ينبوع الشباب
شِبه جزيرة نيكويا في شمال غرب كوستاريكا هي واحدةٌ من أجمل الأماكن على ظهر الكوكب. فهذه القطعة الصغيرة من اليابسة الممتدَّة ٧٥ ميلًا، جنوبَ حدود نيكاراجوا بالضبط، مغطَّاةٌ بمَراعي الماشية والغابات المطيرة المَدارية الممتدَّة حتى أمواج المحيط الهادئ المُتلاطمة. وعلى الساحل تنتشرُ مناطق الوافدين الذين يشغَلون وقتهم بركوب الأمواج وتعلُّم اليوجا والتأمُّل على الشاطئ.
أما حياة السكان المحليِّين فليست بهذه الروعة. فهم يعيشون في قرًى ريفيةٍ صغيرة فُرصُها محدودةٌ في الحصول على خِدماتٍ أساسية من قَبيل الكهرباء، وتربط بينها مساراتٌ وعرةٌ تصير مغبرَّة في الفصول الجافَّة، وغالبًا لا يمكن اجتيازُها حين تهطل الأمطار. يكسب الرجالُ قوتَ يومهم من صيد الأسماك والزراعة، أو بالعمل عمالًا أو «سابانيروز» (رُعاة أبقار في مَزارعَ ضخمةٍ للماشية)، بينما تطهو النساءُ الطعامَ في أفرانٍ تشتعل بالحطب. إلا أن سكان نيكويا يشتهرون بشيءٍ أدهش الناسَ وجذَب انتباهَ العلماء من أنحاء العالم.
يبلغ متوسطُ دخل الفرد في كوستاريكا خُمْس مثيله في الولايات المتحدة، لكن إذ نجا سُكانها من معدَّلات العدوى والحوادث المرتفعة نسبيًّا في البلد في مراحلَ مُبكرةٍ من حياتهم، يتبيَّن أنهم يعيشون طويلًا جدًّا؛ وهي ظاهرةٌ تكون أقوى عند الرجال. وجد روسيرو بيكسبي أن الرجال الكوستاريكيين البالغين ٦٠ عامًا من المتوقَّع أن يعيشوا ٢٢ عامًا أخرى، وهو أكثرُ قليلًا مما في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وإذا بلغ التسعين، فمن المتوقَّع أن يعيشوا ٤٫٤ سنوات أخرى، وهو ما يَزيد عن أي بلد أخرى في العالم بستة أشهر.
في نيكويا، الْتَقى بولان وبويتنر بأناسٍ مثل رفاييل أنجيل ليون ليون، وهو رجلٌ كان قد بلَغ من العمر ١٠٠ عام، وكان لا يزال يحصد الذُّرة والفاصولياء لنفسِه ويَرْعى ماشيتَه، مع زوجةٍ تصغره بأربعين عامًا. وعلى مَقرُبة منه كانت تعيش فرانشيسكا كاستيلو ذاتُ التسعة والتسعين عامًا، التي تقطع حطبَها بنفسها، وتسير مسافةَ ميل إلى البلدة مرتَين أسبوعيًّا. وكانت هناك أوفيليا جوميز جوميز البالغةُ ١٠٢ عام، التي كانت تعيش مع ابنتها وزوجِ ابنتها واثنَين من الأحفاد. وحين زارها فريق بويتنر، ألقَت عليهم من الذاكرة قصيدةً مدتُها ستُّ دقائق لبابلو نيرودا. كان جميع كبار السن الذين التقَوا بهم لا يزالون ناشطين ذهنيًّا وجسمانيًّا واجتماعيًّا، رغم تقدُّمهم في العمر.
وضَع بولان وبويتنر قائمةً بالأشياء التي يحتمل أن تكون هي ما يُساعد سكانَ نيكويا على التقدُّم في العمر بصحةٍ جيدة. إنهم يعيشون حياةً نشيطة، حتى في السنِّ المتقدمة. ولديهم إيمانٌ ديني قوي. عدم وجود كهرباء للإضاءة يعني أنهم يَخلُدون إلى النوم مبكرًا، وينامون ثمانيَ ساعات يوميًّا في المتوسط. كما أنهم يشربون مياهًا غنية بالكالسيوم (وهو أمرٌ مُفيد للقلب)، ويأكلون فاكهةً مضادَّة للأكسدة.
رغم أن المشروع كان مُثيرًا للاهتمام، فإنه لم يستطع تحديدَ العوامل الحاسمة. لكن أجرى روسيرو بيكسبي مؤخرًا دراسةً استهدفت فِعل ذلك بالضبط. فقد تعاوَن مع ديفيد ريهكوف، اختصاصيِّ علم الوبائيات في جامعة ستانفورد بكاليفورنيا. أخذ الاثنان عيِّناتِ دمٍ من نحو ٦٠٠ مُسنٍّ كوستاريكي، بينهم أكثرُ من ٢٠٠ من نيكويا. وأرسَلا عينات الدم إلى مختبَر إليزابيث بلاكبيرن في سان فرانسيسكو، حيث قاست طولَ التيلوميرات. فإذا كان سكانُ نيكويا يَشيخون ببطء حقًّا، فلا بد أن يظهر هذا في نتائجها.
لبحث السبب وراء الطول الشديد للتيلوميرات لدى سكان نيكويا، حلَّل روسيرو بيكسبي وريهكوف تأثيراتِ كل شيء من الصحة البدنية للسكانِ لمستوى التعليم لاستهلاكهم زيوتَ السمك. لا يُحدِث النظامُ الغذائي فارقًا ظاهرًا، وأهل نيكويا أسوأ من غيرهم من الكوستاريكيين فيما يتعلق بالقياسات الصحية مثلِ البدانة وضغط الدم. ولا يبدو أن بطءَ تقدُّمِهم في السن مُترتبٌ على الجينات كذلك؛ إذ يفقد أهلُ نيكويا مزيةَ طول أعمارهم إذا انتقلوا من المنطقة. كما أن المال ليس السبب؛ فالأشخاص الأكثرُ ثراءً لديهم في الواقع تيلوميراتٌ أقصر.
لكن توجد بعضُ القرائن. فقد وجَد ريهكوف وروسيرو بيكسبي أن أهل نيكويا أقلُّ نزوعًا إلى العيش وحدَهم من سائر الكوستاريكيِّين، وأكثرُ ميلًا إلى التواصل أسبوعيًّا مع طفل. يبدو ذلك التواصل الاجتماعي ذا أهميةٍ بالغة. ففارقُ طول التيلوميرات يصل إلى النصف لدى أهل نيكويا الذين لا يرَون طفلًا مرةً أسبوعيًّا، وإذا كانوا يعيشون بمفردهم، يفقدون ميزتهم تمامًا.
وجدَت دراساتٌ أخرى أن ارتباط أهل نيكويا النفسيَّ بالأسرة يفوق نظيرَه لدى سكان عاصمة كوستاريكا، سان خوسيه. لذلك يُخمن ريهكوف وروسيرو بيكسبي أنه ربما تكون الروابطُ الأُسَرية الوثيقةُ هي ما يَحمي سكان نيكويا من توتُّر الحياة الذي كان سيقصر التيلوميرات لولاها. وهكذا على الرغم من فقرهم، فإن الروابط الاجتماعية القوية تُحافظ على شبابهم.
مما يدعم الفكرةَ أيضًا عقودٌ من الأدلة من مجتمعاتٍ تُعاني من الظاهرة المُناقضة؛ الفقدان التدريجي للروابط الاجتماعية.
•••
العقار التابعُ لمجلس بلدية جنوب لندن الذي تعيش فيه لوبيتا كويردا البالغة من العمر ٦٩ عامًا كالحٌ وقاتم، كله بلاطاتُ رصف وأسمنت. وقد ذهبت لزيارتها مع أحد العاملين في الجمعية الخيرية «أيج يو كيه»، التي تُرسل مُتطوعين للدردشة مع المسنِّين المعزولين. وقد كان السلَّم المشترك المؤدِّي إلى مسكن لوبيتا مغطًّى بالوسخ وخيوط العنكبوت، وعلى بابها عدةُ أقفال.
لكنها فتحَت لنا الباب بابتسامةٍ عريضة، ورحَّبت بنا، وأرشدَتنا إلى طاولةٍ خشبية بسيطة في مطبخها الصغير. كانت الشقة نظيفةً ومرتَّبة، ذاتَ جدران مطليَّة بلونٍ أحمرَ مائلٍ إلى البرتقالي يَشي بالدفء. كان يوجد مَوقدٌ قديمُ الطراز، بينما حمَلت رفوف المطبخ أكوامًا من شرائط التسجيل، والقليلَ من اليقطين والقرع، ودُميةً خشبية من أمريكا الجنوبية. كانت لوبيتا ترتدي منامة (فقد أصبحت تجد راحةً أكبر في الملابس الفضفاضة بعد سقوطها مؤخرًا) وروبًا منزليًّا كستنائيًّا. وهي ذات يدَين رشيقتين وملامحَ رقيقةٍ، لكن ما يطغى على مظهرها الآن هو شعرها الرمادي الكثيف، وعينان غائرتان نصفُ مُغمَضتَين.
نشأت لوبيتا في سانتياجو، شيلي، حيث تدَّرَبت للعمل صحافيةً. بعد أن تولَّى الديكتاتور أوجستو بينوشيه السلطةَ في انقلابٍ مدعومٍ من الولايات المتحدة في ١٩٧٣، عملَت لصالح المقاومة، بنشرِ منشوراتٍ حولَ فظائعِ النظام. وقد سُجِن زملاؤها، وعُذِّب والدها، وفي عام ١٩٧٨ أجْلَتها الأمم المتحدة وذهبَت إلى المملكة المتحدة.
لكن لم تكن لغتُها الإنجليزية جيدةً بما يكفي للاستمرار في العمل صحافية؛ لذلك بعد أن درَسَت وجدَت وظيفة اختصاصية اجتماعية في مجلس لامبيث. وقد كانت تستمتع بالقراءة والرسم، لكنها كانت تَهْوى السفر أكثرَ من أي شيء آخر. فقد أخذَت تسرد البلاد التي زارتها؛ إسكندنافيا والهند والصين ومصر وأيرلندا وأمريكا اللاتينية. فهي تقول: «أحببتُ وجودي هناك، مع الناس. وتناوُلَ الطعام في الأسواق والشعور بثقافتهم ورؤيتها وأن أكون فيها.» ولاحقًا، حين كانت في الثامنة والخمسين، كُفَّ بصرها تمامًا خلال مدة ستة أشهر.
عندما كانت لوبيتا طفلة، أُصيبت بعدوى داءِ المقوسات؛ مما أصابها بقِصَر النظر. وكان الطُّفيل قد ظل خاملًا في جسدها، ثم قضى على بصرها تمامًا فيما بعد. كانت لوبيتا مطلَّقة، وتعيش الآن بمفردها. ورغم أنها كانت تعتمد على نفسِها بالكامل قبل أن تصير كفيفة، فلم تَعُد الآن قادرةً حتى على إعداد شطيرة؛ إذ كانت تأكلُ بإمساك الخبز في يدٍ والجُبن في اليد الأخرى.
وتقول: «كنتُ مصدومة. وظللتُ جالسةً على هذا الكرسي طوال سنة.» لكنها بدأت حياتها من جديد تدريجيًّا، وتمكَّنَت من التعرف على شقتها — كل زاوية وكل أنبوب — باللمس. وتخلَّصَت من الأغراض غيرِ الضرورية؛ كل النباتات، ومجموعة القبَّعات التقليدية التي جمَعَتها من أنحاء العالم، وحتى البِساط المنسوج المفضَّل لديها من المكسيك؛ تحسبًا لأن تتعثَّر فيه. احتفظت فقط ببضعة مُقتنَيات ثمينة من بينها الملصق المؤطَّر على الحائط خلفها، فهو عزيزٌ عليها وإن كانت لم تَعُد تستطيع رؤيته؛ ورسمة مُبهجة ذات خطوط وبُقع للرسَّام الإنجليزي هوارد هودجكين. وقد قلت معلِّقةً عليها إنها تبدو مثل الإطلال من نافذةٍ على سماءٍ زرقاء. فضحكَت وقالت: «بالضبط، نافذة مَخدعي!»
استعادت لوبيتا استقلاليتَها. فقد تعلَّمت أن تتسوَّق لنفسها، وتُنظف وتخبز الخبز، وأن تَخيط حتى، إذا ساعَدها أحدٌ في إدخال الخيط في الإبرة. لكن الأمر الذي لا يزال يُضايقها أكثرَ من أي شيء آخر هو افتقارها إلى التواصل الاجتماعي. فبمجرَّد أن فقَدَت بصرها، أدركَت أن سمعها هو الآخر كان ضعيفًا جدًّا، بسبب إصابتها بداء المقوسات طيلةَ حياتها. من دون القدرة على أن تُعوض عن ذلك باستخدام عينَيها، تشعر لوبيتا أنَّ صمَمَها يعزلها بشدة عن الآخَرين. إذ تقول: «يتعاطف الناس تعاطفًا جميلًا مع ضعف البصر. لكن التعامل مع شخصٍ لا يستطيع السمع مُزعجٌ جدًّا.» فهي تجد أن العزلة وهي داخلَ مجموعةٍ أكثرُ إيلامًا حتى مِن عُزلتها وهي بمفردها؛ لذلك تتجنَّب المناسبات الاجتماعية، من عيد ميلاد حفيدتها إلى المحاضرات والحفلات الموسيقية التي كانت تستمتع بها.
في نُزهاتها الوحيدة تذهب إلى السوبر ماركت. وتقول: «أبقى أيامًا عدَّة وحدي دون أن أفعلَ أي شيء.» وهي تقضي أوقاتها مع كتبٍ مسجَّلة على شرائطَ تستمع لها بصوتٍ مرتفع؛ وهي تستمع الآن لكتاب بروس تشاتوين «في باتاجونيا». وهي تُقدِّر زيارتَنا لها اليوم، وترى ابنها وأسرته في نهايةِ كلِّ أسبوع، لكنها تقول: «الأسبوع القادم سأكون وحدي غالبًا طيلةَ اليوم، كل يوم. مع الطعام، ومع المياه، لكن بمفردي تمامًا.»
سألتها عن شعورها حيالَ ذلك. فقالت إن الأشياء تَصير أكثرَ إيلامًا، مِثلما إذا انغلقَ الباب على إصبَعِها، ولا يوجد أحدٌ ليُشاطرها ألمَها. والمشكلات اليومية الصغيرة — مثل استعصاء فتح درج أو تأخُّر زائر — «إن ذلك يُمثل لي حدَثًا مأساويًّا.» لكنها تُحاول مُجابَهةَ الأمر بالضحك من نفسها، وغِناء أغنيات مثل أغنية «ماذا سنفعل بالبحَّار الثَّمِل؟» وتقول إن الوحدة تُغيِّر نظام أفكارك. «إن أتفهَ الأشياء تُثير جزعي.»
أسوأُ ما في الأمر، أنها تشعر بالانعزال عن الناس من حولها، وعن الأحداث الجارية في أنحاء العالم. هنا ارتفعَت نبرة صوتها وسحبَت منديلًا من كمها. «أشعر أنني على الهامش تمامًا، وأهفو للاطِّلاع.» ومما تكرهه أنها تُعاني لسماع الأخبار، وحين تسمع فعلًا بمشكلاتٍ في مكانٍ آخر، «أشعر بالإحباط الشديد. لا أملك فِعل أي شيء سوى الدعاء.»
وتقول: «إن الكون من وجهة نظري عبارةٌ عن تواصُل، إنه تواصُل. فإذا بدأتَ تفقد ذلك، تبدأ في الموت.»
•••
تتزايد كمية الأدلة التي تُؤكد أن لوبيتا مُحقَّة في هذا الشأن. بدأ الإدراك بأن التواصل الاجتماعي يُبقينا حرفيًّا على قيدِ الحياة في خمسينيَّات القرن العشرين، حين صمَّم جيمس هاوس اختصاصيُّ علم الوبائيات في جامعة ميشيجان مشروعًا طَموحًا؛ أن يُتابع الحالة الصحية لبلدةٍ بأكملها.
في عام ١٩٨٨، حين نشر هاوس وزملاؤه تحليلَهم البارز، حذَّروا من أن المجتمع الغربي يتغير بطريقةٍ قد يكون لها عواقبُ وخيمةٌ على الصحة. وأشاروا إلى أنه، مقارنةً بخمسينيَّات القرن العشرين، كان البالغون من الأمريكيين في سبعينيَّات القرن نفسِه أقلَّ ميلًا للانتماء إلى منظماتٍ تطوُّعية، وأقلَّ ميلًا لزيارة الآخرين زياراتٍ غيرَ رسمية، وأكثرَ نزوعًا إلى العيش بمفردهم.
كانت معدَّلات الزواج والولادة مُتراجعةً كذلك؛ مما كان يعني أن القرن الحاديَ والعشرين سيشهد ارتفاعًا مطَّردًا في عدد كبار السن الذين بلا أزواج أو أطفال. وحذَّر الباحثون: «في الوقت الذي نكتشف فيه أهميةَ العلاقات الاجتماعية من أجل الصحة، ثمة احتمالٌ أن ينخفض انتشارها وتوفُّرُها.»
•••
حين نبتعد عن شخصٍ نُحبُّه، نقول إن فِراقه مؤلِم. قد ترى هذا الوصف مجازيًّا، إلا أن تجارِبَ المعتمدة على تصويرِ المخِّ تُفيد بأنه وصفٌ دقيق دقةً مُذهِلة.
كذلك وجد الباحثون في مجال التوتر أن أجسادنا تستجيب للصراع الاجتماعي — التعرُّض للنقد أو الرفض من الآخَرين — بنفس طريقة استجابتنا لأذًى بدنيٍّ وشيك. ليست مصادفةً أن أحد أكثر مخاوف الناس شيوعًا هو الحديثُ أمام جمهور، أو أن إحدى أقوى الأدوات التي يستخدمها علماءُ النفس لإثارة استجابة المواجهة أو الفرار، وهي اختبار ترير للتوتر الاجتماعي، تتطلب من المُتطوعين الحديثَ أمام لجنة من المحكِّمين ذَوي الوجوه الجامدة. إن القيام بمهامَّ مُشابهةٍ دون أن يُشاهدنا أحدٌ ليس بالشيء الباعث على التوتر مطلقًا.
فهو يُشير في كتابه الصادر عام ٢٠٠٨، «الوحدة»، إلى أن الانفصالَ عن الآخرين، في معظم التاريخ البشري، كان يُعرضنا لأخطارٍ مُحدِقة من التضوُّر جوعًا أو الافتراس أو التعرض للهجوم. كانت العُزلة الاجتماعية بمثابة حكم إعدام حقًّا؛ إذ كانت تُهدد بقاءنا على قيد الحياة بقدر الجوع أو العطش أو الألم. ونتيجةً لذلك، تطوَّرنا لنكونَ مُتلهفين بشدة للتواصل البشري، حتى إننا إذا ما حُرِمنا منه يمكن أن نُشكل ارتباطًا ولو مع أشياءَ غيرِ عاقلة، مثل شخصية توم هانكس في فيلم «كاست أواي» (رمي بعيدًا)، الذي تربطه علاقةٌ ذاتُ مغزًى مع كُرةِ لعبة الكرة الطائرة التي يدعوها ويلسون.
لكن لا يستلزم الأمر أن تكون معزولًا في جزيرةٍ صحراوية حتى تشعر بالوحدة. فقد نشعر بالوحدة إذا لم نشعر بالاهتمام بنا حتى إذا كنا مُحاطين بآخَرين؛ في الكلية، في حافلةٍ مُزدحمة، في زواجٍ مُتوتر. فعلى كل حال، الوجودُ في جماعةٍ عدائية بنفس خطورة أن تكون وحيدًا.
أحد أسباب مِحنتهم أن الوحدة المُزمنة، مثل التوتر، تُعيد تشكيل المخ، فتجعل الناسَ في هذه الحالة أكثرَ حساسيةً للتهديد الاجتماعي. يُقيِّم الأشخاص المُنعزلون التفاعلاتِ الاجتماعيةَ تقييمًا أكثرَ سلبية، ويثقون في الآخرين بدرجةٍ أقلَّ، ويحكمون عليهم حُكمًا أشدَّ قسوة. وثَمة منطقٌ تطوُّري في هذا الأمر أيضًا؛ ففي المواقف الاجتماعية العدائية يكون من الضروري الانتباهُ للخيانة واحتمالِ وقوع أذًى. لكنها يمكن أن تجعل الأشخاص المُنعزلين راغبين عن التواصل مع الآخَرين. يقول كاسيوبو إن الشعور بالتهديد يُعطل أيضًا مهاراتهم الاجتماعية، فيجعلهم منكبِّين على احتياجاتهم على حسابِ احتياجات أي شخص آخر. ويقول: «حين تتحدث إلى شخصٍ مُنعزل تشعر بأنه يستغلُّك. ويكون ذلك بطريقةٍ غير جيدة.»
•••
في عام ٢٠٠٧، نشر كاسيوبو نتيجةً فتحَت نافذةً جديدة على الطريقة التي يتأثَّر بها تكوينُنا الجسدي بمحتويات عقولنا. فقد أثبتَ أن التوتر — وخاصةً التوتر الاجتماعي — لا يؤثر على المخ فحسب. إنه يتسلَّل إلى حمضنا النووي (دي إن إيه) مباشرةً.
من مجموعة من ٢٣٠ مُسنًّا من مُواطني شيكاجو، اختار كاسيوبو ثمانيةً من الأكثرِ انعزالًا، الذين كانوا قد شعروا بالعزلة سنواتٍ عديدةً، وستةً من الأكثر تواصلًا، الذين أفادوا بأنَّ لديهم أصدقاءَ رائعين ودعمًا اجتماعيًّا. وأرسل عينةً من دمائهم لعالم الأحياء الجزيئية ستيف كول من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، الذي حلَّل أيُّ الجينات كانت نشيطةً في كل مجموعة. يتنوع نسَق التعبير الجيني في الأنواع المختلفة من الخلايا؛ لذلك ركَّز كول على خلايا الدم البيضاء لجهاز المناعة؛ لأن الوظيفة التي تُؤديها هذه الخلايا — سواءٌ كانت تُسبب التهابًا أو تُنتج أجسامًا مضادَّة مثلًا — ذاتُ أهميةٍ بالغة للصحة.
كان جزءٌ كبير من الجينات العاليةِ التنظيم لدى الأفراد المُنعزلين متعلِّقًا بالالتهاب، بينما كان للعديد من جيناتهم المُنخفضةِ التنظيم أدوارٌ في الاستجابات المضادَّة للفيروسات وإنتاجِ الأجسام المضادَّة. أما في حالة الأشخاص الاجتماعيِّين فكان العكسُ صحيحًا؛ إذ مال النشاط البيولوجي في خلاياهم المناعية نحوَ مقاومة الفيروسات والخلايا السرطانية، وبعيدًا عن إحداث التهابات. من الأمور البالغةِ الأهمية، أن الاختلاف لا يتعلقُ بالحجم الفعلي للشبكات الاجتماعية للمُتطوعين، ولكن بمدى «شعورهم» بالعُزلة. كانت دراسةً صغيرة جدًّا، لكنها من أُولى الدراسات التي ربطَت بين حالة العقل وتغييرٍ عامٍّ أساسي في التعبير الجيني.
تُشير النتيجة إلى أن جهازنا المناعي مضبوطٌ على الاستجابة لمحيطنا الاجتماعي. ويقول كاسيوبو إنه من المنطقي تمامًا أننا تطوَّرنا بهذه الطريقة. في الماضي، كان الأشخاص في مجموعةٍ مُترابطة معرَّضين للخطر من الفيروسات، التي تنتقل بسهولةٍ بين الأفراد الذين بينهم اتصالٌ وثيق، أو من الحالات الأطولِ أمدًا مثل السرطان؛ لأنهم كانوا يعيشون طويلًا في الأرجح. على النقيض، يُعاني الشخص المُنعزل من خوفٍ أكبر من الهجوم البدني؛ لذلك يعتمد بقاؤه على قيد الحياة على استثارةِ فروع جهاز المَناعة المختصَّة بالتئام الجروح ومقاومة العدوى البكتيرية. إلا أنه في عالم اليوم يُمثل هذا النموذجُ من التعبير الجيني انتكاسةً مزدوجة، إذ يَزيد من احتمال إصابتنا بالحالات المُزمنة المرتبطة بالالتهاب، ويتركنا في الوقت ذاتِه أكثرَ حساسية للفيروسات والسرطان.
ويردُّ أنتوني قائلًا: «إن كل ما نفعله الآن هو عملٌ تمهيدي. علينا فعلًا أن نتوخَّى الحذر. لكن عامًا بعد آخر، تُظهر الدراساتُ نتائجَ في الاتجاه نفسِه. إنها تُظهر أننا إذا غيَّرنا الحالة النفسية تحدُث فعلًا تغيُّراتٌ فسيولوجية مُوازية.» حاليًّا يُتابع أنتوني ٢٠٠ امرأة حتى ١٥ عامًا بعد تلقِّيهن العلاجَ؛ ليرى ما إذا كان له أيُّ تأثير على عودة السرطان إليهن أو على مدَّة بقائهن على قيد الحياة.
بوجهٍ عام، فكرة أن العلاقات الاجتماعية تُؤثر على التعبير الجينيِّ بطريقةٍ مُتصلة بالصحة تُؤيدها رؤًى من مجالٍ ناشئ يُسمى علمَ التخلق السلوكي. يُشير عِلم التخلق إلى عمليةٍ يصير فيها الدي إن إيه في الخلية معدَّلًا تعديلًا ماديًّا، أو موسومًا، بطريقةٍ تتحكم في كيفية تنشيط الجينات على المدى الطويل في تلك الخلية. هذا ما يُتيح للخلايا في أجسامنا أن تتطور إلى أنسجةٍ مُختلفة — جلد وأعصاب وخلايا دمٍ بيضاء — مع أنها تحتوي كلُّها على الدي إن إيه نفسِه. كان العلماء في السابق يعتقدون أنه بمجرد وضع الواسمات التخلُّقية في الجنين، تظل ثابتةً طيلة العمر. لكن تُفيد الأبحاث الآن بأن بإمكانِ بعضٍ منها على الأقل التغيُّرَ لاحقًا، وعن طريقِ بواعثَ اجتماعية.
لقد سمعنا بالفعل أنه عندما يتعرض الأطفال لمِحَن، تصير أدمغتهم الناضجة حساسةً للتوتر. يُتيح علم التخلق طريقةً ثانية يُمكن فيها للصدمة المُبكرة — وبوجهٍ خاصٍّ البيئة الاجتماعية القاسية — أن تَصير مُبرمَجة في تكويننا الفسيولوجي؛ مما يُساعد على تفسير السبب وراء مُعاناة الأشخاص الذين نشَئوا في بيئاتٍ قاسية من الكثير من الأمراض المُزمنة لاحقًا. حتى الآن لا تزال الأبحاث أوليةً — فالبشر ليسوا مثل الفئران. لكنه من الوارد أن تكون الشدائد التي نُواجهها في الطفولة (أو في الرحم) هي ما يَسمُ جيناتنا على نحوٍ يؤدي لاحقًا إلى رفع مستويات الالتهاب، ويجعل جهازَنا المناعي مُفرِط الحساسية للخطر.
•••
في كوخها المبنيِّ من قوالب الطوب في ميلدجفيل، بولاية جورجيا، مدَّت سوزان ذاتُ التسعة والستين عامًا يدَها إلى الرفِّ، وأنزلَت برطمانًا زجاجيًّا كبيرًا مليئًا بالبطاقات الملوَّنة. أخرجَت بعضًا منها لِتُريَني إياها؛ إنها مزيج من الأعمال المنزلية البسيطة والمكافآت، من «مسح أبواب خِزانات المطبخ» و«إزالة الغبار عن الأثاث في حجرةٍ واحدة»، إلى «الخروج لتناوُل العشاء» و«مشاهدة التلفزيون لوقتٍ إضافي.» البرطمان هو تَذْكار من تجرِبةٍ رائدة شارَكَت فيها، منذ أكثرَ من عَقد.
أدار التجرِبةَ جين برودي من جامعة جورجيا. حين بدأ دراسةَ الأُسَر المُعوِزة في مجتمعات الحزام الأسود الريفية، كان يعلم أن أطفال تلك الأُسَر معرَّضون لمشكلاتٍ سلوكية مثل إدمان الكحوليات. لكن لم يستسلم لها جميعُهم. لذلك فقد كان سؤاله الأول، لِمَ لا؟
كان الأطفال الأكثرُ تكيفًا هم من ربَّاهم آباء وأمَّهاتٌ حازمون متيقِّظون، ربما أكثر صرامةً من الذين قد تجدهم في بيئاتٍ أقلَّ تهديدًا. لكن الأمر الأهمَّ أن هؤلاء الآباءَ والأمهات كانوا كذلك حَنونين ومُتفاهمين ومُنخرطين بشدةٍ في حياة أطفالهم. هذا ما دعاه برودي الأبوةَ «الراعية المتدخِّلة.» كان هؤلاء الأطفال يعرفون حدودَهم، وأنه توجد عقوباتٌ على السلوك السيِّئ. لكنهم كانوا يعرفون أيضًا أن السبب في ذلك أن آباءهم يُحبونهم ويهتمُّون بأمرهم.
كانت سوزان وحفيدتها جيسيكا جزءًا من تلك الدراسة المبتكَرة. تقول سوزان إنها بالفعل ربَّت أولادها وأحفادها بأسلوبٍ حازمٍ عطوف، لكنها تعلَّمَت بعض الحيل المُفيدة في دورة برودي، مثل برطمان المكافآت. في حين أن كيفين، شقيق جيسيكا الأكبر، دخل السجنَ مرارًا؛ فقد كانت جيسيكا البالغةُ ٢٤ عامًا الآن ناجحةً في المدرسة، وهي الآن في كلية للفنون في أتلانتا تدرس التصميم والتسويق. أرَتْني سوزان بفخرٍ إحدى رسومات جيسيكا على الحائط؛ إنها جميلة، يظهر فيها ظلُّ امرأتَين أفريقيتين طويلتين وطفل، على خلفيةٍ من أرضٍ حمراء وتلالٍ سوداء وسماءٍ صفراء.
حين نظر برودي بين الأُسر السبعمائة كلها، وجد أنه بينما تراجَعت العلاقاتُ بين الآباء والأبناء في المجموعة الضابطة في الشهور التالية للدورة، فقد صارت أقوى في أسْر مشروع الأُسر الأمريكية الأفريقية القوية. وهذا بدَوره أدَّى إلى تحسين السلوك؛ فبعد خمس سنوات كان أطفالُ مشروع الأسر الأمريكية الأفريقية القوية يشربون نصفَ كمية الخمر التي يشربها مَن كانوا في المجموعة الضابطة.
كانت نتيجةً مُذهِلة. بعد سنوات، بعد أن غادَر هؤلاء الأطفالُ مَنازلَهم بمدةٍ طويلة، كان هذا التدخلُ القصير في سنِّ الحادية عشرة لا يزال يُؤثر على تكوينهم البيولوجي تأثيرًا هائلًا. يستمرُّ ميلر وبرودي في متابعة أعضاء التجربة، لِيَرَيا ما إذا كانت هذه الاختلافاتُ في مستويات الالتهاب تُترجَم فعلًا إلى فوائدَ صحيةٍ مع تقدُّمهم في العمر.
في الجهة المُقابلة لمنزل سوزان في البلدة نفسِها، كانت مونيكا وابنتُها المُراهقة تاكيشا قد انتهَتا لتوِّهما من دورة الأسر الأمريكية الأفريقية القوية حين زُرتهما. تقول مونيكا إن الفصول قد ساعَدَتها على التفكير في كيفية التفاعل مع ابنتها بأسلوبٍ أكثرَ إيجابية، كما حدث مثلًا حين قالت تاكيشا إنها تريد أن تصبح مُغنية. تقول مونيكا: «إنها حقًّا لا تتمتع بصوتٍ مُناسب للغناء. لكنني لم أدرك أنني كنتُ أحبطها بقولي ذلك. أعطاني هذا طريقةً أخرى لأُحدثها عن الغناء دون أن أجعلَها تشعر بالاستياء، ولأساعدها على إدراكِ أنَّ لديها خياراتٍ أخرى.»
تشعر مونيكا أنَّ الأوان قد فات على تغيير موقفها، لكنها تأمُل أن تستطيع مساعدة تاكيشا على أن تعيش حياةً كاملة. «أريد أن تحظى بالفرص، وأن تمضيَ لترى العالم. لا أعتقد أنني أطلب الكثير.»
الهدف الأساسي من دورة الأسر الأمريكية الأفريقية القوية هو المساعدةُ على تحقيق ذلك؛ بتعليمِ أطفالٍ مثل تاكيشا كيفيةَ تشكيلِ صورةٍ ذاتية قوية ومقاومة ضغط الأقران، ومساعدة الأهل مثل مونيكا على دعمِ أطفالهم في مواجهة الظروف الصعبة. إذا استطاعت تاكيشا أن تبتعدَ عن المشكلات وتُبلِيَ بلاءً حسَنًا في المدرسة الآن، فسوف يكون لديها فرصةٌ أفضلُ للذَّهاب إلى الجامعة وبناء مهنة مستقبلية يومًا ما. لكن نتائج تجرِبة برودي وميلر تُشير إلى أن توطيد الرابطة بين مونيكا وتاكيشا قد يفعل أكثرَ من ذلك بكثير. إن جعل تاكيشا أكثرَ مقاومة للتأثيرات البيولوجية للمِحن، قد يحميها من الأمراض المُزمنة بقيةَ حياتها.
•••
يُظهِر بحث برودي أن التدخل في الطفولة قد يُساعد على وأدِ الحساسية من التوتر في المهدِ قبل أن تؤديَ إلى مرضٍ مُزمن. لكن ماذا إذا فاتَتْنا تلك المُهلة؟ على بُعدِ سبعمائة ميل شمال ميلدجفيل، يعمل الباحثون على تقوية الروابط الاجتماعية على الطرَف الآخر من الحياة، بين السكان المسنِّين في الأحياء الداخلية لمدينة بالتيمور.
شكَّل المتطوِّعون علاقاتٍ وطيدةً مع الأطفال الذين كانوا يُساعدونهم؛ مما صنع «سحرًا»، على حد قول كارلسون، لا تجده دومًا في حالة المعلِّمين أو الآباء. فهي تقول إن العديد من الطلاب جاءوا من بيئاتٍ مُضطربة، لكن المُتطوعين الأكبر سنًّا يتمتَّعون بالصبر والخبرة؛ مما يجعلهم يتفهَّمون أن سلوك الأطفال الصعب راجعٌ إلى ما قد يُواجهونه في المنزل، وفي الوقت نفسِه يتوقَّعون منهم النجاح. «أحيانًا يستطيعون حقًّا التواصلَ مع الطفل على مستوًى مختلف.»
تقول كارلسون إن مِثلَ هذه النتائجِ تُفيد بأننا يجب أن ننظر إلى التقدم في العمر نظرةً مختلفة. «إننا نُغالي في تقدير كل سلبيات الشيخوخة، ولا نُبرز بالقدر الكافي الأشياءَ التي تتحسن مع التقدم في العمر. ما يتحسن هو أننا تراكمَت لدينا حِكمة ومعرفةُ عمرٍ بأكمله. وليس لدينا وسيلةٌ لإعطائها.»
وتزعم أننا حين نهرم تظلُّ لدينا رغبةٌ عارمة في أن يكون لدينا هدفٌ في المجتمع، تمامًا كما كنَّا ونحن شباب. وقد جعلتني تعليقاتها أُفكر في لوبيتا، التي ظلَّت ناشطةً في السياسة والمجتمع طَوال حياتها. فهي ذكيةٌ وشجاعة، وتتدفَّق منها القصصُ والتجارِب، لكنها مُضطرَّة الآن إلى الجلوس على الهامش، غيرَ قادرة على فعلِ شيءٍ سوى الصلاة.
ماذا لو أعَدنا تشكيلَ رعايةِ كبار السن بحيث لا تكون تدبرًا لتدهوُرهم، ولكن بأن تكون «تسخيرًا لقدراتهم»؟ تقول كارلسون: «يُمكننا استخدامُ ذلك المخِّ الهرِم لمساعدةِ مجتمعٍ في أمسِّ الحاجة إلى ذلك.» وتُشير إلى أن السكان يتقدمون في السن؛ فخلال ٢٠ عامًا سيكون عدد البالغين الذين تخطَّوا عمر ٦٥ عامًا أكثرَ من الأطفال دون عمر ١٨ عامًا. «إننا لا نعلم ما الذي تفعله بالناس الرسالةُ القائلة بأن الشيخوخة هي سنُّ التدهور. لكن إذا أعدنا صياغتها وقلنا إن الشيخوخة هي وقتُ مساعدة الآخرين، فقد تُساعدهم بالأحرى على التقدم في العمر على نحوٍ أفضل.»
•••
فاهينا امرأةٌ ضخمة في زيٍّ لافتٍ عبارة عن عباءةٍ بنَفسَجية فضفاضة. لاحت في مقدمة شعرها الأفريقي المجعَّد هالةٌ فِضِّية، كبَحَها على الجانبَين مشطان أسوَدان. وقد بدَت ودودةً وسعيدة، بل ومُشرِقة، وقد أخبرتُها بذلك.
فأجابت بأنني ما كنتُ سأظنُّ ذلك قبل بضعة أشهُر. فاهينا أمٌّ لابنَين؛ أهاف، وهو في الخامسة؛ وأناليل، وهو في الثالثة. تكلَّم أهاف مُبكرًا، لكن عندما كان عمره ١٨ شهرًا تقريبًا توقَّف عن الكلام. كذلك ذهبَت مهاراتٌ أخرى، مثلُ التقاطِ الكرة والتدريبِ على استخدام النونية. وصار عنيفًا. وهي تقول: «كان أمرًا مُدمرًا للغاية. أن ترى أمرًا واعدًا في وقتٍ مُبكر، ثم تراه يختفي ولا تستطيع التدخلَ لاستعادته.»
في عام ٢٠١٢، بعد ولادة أخيه الأصغر بمدَّةٍ قصيرة، شُخِّصت حالةُ أهاف بأنها توحُّد. ساعَد العلاج الوظيفي والتخاطُبي مساعدةً كبيرة، وكانت فاهينا قد بدأت لتوِّها تتقبَّل الوضع حين انتكس أناليل هو الآخَر. «كان هذا أشبهَ بأن تُرزَقي بالطفلِ نفسِه مرتَين.»
كان نشاطُ كلٍّ منهما مُعدِيًا للآخر، فكانت نوباتُ هيجانهما تصل إلى عشرٍ في اليوم. تقول فاهينا: «كُسِر أنفي، وتورَّمَت شفتاي، وغطَّت آثارُ الأسنان ذراعي. كنت أحظى بساعتَين إلى ثلاث ساعات من النوم في الليلة.» ومثل ليزا، الأم التي التقَينا بها في الفصل الثامن، لم يصمد زواجُها تحت وطأة الضغوط؛ لذلك كانت ترعى الطفلَين بمفردها، وأحيانًا كانت تخشى على سلامتها. «كان قد طفح بي الكيل؛ إذ كان يجلس أحدهما عليَّ مانعًا إياي من الحركة بينما يخنقني الآخر.»
فاهينا مُطرِبة وفنَّانةٌ استعراضية من أتلانتا، بولاية جورجيا؛ ولذلك فهي بطبعها واثقةٌ من نفسها واجتماعية. وتقول: «لقد قدَّمت عروضًا في إسرائيل وغانا وأنتيجوا، وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة.» قبل أن يصيرَ لديها أطفال، كانت تُقدم عروضًا حيةً أربعَ أو خمسَ مرَّات في الأسبوع. كما أنها كانت قد أخرجت عروضًا، وأصدرت أسطوانة بعنوان «بيوتي فروم أشيز». لكن بعد تشخيص حالة ولدَيها، توقَّف كل ذلك.
مع حِرمانها من المسرح والاستديو اللذَين تُحبُّهما، شعرت بأنها مُحاصَرة ويائسة. كما أنها كانت تُعاني من آلام في الصدر وصداع وأرَق. «كان جسدي في ألمٍ مستمر، وكنت أسير مِثلَ شخصٍ مُسنٍّ. كان بعضٌ من ذلك بسبب تعرُّضي للَّكمِ والضرب، لكن معظمه كان بسبب التوتر الذي تمكَّن من جسدي.» تقول إنها قبل التوحُّد لم تكُن تتعاطى علاجًا مطلقًا، ولا حتى أثناء الولادة، والآن أول شيء تمتدُّ إليه يدها كلَّ صباح هو دواء إيبوبروفين.
ثم شاركت في دورةٍ تجريبية أُجريَت في مركز ماركوس للتوحُّد في أتلانتا، وقد غيَّرت كلَّ شيء.
•••
إن دورةَ تربية الأبناء التي أجراها برودي وفيلقُ الخبرة مِثالان مُذهلان على أنَّ تقوية العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع يمكن أن تُحسن حياة الناس وصحتَهم. لكن هل من الممكن أن نتَّخذ نهجًا مباشرًا أكثر؟ ماذا سيحدث إذا درَّبنا أنفسنا على رؤية العالم بطريقةٍ أكثر تواصلًا اجتماعيًّا؟
صُمِّمت التقنية التي تعلَّمتها فهينا في جامعة إيموري القريبة، لكن أصولها تعود إلى الهند. وُلِد واضعها، لوبسانج نيجي، في قريةٍ نائية في منطقة الهيمالايا بالقرب من الحدود مع غرب التبت. وقد تدرَّب كراهب بوذي في جنوب الهند قبل أن يُرسَل إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٩٠ لإنشاء مركز للتأمُّل في شمال جورجيا. ثم انتقل إلى إيموري طالبًا للدكتوراه، ثم تولَّى أخيرًا منصب عضو هيئة تدريس في قسم الأديان بالجامعة.
بعدَ ارتفاعٍ مُفاجئ في حالات الانتحار في إيموري في عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤، ذهبت إحدى الطالبات إلى نيجي. كانت قلِقة إزاء الصحة العقلية في الحرم الجامعي، ومُتأثرة ببعض المبادئ البوذية التي درَّسها نيجي في محاضراته. فهل يمكنه أن يأتيَ بتدخُّل قد يُساعد؟
توصَّل نيجي إلى استنتاج أن أكثر ما يحتاج إليه الناسُ المُغتمُّون المُكتئبون هو تكوينُ علاقات صحية أكثرَ مع المُحيطين بهم. مثل جون كبات زين، أخذ المبادئ البوذية، ووضع دورةً غير دينية، لكن بدلًا من التركيز على اليقظة الذهنية تتمحورُ دورة نيجي حول التعاطف.
حين التقيتُ نيجي في مطعمٍ قريب من حرم جامعة إيموري، كان مُهندَمَ المَلبس يرتدي قميصًا أزرقَ مكويًّا، وسُترة مُتقَنةَ التفصيل، ويبدو تمامًا مثل رجل أعمال غربي، باستثناء سبحة الصلاة ذات الخرَز الكهرمانيِّ اللون التي أطلَّت من سِوار سُترته. وراح يتحدث بصوتٍ هادئ، ولُكْنةٍ طفيفة، وهو يأكل بتلذذٍ طبقَ رافيولي بعيش الغراب.
ينطبق الأمر نفسُه على التكافل، «فكرة أننا لا نستطيع الحياة بمفردنا فحسب، من دونِ عَونٍ من الآخرين.» ويُشير إلى أنه حتى أبسط الأشياء التي نحتاج إليها لِنظلَّ على قيد الحياة، مثل الشطيرة، تربط بيننا وبين أشخاص آخرين كثيرين؛ من المُزارعين إلى عاملي السوبر ماركت. إن توسيع نطاق ذلك التحليل على كل الأشياء التي نحتاج إليها خلال اليوم — مثل نظام التدفئة والكهرباء والطُّرق والسيارات والوقود — يوضِّح أننا نعتمد على عددٍ كبير من الناس.
يعتقد نيجي أننا إذا أمضَينا بعض الوقت في التفكير في كلِّ هذا، «فمن الطبيعي أن يُداخِلَنا امتنانٌ وعطفٌ أكثرَ تجاه الآخرين.» وهو يرى أن ذلك هو أساسُ روابطَ اجتماعية صحية وبنَّاءة. لكن هل هذا ممكن؟
لاكتشاف ذلك، تعاوَنَ نيجي مع تشارلز رايسون، اختصاصيِّ الطب النفسي في جامعة إيموري (وهو حاليًّا في جامعة ويسكونسن-ماديسون)، الذي يدرس آثارَ الالتهاب على الصحة. يقول رايسون: «كنت مهتمًّا جدًّا بما إذا كان يُمكنك تدريب الأشخاص على رؤية العالم بطريقةٍ تبدو كأن تواصُلك الاجتماعي قد تحسَّن. أردت أن أعرفَ ما إذا كان ذلك سيخفض استجابات الالتهاب للتوتر.»
لا بد من إجراءِ تجارِبَ أكبرَ لتأكيدِ كلِّ هذه النتائج، وحاليًّا يدرس نيجي وزملاؤه تأثيراتِ التدريب على التعاطف القائم على المعرفة في مجموعاتٍ عديدة معرَّضة لخطرِ التوتر، منها طلابُ الطب في جامعة إيموري والمُحاربون القدامى المُصابون باضطرابِ ما بعد الصدمة، ومقدِّمو الرعاية. كانت الدورة التي أدارها صامويل فرنانديز كاريبا، اختصاصيُّ علم النفس في مركز ماركوس للتوحد، بمثابةِ وحيٍ لفَاهينا. إذ تقول: «عندئذٍ بدأ الضباب ينقشع.»
تقول فاهينا إنها أدركَت أثناء الدورة أن التوحُّد كان قد صار هو كلَّ ما تراه في طِفلَيها. «كنت لا أرى سوى عِبء. كان يسلبني الكثيرَ مما أستطيع تقديمه لهما.» وبدلًا من الانسحاق تحتَ وطأةِ توترِها وبؤسها، بدأت ترى العالمَ من منظور طفلَيها، وبدأت تَراهما فردَين لهما شخصيتهما الخاصة. وتقول: «في الدورة، تخلَّصت من الشعور بالاستحقاق. الشعور بأنني كان من المفترَض أن أحظى بحياةٍ من دون هذه التحدِّيات.» لقد حاوَلَت دائمًا أن تكون شخصًا صالحًا. «كنتُ أقول في نفسي، ليس هذا ما زرعته، فلماذا أجْني هذا؟»
«ثم أدركت الأمر. لقد مُنِحتُ هذين المخلوقَين المميَّزَين «بسبب» ما زرعته.»
وبتلك الفكرة الوحيدة، تبدَّد الكثيرُ من التوتر في حياةِ فهينا. إذ تقول: «صِرتُ أستمتع بوجودي معهما» بدلًا من الشعور بالمرارة والحنق. وقد استجاب طِفلاها استجابةً حسنة. فهي تقول: «في كل يوم يوجد ازدهارٌ جديد. فقد صار أهاف يرسم سفنًا سياحيةً بتفصيلٍ ثلاثيِّ الأبعاد. ويكتب أناليل ٢٥ أغنية يوميًّا.» وكانت اللحظة الأفضل على الإطلاق، حين قال أهاف: «إنني فخور جدًّا بكِ يا أمَّاه. لأنني أعلم أنكِ تُحبينني الآن أكثر.»
كنَّا نتحدث في مكتب فرنانديز كاريبا في مركز ماركوس، ثم اصطحبتنا فاهينا نحن الاثنين للدَّور السُّفلي للالتقاء بابنَيها، اللذَين كانا قد انتهيا لتوِّهما من جلسة علاج سلوكي. كانا في غاية اللطف، وهما يتوثَّبان بمِعطفٍ أحمر واقٍ من المطر وأهدابٍ داكنة طويلة. غنَّى أناليل أغنيةً عن سُلَحفاة، ووضع حول مِعصمي شريطًا مطاطيًّا أخضر. وأراني أهاف بفخرٍ لعبةَ ترانسفورمر باللونَين الأحمر والأزرق، وهو يُحولها سريعًا إلى شاحنة. ثم توجَّه إلى فرنانديز كاريبا. وقال له: «هل تعلم كيف نحتضن بالعبرية؟» واحتضن الطبيب مُنكفئًا بذراعٍ واحدة.