التظاهر
كان باركر بيك من بيدفورد، في نيو هامبشير، حتى عدَّة شهور بعد عيد ميلاده الثاني، يبدو طفلًا سعيدًا مُعافًى. ثم بدأ يَنْأى بنفسه عن الآخَرين. توقَّف باركر عن الابتسام والكلام وحتى الاستجابة لوالدَيه. صار يستيقظ باستمرارٍ أثناءَ الليل، ويصرخ صرخاتٍ غريبةً مُرتفعة، ونشأت لديه عاداتٌ مُتكرِّرة مثل الدوران حول نفسه وضرب رأسه بيدَيه. بعد أن التمسَ والداه، فيكتوريا وجاري، المشورة الطبِّية، سمِعا الكلمات التي كانا يخشَيانها: أن ما يبدو على ابنهما هو علاماتُ توحُّد نموذجيَّة. ورغم جهودِهما للظَّفر بأفضل علاج لابنهما، ظلَّت حالة باركر تتدهور. إلى أن جاء عام ١٩٩٦، حين صار باركر في الثالثة من العمر. عندئذٍ حدَث شيءٌ مُذهِل.
مِثلَما هو شائع في الأطفال المُصابين بالتوحُّد، كان باركر يُعاني أيضًا من مشكلات في الجهاز الهضمي، منها إسهالٌ مُزمِن. لذلك اصطحبَته فيكتوريا لزيارة كارولي هورفاث، اختصاصي الأمعاء في جامعة ماريلاند. بِناءً على توصية هورفاث، خضع باركر لفحصٍ تشخيصي روتيني يُسمَّى التنظير الداخلي، حيث يدخل كاميرا في نهاية أنبوب مرِن إلى القناة المعوية. لم يكشف الفحص نفسُه عن أيِّ شيءٍ مُفيد. لكن بين عشيَّة وضُحاها تقريبًا، بدأ باركر يتماثل للشفاء بدرجةٍ كبيرة. فقد تحسَّنَت وظائفُ أمعائه، وبدأ ينام مُستغرِقًا. وبدأ يتواصل مرةً أخرى؛ يبتسم ويتواصل بالعين، وبعد أن كان شِبه صامت تمامًا، أصبح فجأةً ينطق بأسماءِ ما في البطاقات التعليميَّة ويقول «أمي» و«أبي» لأول مرة منذ أكثرَ من عام.
يُغطِّي تصنيف التوحُّد طيفًا واسعًا من الاضطرابات، من سِماتها مشكلات في اللغة والتواصل الاجتماعي، ويُصيب نحو نِصف مليون طفل في الولايات المتحدة. مع أنه يظهر على بعض الأطفال إعاقةٌ في النُّموِّ منذ مَولدهم، فإن أطفالًا آخَرين مثل باركر يَبْدون طبيعيِّين ثم يتدهورون. يمكن علاج بعض الأعراض الفردية بالأدوية. ويُمكن للعلاجات التربوية والسلوكية (للأطفال والوالدين) أن تُحدِث اختلافًا هائلًا. لكن لا يوجد له علاجٌ فعَّال أو شفاء منه. اعتبرت فيكتوريا أنَّ تحوُّل باركر المُباغِت بدا وكأنَّه معجزة.
أقنعت فيكتوريا المستشفى بإخبارها بكل تفصيلة من تفاصيل إجراء التنظير الداخلي الذي خضَع له باركر، وُصولًا إلى جرعة البنج التخديري التي استخدموها. وبعد عملية استبعاد أجْرَتها، باتت مُقتنِعة بأن التغيُّر في الأعراض لدى ابنها كان ناتجًا عن جُرعة من هرمون مِعَوي يُسمى سيكريتين. يُحفِّز هذا الهرمونُ البِنكرياسَ ليُفرِز العصارات الهاضمة، وكان قد أُعطيَ لباركر كجزءٍ من الفحص؛ للتأكُّد من أن بنكرياسه كان يعمل كما ينبغي. اعتقدَت فيكتوريا أنَّ ثمَّة علاقةً بين ما كان لدى ابنها من مشكلاتٍ مِعوية وما لديه من أعراض التوحُّد، واستنتجَت أن الهرمون لا بد أن يكون هو ما أدَّى إلى تحسُّنه الهائل.
مُتلهِّفةً للحصول على جُرعةٍ أخرى من السيكريتين لباركر، اتصلَت فيكتوريا بالأطباء في جامعة ماريلاند، وراسَلَتهم لتُخبِرهم بنظريتها، لكنهم لم يُظهِروا أيَّ اهتمام. كذلك تواصلَت مع باحثي التوحُّد وأطبائه في أنحاء البلاد، وأرسلَت إليهم فيديوهاتٍ منزليةً تُوثِّق تطوُّر حالة باركر. وأخيرًا في نوفمبر عام ١٩٩٦، وصلَت قِصتها إلى الأستاذ المُساعد في علم النَّفس الدوائي بجامعة كاليفورنيا في إيرفاين، كينيث سوكولسكي، الذي كان ابنه آرون مُصابًا بالتوحُّد. أقنع سوكولسكي أحدَ اختصاصيِّي الجهاز الهضمي في مدينته بإجراء نفس الفحص التشخيصي على آرون. فبدأ هو الآخر يتواصل بالعينَين ويُردِّد الكلمات.
خلال أسبوعَين فقط باعت «فيرينج فارماسيوتيكلز»، الشركةُ الأمريكية الوحيدة المرخَّص لها بإنتاج السيكريتين، كلَّ مخزونها منه. بِيعَت جرعاتُ السيكريتين بآلاف الدولارات على الإنترنت. تداوَل الناس حكايات عن أُسرٍ رهَنَت مَنازلها من أجل تحمُّل تكلفة شرائه، أو اشترَت كميات من السوق السوداء من المكسيك واليابان. وفي الشهور التالية، أُعطيَ السيكريتين لأكثرَ من ٢٥٠٠ طفل، وظلَّت قصصُ النجاح تتوالى.
حسَب القاعدة المنهجية في تلك التجارِب، قُسِّم المشاركون في تجرِبة ساندلر عشوائيًّا إلى مجموعتَين. تلقَّت مجموعةٌ منهما الهرمون، وتلقَّت الأخرى علاجًا وهميًّا أو بلاسيبو (كان في هذه الحالة حقنة محلول مِلْحي). وللحُكم بأن السيكريتين دواءٌ ناجع، كان لا بد أن يُظهِر نتائجَ أفضلَ من البلاسيبو. قبل الحقن وبعده، قيَّم أطبَّاءٌ مُعالِجون وآباء وأمَّهات ومُعلِّمون، لم يكن لديهم علمٌ أي علاج تلقَّاه كلُّ طفل من الأطفال، أعراض الأطفال.
أم إنه كان دواءً ناجعًا؟ كانت خلاصة بحث ساندلر سطرًا واحدًا قال فيه: «إنَّ جرعةً واحدة من السيكريتين البشري الاصطناعي ليست علاجًا فعَّالًا للتوحُّد.» لكنه لم يكتب في البحث، كم فاجَأه أنَّ كِلتا المجموعتَين تحسَّنَت تحسنًا كبيرًا. قال لي: «ما أثارَ اهتمامي أن الأطفال في كِلتا المجموعتَين تحسَّنوا.» واستدرك قائلًا: «كان ثَمة استجابةٌ كبيرة للعلاج في المجموعة التي تلقَّت السيكريتين والمجموعة التي تلقَّت المحلولَ المِلْحي.»
هل كان الأمر صدفةً؟ كشأن العديد من الحالات المُزمِنة، يمكن لأعراض التوحُّد أن تتذبذب مع الوقت. أحدُ الأسباب التي تجعل اختبار علاجات جديدة مقارنةً بعلاجٍ وهمي أمرًا شديدَ الأهمية، هو أن التحسُّن الملحوظ في الأعراض بعد تناوُل أحد الأدوية من الوارد أن يكون من قَبيل الصدفة. إلا أن ساندلر كان مُندهشًا من التحسُّن الكبير.
أوحى هذا النمط لساندلر بأنَّ آل بيك وغيرَهما من الآباء والأمهات المُقتنِعين بفوائد العلاج لم يتخيَّلوا التغيُّرات التي طرأت على أطفالهم. فقد تحسَّنَت أعراض الأطفال بالفعل. لكن الأمر لم يكن له علاقةٌ بالسيكريتين.
•••
لم تستطع بوني الحركة، وشعرَت بألمٍ مُبرِّح في عمودها الفقري. قالت، معلِّقةً على الأمر: «كان أمرًا مُرعبًا. فكَّرتُ في نفسي: «يا إلهي، لقد كُسِر ظهري.»» جرجرَها رفيقها، دون، عبر الصالة ودثَّرها بغِطاء، وبعد عدَّة ساعات صارت قادرةً على النهوض إلى الأريكة. من حُسنِ الحظ أنها لم تُصَب بالشلل، بيدَ أن عمودها الفقري كان قد شُرِخ؛ وهي الإصابة الشائعة بين المُسنِّين الذين ضعُفت عظامهم من جرَّاء هشاشة العظام.
تعيش بوني مع دون في بيتٍ أبيضَ صغير في مدينة أوستن، بولاية مينيسوتا. وقد اشتغلت طَوال أربعين عامًا عاملةَ هاتفٍ لدى المُستخدم الرئيسي في البلدة، شركة «هورمِل فودز» (مُصنِّعي اللحم المعلَّب، «سبام»)، وقد ظلَّت نشيطةً حتى بعد تقاعُدها. لديها مساحيقُ تجميل برتقالية، وشعرٌ أبيض منفوش، وتستمتع بحياةٍ اجتماعية مشحونة، وأكثرُ ما تُحبُّه هو أن تلعب شوطًا كاملًا من الجولف؛ الرياضة التي ظلَّت تلعبها طَوال حياتها. لكن الحادث جعلَها في حالةٍ بائسة. إذ كانت تشعر بألمٍ دائم، ولم تكن تستطيع حتى الوقوف لغسل الأطباق. تتذكَّر قائلةً: «لم أكُن أستطيع النوم ليلًا. لم أكُن أستطيع لعبَ الجولف الذي كنتُ أرغب في لعبه. كنتُ أذهب إلى حجرة الاستراحة، وأجلس واضعةً كِمادةً ساخنة.»
بعد بضعة أشهُر، شارَكَت بوني في تجرِبةٍ لإجراءٍ جِراحيٍّ واعِد يُسمى رَأْب العمود الفقري، حيث يُحقَن العَظم المشروخ بأسمنت طبِّي ليُقويَه. أقلَّ دون بوني إلى المستشفى — «مايو كلينك» في روتشيستر، بولاية مينيسوتا — قُبيل الفجر في صباح يوم بارد من أيام شهر أكتوبر. خرَجَت من المستشفى بعد العملية سيرًا على قدَمَيها، وشعرت بتحسُّن على الفور. قالت عن تلك العملية: «كانت رائعة. لقد قضَت على ألمي حقًّا. واستطعتُ العودةَ إلى الجولف، وكلَّ ما كنتُ أريد أن أفعله.»
مضى نحوُ عَقدٍ من الزمن، وما زالت بوني سعيدةً بالنتيجة. حتى إنها تقول عنها: «كان نجاحها ضربًا من ضروب المعجزات.» مع أن مشكلات التنفُّس بدأت تعُوقها، فإنَّ ظهرها لم يَعُد يُحِد من حركتها. وتُقهقه قائلةً: «لقد اقترب عيد ميلادي، فسوف أُتمُّ الرابعة والثمانين من عمري.» «لكنني ما زلت أُخطِّط للعب الجولف قليلًا هذا الصيف.»
يبدو أن عملية رَأْب العمود الفقري قد شفَت بوني من آثار عمودها الفقري المشروخ. إلا أن ثَمة شيئًا لم تَعرِفه بوني حين شارَكَت في تلك التجرِبة؛ وهو أنها لم تكن في مجموعة رأب العمود الفقري. كانت العملية التي خضَعَت لها وهمية.
ولاكتشاف ذلك، انضمَّ كالمز إلى جارفيك للإقدام على شيءٍ غيرِ مسبوق، على الأقل في مجال الجِراحة. قرَّرا اختبارَ فعاليةِ رَأْب العمود الفقري مقارنةً بمجموعة من المرضى سيخضعون لعمليةٍ وهمية دون عِلمهم. رغم أن هذه التَّجارِب المقارنة بين دواء وهمي ودواء حقيقي دائمًا ما تُستخدَم لاختبار عقاقير جديدة مثل السيكريتين، فهي ليست ضروريةً للإجراءات الجِراحية الجديدة بوجهٍ عام؛ من ناحية لأن إخضاع المرضى لجِراحةٍ وهمية لا يُعَد أمرًا أخلاقيًّا. إلا أن كالمز يُشير إلى أنه في الجِراحة تمامًا كما في العقاقير، تنطوي العلاجات التي لم تُختبَر على مخاطرة إلحاق أذًى بملايين المرضى. ويقول: «لا يوجد ما هو غيرُ أخلاقي في التجرِبة الصورية أو الوهمية. الأمر غيرُ الأخلاقي هو عدم إجراء التجرِبة.»
ألحقَ كالمز وجارفيك ١٣١ مريضًا بشروخ في العمود الفقري، بيْنهم بوني، بأحدَ عشرَ مركزًا طبيًّا مختلفًا في أنحاء العالم. خضَع نِصفهم لعملية رأب العمود الفقري، وخضع النصفُ الآخَر لعمليةٍ وهمية. لم يعرف المرضى سِوى أن احتمالَ حصولهم على حقن الأسمنت كان ٥٠٪، ولكن كالمز بذَل ما في وُسعِه لضمان أن تبدوَ الجِراحة المزيَّفة واقعيةً بقدر الإمكان، حتى لا يُخمِّن المُشاركون في التجرِبة المجموعةَ التي كانوا فيها. هكذا أُخذ كلُّ واحد من المرضى إلى حجرة العمليات، وحُقِن عموده أو عمودُها الفقري ببنجٍ موضعي قصيرِ المفعول. عندئذٍ فقط كان الجرَّاح يفتح مظروفًا ليكتشف ما إذا كان المريض سيخضع لعملية رأب العمود الفقري الحقيقية أو لا. في كِلتا الحالتين، كان فريق الجِراحة يُمثِّل النصَّ نفسَه الموضوعَ سلَفًا، قائلين الكلماتِ نفسَها، ويفتحون أنبوب أسمنت حتى تملأَ رائحتُه المُميزة، الشبيهة برائحة مُزيل طِلاء الأظافر، الحُجرةَ، ويضغطون على ظهر المريض؛ لمُحاكاة إدخال إبرة حقن الأسمنت في عملية رأب العمود الفقري. كان الاختلاف الوحيد هو ما إذا كان الجرَّاح سيحقن الأسمنت فعلًا أو لا.
مع ذلك، تحسَّنَت حالة المرضى في كِلتا المجموعتَين تحسُّنًا كبيرًا. في المتوسِّط، انخفضت درجات شعورهم بالألم إلى النصف تقريبًا، من ٧ / ١٠ إلى ٤ /١٠ فقط. كان قياس درجة العجز قائمًا على سلسلة من الأسئلة، مثل: هل تستطيع قطْعَ مربَّعٍ سكَني سيرًا، أو صعودَ درجات السلَّم دون الإمساك بالدرابزين؟ في بداية التجرِبة، أجاب المرضى بلا على ١٧ سؤالًا من ٢٣ في المتوسط، وهي درجة تُصنَّف في عِداد «الإعاقة الحادَّة». بعد العملية بشهر، كان درجاتهم ١١ فقط في المتوسِّط. ومع أن بعضهم كان لا يزال يُعاني الألم بعد الإجراء، كان آخَرون، مثل بوني، قد شُفُوا فِعليًّا. نُشِرت في الوقت نفسِه تقريبًا نتائجُ تجرِبةٍ ثانية لعملية رأب العمود الفقري كانت أُجرِيَت في أستراليا، وكانت نتائجُها مُشابهة جدًّا.
من المحتمل أنَّ تحسُّنَ المَرْضى كان راجعًا إلى طائفةٍ من العوامل. يُمكن لأعراضِ الألم أن تتذبذب، وشُروخ الفقرات تلتئم بالفعل، بطيئًا مع الوقت. لكن يرى كلٌّ من كالمز وجارفيك أنه لكي يحدُث هذا التحسُّن الهائل، لا بد أن شيئًا آخرَ كان يجري؛ شيءٌ في عقول المرضى. كما في حالة السيكريتين، يبدو أن مجرد الاعتقاد أنهم قد تلَقَّوا علاجًا فعَّالًا كان كافيًا لتخفيف أعراضهم، وفي بعض الحالات إزالتها تمامًا.
تُسمَّى الظاهرة التي يبدو فيها أن الناس يتماثلون للشفاء بعد إعطائهم علاجًا وهميًّا بظاهرةِ أثرِ البلاسيبو، وهي معروفة في الطب. دائمًا ما يظهر أثرٌ قوي للدواء الوهمي (البلاسيبو) في التجارِب السريرية في طائفةٍ عريضة من الحالات، من الرَّبْو وضغط الدم المُرتفع واضطرابات الأمعاء إلى غثَيان الصباح وضعف الانتصاب. إلا أن العلماء والأطباء بوجهٍ عامٍّ يعتبرونه وهمًا أو خدعة، شذوذ إحصائي، حيث كان الناس سيتعافَون سواءٌ تلقَّوا العلاج أو لا، مُقترنًا بظاهرةِ التِباسٍ معنوي، حيث يتوهَّم أشخاصٌ يائسون أو بسطاء أنَّهم أفضلُ حالًا بينما هم ليسوا كذلك.
تُظهِر نتائج التجارِب أنه لم يكن للسيكريتين ولا لعملية رأب العمود الفقري أيُّ أثرٍ فعَّال. وبِناءً على ذلك، وفقًا لقواعد الطب القائم على الأدلة، التحسُّن الذي شعر به مَرْضى مثل باركر وبوني بلا قيمة.
من الواردِ أن تكون الصدفة قد تضافرَت مع التفكير القائم على التمنِّي لخداع الأطباء والمرضى في كل هذه الحالات. لكن مع الاستمرار في صرف النظر عن تجارِب الكثير جدًّا من الناس، لا يسَعُني إلا أن أتساءل عمَّا إذا كنَّا نستبعد أيضًا شيئًا قد يكون ذا فائدةٍ حقيقيَّة. وهنا يحضُرني سؤال. هل مِن الممكن أن يكون لتأثير البلاسيبو قيمةٌ علاجيَّة حقيقية في بعض الأحيان، وليس وهمًا يجب أن نقضيَ عليه؛ وإن كان كذلك، فهل يُمكننا تسخيرُه دون تعريض المرضى لعلاجاتٍ يُحتمَل أن تكون خطيرة؟
أو بعبارةٍ أخرى، هل يُمكن لاعتقادٍ بسيط — إننا سوف نتماثل للشفاء — أن يمتلكَ القدرةَ على أن يَشفيَنا؟
•••
تنحني روزانا كونسوني فوق المكتب، مُتشبِّثةً بحافتِه بيدها اليُسرى. أمامها لوحةُ تتبُّع رماديةٌ مُستطيلة، ومبدئيًّا تضع سبَّابتها اليُمنى على دائرةٍ خضراء في مركزها. كلَّ بضعِ ثوانٍ تُضيء دائرةٌ حمراء في مواقعَ مُتنوعةٍ حول حافة اللوحة. وحين يحدُث ذلك، يكون على روزانا أن تنقل إصبعَها من الأخضر إلى الأحمر بأسرعِ ما تستطيع.
إنها مهمةٌ يجدُها أغلب الناس سهلةً. إلا أن حاجِبَي السيدة ذاتِ السبعة والأربعين عامًا يُقطِّبان في تركيز، وتبدو مِثلَ طفل يُحاول الكتابةَ بصعوبة. كانت تستحثُّ يدها لتتحرَّك لكنَّ إصبعَها كان يتحرك ببطء، كما لو أنه لم يكن إصبعَها فعلًا. قالت لها ناصحةً اختصاصيَّة الأعصاب الشابَّة ذات المِعطف الأبيض، إليسا فريسالدي: «تنفَّسي.» في كل مرة كانت تصل روزانا بنجاح إلى النقطة الحمراء، يظهر الوقتُ الذي استغرقَته على هيئةِ عمودٍ أزرق في رسمٍ بياني على شاشة كمبيوتر فريسالدي.
هذا هو قِسم علم الأعصاب في مستشفى مولينيت في مدينة تورينو بإيطاليا. كان ذلك في الصباح الباكر حيث كان ضوءُ شمس الربيع يشعُّ بالخارج. على مَرمى حجَر من المستشفى راح الناس يُمارسون رياضة الرَّكض ويُنزِّهون كِلابهم في مسار المَراكب القريب من نهر بو المُترقرق المُترامي. وكانت الزهور تتساقط والسَّحالي تتجوَّل على الحشائش. أما نحن فكنَّا محشورين في حجرةٍ تحت الأرض بلا نوافذ مع أجهزة الكمبيوتر ومعدات المعمل وأريكةٍ زرقاء.
فريسالدي هي واحدة من أعضاء فريق يترأَّسه أحد رائدي أبحاث البلاسيبو، وهو عالم الأعصاب، فابريزيو بينديتي. المشكلة في التجارِب السريرية مثل عمليات رأب العمود الفقري والسيكريتين أنها لم تُصمَّم لقياس تأثير البلاسيبو، وإنما لاستبعاده. قد تكون أيُّ تغيُّرات تُلاحَظ في مجموعة البلاسيبو راجعةً إلى أسبابٍ عديدة، منها الصدفة العشوائية؛ لذلك لا يمكن التأكُّد أبدًا من حجم التحسُّن الناتج، إن وُجد، عن العلاج الوهمي نفسِه. أما بينديتي وفريسالدي فهُما، على النقيض، يستخدمان تجارِبَ مُختبريةً مضبوطة بعناية ليتحقَّقا بالضبط من الكيفية التي تستطيع بها اعتقاداتنا أن تُخفِّف من أعراضنا ومتى يحدُث ذلك.
كانت روزانا، مُتطوِّعةً اليوم، في الخمسين من عمرها حين لاحظَت لأوَّل مرة أن يدَها اليمنى بدأت ترتعش. بعد عامَين من الإنكار وعدم التيقُّن، تلقَّت أخيرًا تشخيصًا لحالتها: داء باركنسون. وهي حالة تُصيب واحدًا من كل ٥٠٠ شخص، ويوجد في الولايات المتحدة وحدها أكثرُ من نصف مليون مُصاب به. وهو مرضٌ تنكُّسي تموت فيه تدريجيًّا خلايا المخ المسئولة عن إنتاج أحد المُرسلات الكيميائية الذي يُسمَّى الدوبامين. ومع انخفاض معدَّلات الدوبامين في المخ، يشعر المرضى باستمرار بأعراضِ تدهورٍ منها تيبُّس العضلات وتباطؤ الحركة والرعاش.
وتُعالج الحالة عامةً بالليفودوبا، وهو وحدة بناء كيميائية يُحولها الجسم إلى دوبامين. إلا أن روزانا لم تكُن قد تناولت دواءها منذ الليلة السابقة، حتى يكون داء باركنسون في أشده من أجل تجربة فريسالدي. وصلَت مُتشبثةً بذراع زوجها، تُجرجر قدَمَيها بخطواتٍ مُرتعشة. حتى حين جلست، لم تنقطع عن الحركة. فكانت تتمايل أثناء حديثها، ويتأرجحُ قُرطاها الفِضِّيان، وتُلوِّح بيدَيها. كان ذقنُها ورقبتها يختلجان كأنها تمضغ شيئًا. كانت ترتدي واقيًا للرُّكبة أسفلَ سروالها الرمادي؛ لأنها كانت كثيرًا ما تسقط.
لكن في عام ٢٠٠٨، بدأتْ أعراضُها تتفاقم. تيبَّس جسدُها، وصارت أطرافُها تُقاوم رغبتَها في الحركة. في أحد الأيام ذهبَت إلى السوبر ماركت وحدها، مُخالِفةً نصيحةَ طبيبها، وحين اصطدمَت بها امرأةٌ في الصف لم تستطع أن تخطوَ لتستعيد توازُنَها، فسقطت على الأرض وانكسرَ ذِراعها. وتقول في هذا الشأن: «كنتُ خائفةً. شعرت أن شيئًا ما يتغيَّر في حياتي.»
أوصى طبيبُ روزانا بتدخُّلٍ جِراحي، وهي الآن ترتدي حمَّالة كتف سوداء، مُتصلةً بجِرابٍ يبدو مِثل حقيبة كاميرا صغيرة. يحتوي الجِراب على مِضخَّة إنفاذ محمولة تُوصل دواءها باستمرار، عبر أنبوب بلاستيكي مغروز في بطنها ليصلَ إلى أمعائها الدقيقة. إنها تَكْره هذا الجهاز المزروعَ في جسدها — تقول عنه: «إنه يجعلني أشعرُ كأنَّ لديَّ إعاقةً.» — لكنه يسمح لها بالاحتفاظ بقدرٍ ما من الاستقلالية.
الآن، مع إيقاف المِضخَّة، جعلت فريسالدي روزانا تؤدي سلسلةً من المهامِّ لتقييم حِدَّة أعراضها، من دون أي عقاقير. إلى جانب اختبار التتبُّع، كان عليها أن تُدير ذِراعَيها وتمشيَ في خطٍّ مستقيم مع لمسِ أنفِها باستمرار. بمجرَّد أن اكتمل التقييم الأساسي، حان وقت فتح الجراب وتشغيل المضخة ليبدأ ضخُّ دواء روزانا اليومي. أخذت المضخة تطنُّ وتُصفر؛ وهي اللحظة التي كانت في انتظارها. تقول: «ما إنْ أتناول دوائي، حتى يُصبحَ بمقدوري السيطرة على حركاتي بصورةٍ أفضل. أشعر بيديَّ ترتخيان، ويختفي التيبُّس من ساقَيَّ.» بعد مرور ٤٥ دقيقة، كان بوُسعي أن أرى ما كانت تقصد. فقد جلسَت بانتصابٍ أكثر. وصار ذقنها شِبه ثابت. وكانت تتحرك بثقةٍ أكبر، وانخفض الوقتُ الذي استغرَقَته في اختبار التتبُّع إلى النصف.
لكن إلى أيِّ درجة يرجع هذا التحوُّل إلى الدواء نفسِه، ولأي درجة يرجع إلى توقُّعها للراحة التي على وشك أن تشعرَ بها؟ تلك هي نوعيةُ الأسئلة التي أغلب التجارِب السريرية ليست مجهَّزةً للإجابة عليها، لكن فريسالدي تأمُل أن تُجيب عنها. اليوم ستحصل روزانا على جُرعةٍ كاملة من دوائها، لكن في الأيام الأخرى ستحصل هي والمُتطوِّعون الآخَرون على مجموعة من الجرعات مختلفة، وفي بعض الأحيان سيعرفون ما سيحصلون عليه، وفي أحيانٍ أخرى لن يعرفوا (لأسبابٍ أخلاقية، ليس مسموحًا لفريسالدي ألا تُعطيَهم الدواء على الإطلاق).
أجابت تجارِب ستوسل على ذلك السؤال. فقد أظهر باستخدام التصوير الضوئي للمخ أن أدمغة المُشاركين غُمِرَت بالدوبامين بعد تناول الدواء الوهمي، تمامًا كما يحدُث حين يتناولون دواءهم الحقيقي. ولم يكن أثرًا بسيطًا — تضاعفَت مستوياتُ الدوبامين ثلاث مرَّات، وهو ما يُساوي أثر جرعة أمفيتامين في حالة الشخص المُعافى — وكل هذا لمجرد «الاعتقاد» بأنهم قد تناوَلوا دواءهم.
تابع بينديتي ذلك الاكتشاف، هنا في تورينو. كان يُجري لمرضى باركنسون جِراحةً ضِمن علاج يُسمَّى التحفيزَ العميق للدماغ. وهي تتضمَّن زرْعَ أقطابٍ كهربائية في أعماق المخ، في منطقة تُسمَّى النواة أسفل المهاد، وهي تُساعد في التحكُّم في الحركة. عادةً يُسيطر الدوبامين على الخلايا العصبية في هذه المنطقة، لكن في حالة مَرْضى باركنسون تخرج هذه الخلايا عن السيطرة، مُتسبِّبةً في تيبُّس وارتعاشات. لكن بمجرد زرع الأقطاب الكهربائية، تُحفَّز هذه المناطق وتهدأ الخلايا العصبية.
لما كانت هذه الجِراحة تُجرى والمرضى مُستيقظون، وجد بينديتي في ذلك فرصةً مُمتازةً لرؤية أثر البلاسيبو أثناء حدوثه. كان من شأن القُطب الكهربائي أن يُتيح له رصد النشاط في أعماق الدماغ عند تعاطي الدواء الوهمي؛ وهو أمرٌ ليس مُمكنًا عادةً في حالة المُتطوِّعين من البشر. وهكذا أجرى سلسلةً من التجارِب؛ فبمجرد إدخال القطب الكهربائي، كان يُعطي المرضى حقنةَ محلولٍ مِلحي، قائلًا لهم إنه دواءٌ قوي ضدَّ مرض باركنسون، يُسمى آبومورفين.
أثناء انتظارنا أن يؤتيَ دواءُ روزانا مفعوله، عرَضَت فريسالدي مجموعة من الشرائح على شاشة الكمبيوتر. أرَتْني أولًا نشاط المخ الذي سجَّله بينديتي قبل حقنة المحلول الملحي. كان رسمًا بيانيًّا خطيًّا بالأبيض والأسود، يُظهِر سلوكَ خليةٍ عصبية واحدة في نواةٍ أسفلَ المهاد لأحد مرضى الدراسة. في كل مرة تنشط الخلية العصبية، يقفز الخطُّ إلى حدٍّ أقصى. بدا الرسم البياني بوجهٍ عامٍّ مِثلَ شفرة خيطية (باركود)، غابة كثيفة من الارتفاعات تكاد تكون سوداء تمامًا؛ هذا يدلُّ على خليةٍ عصبيةٍ خارجة عن السيطرة. ثم أرَتْني نشاطَ الخلية العصبية نفسِها بعد حَقْن الدواء الوهمي. كان ثَمة سكونٌ افتراضي؛ مساحة بيضاء في أغلبها لا يخرقها سوى ارتفاعٍ شاذٍّ وحيد.
كان ما أثبتَه ستوسيل وبينديتي معًا شيئًا مُميزًا. فعلى الرغم من ملاحظة تأثيرات البلاسيبو على مرضى باركنسون، فلم يخطر ببال أيِّ أحدٍ أن الأدوية الوهمية قد تُحاكي في الواقع التأثيرَ البيولوجي للعلاج. لكن كان ها هنا دليلٌ على أن المرضى لم يكونوا يتخيَّلون استجابتهم، أو يُوازِنون أعراضهم بطريقة أو أخرى. فقد كان التأثير قابلًا للقياس. كان حقيقيًّا. وكان مُتطابقًا فسيولوجيًّا مع تأثير الدواء الحقيقي.
بعد ساعة تقريبًا، زال تأثيرُ دواءِ روزانا وانتهت التجرِبة. أخبرتني أنها ما زالت تُخطِّط للسباحة في فيرسيليا هذا الصيف، حتى مع الجهاز المزروع في جسدها، وأنها لا تُضيع وقتها في القلق حول الطريقة التي قد يتطوَّر بها مرضُها. قالت لي: «أفكِّر دائمًا في اللحظة الراهنة؛ فليس لديَّ رغبةٌ في استطلاع المستقبل. هذه هي طبيعتي عمومًا، ولم يُغيِّرها المرض.» أخرجَت هاتفها وعرَضَت عليَّ مزهوَّةً إحدى الصور: ٧٠ كيلوجرامًا من الليمون من حديقتها. حين نهضَت لترحَل، كانت ضئيلة ولا تزال تتمايل، بدَت مثل نَبْتة ضعيفة تتطاير بفعل الرِّيح.
بعد اطِّلاعي على الأبحاث على مرضى باركنسون، بِتُّ مبهورةً بالتأثير الذي يُمكن للعلاج الوهمي أن يُحدِثه، لكن ظَل لديَّ المزيد من الأسئلة. إذا كان بوُسع اعتقاد أن يُحدِث نفسَ تأثيرِ عقارٍ ما، فما حاجتنا إلى الأدوية من الأساس؟ وهل تُجْدي الأدوية الوهمية مع كلِّ الحالات، أو مع بعضها فقط؟ كيف يُمكن لمحضِ إيحاءٍ أن يُحدِث تأثيرًا بيولوجيًّا؟ لاكتشاف ذلك، قرَّرت أن أزورَ بينديتي نفسَه. لكن رغم أن هذا كان مَعملَه، لم يكن موجودًا. حتى أعثر عليه كان عليَّ أن أُسافر ٧٥ ميلًا شمالًا من تورينو، ونحو ١٢٠٠٠ قَدمٍ لأعلى.
•••
وقفتُ على حافةِ مُنحدر، أُراقب غربان جبال الألب السوداء وهي تنقضُّ إلى الأسفل أمام خلفيَّة من الثلج الأبيض الوهَّاج الذي يُناقض سوادَها، وعلى الناحية الأخرى كان يمتدُّ حتى الأفقِ غِطاءٌ مُجعَّد من قِمم الجبال. كانت الأصواتُ مكتومة في الهواء المُتخلخل، وفي درجة حرارة بلَغَت ١٠ تحت الصفر، كان البرد قارسًا. كان خلفي امتدادٌ شاسع من الجليد؛ النهر الجليدي بلاتو روزا. كان هذا المكان على ارتفاع ٣٥٠٠ متر فوق سطح البحر، على الحدود بين «الارتفاع العالي» و«الارتفاع العالي جدًّا» على حدِّ وصف العلماء. هذا هو أقصى ارتفاع يُمكنك بُلوغُه في جبال الألب. من هنا، وحدها قمَّة ماترهورن الشهيرة تَعْلو كيلومترًا آخَر، ويخترق مُثلَّثُها المُتقوسُ السماءَ ذاتَ الزُّرقة اللازَوَرْدية.
كنَّا في الصباح الباكر ولا تزال الهضبة خاليةً. ثم جاءت عرَبة تلفريك مُعلَّقة ضخمة، وأنزلَت حمولتها من مُتزلِّجين يرتدون ملابسَ زاهية. وقد مرُّوا مُتدفِّقين أمامي، قاصدين المُنحدرَ الضحل للنهر الجليدي، وبالكاد يلحظون ما يُشبه سقيفةً معدِنيةً جاثمة على جانب الجبل. نِصفها مطمورٌ في الثلج ومغطَّاة بالسقالات.
كان بينديتي داخل السقيفة. كان طويلًا ووَدودًا، ويرتدي سروالَ تزلُّج أسودَ وسُترةً صوفية. كان ذلك هو مُختبَرَه العاليَ الارتفاع، المليءَ بالمعِدَّات، الذي تصطفُّ فيه ألواحُ خشبِ الصَّنَوبر مثل حُجرة الساونا. أخذني في جولة في المكان، مُشيرًا إلى السقف الراشح — قال: «إنه فظيع في الصيف» — وترَكني أُلقي نظرة على تلسكوب أشعَّة تحت حمراء، طوله ثلاثة أمتار، يُشاركه السكَن.
باستثناء التلسكوب، كان بينديتي قد جهَّز هذا المكان بنفسه، حيث اتَّخذ الترتيبات لإحضار كل اللوازم بالهليكوبتر. توجد مساحةٌ رئيسية للمعيشة ومطبخ، بالإضافة إلى حُجرتَين للنوم بأسِرَّة من طابَقَين، ومعدَّات لمراقبة النوم، وإطلالةٍ خلَّابة. وتمرُّ حدودٌ دولية مباشرةً عبر الكوخ، بحيث إذا خرَجْنا من منطقة المعيشة الواقعة في إيطاليا، ننتقل إلى المُختبَر الواقع في سويسرا.
تبيَّن أن المُختبَر عبارة عن حجرتَين مُتجاورتين، مجهَّزتين بفوضى من الآلات والشاشات، ومصابيحَ ومفاتيح تُومِض وتنطفئ، وخزَّانات كتب مليئة بالمِلفَّات. كانت الأسلاك ممتدَّةً عبر السقف، وأسطوانات غاز خضراء كبيرة مركونة إلى الحائط. وقد أدهشني الضجيج؛ أصوات طنين وأزيز، ونقرات بتردُّداتٍ مختلفة، وهسهسة متكرِّرة. أضِفْ إلى ذلك صوتَ الرطم المُتواصل الصادر عن جهازٍ يُحاكي صعود الدرَج. كان يتمرَّن عليه فأرُ تجارِب بينديتي في ذلك اليوم، وهو مهندسٌ شابٌّ ضخم يُدعى ديفيد.
كان سبب وجود بينديتي في هذا المكان أن الهواء المُتخلخل مثاليٌّ لدراسة تأثير البلاسيبو على اعتلالٍ آخَر: هو داء المرتفعات. بدلًا من العمل مع مرضى مُعتلِّين، يُمكنه إثارة الأعراض في مُتطوِّعين أصحَّاء ببساطة بأن يأتيَ بهم إلى هنا. ثم يتلاعبَ باعتقاداتهم وتوقُّعاتهم، ويرصدَ الآثار الفسيولوجية.
يَنتُج داء المرتفعات عن نقص في الأكسجين. فكلَّما ارتفعنا فوق مستوى سطح البحر، تظلُّ نسبة الأكسجين في الهواء كما هي، لكن الهواء يَصير أقلَّ كثافةً؛ ممَّا يعني أن كمية الأكسجين تصبح أقلَّ في كل نفَسٍ نستنشقه. وهنا على ارتفاع ٣٥٠٠ متر، كانت كثافة الأكسجين لا تتعدَّى ثُلثَي كثافته في مستوى سطح البحر. وذلك يمكن أن يُسبِّب أعراضًا منها الدُّوار والغثيان والصُّداع. والنصيحة التي يُنصَح بها المُتزلجون المُسافرون إلى بلاتو روزا أن يُتيحوا لأنفسهم وقتًا للتأقلُم بتنظيم الرحلة إلى هنا ليلًا. لكن للوصول بتأثير الارتفاع لأقصى حدٍّ من أجل تجرِبة بينديتي، وصل ديفيد إلى هنا بعد ثلاث ساعات فقط من السفر من تورينو الواقعة في مستوى سطح البحر.
بينما كان ديفيد يتمرَّن، ظلَّ بينديتي يُراقب البياناتِ وهي تأتيه على جهاز الآي باد. كانت ضرباتُ قلب المهندس تُترجَم إلى خطوطٍ خضراء تتموَّج عبر شاشة سوداء، فيما يظهر تشبُّع دمه بالأكسجين على شاشة عرض رَقْمية، وعند مستوى سطح البحر عادةً ما يكون حوالَي ٩٧-٩٨٪، لكنه هبَط الآن إلى ٨٠٪ فقط. على شاشة كمبيوتر قريبة، ظلَّت موجات بالأصفر والأحمر والأزرق تنبض على رأسٍ دوَّار؛ كان هذا هو نشاطَ مخ ديفيد.
ظلَّ يتمرَّن على جهاز مُحاكي الدرَج ١٥ دقيقة، ثم ارتدى قِناع أكسجين متَّصلًا بأسطوانةٍ بيضاء صغيرة على صدره، قال بينديتي: إنها ستجعل نشاطَه أسهلَ فيما تبقَّى من الاختبار. ما لم يُخبِره بينديتي (ولا أخبرني) به أن هذا القناعَ غيرُ موصَّل، ولا بأن الأسطوانةَ فارغة. كان ديفيد يستنشق أكسجينًا وهميًّا.
•••
قابلتُ بينديتي أولَ مرة في الليلة السابقة، حيث احتسَينا الجِعَة وتناولنا البيتزا بالأسفل في بروي سيرفينيا، أقربِ مُنتجَعِ تزلُّج. كان يبدو مُرتاحًا تمامًا في الكوخ الجبلي، وقد ارتدى كنزةً صوفيةً ذاتَ خطوط مُتعرِّجة. رغم أنه من الساحل الإيطالي، كان دائمًا ما يشعر بالضجَر على الشاطئ، كما أخبرني. كان يعشق الجبال.
بدأ اهتمامه بتأثير العوامل النفسيَّة على أجسادنا المادية في سبعينيَّات القرن العشرين، حين ابتدأ حياته المهنية اختصاصيَّ أعصاب بجامعة تورينو. كان قد لاحَظ بالفعل عند إجرائه تجارِب سريرية، أنَّ مرضى مجموعة الدواء الوهمي كثيرًا ما يتحسَّنون بقدر أولئك الذين تلقَّوا أدويةً حقيقية، أو كانوا يتحسَّنون على نحوٍ أفضل منهم. ثم طالَع ورقةً بحثيةً غيَّرَت مجرى حياته، ناهيك عن أنها غيَّرَت فَهْم العالم لتأثير البلاسيبو.
كان العلماء قد اكتشفوا مؤخَّرًا فئةً من الجُزَيئات تُنتَج في المخ تُسمَّى الإندورفينات، تعمل كأنها مُسكِّناتٌ طبيعية. الإندورفينات من المواد الأفيونية، وهو ما يعني أنها تنتمي إلى العائلة الكيميائية نفسها التي ينتمي إليها المورفين والهيروين. كانت تأثيرات هذه العقاقير القوية على الجسم معروفةً جيدًا، لكن حقيقة أنَّنا من الممكن أن نصنع أنواعًا خاصَّة بنا من تلك الجُزيئات كانت بمثابة اكتشاف. كانت أولَ إشارة إلى أن المخ قادر على إنتاج مخدِّراته الخاصة.
كانت هذه «لحظة ميلاد بيولوجيا البلاسيبو»، على حدِّ قول بينديتي. كان هذا أولَ دليلٍ أن لتأثير البلاسيبو مساراتٍ بيوكيميائيةً. بعبارةٍ أخرى، إذا تناوَل أحد الأشخاص دواءً وهميًّا وشعر بزوال ألمه، فليس هذا خداعًا، أو استغراقًا في التمنِّي، أو خيالًا. إنه إحدى آليات الجسم، وهي ملموسةٌ مِثل تأثيرات أي عقار. تساءل بينديتي عما إذا كان هذا يُمكن أن يُفسِّر أيضًا سبب التحسُّن الشديد لمرضى الدواء الوهمي في تجارِبه. «قرَّرت أن أبحث بشأن ما كان يدور في أدمغتهم.»
كَرَّس حياته المِهْنية لكشف النقاب عن تأثير البلاسيبو، بدءًا بتسكين الألم. وخلال التجارِب تعرَّف على المزيد من المواد الكيميائية الطبيعية التي يُنتجها المخ، والتي، بِناءً على اعتقاداتنا، يمكن أن تَزيد من استجابتنا للألم أو تُخفِّفها. وجد أن مفعول المسكِّنات الوهمية حين يتعاطها الناس بدلًا من العقاقير الأفيونية لا يقتصر على تخفيف الألم فحسب، وإنما أيضًا يُبطئ التنفُّس ومعدَّلَ ضربات القلب، تمامًا كما تفعل العقاقير الأفيونية. واكتشف أن بعض العقاقير التي كان يُعتقَد أنها مسكِّناتٌ فعَّالة للألم ليس لها تأثيرٌ مباشر على الألم على الإطلاق.
من المُفترَض أن تؤتيَ المسكِّنات الأفيونية مفعولَها بالارتباط بمستقبلات الإندورفين في المخ. ولا تتأثَّر هذه الآلية بما إذا كنا نعرف أننا تناوَلْنا عقارًا معيَّنًا أو لا. بيَّن بينديتي أنه بالإضافة إلى طريقة العمل هذه، تؤثِّر تلك العقاقير بطريقة تأثير الأدوية الوهمية نفسها؛ فهي تُثير لدينا توقعًا بأن الألم سوف يخفُّ؛ ممَّا يؤدي بدَوره إلى إفراز الإندورفينات الطبيعية في المخ. يتوقَّف هذا المسار الثاني على معرفتنا بأننا تناولنا عقارًا (وأن تكون لدينا توقُّعاتنا الإيجابية بشأنه). المُدهِش أن بينديتي وجَد أن بعض العقاقير، التي كان يُعتقَد سابقًا أنها مسكِّناتٌ قوية، تعمل بهذا المسار الثاني «فقط». فإذا كنتَ لا تعلم أنك قد تناولتها تصير عديمةَ الفائدة.
لكن هذه ليست سِوى إحدى آليات الدواء الوهمي. اكتشف بينديتي أيضًا تأثيرات بلاسيبو أخرى مخفِّفة للألم لا تنتقل بواسطة الإندورفينات، ولا يُمكن أن يمنعَها النالوكسون. بعد ذلك انتقل إلى دراسة تأثيرات البلاسيبو على المُصابين بداء باركنسون، وهو البحث الذي سمعت به من فريسالدي، الذي يعمل عبر آلية أخرى؛ وهي إفراز الدوبامين. لم تُدرَس تأثيرات البلاسيبو حتى الآن إلا في عددٍ قليل من الأنظمة، ولكن ربما يوجد العديد من الأنظمة الأخرى. يُشدِّد بينديتي على أن تأثير البلاسيبو ليس ظاهرةً مُنفردة، وإنما «بَوْتقة انصهار» من الاستجابات، التي يستخدم كلٌّ منها مكوِّناتٍ مختلفةً من الصيدلية الطبيعية للمخ.
هنا في أعالي جبال الألب، كان بينديتي قد بدأ من فَوره دراسةَ كيفية تأثير البلاسيبو في حالة داء المرتفعات. حين نكون على ارتفاعٍ عالٍ، يحثُّ انخفاض مستويات الأكسجين المخ على إنتاج مُرسِلات كيميائيَّة تُسمَّى البروستاجلاندينات. تُسبب هذه الناقلات العصبية عدةَ تغيُّرات فيزيائية، مثل توسيع الأوعية الدموية، للمساعدة على ضخِّ المزيد من الأكسجين في سائر الجسم. كما يُعتقَد أنها تُسبِّب الصُّداع والدُّوار والغثيان المُصاحبين لداء المرتفعات. فهل يُمكن للأكسجين الوهمي أن يقطع هذا المسارَ ويُخفِّف الأعراض؟
انتهى ديفيد من مرحلة التمرين التي استمرَّت نصف الساعة. بدا واضحًا أن الارتفاع كان قد أثَّر عليه؛ فقد بدا دائخًا، وترنَّح قليلًا حين ساعَده بينديتي على الجلوس. لكنه بذل مجهودًا لا بأس به على الجهاز الرياضي، مجهودٌ ممتاز لشخصٍ كان على مستوى سطح البحر منذ بضع ساعات فقط. أخبرني بينديتي لاحقًا، بعد تحليل نتائج ديفيد ومُتطوعين آخَرين، أن الأكسجين الوهميَّ كان له بلا شك تأثيرٌ بيولوجي في أدمغتهم بالمقارنة بالمجموعة المعيارية التي لم تُعطَ العلاج الوهمي. ومع أن مستويات الأكسجين في الدم ظلَّت كما هي، فقد تراجعَت مستويات البروستاجلاندين وقلَّ تمدُّد الأوعية الدموية. حين شعر المُتطوِّعون بتأثير البلاسيبو (لم يشعر به كلُّهم) استجابت أدمغتهم كما لو كانوا يستنشقون أكسجينًا حقيقيًّا؛ ممَّا خفَّف ممَّا كانوا يُعانون منه من أعراض، وأتاح لهم أن يؤدُّوا على نحوٍ أفضل.
تُوضِّح هذه النتيجة نقطتين مهمَّتَين حولَ حدود تأثير البلاسيبو. النقطة الأولى هي أن أيَّ آثارٍ ناجمة عن الاعتقاد في علاجٍ ما مرهونةٌ بالأدوات الطبيعية المُتاحة في الجسم. فاستنشاق أكسجين وهمي يُمكن أن يجعل المخَّ يستجيب كأن الهواء يحتوي على المزيد من الأكسجين، لكن لا يمكن أن يرفع المعدَّل الأساسي للأكسجين في الدم. ينطبق هذا المبدأ أيضًا على الحالات الطبية. قد يُساعد دواءٌ وهمي مريضًا بالتليُّف الكيسي على التنفُّس بسهولةٍ أكثرَ بعضَ الشيء، لكنه لن يُخلِّق البروتين الناقصَ الذي تحتاج إليه رِئتاه، مِثلَما لا يمكن أن تنموَ ساقٌ جديدة لشخصٍ مبتور الساق. كما لا يستطيع الدواء الوهمي أن يحلَّ محل جرعة الأنسولين لشخصٍ مُصاب بداء السُّكري من النوع الأول.
النقطة الثانية، التي صارت واضحة بناءً على سلسلة من دراسات البلاسيبو، أن التأثيرات التي ينقلها التوقُّع تميل إلى أن تكون مُقتصرةً على الأعراض، أي: الأشياء التي نشعر بها عن وعيٍ منا، مثل الألم أو الحكَّة أو الطفح أو الإسهال، وكذلك على الوظائف المعرفية، والنوم وتأثيرات مخدِّرات مثل الكافيين والكحول. كذلك يبدو أن تأثيرات البلاسيبو قوية على نحوٍ خاص في حالات الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق والإدمان.
هذه حدودٌ حاسمة. فالأدوية الوهميَّة لا تصنع سِحرًا وِقائيًّا فائقَ القدرة بإمكانه الحفاظ على صِحتنا في كل الظروف. لن يكون بمقدورنا الاستغناء عن الأدوية والعلاجات المادية. لكن من ناحيةٍ أخرى، تُظهِر أبحاث بينديتي أن تأثيرات البلاسيبو تدعمها تغييراتٌ فيزيائية قابلةٌ للقياس في المخ والجسم. وكون الفوائد الناجمة عن البلاسيبو ذاتيةً في أغلبها، فذلك لا يعني أنها لا تحمل قيمةً مُحتملة للطب.
على أيِّ حال، تستهدف العديد من العلاجات المُستخدَمة في الطب الأعراضَ وليس عمليات المرض الكامن، لا سيَّما حين يكون المرض الكامن صعبَ التشخيص أو العلاج. إن نموَّ الورم ومدَّة البقاء على قيد الحياة أمران حاسمان لمريضِ السرطان، لكن التحكُّم في الألم وجودة الحياة أمران مهمَّان أيضًا. إن إخبار مريضِ مُتلازمةِ الاعتلال العضلي الليفي أو متلازمةِ القولون العصبي بأنه ليس به علةٌ جسدية لن يجعلَه يشعر براحةٍ كبيرة. لكن التحسُّن الذاتي في الأفكار الانتحارية لدى مريض الاكتئاب يمكن أن يكون سببًا لنجاته من الموت.
إذن قد يبدو العلاج الوهمي في ظاهره دواءً سحريًّا، ذا فوائدَ واسعةِ النطاق، وبلا آثارٍ جانبية، وبلا تكاليفَ من الأساس. لكن كانت ثَمة دومًا مشكلةٌ واحدةٌ كبيرة، تجعل حتى الأطبَّاءَ الذين يعترفون بقوة العلاجات الوهمية يرفضون استخدامَها في الطب. كان الافتراض دائمًا أنه لا بد أن تكذب على المرضى حتى يصير العلاج الوهمي فعَّالًا؛ أن تخدعهم ليَظنُّوا أنهم يتلقَّون علاجًا فِعليًّا في حين أنهم ليسوا كذلك. ويُجادل المُنتقدون بأنه أيًّا كانت الفوائد المُحتملة التي قد تنتُج عن العلاجات الوهمية، فهي لا تستحقُّ المُجازَفة بعلاقة الثقة الأساسية بين الأطباء والمرضى.
لكن خلال السنوات القليلة الماضية، بدأ بعض العلماء يدفعون بأن هذا الافتراض التقليديَّ خاطئ. ويمكن لنتائجهم أن تقلب عالَم الطب التقليدي رأسًا على عقِب.