أرمان» كما هي، وهذا ذنبي الذي أذنبته إليك، فهل ترى بعد ذلك أني خائنة أو خادعة؟
قلبي يحدثني أنني سأموت قبل أن أراك، وأملي يُخيل إليَّ أن ما في نفسك من الموْجِدَة عليَّ لا يستمر إلى ما بعد الموت، وأنك ستعود إلى «باريس» في الساعة التي ينعاني لك فيها الناعي لتزور قبر تلك المرأة المسكينة التي تولَّت سعادة قلبك وهناءه حقبةً من أيام حياتك، ثم خرجتْ من الدنيا فارغة اليد من كل شيءٍ، حتى من حبك وعطفك، وربما بلغ بك الاهتمام بشأنها أن تحاول معرفة ما تم لها من بعدك إلى أن ذهب بها الموت إلى قبرها.
فهأنذا أكتب هذه المذكرات، وأتركها لك عند «برودنس» لعلك تقرءُها في مستقبل الأيام، فتنظر إليها كما تنظر إلى كتاب اعترافٍ مقدس قد ألبسه الموت ثوب الطهارة والبراءة، فتُصَدِّق ما فيها وتعفو عني، فينير عفوك ظلمات قبري، ويؤنس وحشة نفسي.
٣ يناير ١٨٥١
أين أنت يا «أرمان»؟ أنت بعيد عني جدًّا، بعيد بجسمك وبقلبك؛ لأنك لم تهمل كتابي الذي كتبته لك ودعوتك فيه لزيارتي وسماع اعترافي الأخير إلا لأن ما كان في نفسك من العتب والموجدة عليَّ قد استحال إلى نسيانٍ وإغفال، فأصبحتَ لا تذكرني كما يذكر المحب حبيبه، ولا تعطف عليَّ كما يعطف الصديق على صديقه، فليكن ما أراد الله، ولتَدُمْ تلك السعادة التي تنعم بها بين أهلك وقومك، فإني غير واجدةٍ عليك، ولا ناقمة منك شيئًا، ولا حاملة لك في نفسي إلا الحب والإخلاص والرضا بكل ما تأتي وما تدع.
لي عدة أيام لم أرَ فيها أحدًا من الناس؛ لأن الطبيب منعني من الخروج، ولأن أصدقائي الذين كانوا يعرفونني فيما مضى قد أصبحوا يقنعون من زيارتي بإرسال بطاقاتهم إليَّ مع خادمتي، ثم ينصرفون مسرعين كأنما يفرون من أمرٍ يخيفهم، ولقد كانوا قبل اليوم إذا أرسلوها لبثوا ينتظرون الساعات الطوال حتى آذن لهم بالمقابلة، فإذا ظفروا بها طاروا بها فرحًا وسرورًا، وإن حرموها عادوا آسفين محزونين!
ولا أدري لِمَ لا يقطعون بطاقاتهم كما قطعوا زياراتهم؟ فإن كانوا يظنون أنهم سيرونني بينهم في مستقبل الأيام صحيحة الجسم، طيبة النفس، أصلح للمعاشرة والمخادنة كما كانوا يعهدونني من قبل، فهم في ظنهم مخطئون.
لقد أحسنوا فيما عملوا، فإنني أصبحت لا آنس بأحدٍ في العالم سوى نفسي، ولا آنس بنفسي إلا لأني أستطيع متى خلوتُ بها أن أُسائلها عنك فتذكِّرني بك وبتلك الأيام السعيدة التي قضيتها معك في «بوجيفال»، وذكرى تلك الأيام هي العزاء الباقي لي عن جميع ما خسرتْ يدي.
ما كنت أظن يا «أرمان» أن جسم الإنسان يحتمل كل هذه الآلام التي أكابدها، فلقد تمر بي ساعات أعتقد فيها أن الألم الذي أكابده إنما هو ألم النزع، وأنني في الساعة الأخيرة من ساعات حياتي، فإذا استفقت قلت في نفسي: هذا ألم المرض، وقد عجزت عنه، فمن لي باحتمال ألم الموت؟
على أن نفسي تحدثني أحيانًا أنه إن قُدِّر لي أن أراك بجانبي في يوم من الأيام برئتُ من مرضي، وتراجعت نفسي وعُدت إلى راحتي وسكوني، فهل يُقدر لي الله ذلك؟
لا أعلم، فالمستقبل بيد الله، فليقدر الله ما يشاء وليفعل ما يريد.
٢٤ يناير ١٨٥١
لم أُفارق سريري منذ أيام طوالٍ إلا صباح هذا اليوم، فجلست قليلًا بجانب نافذتي، وأشرفت منها على الحياة العامة، فوقع نظري على كثير ممن كنت أعرفهم من قبل سائرين في طريقهم لاهين مغتبطين، ولم أَرَ بينهم من رفع نظره إلى نوافذ غرفتي مرة واحدة، كأنما يمرون ببيتٍ لا يعرفونه، ولا عهد لهم به من قبل.
ما أشد وحشتي! وما أضيق صدري! وما أثقل هذا الجدار الذي يدور حولي!
لا أطيق النظر إلى سريري؛ لأن نفسي تحدثني أنه سيكون عما قليل سُلَّم قبري، ولا الوقوف أمام مرآتي؛ لأنها تحدثني عن نفسي أسوأ الأحاديث وأشأمها، ولا الإشراف من نافذتي؛ لأنها تذكرني بحياتي الماضية السعيدة التي حيل بيني وبينها، فأين أذهب وكيف أعيش؟
لا آكل إلا طعامًا واحدًا، ولا أرى إلا منظرًا متكررًا، ولا أسمع إلا صوت طبيبي وخادمتي حينما يسألها عني صباح كل يوم ومساءه فتجيبه بجواب واحد، حتى مللت وسئمت، وأصبحت أشعر أن نفسي سجينةٌ في صدري سجن جسمي في غرفتي، وربما مرَّت بي ساعات يقف فيها ذهني عن التفكير وخاطري عن الحركة، وينقطع ما بيني وبين يومي وأمسي وغدي وكل شيء في الحياة حتى نفسي.
السعال يهدم أركان صدري هدمًا، والنوم لا يلم بعيني إلا قليلًا، والطبيب يعذبني بمشارطه وضماداته عذابًا أليمًا، وكل يوم أشعر أن نَفَسي يزداد ضيقًا، وبصري يزداد ظلمةً، وأن الحياة تبعد عن ناظري شيئًا فشيئًا، حتى أكاد أحسبها شبحًا من الأشباح النائية، فمتي ينقضي عذابي؟!
٣٠ يناير ١٨٥١
سمعت صباح اليوم لجبًا كثيرًا في فناء المنزل، فسألت «برودنس»: «ما الخبر؟» فذهبت وعادت إليَّ تبكي، وتقول: «إنهم يحجزون أثاث المنزل يا سيدتي.» فقلت: «دعيهم يفعلوا ما يشاءون.» وما هي إلا لحظات قليلة حتى دخلوا غرفتي مندفعين متصايحين، ولم يمرَّ بخاطر واحد منهم أن يرفع قبعته عن رأسه احترامًا لصاحبة المنزل، أو يخفض صوته إشفاقًا على المريضة المعذَّبة، فمشوا يُسجلون كل ما وقع نظرهم عليه، وخِفتُ أن يسجلوا دفتر مذكراتي، فأشرت إلى «بردونس» أن تخفيه عنهم، ففعلتْ، فحمدتُ الله على ذلك، ثم وصلوا إلى سريري، فطلب أحد الدائنين حجزه، وقال: «إنه ثمين، سيكون له يوم البيع شأن عظيم.» فأفهمه الحاجز أن القانون يستثني الأسرَّة وفراشها، وألقى في أذنه كلمةً أحسب أني سمعته يقول فيها: «إنك تستطيع أن تفعل ذلك بعد موتها!» ثم انصرفوا بعدما تركوا على باب بيتي حارسًا لا يفارقه ليله ونهاره.
فكتبت إلى «الدوق موهان»، وهي أول مرة كتبت إليه فيها أستغفر ذنبي الذي أذنبته إليه، وأشكو له ما نالته يد الأيام مني، وأستحلفه بذكرى ابنته الكريمة عليه أن يأتي لزيارتي، ففعل، فبكى عندما رآني، ولا أدري هل بكاني أو ذكر عند رؤية مصرعي مصرع ابنته الأخير فبكاها، ثم قضى بجانب فراشي ساعة مطرقًا صامتًا لا يحدثني إلا قليلًا، ولا يذكر الماضي بكلمة واحدة، ثم ترك في يد «برودنس» ضمة أوراق، استبقت بعضها للنفقة واستعانت بباقيها على تأجيل بيع الأثاث بضعة أشهر.
لا أستطيع أن أكتب إليك اليوم أكثر مما كتبت، فإن الطبيب ما زال يلح على جسمي بالفَصْد حتى أوهاه واستنزف دمه، فأصبحت لا أتحرك حركةً إلا شعرت بألم عظيم.
٢ فبراير ١٨٥١
سيدتي:
إني أتوجع لك توجعًا شديدًا، فقد علمتُ بالأمس من بعض الوافدين إلى «نيس» أنك مريضةٌ مرضًا شديدًا منذ شهرين، وأنك لا تخرجين من منزلك إلا قليلًا، فأسأل الله لك الشفاء والعزاء، وأضرع إليه أن يجزيك خيرًا بما قاسيتِ من الآلام والأوجاع في سبيلي وسبيل ابنتي، وأبشِّرك أن الله قد تقبَّل قربانك الذي قدمتِهِ إليه، فإن «سوزان» قد تزوَّجت من خطيبها منذ عشرين يومًا، وأصبحت هانئة بحبها وعيشها كما أردتِ لها، وإنها وإن لم تكن تعلم من أمر تلك القصة التي نعلمها شيئًا فقد قلت لها إن بعض الناس — ولم أسمِّه لها — قد ضحَّى بنفسه وبسعادته في سبيل سعادتك وهنائك، فلا تتركي الدعاء له في جميع صلواتك بجزيل الأجر وحسن المثوبة، فهي لا تزال تدعو لك صباحها ومساءها أن يُحسن الله إليك كما أحسنتِ إليها.
أما الكتاب الذي أرسلتِهِ إلى «أرمان» في أوائل الشهر الماضي فلم يصل إليه إلا اليوم؛ لأنه منذ فارقك وسافر إلى «نيس» لم يستطع البقاء فيها إلا بضعة أيام، ثم رحل عنها إلى الشرق حزينًا مهمومًا من أجلك، وكنت لا أعرف الجهة التي يُقيم فيها، فلم أستطع أن أرسله إليه حتى عرفتُهَا منذ أيام قلائل، فأرسلتُهُ وأرسلتُ معه كتابًا أطلعه فيه على قصتك، وأقول له إنني لا أرى مانعًا يمنعني بعد زواج أخته من أن آذن له بالسفر إلى «باريس» والبقاء فيها ما شاء أن يبقى، وأحسب أن يصل إليك في عهد قريب.
أرسلت إليك مع كتابي هذا عشرة آلاف فرنك أرجو أن تقبليها مني، وأن تنظري إليها بالعين التي تنظر بها الفتاة إلى هدية أبيها الذي يحبها ويجلها، فإن فعلتِ أحسنتِ إليَّ بذلك إحسانًا عظيمًا!
لي الأمل أن أسمع عما قليل خبر شفائك، وأرجو أن أراك في مستقبل الأيام ناعمة بصحتك وسعادتك.
فما قرأته حتى شعرت بهزة من السرور في قلبي، لم أشعر بمثلها مذ فارقتُكَ حتى اليوم، فقد علمتُ أن «سوزان» قد تزوجت، وذلك ما كنت أرجو لها، وأنك لا تزال تحبني، وقد أخاف نسيانك أكثر مما أخاف عَتْبَك، وأنني سأراك عما قليل، وتلك آمالي في الحياة.
أما الهدية التي أرسلها إليَّ أبوك فقد نظرت إليها بالعين التي أرادها، فقبلتها شاكرةً له حامدة، أحسن الله إليه كما أحسن الله إليَّ.
٣ فبراير ١٨٥١
استطعت أن أنام ليلة أمس أكثر من كل ليلة؛ لأن السرور الذي تركه كتاب أبيك في نفسي شغلني عن كل شيء، حتى عن ألمي، وفي الصباح قال لي طبيبي: «إنك اليوم خير منك في كل يوم، وإن الشمس مشرقة، والهواء فاتر عليل، فاخرجي في مركبتك إلى بعض المتنزهات ساعة ثم عودي.»
فخرجت إلى غابات «الشانزلزيه»، فرأيتها زاهرةً بالحياة والجمال، ورأيت الناس فيها ضاحكين متهللين، مغتبطين بسعادة لا يعرفون قيمتها كما تعرفها امرأة محرومة منها مثلي، فلم أحسدهم على نعمتهم التي آتاهم الله، بل دعوت لهم ببقائها ودوامها، إلا أنني حزنت على نفسي حزنًا شديدًا حينما رأيت أن كثيرًا من معارفي الماضين قد مروا على مقربةٍ مني ولم يعرفوني، ورأيت أحدهم ينظر إليَّ — وقد مر بجانب مركبتي — نظر المتخيل المتوهم، ثم لم يلبث أن لوى وجهه عني ومضى لسبيله، وقد استقر في نفسه أنه يرى امرأة غير المرأة التي يعرفها.
فعلمت أني قد تغيرت تغيرًا عظيمًا، وأن مرآتي ما كانت تكذبني حينما تحدثني عن نحولي واصفراري، واستحالة صورتي، بل صدقتني كما صدقني الناس.
ثم رأيت الشمس قد توارت وراء حجابها فعدتُ إلى منزلي، وقد زال من نفسي ذلك الخاطر الذي أحزنني، وحلَّ محله خاطرٌ آخر خيرٌ منه، وهو أنني سأراك عما قليل.
«وسينقضي بلقائك عهد بؤسي وشقائي.»
٧ فبراير ١٨٥١
ما أحسب أنك مدركي يا «أرمان»، فقد بلغت بي العلة منتهاها، وأصبحتُ لا أجد الراحة في قيامٍ ولا قعود، ولا نومٍ ولا يقظة، وانتشرت الآلام والأوجاع في جميع أعضائي ومفاصلي، وكأن حجرًا من الأحجار العاتية ممتدٌّ على صدري يمنعني التنفس والحركة، وقد عجزت اليوم عن أن أنتقل من سريري إلى مكتبي، فأمرتُ «برودنس» أن تأتيني بمحبرتي ودفتري حيث أنا، فجاءت بهما إليَّ، فأنا الآن أكتب إليك وأنا في فراشي؛ فمتي أراك يا «أرمان» لأحيا برؤيتك أو أودعك قبل أن أموت؟
١٠ فبراير ١٨٥١
أملي في الحياة ضعيف جدًّا، ها هو ذا الموت يدنو مني رويدًا رويدًا، لم تأتِ إليَّ حتى الساعة يا «أرمان»، وأظن أني سأموت قبل أن أراك، إن الموت مخيف جدًّا، يملأ قلبي رعبًا وهولًا، لا أعلم كيف أستطيع أن أسكن وحدي تلك الحفرة الموحشة المظلمة التي لا أنيس لي فيها ولا سمير. لم أتمتع بالحياة طويلًا، وكانت كل سعادتي فيها آمالًا وأحلامًا، وهأنذا أموت قبل أن أرى شيئًا من آمالي وأحلامي.
ما أحلى الحياة وأمرَّ فراقها! لم أَنَل منها طائلًا، ولكني لا أحب أن أتركها، لقد سعد الذين يعمَّرون في الحياة طويلًا، ثم يموتون فيتركون من بعدهم ذرية صالحة أو عملًا طيبًا يعيشون به بعد موتهم زمنًا أطول مما عاشوا، أمَّا أنا فإني سأموت في ربيع حياتي، وسيموت ذكري في الساعة التي أموت فيها، وكأني لم أَعِش في الحياة يومًا واحدًا، وا أسفاه على ما فرطتُ في حياتي الماضية! إنني أدفع اليوم ثمن ذنوبي وآثامي أضعافًا مضاعفة!
لقد كنت أستطيع أن أقنع بالمضغة والجرعة، ولا أمد عيني إلى ما تقصر عنه يدي فلم أفعل، فهأنذا لا أسيغ المضغة ولا الجرعة، ولا أجد السبيل إلى العيش على أية صورة كانت.
أهكذا أخرج من الدنيا غريبة عنها كما دخلت فيها لا يحضر موتي قريب، ولا يبكي عليَّ صديق؟! أهكذا تنتهي حياتي في الساعة التي أحببتها فيها وأصبحت على مرحلة واحدة من أحلامي وآمالي؟!
آه لو يمهلني الموت قليلًا! فربما كنتَ على مقربةٍ مني، فأنظر إليك نظرةً واحدة ثم أموت، لا أمل لي في ذلك، فقد رأيت طبيبي صباح اليوم يلقي في أذن خادمتي وهو خارج من عندي كلمة، فسألتها عنها، فدارت حولها ولم تقلها، وما أحسبها إلا تلك الكلمة الهائلة. لا أكاد أبصر شيئًا مما حولي حتى بياض الصحيفة التي في يدي، كنتُ قبل اليوم أنفث الدم وحده، والآن أنفث أفلاذ رئتي مصبوغة بالدم.
من لي بكأسٍ من السم أشربها جرعةً واحدة فأستريح من هذا العذاب الذي يُساورني؟ ولكن أي فائدة لي من ذلك؟
ها هو ذا الموت يمشي إليَّ بأسرع مما أمشي إليه … رحمتك اللهم وإحسانك، فأنت وحدك العالم بمقدار ألمي وعذابي، فارحمني وهَوِّنْ عليَّ أمري، وامنحني إحدى الراحتين.
لا أرى شيئًا، ولا أعرف ماذا أقول، وربما كانت هذه الكلمات آخر ما تخطُّه يدي!
١٤ فبراير ١٨٥١
لا تحزن عليَّ كثيرًا بعد موتي يا «أرمان»، فحسبي منك أن تذكرني ولا تنساني، وأبشِّرك أن الله قد استجاب لدعائي، فألقى في نفسي منذ الأمس برد الراحة واليقين، ومحا من قلبي جميع مخاوفه ووساوسه، فعلمتُ أنه قد رضي عني، وغفر لي ذنبي، وأصبحت لا أخشى الموت ولا أخاف بعده، ولا أجزع من الألم، ولا أبكي أسفًا على الحياة، فلا يحزنك أمري حين تعلمه، وعِشْ سعيدًا بين قومك وأهلك، وأَكرِم أباك فهو خير الآباء، وأَحبِبْ أختك فهي أطهر الفتيات، وأوصيك خيرًا ببرودنس، فهي فتاة طيبة القلب، عظيمة الإخلاص لي ولك، وأخاف أن يتنكر لها الدهر من بعدي.
إن الله قد خلق لكل روح من الأرواح روحًا أخرى تماثلها وتقابلها، وتسعد بلقائها وتشقى بفراقها، ولكنه قدَّر أن تضل كل روح عن أختها في الحياة الأولى، فذلك شقاء الدنيا، وأن تهتدي إليها في الحياة الثانية، وتلك سعادة الآخرة.
فإن فاتتني سعادتي بك في الأرض، فسأنتظرها في علياء السماء!
وهنا كتبتْ بعض كلماتٍ مضطربة، قد محا الدمع أكثرها فلم يبقَ منها واضحًا بعض الوضوح إلا كلمة «الوداع»!
(٢) بقية المذكرات (بقلم الخادمة برودنس)
١٤ فبراير ١٨٥١
لم تستطع «مرغريت» يا سيدي أن تكتب لك أكثر مما كتبت؛ لأن الطبيب منعها الحركة، ولو أرادتها لعجزت عنها.
أتذكر يا سيدي ذلك الجسم الغض الناعم، الذي كان يموج بالنور موجًا ويشرق وراء بشرته إشراق الخمر في كأسها؟ لقد أصبح اليوم عظمًا مجلدًا وهيكلًا قائمًا لا يساوي ثمن النظر إليه!
وا رحمتاه لكِ! لقد مات كل شيءٍ فيها إلا قلبها وشعورها، وليتهما ماتا معها، فإنه لا يعذبها شيء مثل خواطرها وأفكارها!
لا يدخل من باب غرفتها داخلٌ حتى ترفع نظرها إليه تظن أنك قد جئتها، فإذا دنا منها ورأته أطبقت جفنيها على دمعة تنحدر من بينهما بالرغم منها.
إنها لا تتكلم كثيرًا، فإذا تكلمت كان أول حديثها: «ألم يأت «أرمان»؟» فإذا أجبتها أن لا، سألت عن أمرٍ آخر تتلهى به، أو عادت إلى صمتها مرة أخرى.
لقد رابها اليوم أن طبيبها لم يأتها، فلما أردتُ أن أعتذر لها عنه لم تصدقني، وقالت: «الآن عرفت كلمته التي ألقاها إليك بالأمس.» فسَكَتُّ، ولم أعرف ماذا أقول.
١٤ فبراير ١٨٥١
أصبح اليوم صوتها ضعيفًا جدًّا لا أكاد أسمعه، وأظلم بصرها، فهي تنظر إليَّ ولا تراني، وقد أشارت إليَّ في الصباح مرارًا أن أفتح لها نوافذ الغرفة لتستنشق الهواء وتروح عن نفسها، ونوافذ الغرفة مفتوحة يجري منها الهواء متدفقًا، ولكنه لا يصل إلى صدرها.
آه لو أستطيع يا سيدي أن أبيع حياتي لأشتري لها بضعة أنفاس تتردد في صدرها، أو بعض سِنَاتٍ من النوم تأوي إلى جفنها، فإن تنفسها يؤلمني ويعذبني عذابًا شديدًا، وقد مرت بها ثلاث ليالٍ لم تنم فيها لحظة واحدة!
١٥ فبراير ١٨٥١
بعد صمتٍ طويل لم تنطق فيه بحرفٍ واحد فتحت عينيها، ونادتني بصوتها الخافت الضعيف، فدنوت منها، فقالت لي: «أريد الكاهن، فأتِيني به.» فعلمت أنها قد أصبحت على يقين من أمرها، فغالبتُ عَبراتي حتى خرجت من الغرفة، فبكيت ما شاء الله أن أفعل، ثم ذهبت إلى الكاهن فتردد عندما ذكرت له اسم المرأة التي يريد الذهاب إليها، فضرعت إليه وقلت له: «إن رحمة الله يا سيدي لا يستحقها أحد مثل الآثمين المسرفين.» فأذعن بعد لأيٍ وجاء معي، فخلا بها ساعةً ثم خرج، فسألته: «أيرحمها الله يا سيدي؟» قال: «إنها عاشت عيش الآثمين، ولكنها ستموت موت المؤمنين.» فحمدتُ الله على ذلك.
ومنذ تلك الساعة لم أعد أسمع منها كلمة واحدة، ولا أرى عضوًا من أعضائها يتحرك، إلا ما كان في صدرها يترجح بين الصعود والهبوط.
١٥ فبراير – ساعة الغروب
إن مرغريت تتعذب كثيرًا يا سيدي، وأحسب أنها تعالج سكرات الموت.
لم يُقاسِ إنسانٌ في حياته مثل ما تقاسيه الآن من آلامها وأوجاعها، إنها تصرخ من حينٍ إلى حينٍ صرخات تذوب لها حبات القلوب.
ولقد اشتد بها الألم الساعة فهبَّت من مكانها صارخةً، وانتصبت على قدميها في سريرها حتى كادت تسقط عنه، فأدركتُها وأضجعتُها في مكانها، ففتحتْ عينيها فسقطت منهما دمعتان كبيرتان، وكأنما أحسَّت بي فاعتنقتني وضمتني إليها ضمًّا شديدًا، ثم ما لبثت أن تراخت يداها وعادت إلى نزاعها وجهادها.
١٥ فبراير – نصف الليل
قُضي الأمر وماتت «مرغريت»، ولم يبقَ منها على سريرها إلا جثتها التي ستذهب غدًا إلى قبرها، تلك غايتها وغاية كل حيٍّ، فصبرًا على قضاء الله وبلائه!
لقد هتفتْ باسمك كثيرًا يا سيدي في ساعتها الأخيرة، وكان آخر عهدها بالحياة أن نظرت إليَّ نظرةً طويلة مملوءة حزنًا ودموعًا! ثم حركت أصبعها حركة خفيفة، وأشارت إلى دفتر مذكراتها الذي كان ملقى بجانبها وقالت: «أرمان.» ففهمت أنها توصيني أن أبلغه إليك، ثم أسلمتْ روحها.
عزيزٌ عليَّ يا سيدتي ما لقيتِ من العذاب قبل موتك، وعزيزٌ عليَّ أن تموتي، ولا تجدي بجانبك من يغمض عينيك ويلقي رداءك عليك سواي! وفي سبيل الله تلك النفس الطاهرة الكريمة التي ما حملت في حياتها شرًّا لمحسن، ولا لمسيء، وذلك الصدر الرحب الذي كان يسع الدنيا بأرضها وسمائها فلا يضيق عنها، وذلك القلب النقي الأبيض الذي ما أضمر في حياته غير الخير أو الإحسان، ولا فاض إلا بالرحمة والحنان!
بكت «برودنس» بجانب جثة سيدتها ما بكت، ثم أنارت حولها الشموع، وبعثت إلى الكاهن فجاء وجثا عند رأسها يقرأ في كتابه، ومشت هي إلى المكتب فجلست إليه تكتب آخر مذكراتها حتى فرغت منها.
ثم قامت من مكانها، فراعها أن رأت شبحًا ماثلًا على باب الغرفة، فمشت إليه فإذا هو «أرمان» في لباس السفر، وقد ألقى من مكانه على سرير الميتة نظرة غريبةً هائلة كتلك النظرة التي تسبق صرعات الجنون، ثم استردها وألقاها عليها، وسألها: «من هذا المسجى على هذا السرير؟» فبكت «برودنس» ولم تقل شيئًا، فسقطت حقيبته من يده، وجمد في مكانه لحظة لا ينطق ولا يتحرك.
ثم اندفع إلى سرير الميتة صارخًا يريد أن يلقي بنفسه عليه، فأدركته «برودنس»، ووقف الكاهن في وجهه، وقال له: «احترم الموت أيها الفتى.» فاختنقت عبراته في صدره وارتعد ارتعادًا شديدًا وسقط مغشيًّا عليه.
فلم يستفق إلا مطلع الفجر حينما شعر أنهم قد أقبلوا يحملون الجثة، فقام يتحامل على نفسه حتى دنا من السرير، وقال: «رحمةً بي أيها الناس، فقد فاتني أن أودعها وهي حية، فأذنوا لي أن أودعها ميتة!»
فرحموه وأفرجوا له عنها حتى داناها، ورفع الغطاء عن وجهها وقبلها في جبينها، وقال: «الوداع يا أعز الناس عندي! الوداع يا خير فتاةٍ في الأرض، وأشرف روحٍ في السماء!» ثم أعاد الغطاء على وجهها، وتراجع عنها وأَذِنهم بحملها.
ثم مشى وراء نعشها يبكي وينتحب، ولم يمشِ وراء النعش غيره وغير الخادمة «برودنس»، والدوق «موهان»، وهو يتوكأ على عصاه، ويقول في ندبه وبكائه: «هأنذا أرى ابنتي تموت أمامي مرة أخرى، ولا أزال حتى الساعة على قيد الحياة، وبعض نسوة بائسات من ضحايا تلك المقادير.»
وما انقضى النهار حتى انقضى كل شيء، وأصبحت «مرغريت» رهينة قبرها، و«أرمان» طريح فراشه يقرأ في مذكراتها ويبكي بكاء الثاكل المفجوع.
ثم اشتد به المرض بعد ذلك، فلم تَرَ «برودنس» بدًّا من أن تكتب إلى أبيه تشرح له سوء حاله، فحضر وحضرت معه ابنته وزوجها، ولبثوا بجانبه شهرًا يعللونه ويَشْتَفُون له حتى أَبَلَّ ونجا من خطره.
ثم ذهبوا جميعًا إلى قبر مرغريت ليودعونها قبل سفرهم، فبكوا حوله بكاءً شديدًا، وكانت «سوزان» أشدهم بكاءً عليها، وإن كانت لا تعلم أنها تبكي المرأة التي ضحت بنفسها في سبيلها.
ثم تقدم المسيو «دوفال» إلى ولده وقال له: «أتغفر لي ذنبي يا بني؟»
قال: «نعم يا أبتاه؛ لأنها غفرت لك ذنبك إليها.» ثم انصرفوا.
مرت الأيام وانقضت الأعوام، ومات المسيو «دوفال»، وسَعِدَ ولده كما أراد له أبوه، ولكن بقيت بين جنبيه لوعةٌ مُعْتَلِجَةٌ، لا يروحها عنه كلما ساورته إلا قراءة مذكرات «مرغريت»، ومحادثة «برودنس» عنها وزيارة قبرها من حينٍ إلى حين.