الاتجاه إلى الكهرباء
لم تكُن هذه عيادةً طِبية عادية. كنتُ في منزلٍ ريفي متمعِّج البناء يقع وسطَ حقول بلدة شارد المكسوَّة بالصقيع، في مقاطعة سومرست. كانت حجرة الفحص صفراءَ وفسيحة، ذاتَ سقفٍ مُنحدر، وأريكةٍ مُريحة، ومزهريةٍ طويلة فيها زهورٌ نضِرة. حين نظرت من النافذة الضخمة المثلَّثة، رأيت جوادًا يمرُّ راكضًا.
ثبَّتت باتريشيا سينتي — وهي ضئيلة الجسم، ذات شعر أشقر مائل إلى الحُمرة، ترتدي سُترةً صوفية مُكشكشة ذاتَ لون برتقالي زهري — في أذني جهازَ رصد. وشرحت الغرضَ منه قائلةً إنه سيُراقب نبضي عن طريق الكشف عن تدفُّقِ الدم. «الآن سأجري لك سريعًا إجراءَ الارتجاع البيولوجي.»
في الحال ظهَر على شاشة الكمبيوتر خطٌّ أسود؛ معدَّل نبضات قلبي. رغم أن نبضات قلوبنا تُصبح سريعةً حين نتوتَّر أو نُمارس الرياضة، فقد اعتقدت دومًا أن معدَّل نبضاتي عند الراحة مستقر، حيث يصنع ضرباتٍ مُنتظمةً مثل بندول الإيقاع. وها أنا أكتشف الآن أنه يقفز باستمرار. فبدلًا من خطٍّ مستقيم، أظهر الرسمُ سلسلةً فوضوية من الارتفاعات، بعضها كبير وبعضها صغير. أوضحت سينتي أن التقلُّبات في معدَّل نبضات قلبي تُسمى «التغيُّر في معدَّل نبضات القلب» أو «إتش آر في».
قالت لي: «لنرَ إن كنتِ تستطيعين تحويلَ ذلك التقلُّب المُضطرب إلى موجةٍ مُترابطة.» ظهر عمودٌ أزرقُ عريض على الجانب الأيسر من الشاشة. وراح يتضخم ويتضاءل ببُطء، مثل أنبوب مياه يمتلئ ثم يفرغ. طلبت مني سينتي أن أتنفَّس مُواكِبةً العمودَ الأزرق؛ خمس ثوانٍ وهو يمتلئ، وخمس ثوانٍ وهو يفرغ.
ثم حدَث شيءٌ مُذهل. خلال بضع ثوانٍ، كان الفارق بين أدنى معدَّل لنبضات قلبي وأعلاها أكبرَ كثيرًا من ذي قبل، مُتراوحًا بين ٦٠ و٩٠ نبضة في الدقيقة. وتحوَّل الخط على الرسمِ من ارتفاعاتٍ عشوائية قبيحة إلى مُنحنًى انسيابي مِثل الثعبان.
تعمل سينتي في وظيفة مُمارس عام بدوامٍ جزئي في سومرست، لكنها أيضًا تُدير من منزلها هذه العيادةَ الخاصة للطب البديل. وهي تُسميها الاستشارات الصادرة عن القلب، وتقوم على تقنية تُسمَّى الارتجاع البيولوجي للتغير في معدَّل نبضات القلب. ومبدؤها أن تستخدم جهازَ رصدِ معدَّل نبضات القلب وشاشة الكمبيوتر؛ للتمرُّن على الوصول بمعدَّل نبضاتك إلى هذا المُنحنى السَّلِس، وهي الحالة التي توصف ﺑ «الرنين» أو «الاتساق». بمجرَّد أن تتمكَّن من ذلك، حاوِلْ أن تَزيد من ارتفاع الموجة؛ الفرق بين أدنى وأعلى معدَّل لنبض القلب. تقول سينتي إنه بالتدرُّب كلَّ يوم يُمكننا أن نتعلم زيادةَ تقلب معدَّل نبضات قلبنا وتحقيق هذه الحالة من الاتساق مرَّاتٍ أكثر.
يزعم المؤيدون أن لهذا التدريب فوائدَ جمَّة، من تقوية القلب، والحدِّ من التوتر، بل ويجعلنا أكثرَ سعادة وانتباهًا. رغم أن سينتي تُقدم الآلية في العيادة، يوجد عددٌ مُتزايد من الأجهزة المحمولة التي يستطيع الناسُ استخدامها لممارسة الارتجاع البيولوجي للتغيُّر في معدَّل نبضات القلب في المنزل، من جهاز «ستريس إريزر» (مُزيل التوتر) الخاضع للوائحِ إدارة الغذاء والدواء الأمريكية إلى مجسِّ «إنر بالانس» (التوازن الداخلي)، الذي يبيعه معهد «هارت ماث»، الذي يعمل بالهاتف الذكي، ويُزعَم أنه «يخفض الآثار السلبية للتوتر، ويُعزز الشعور بالاسترخاء، ويَزيد القدرةَ على التكيُّف بمجرد استخدامه بضع دقائق يوميًّا.»
لكن تبيَّن أنني مُقبِلةٌ على مُفاجأة. فقد أخذني البحث في التغير في معدَّل نبضات القلب أبعدَ كثيرًا مما توقَّعت، إلى علاقةٍ أخرى بالغةِ الأهمية بين العقل والجسد، وأبحاث قد تُناهض اتِّكالَنا على العقاقير الكيميائية، وطفلة تُدعى جانيس.
•••
بدأ يومُ الثالث من مايو من عام ١٩٨٥ كأيِّ يومِ جمعةٍ آخَر. كانت سيسيليا تُعِد سباجيتي في مطبخ شقَّتها الواقعةِ في الطابق الثالث في بروكلين، نيويورك، بينما كانت حفيدتها ذاتُ الأحدَ عشر شهرًا، جانيس، تلعب بسعادةٍ على الأرض. كانت الساعة الخامسة والنصف، ووالدا جانيس على وشك العودة من العمل.
ثم جاءت اللحظة التي تبدَّل فيها كلُّ شيء. حين نضجت السباجيتي، أمسكَت سيسيليا المِقلاة الثقيلة واتجهَت إلى الحوض لتصفيتها. لكن الطفلة كانت قد توقَّفَت وراء قدمَيها بالضبط. فما كان منها إلا أن تعثَّرَت وأسقطت المِقلاة؛ لتنسكبَ محتوياتُها المغليَّة على أنحاء جسم حفيدتها الغالية.
في محاولةٍ لتخدير إحساسه بآلامها، خلَع عنها ملابسها، وغطَّاها بدهانٍ مضادٍّ حيوي — فمن دونِ جلدٍ سليم، تتعاظم مَخاطر الجفاف والعدوى — وقدَّر فرصة نجاتها بنسبة ٢٥٪. ثم نقلها للطابق العُلوي، إلى مهدٍ ذي قُضبانٍ فولاذية في قسم الحروق.
وهناك تحمَّلَت جانيس قائمةً طويلة من التدخُّلات والعلاجات. إذ إنها لعدم قدرتها على الأكل، كانت تُغذَّى من خلال أنبوب. وعانت من جلساتٍ يومية من الرعاية المؤلِمة للجروح، تمامًا مثل مرضى الحروق الذين التقينا بهم في الفصل السادس. ثم أُجريَت عدةُ جولات من الجِراحات الكبرى لإزالة المناطق المحروقة وتغطيتها برُقعٍ جلدية — مُقتطَعة في البداية من عَجيزتها التي لم تحترق، ثم من جُثَث متوفَّين حين نَفِدت.
في ذلك الوقت، كان الأطبَّاء يظنُّون أن الصدمة الإنتانية تنجم عن سمومٍ من عدوى بكتيرية. لكن في أغلب الحالات، كما في حالة جانيس، لا يُعثَر على حشرةٍ مُعدية مطلقًا. ضخَّ تريسي وزملاؤه جالوناتٍ من السوائل الوريدية في جسد جانيس، في محاولة لرفع ضغط دمها، وحقَنوها بالأدرينالين لرفع ضربات قلبها وتضييقِ شرايينها. لكن بحلول يوم الأربعاء، كانت يدا جانيس وقدماها قد تحوَّلَت إلى اللون الرمادي، وبدأت رئتاها وكُليتاها تفشل.
في صباح يوم الخميس، انتهَت الأزمةُ فجأةً؛ إذ تعافَت جانيس بنفس السرعة والغموض الذي تدهورَت به حالتُها. لكن في يوم الأحد، الثاني عشر من مايو، ألمَّت بها مضاعفةٌ أخرى.
في ثمانينيَّات القرن العشرين، كان الأطباءُ يعتقدون أن الإنتان الحادَّ ينجم هو الآخَر عن السموم الناتجة عن بكتيريا دخيلة. وهو يتطوَّر بوتيرةٍ أبطأ من الصدمة الإنتانية. تظهر على المرضى علاماتُ العدوى والالتهاب في أنحاء الجسم، وتتوقَّف الأعضاء عن العمل تدريجيًّا. في هذه المرة أظهرت الاختباراتُ بالفعل ميكروباتٍ في مجرى دمِ جانيس. وأصابتها حُمَّى بلغَت ١٠٤ درجة بمقياس فهرنهايت. ثم بدأت كُليَتاها وأمعاؤها ورئتاها وكبدها تفشل.
أزالت المضادَّات الحيوية البكتيريا من دم جانيس، لكن حالتها لم تتحسَّن. وظلَّت عدةَ أيام تعيش على أجهزةِ دعم الحياة، بينما ظلَّت أسرتها (التي كان يُسمَح لها برؤيتها خلال ساعات الزيارة القصيرة فقط) تسهر يائسةً عند المصاعد.
مجدَّدًا، استردَّت هذه الفتاةُ الصغيرة عافيتَها. بحلول يوم الثامن والعشرين من مايو، الذي كان يُوافق يومَ عيد ميلادها الأول، بدا لأول مرة أنها سوف تنجو. فقد بدَت جانيس أكثرَ صحةً من أيِّ وقتٍ مضى منذ حادثِها المأساوي. وشربت حليبًا لأول مرة، وبدأت حروقُها تلتئم. فأقاموا حفلًا؛ ويتذكر تريسي كعكةَ الشوكولاتة والزينة وجانيس وهي تضحك بوجنتَين مُتورِّدتَين. كان الجميع — أُسرتها والطاقم الطبي بأكمله — يحتفلون ليس بعيدِ ميلاد جانيس فقط، ولكن بمعجزة تعافيها، وحياتها الغالية. كان أمامها جولةٌ أخرى من الجِراحات البسيطة نسبيًّا، وبعدها تستطيع العودة إلى منزلها.
في اليوم التالي، بينما كانت الممرِّضة تُلقِّم جانيس زجاجة حليب زاغت عينا الطفلة وتوقَّف قلبها. أجرى تريسي وزملاؤه لجانيس إنعاشًا قلبيًّا رئويًّا، وحقَنوها بأدرينالين، وصدَموها بجهاز إزالة الرَّجفان مِرارًا. استمرُّوا يُحاولون طيلة ٨٥ دقيقة. حتى إنهم أدخَلوا منظِّم ضربات قلب كهربائيًّا. لكن قلبها لم يُعاوِد العمل.
حين كان تريسي في الخامسة من عمره، تُوفِّيت أمه بورم في المخ، وبعد الجنازة سأل الصبيُّ الصغير جدَّه، وهو طبيب أطفال، لماذا لم يستطع الجرَّاحون استئصالَ الورم فحسْب. فأجابه الرجل بأن الورم تمتدُّ له أذرُع في النسيج المُجاور. ولم يكن من الممكن إزالتُه من دون تدمير المخ السليم أيضًا.
قال الطفل ذو الخمس سنوات إنه حين يكبر سيُجري أبحاثًا طبِّية، وسيجد تقنياتٍ أفضلَ حتى لا يضطرَّ الأطبَّاء في المرة القادمة إلى الوقوف ساكنين تاركين شخصًا يموت. لكن الآن، بعد ٢٢ سنة، اضطرَّ إلى مواجهة الموقف نفسِه بالضبط مع جانيس. لم يكُن بوُسعه فعلُ شيء.
خرج تريسي من الحجرة، عاجزًا عن الكلام حتى من أجل أن يُعلن وقت الوفاة. لم يرَ جثة جانيس، أو أسرتها مرةً أخرى. لكن ظلَّت الحالة تُلاحقه. عانى من كوابيسَ مُتكررة، عاش فيها قصتها مجدَّدًا، لكن وهو يعلم في كل مرة المعلومةَ البغيضة عن كيفية انتهاء الأمر.
قاده بحثه في النهاية إلى نفس البِنْية في الجسم التي يستهدفها الارتجاع البيولوجي للتغيُّرِ في معدَّل ضربات القلب؛ حُزمة مُتعرجة من الألياف تُسمى العصب الحائر.
•••
كرَّس بول ليرير، أستاذ الطب النفسي في جامعة روتجرز في نيو جيرسي، حياته المِهنية لدراسة الارتجاع البيولوجي. لم يكن مُقتنعًا بفوائدِه في البداية، لكنه رأى بعد ذلك مجموعةً من الأطفال الرُّوس يلعبون لعبةَ كمبيوتر مُثيرةً للفضول.
يوجد الكثيرُ من الأنواع المختلفة من الارتجاع البيولوجي، وفِكرته العامة هي أننا برصدِ المظاهر المختلفة لحالتنا الفسيولوجية رصدًا فوريًّا، يُمكننا تعلُّم كيفية تحويل أجسادنا إلى حالاتٍ معيَّنة مستحبَّة، مثل حالة الاسترخاء. وقد درَس ليرير الارتجاع البيولوجي بجهاز تخطيط كهربية العضل (إي إم جي)، الذي يرصد، على سبيل المثال، تقلُّص العضلات، والارتجاع البيولوجي لدرجة حرارة الأصابع، القائم على حقيقة أننا عندما نسترخي، تصير أطرافُنا، بما فيها أطراف أصابعنا، أدفأ. كان ذلك مُجْديًا، لكن لم يبدُ أنه أكثرُ فاعليةً من الأساليب المباشرة لإرخاء الجسم، مثل الاسترخاء العضلي التدريجي (وهي تقنية تتضمَّن شدَّ المجموعات العضلية المختلفة ثم إرخاءها تِباعًا).
كان الأمر مُثيرًا للفضول، لكن لم يكن ليرير يدري إن كان تعزيزُ تقلبِ معدَّل ضربات القلب يمكن أن يُفيد مرضى الربو أو أيَّ شخص آخر، أو كيفية حدوث ذلك. بعد عدة أعوام، زار ليرير سانت بطرسبرج مرةً أخرى، وتعرَّف على عالم فسيولوجيا ومهندس يُدعى يفجيني فاسشيلو، الذي كان قد درَس الارتجاع البيولوجي للتغيُّر في معدَّل نبضات القلب لدى رُواد الفضاء الروس. عرَض فاسشيلو على رُواد الفضاء نسقَ موجات جيبية على راسم ذبذبات، وطلب منهم مطابقة معدَّل نبضات قلوبهم معها. بالتدريب، حقَّق رُواد الفضاء تذبذباتٍ هائلةً وصَلت إلى ٦٠ نبضة في الدقيقة.
ثَمة عملياتٌ عديدة في الجسم تجعل معدَّل نبضات القلب يتذبذب. منها «الباروريفلكس» (منعكس مستقبِلات الضغط). ترصد المُنعكسات التي يتحكَّم فيها الجهاز العصبي حالاتِ الجسم وتُحافظ على سلامتنا، من دون الحاجة إلى أيِّ تفكير واعٍ. بعضها يؤثر على سلوكنا؛ فإذا لمستَ شيئًا ساخنًا، مثلًا، يجعلك المُنعكس تسحب يدك. ومنها ما يُعدل باستمرارٍ مظاهرَ مختلفةً لحالتنا الفسيولوجية لإبقائها ضِمنَ حدودٍ آمنة.
هذا ما يفعله مُنعكس مستقبلات الضغط لضغط دمنا. فهو خاضعٌ لسيطرة مستقبلات الشد في جدران الشرايين. إذا ارتفع ضغط الدم، تنشط مستقبلات الشد، فتُرسل إشارةً إلى جذع المخ، الذي يردُّ عندئذٍ برسالة لإبطاء القلب حتى ينخفض ضغط الدم. أما إذا انخفض ضغطُ الدم أكثرَ من اللازم، فإن مُستقبِلات الشد تُرسل الإشارة المُعاكسة، فيرتفع معدَّل نبض قلبنا مرةً أخرى.
العملية الثانية التي تُؤدي إلى تباينٍ في معدَّل نبض القلب تسمَّى «اضطراب النظم الجيبي التنفسي» (آر إس إيه). فإننا حين نزفر، ينخفض معدَّل ضربات قلبنا قليلًا، ثم يُعاود الارتفاع حين نشهق. يؤدي هذا إلى زيادة نقل الأكسجين في جميع أنحاء الجسم إلى الحد الأقصى حين نتنفس ملءَ رئتَينا هواءً نقيًّا، بينما يجعل القلبَ يُبطئ ويسمح له بالراحة أثناء الزفير.
عادةً ما يحدث هذان النَّمطان من التغيُّر في معدل ضربات القلب على نطاقاتٍ زمنية مختلفة. يؤدي اضطرابُ النظم الجيبي التنفُّسي إلى ارتفاع معدَّل نبض القلب وانخفاضه ونحن نتنفَّس، بينما يكون مُنعكس مستقبلات الضغوط أبطأ، مُستغرقًا خمسَ ثوانٍ في كلٍّ من الحالتَين. حين يتداخل الاثنان، نحصل على نسقٍ غير مُنتظم مُتقلب.
لكن إذا أبطأنا تنفُّسَنا ليتماشى مع مُنعكس مستقبلات الضغط — خمس ثوانٍ في الشهيق، وخمس ثوانٍ في الزفير — سيحدث النمطان في النطاق الزمني نفسِه، وتصير ارتفاعاتهما وانخفاضاتهما مُتداخلة؛ مما يُعطي موجةً واحدة سلِسة. وإذا تمكَّنَّا من ذلك (تتوقف السرعة على حجمك وكمية الدماء لدَيك)، سيؤدي بنا هذا إلى ظاهرةٍ يعرفها المهندسون باسم «الرنين». في كل مرة يرتفع فيها مُنعكس مستقبلات الضغط أو ينخفض، يُعطيه التنوعُ الزائد في اضطراب النظم الجيبي التنفسي بعضَ النشاط في اللحظة المناسبة بالضبط — مثل دفع أرجوحة — مؤديًا لزيادةٍ أكبرَ فأكبر في تذبذب معدَّل نبض القلب.
•••
تبيَّن أن هذه الاستجابة هي نقيضُ استجابة المواجهة أو الفرار. فبينما تُثير استجابة المواجهة أو الفرار الجهازَ العصبي السمبثاوي، تُنظم استجابةُ الاسترخاء شبكةً عصبية مُقابلة تُسمى الجهاز العصبي الباراسمبثاوي. إنه الجهاز الباراسمبثاوي الذي يجعلنا نهدأ بعد حالة الطوارئ، مُرجحًا كِفةَ الأنشطة غيرِ العاجلة مرةً أخرى — الهضم والجنس والنمو والإصلاح — التي ننخرط فيها حين نكون في أمانٍ وراحة.
المكوِّن الرئيسي في الجهاز العصبي الباراسمبثاوي هو العصب الحائر. وهو يمتدُّ من جذع المخ نزولًا إلى العنق والجذع، في فروعٍ تصلُ إلى أعضاءٍ رئيسيةٍ شتَّى، منها الرئتان، والأمعاء، والكُلى، والطِّحال. ومن وظائفه العملُ بمثابة مكبح للقلب. كلما كان نشاط العصب الحائر أقوى (وهو ما يوصف باسم «تواتر العصب الحائر»)، يزداد تباطؤ معدل نبضات القلب أثناء عملية الباروريفلكس وأثناء الزفير — وبعد التوتر — ويزداد التغير في معدل نبضات قلوبنا. في الواقع، كثيرًا ما يُستخدَم التغير في معدل نبضات القلب مِقياسًا لتواتر العصب الحائر، ومؤشرًا لمدى نشاط الجهاز العصبي الباراسمبثاوي عامةً.
بل إن بعض الدراسات تُفيد بأن الأشخاص الذين لديهم تغيرٌ مرتفع في معدل نبضات القلب يُكوِّنون علاقاتٍ اجتماعيةً أقوى، ويستمتعون أكثر بالتفاعلات الاجتماعية. على النقيض، لا يكون الأشخاص الذين لديهم تقلبٌ مُنخفض في معدل نبضات القلب عُرضة لأمراض القلب فحسْب. إنهم أيضًا أكثرُ عرضة للإصابة بمجموعة من الاضطرابات النفسية، منها القلق والفصام والاكتئاب.
لكنه يُجادل بأنه نظرًا إلى اختلاف سرعة التنفس اللازمة لتحقيق الرنين اختلافًا طفيفًا من شخصٍ إلى آخر، فإن تحقيق أقصى استفادةٍ بالتأمل وحده قد يستغرق سنواتٍ من الممارسة، أما في حالة الارتجاع البيولوجي، فيمكننا تعلمُه في دقائق معدودة. فهو يقول لي: «يتمكن معظم الناس من إتقانه على الفور. وذلك يختلف غاية الاختلاف عن العيش في دَيرٍ عشر سنوات!»
ويُقرُّ ليرير قائلًا: «لسُوء الحظ ليس لدينا شركات أدوية كبرى لدعم أبحاث على ٢٠٠٠٠ شخص لكل حالة؛ لذلك لا أستطيع القول بأنه يُجدي بنفس فاعلية البنسلين مع العدوى. المشكلة أنه لا يمكن لأحد أن يجنيَ المال من ورائه. فمُعدات الارتجاع البيولوجي سهلةُ التقليد وزهيدة الثمن.» ومع ذلك، فهو يصف الأدلة بأنها «لا بأس بها.» كما أنه، على حدِّ قوله: «علاجٌ غيرُ دوائي له آثارٌ قوية جدًّا. ويسهل تعلُّمه. فلماذا لا يفعله الجميع؟»
يبدو أن ليرير قد وصل إلى الطريق المسدود الذي عانت منه العديدُ من العلاجات العقلية الجسدية؛ فمع عدم وجود شيء تبيعه، يكون تمويلُ الأبحاث محدودًا. لكن بفضل أبحاث كيفين تريسي، صار ثَمة اهتمامٌ مُتزايد بالعصب الحائر.
•••
في ١٩٨٥، حين بدأ تريسي دراسةَ الإنتان والصدمة الإنتانية، كان الأطباءُ يعتقدون أن هاتَين الحالتَين تنجمان عن بكتيريا دخيلة. لكن الغريب أنه في أغلبِ الأحيان لم تكُن توجد كائناتٌ مُمرِضة قابلةٌ للاكتشاف. لم يخطر على بالِ أحدٍ أن أجسادنا يُمكن أن تتسبَّب في أعراضٍ مدمِّرة مِثل تلك التي عانَت منها جانيس.
اعتاد العلماءُ على افتراضِ أن أيَّ ضرر يحدث عندما تكون لدينا عَدْوى يكون ناجمًا عن الكائن المُعْدي. لكنهم أدرَكوا ببطءٍ أن العديدَ من الأعراض التي نُعاني منها ونحن مَرْضى — الحُمَّى، وفقدان الوزن، وتلف الأنسجة، وحتى الإجهاد والاكتئاب — لا تنجم عن المُمرِضات، ولكن عن جَهازِنا المناعي، عن طريق بروتينات ناقلة تُسمى السيتوكينات.
أحيانًا تكون هذه الأعراضُ نتيجةً ثانوية ضرورية لمحاولةِ الجسمِ مواجهةَ العدوى. فالحرارة المرتفعة التي نشعر بها أثناءَ الحُمَّى تُساعد على التخلصِ من الغُزاة. ويُشجعنا الإجهادُ والاكتئاب على الراحة ونحن مَرْضى، وعلى الابتعاد عن الآخَرين حتى لا ننشرَ العدوى. إن الالتهابَ ضروريٌّ لمقاومة البكتيريا والتخلُّص من الخلايا المُتضررة.
لكن من الممكنِ أن تُخطئ أجسادُنا في تقدير التوازن. يُمكن أن يُعانيَ الأطفالُ، على وجه الخصوص، من نوباتٍ خطيرة إذا ارتفعَت حرارتُهم بشدة. وأحيانًا لا يزول الإجهادُ الناجم عن العدوى قط. وقد بيَّن تريسي أن الصدمة الإنتانية الحادَّة التي عانت منها جانيس تحدث حين يُنتج الجسمُ كمياتٍ مُفرِطةً من السيتوكين المسمَّى عاملَ نَخْر الورم (تي إن إف).
أدرك تريسي أنَّ هذه السيتوكينات يُمكن أن تتسبَّب في مشكلاتٍ أخرى أيضًا. إذا انتشر عاملُ نخرِ الورم في جميع أنحاء الجسم، نُعاني من صدمةٍ حادَّة. لكنه حين ينحصرُ في مواقعَ معيَّنة يُؤدي إلى حالاتٍ التهابيةٍ أخرى، فالكميات المُفرِطة من عامل نخر الورم في المفاصل تُؤدي إلى التهابِ المفاصلِ الروماتويدي، وفي الأمعاء قد يُسبب داء كرون. قاد هذا الاكتشافُ إلى ظهورِ فئةٍ جديدة من العقاقير صُمِّمَت لتثبيط السيتوكينات أو إبطالِ مفعولها، منها مضادُّ عاملِ نخر الورم الذي ما زال يُستخدم منذئذٍ بنجاح في علاجِ ملايينِ المرضى.
لا بد أن إشارةً ما أُرسلَت إلى جهاز المناعة، طالبةً منه التوقفَ عن إنتاجِ عاملِ نخر الورم. لم تكن على الإطلاق مجردَ استجابة لحالات في الجسم كما كان مفترَضًا من قبل، إذا كانت أدمغة الفئران تُنظم الاستجابةَ الالتهابية بإحكام.
رأينا في الفصل الثالث كيف اكتشفَ روبرت آدر وديفيد فيلتن لأولِ مرة أنَّ المخ وجهاز المناعة يتواصلان عن طريق الأعصاب. كانت تجرِبةُ واتكينز دليلًا آخرَ على الارتباط، وإن لم تكن الإشارةُ هذه المرةَ محمولةً عن طريق الجهاز العصبي السمبثاوي، الذي درَسه فيلتن وآدر، وإنما عن طريق الجهاز الباراسمبثاوي، وبوجهٍ خاصٍّ العصب الحائر.
في تجرِبة واتكينز، انتقلت الإشارةُ من جهاز المناعة إلى المخ، وتساءل تريسي عما إذا كان بإمكانِ العصبِ الحائر حملُ الرسائل في الاتجاه الآخَر أيضًا. ربما كانت تلك هي الكيفية التي أوقفَت بها جرعةٌ صغيرة من العقار في المخِّ إنتاجَ عاملِ نخر الورم في الجسم كلِّه. وفي مايو ١٩٩٨، توصَّل لطريقة لاختبار الفكرة. فقد ذهَب إلى حُجرة العمليات في المستشفى، واستعارَ جَهازًا محمولًا يعمل بالبطارية لتحفيز الأعصاب.
•••
ربما لا يكون تغييرُ معدَّل تنفُّسنا الطريقةَ الوحيدة لتعزيزِ تواتر العصب الحائر. يبدو أن الارتجاعَ البيولوجي للتغيُّر في معدَّل نبضات القلب يمتلك تأثيرًا «تصاعديًّا» على الجهاز العصبي الباراسمبثاوي؛ إذ يُغير معدلَ نبضات القلب بطريقةٍ تحفز العصبَ الحائر؛ ومن ثَمَّ تؤثر على المُخ. لكن التَّجارِبَ التي أجراها علماء نَفْس في جامعة كارولينا الشمالية في تشابل هيل تُشير إلى أننا نستطيع زيادةَ تواتر العصَب الحائر من أعلى لأسفل أيضًا، بتغييرِ نمط أفكارنا.
في كِلتا الدراستَين، كان الذين لديهم تواترٌ في العصب الحائر أعلى في البداية هم الأكثرَ استفادةً. تقترح كوك (التي تعمل حاليًّا في معهد ماكس بلانك لعلوم المعرفة البشرية والمخ في لايبزج، بألمانيا) أن التفكير في العواطف الإيجابية قد أدَّى إلى «حالة من التحسُّن المستمر» نقلها العصب الحائر، حيث أثَّر كلٌّ من الجسم والذهن في الآخر في كِلا الاتجاهَين. فقد حسَّنَت العواطفُ الإيجابية تواترَ العصب الحائر، الذي أدَّى بدَوره إلى تحسينِ حالة المُتطوعين أكثر. في دراسةٍ ثالثة، لم تُنشَر بعد، وضعت كوك اختبارًا أدقَّ، حيث قيَّم المُتطوعون ببساطةٍ درجةَ أُلفة أهم ثلاثة تفاعلات اجتماعية لديهم، كلَّ يوم طَوال ١٢ أسبوعًا. بينما طُلب من أولئك في المجموعة الضابطة تقييمُ فائدةِ أطول ثلاثة أنشطة انخرَطوا فيها في ذلك اليوم.
بينما كنتُ جالسة في حجرةِ فحص سينتي، عزَمتُ أن أختبر الفكرة. أثناء جلسة الارتجاع البيولوجي، فكَّرتُ أولًا في طِفلَيَّ. تخيَّلتُ أنني أضمُّهما بشدة حتى امتلأت حبًّا لدرجةٍ شعرت معها أن قلبي يكاد أن ينفجر. وهنا رسمَ معدلُ نبض قلبي طائعًا مُنحنًى مُنسابًا جميلًا على شاشة الكمبيوتر. ثم حاولتُ إجبار نفسي على الدخول في حالةٍ من الذعر.
بينما كنتُ أتنفَّس ببطء في تزامنٍ مع العمود الأزرق على الشاشة، رُحتُ أتخيَّل عناكبَ تزحف على ذراعَيَّ، وديدانًا تزحف على جلدي، وسفَّاحًا خلف مَقعدي على وشك أن يَهويَ عليَّ بنصلِ بَلْطته اللامعة. ركَّزت على السفَّاح بكراهيةٍ مُلحَّة. وشعرتُ بطاقةٍ مُتدفقة مُفاجئة، وقد احتدَّ وعيي وتدفَّق الأدرينالين في أوردتي. إلا أن جهازي العصبي الباراسمبثاوي لم يتأثَّر مطلقًا على ما يبدو. ظل المنحنى السلس من دون انقطاع، بل وزاد التغيرُ في معدلِ نبضات قلبي.
يُقرُّ باحثُ الارتجاع البيولوجي ليرير بأن استحضارَ مشاعرِ الحب قد يُؤثِّر نظريًّا على التغيُّر في معدلِ نبضات القلب على المدى البعيد. «لكنْ لديَّ شعورٌ قوي جدًّا أنه مهما كان دورُ حالتك العاطفية أثناءَ ممارسةِ التقنية فهو صغيرٌ جدًّا، وتكاد تتعذَّر ملاحظته مقارنةً بالتأثير الهائل للتنفُّس.» ويقول إن بضعَ دراساتٍ قارنَت بين الارتجاع البيولوجي للتغيُّر في معدل نبضات القلب مع ومِن دون المشاعر النابعة من القلب التي تتضمَّنها تقنياتُ «هارت ماث». «ولم تجد أيَّ فروق على الإطلاق.»
•••
كنتُ جالسةً إلى مائدةِ طعامٍ خشبية ضخمة. وأخذ جَروٌ أسودُ صاخبٌ يُشاكس قِطًّا غيرَ مُكترِث، بينما كانت سينتي تُعدُّ الغداءَ على الفرن ماركة (أجا). إذن ما الذي يدفع مُمارِسةً عامةً تقليديةً إلى إنشاء عيادة قائمة على الارتجاع البيولوجي؟
أخبرتني سينتي أنها كانت تعمل طبيبةً في الجيش لمدة عشر سنوات، وخدمت في أماكنَ مثل أيرلندا الشمالية. ثم سقطت أثناء التزلُّج، وتمزَّقَت أربِطةُ ركبتِها. وهكذا سُرِّحت بمعاشٍ تقاعُدي، وصارت مُمارِسةً عامةً بدوامٍ كامل في سومرست.
جعلها العملُ ساعاتٍ طويلةً، ورؤية من ٣٥ إلى ٤٠ مريضًا يوميًّا لمدة عشر دقائق لكلٍّ منهم، تشعر بالتوتر، وما فَتِئت أن ازدادَت إحباطًا. لم يكن بإمكانها أن تَرعى مَرْضاها كما أرادت، وراحت تفقدُ إيمانها بنفسِها كطبيبة. شعرت أنها كانت في حالاتٍ كثيرة جدًّا تقتصرُ على وصف الدواء وإرسال المرضى إلى مَنازلهم، مُتجاهلةً الأمورَ الأساسية — التوتر، والانتهاك — التي كانت تدفعهم للعودة مِرارًا وتَكرارًا.
تجاهلَت كذلك في البداية وَرمًا ظهر في ثديِها. كانت قد أُصيبت من قبلُ بورمٍ تبين أنه حميد؛ لذلك افترضَت أن هذا سيكون مثلَه. لكنه كان خبيثًا، وحين ذهبَت لفحصه كان قد انتشر في عُقَدها اللِّيمفاوية. فخضعَت لجِراحةٍ أعقبَها علاجٌ كيماوي وعلاجٌ إشعاعي. كانت آنذاك في الثانية والأربعين من عمرها.
استقالت سينتي من وظيفتها، وأخذَت إجازةً لمدة ثلاث سنوات، مُستعينةً بمعاشِ تأمينها الصحي على معيشتها. كان الشعور المُستحوذ عليها هو الشعورَ بالراحة لأنها لم تَعُد تعمل. وتتذكَّر ذات صباح بعد الاستحمام حين كتبت رسالةً على مِرآة الحمام: «إنني سعيدةٌ لكَوني على قيدِ الحياة.» قرَّرَت أن تستفيد من إجازتها من وظيفتها غير المخطَّط لها في استكشاف السبيل لمساعدة مرضاها على العيش بأسلوبٍ صحِّي أكثر، بدلًا من الاقتصار على معالجة الأعراض بعد ظهورها. فتلقَّت دورةً في الطب البديل، واكتشفت الارتجاعَ البيولوجي.
وحين توقَّفَ معاش التأمين عادت لتعمل مُمارِسةً عامةً بدوامٍ جزئي. وهي الآن ترى ١٢ مريضًا فقط في اليوم، ثلاثة أيام في الأسبوع، وتبقى إلى وقتٍ متأخِّر حتى تستطيعَ أن تُخصص لكلٍّ منهم وقتًا يصل إلى ١٥ دقيقة. وتقول: «أتَّبع نهجًا أكثرَ شموليةً من الكثير من زملائي من مُمارسي الطبِّ العام. إذ أتحدَّثُ عن جوانبِ أسلوب الحياة التي تُحافظ على الصحة.»
وهي تقول إنَّ قضاء مزيد من الوقت مع مَرْضاها أمرٌ في غاية الأهمية. «لا يُمكنك أن تبدأ في مطالبةِ شخصٍ بإجراءِ تغييراتٍ في أسلوب حياته الذي ربما ظلَّ حياتَه كلَّها يُعاني منه، إذا لم تكن تعرفه.» وفي عام ٢٠١٢، بدأتْ مشروع «الاستشارات النابعة من القلب».
إحدى مَرْضاها جَدَّة في الخامسة والستين تُدْعى كارول، كانت تعمل اختصاصيةً في عِلم الأمراض وممرِّضةً قبل التقاعد في سنِّ الخامسة والخمسين للحصول على شهادةٍ في التاريخ. وتُخبرني كارول بأنها كانت دومًا نشيطةً وموفورة الصحة، لكن وهي في الستين من عمرها، أثناء الاستذكار لاختباراتها، أُصيبَت بعدَّةِ نوباتِ ذعرٍ كانت ضرباتُ قلبها تتسارع أثناءها. كانت حينَذاك تحتسي «ما يقرُب من عشَرة أكواب إسبريسو في اليوم»، وتساءلَت إن كان ذلك يمكن أن يكون السبب؛ لذلك اتصلَت بالعيادة المحليَّة للتحقُّق من إرشاداتهم بشأن الاستهلاك الصحي للكافيين.
تقول كارول: «فجأةً بعدَ مكالمةٍ هاتفية واحدة صِرتُ على جهاز الجري الطبي هذا.» وخضَعَت لمجموعةٍ من الاختبارات لقلبها، منها مخطَّط كهربية القلب (الذي يتطلب ارتداءَ جهازِ رصدِ قلبٍ ثلاثةَ أيام)، ومخطَّط صدى القلب (حيث فُحِص قلبها باستخدام الموجات فوق الصوتية)، واختبار إجهاد أثناء ممارسة التمارين. كان كل شيء طبيعيًّا، عدا أنها رسبت في اختبار التمارين.
تشعر كارول أن الأطباء تجاهَلوا بعضَ العوامل مثل استهلاكها للكافيين، وكم جعلتها الاختباراتُ قلقة. وبدلًا من ذلك، شُخِّصت نوباتُ النبض المُتسارع التي كانت تأتيها على أنها رجفان أذيني انتيابي (نوبات متقطِّعة من عدم انتظام ضربات القلب)، ووُصِف لها دواءٌ قويٌّ اسمه فليكاينيد، الذي يُبطئ انتقال الإشارات الكهربائية في القلب.
كان للتشخيص أثرٌ هائل على كارول. «فجأةً بعد أن كنتُ شخصًا في أتمِّ عافية قلتُ في نفسي: «إنني مريضة، سأظلُّ أتعاطى الأدوية طيلة حياتي».» كانت قد بدأت للتوِّ ترعى حفيدَها الجديد بعد أن عادت ابنتُها إلى العمل. «قلت في نفسي: «ويحي، سوف أكون مسئولةً عن طفلٍ صغير. ولديَّ مشكلةٌ في القلب! ونحن نعيش في مَجاهل البلاد».»
لم تُعاني كارول من أيِّ نوبات من الرجفان الأذيني قط؛ لذلك فقد أقنعتُ الأطباء على مدار السنوات القليلة التالية بتقليل جَرعتها من فليكاينيد، حتى سُمِح لها في النهاية بحمله معها، إذا ما احتاجت إليه. لكن قلقها استمرَّ. إذ تقول: «فقدتُ كل ثقة في أنني سليمة ومُعافاة.» فكانت إذا سافرَت في عُطلة نهاية الأسبوع، تحقَّقَت من مكانِ أقرب مستشفًى؛ تحسبًا لإصابتها بنَوبة. وإذا خرجت للتمشية، تظل تتأكَّد أن هاتفها يعمل. وكانت تتحاشى الذَّهاب إلى المسرح أو السينما؛ تحسبًا لأن يُداهمها التعبُ وتحتاجَ إلى الخروج محمولةً.
ثم ذهبَت لرؤية سينتي. طَوال ستة شهور، ظلَّت تأخذ جلساتِ ارتجاع بيولوجي كلَّ أسبوعَين في عيادة «استشارات نابعة من القلب»، وتُمارسها يوميًّا في المنزل. وفي حين تشعر أن الطبَّ التقليدي إنما أسهَم في حالة القلق التي انتابتها، فقد أدركَت الآن قيمةَ قدرتها على التحدُّث مع سينتي عن مخاوفها. فهي تقول إن الارتجاع البيولوجيَّ كان «يبعث على الطُّمأنينةِ لأقصى درجة. كان بوُسعي أن أُلاحظ أن قلبي كان يعملُ بكفاءة. وشعرت بأنني أكثرُ اطمئنانًا، وقلت في نفسي إنني على ما يُرام.»
وتقول كارول إنها منذ أخذَت الدورةَ لا تنتابُها نوباتُ الهلع. والآن، إذا أحسَّت بالقلق ينتابُها — أثناء القيادة في مكانٍ مُزدحم، أو الانتظار لرؤيةِ طبيب أو طبيبِ أسنان — تلجأ إلى تقنية التنفُّس لتهدئة نفسها. والأكثر من ذلك، أن ضغطَ دمِها ونبضها عند الراحة ومستويات الكوليسترول قد انخفضَت كلُّها، ومن دونِ استخدامِ عقاقير.
تُعلِّق سينتي على الأمر فتقول: «لقد جعلَت صناعةُ الدواء الكثيرَ من المرضى مُعتمدين على النظام. وعلينا نحن أن نجعلَهم مستقلِّين عن النظام.» وتقول إن علينا أن نُعطيَ الناسَ مهاراتٍ، ونجعلَهم مسئولين عن صحتِهم.
•••
كانت مونيك روبروك مُمتلئةَ القَوام في تناسقٍ وذاتَ وجهٍ بَشوش، ربما في أواخر الثلاثينيَّات من عمرها، ذاتَ شعر خفيف، وترتدي قميصًا أخضرَ ذا ثنيات. كانت تجلس على حافةِ سريرِ مستشفًى في المركز الطبي الأكاديمي في أمستردام، وقد أنزلَت ياقة قميصها لتكشفَ عن ندبةٍ وردية؛ خط أفقي مُمتد عدةَ بوصات. للتوضيح قالت إنه يوجد تحتَه جهازٌ مزروع مِثل منظِّم ضربات قلب، له سلكٌ يصل إلى العصَب الحائر.
في الوقت ذاتِه أنشأ تريسي مجلةً عِلمية جديدة مخصَّصة للإلكترونيات البيولوجية، وكذلك شركة، باسم «سيتبوينت»، تهدف لابتكارِ محفِّزاتِ أعصابٍ مصغَّرة قابلة للحَقن، ربما في حجم حبَّة الأرز، سوف تُشحَن لاسلكيًّا، ويُتحكَّم فيها عن طريقِ جهاز آي باد. تتمثَّل الفكرة في أن هذه الأجهزة في نهاية المطاف ستعمل آنيًّا، لرصدِ الإشارات الواردة المُنتقلة عبرَ أعصابنا، وعند الحاجة، تعدل نتاجها لأعضائنا.
لكن ماذا عن العقل الواعي؟ هل يُمكننا أن نتعلم تسخيرَ المنعكسِ الالتهابي بأفكارنا؟
من المحتمل أن تكون الجرعةُ القوية والسريعة من التحفيز الكهربائي هي الأفضلَ في حالة المرضى المُصابين بإصاباتٍ حادَّة أو الأوضاع الخطيرة مثل الصدمة الإنتانية. لكن تريسي اقترح أنه في حالة الأمراض المُزمنة — أي شيء من ارتفاعِ ضغطِ الدمِ إلى التهاب المفاصل الروماتويدي وداء الأمعاء الالتهابي — ربما يكون من الأفضل اتباعُ نهجٍ وقائي طويل المدى، باستخدامِ تقنياتٍ مثل التأمُّل والارتجاع البيولوجي لتحسينِ تواترِ العصب الحائر تدريجيًّا مع الوقت.
لا أعرف ما هو رأي تريسي الآن حول إمكانية اتِّباع نُهُج نفسيَّة؛ فقد رفض إجراءَ مقابلة من أجل هذا الكتاب؛ لذا لم أتمكَّن من سؤاله. ولم يعُد يذكر العلاجات العقلية الجسدية في المقالات الأخيرة، ويقترح بدلًا من ذلك أن الأجهزة الدقيقة القابلة للحقن التي تخترعها شركته ستصير أمرًا مُعتادًا.