البحث عن الرب
دفعناها على عرَبةِ مستشفًى. ربما كانت في التسعينيَّات من عمرها، ذات بشرة شاحبة مُرتخية ويدَين وقدمَين متغضِّنتَين، وجهها كلُّه أوردةٌ رفيعة وبلا أسنان. يكاد السرير أن يملأ الحُجيرة المربَّعة. كان خلفها الستارُ المخطَّط بالأزرق والأبيض الذي دخلت عبْرَه. وعلى كلا الجانبَين، اصطفَّت كراسيُّ بلاستيكية ومَشابكُ أمام الجدران المكسوَّة بالقرميد. وإلى الأمام، بعد قدمَيها، كان يوجد ستارٌ آخر.
راحت ترتجف ونحن نخلع عنها ملابسها؛ إذ فكَكْنا أزرار سُترتها فكشفَت عن بطنٍ ضخم. قالت لها سيدةٌ إسبانية قصيرةٌ بَدينة، بلغةٍ فرنسية، ما معناه أنْ لا تقلقي.
ما لبثَت أن صارت عارية إلا من حفَّاضٍ كبير. وقفنا نحن الاثنتين على الجانبين، نعمل معًا، في حركاتٍ مُنسجمة ومدرَّبة. أمَلْناها على جانب ثم على الجانب الآخر، بينما كنا نجعل ملاءةً تنزلق تحت جسمها الضخم. وضعنا عليها دِثارًا أزرقَ، ورفعناها على الملاءة حتى ندسَّ نقالةً تحتها، ثم أزحنا الدِّثارَ ووضعنا فوقها ملاءةً أخرى مثل مفرش المائدة، غيرَ أنها كانت باردةً ومبتلَّة.
استلزم حملُ النقالة سبعةً منا (ثلاثة على كل جانب بالإضافة إلى واحدٍ عند الرأس)، وتجاوزنا الستارَ الداخلي بالقدمَين أولًا، لِندلفَ إلى حجرةٍ ثانية. كانت فسحةً صغيرةً خالية، مكسوَّة بحجارةٍ رمادية. كانت مربَّعةً لكن بسقفٍ عالٍ مقوَّس؛ مما أعطاها مظهرَ مصلًّى كنسيٍّ مصغَّر.
كانت الأرضية مكسوَّة بقرميد، وكانت مبتلَّةً وغيرَ آمنة، وفي المنتصف كان يوجد حوضٌ حجري مُستطيل، مُمتلئ حتى مستوى الركبة بماءٍ باردٍ أزرقِ اللون. وعند الطرَف الأقصى انتصب تمثالٌ باللونين الأزرق والأبيض؛ تمثال مريم العذراء. تزحزحنا عدةَ خطوات حتى صارت نقالةُ المرأة فوق الماء، ورأسها مستندًا على الدرجة العليا. ثم عدَدْنا معًا بالفرنسية، واحد، اثنان، ثلاثة، وغطَّسناها في المياه.
ظللتُ اليوم كلَّه أفعل هذا؛ أُنزِل سيدةً تِلوَ أخرى في هذه الحمَّامات المثلَّجة. وهذه الفسحة الصغيرة هي الأخيرةُ في صفٍّ به ما يقرُب من عشر حُجيرات مغطَّاة بستائر، في كل واحدة منها فريقٌ خاصٌّ تقوده سيدة. كنا كلنا مُتطوعاتٍ بلا أجر، ولم تكن تُشبه أيَّ وظيفة عملتُ بها من قبل. كنا نبدأ كل نوبة بعشرين دقيقة أو نحوِ ذلك من الغناء والصلاة، فتتصاعد الأصوات أعلى جدران الحجيرة.
ثم تدخل النساء (توجد حمَّاماتٌ مُنفصلة للرجال، وحمَّام للأطفال). كانوا قد اصطفُّوا لساعات من أجل هذه اللحظة، وسافروا من أنحاء العالم، كما فعل المُتطوعون بالضبط. كانوا أمريكيِّين وإيطاليين وهنودًا وأيرلنديِّين. صغارًا وكبارًا، وأصحَّاءَ ومَرضى. كانوا كلهم هنا بدافع الإيمان بأنَّ هذه المياهَ تتمتَّع بقُوًى شفائية. هذه هي لورد.
ظلَّت لورد، البلدة الصغيرة الواقعة في سفح جبال البرانس في فرنسا، مجهولةً نسبيًّا حتى عام ١٨٥٨. آنذاك في هذا الكهف النائي، ادَّعت فتاة في الرابعةَ عشرة من عمرها تُدعى برناديت أنها قد راودَتها عدةُ رؤًى لمريم العذراء، وبحسَب القصة، بدأ ينبوعُ ماء يتدفَّق في الموقع. الآن تُعتبَر لورد أحدَ مواقع الحج الرئيسية للكنيسة الكاثوليكية. إذ يأتي إلى هنا أكثرُ من خمسة ملايين شخص كلَّ عام، مُلتمِسين الشفاء لأرواحهم، وأجسادهم. تقوم حاليًّا بين الصخور ثلاثُ كنائسَ مُتداخلة حول الكهف وفوقه، وتوجد مجموعة من النافورات حيث يمكن للناس أن يشربوا من المياه المُبارَكة. لكن تجرِبة أغلبهم تتمحورُ حول الحمَّامات.
للعديد من الأديان أماكنُ مقدَّسة يُسافر إليها المتعبِّدون؛ أملًا في الشفاء، وللتطهُّر من آثامهم. إذ يحتشد ملايينُ المسلمين في مكة في المملكة العربية السعودية من أجل رحلة الحج السنوية، ويجتمع الهندوس كلَّ ١٢ عامًا في نهر الجانج في الهند. من الوجهات الكاثوليكية الأخرى الناشئة عن ظهوراتِ مريم العذراء، مدينة ميديوجوريه في البوسنة والهرسك، ومدينة فاطمة في البرتغال. إلا أن لورد مختلفة، وربما فريدة، بين مواقع الحج الديني، للزعم بأنها تُثبت أيَّ حالاتٍ تَبْرأ هنا إثباتًا عِلميًّا.
إذا زعَم شخصٌ أنه شُفِي شفاءً مُفاجئًا في لورد، تجمع لجنةٌ من الأطباء السجلاتِ الطبيةَ المعنيَّة، وتتحقَّق مما إذا كان يوجد أيُّ تفسيرٍ علميٍّ مُحتمل. وإذا لم يوجد، يُقرِّر الأسقفُّ حينئذٍ ما إذا كان سيُعطي حالة الشفاء غيرَ المفسَّرة منزلةَ المعجزة أو لا. منذ عام ١٨٥٨، أبلغ أكثرُ من ٧٠٠٠ شخصٍ اللجنة بشفائهم، وقد وُصِفت ٦٩ حالةً منهم بكونها معجزات. يبدو أن هؤلاء القليلين المحظوظين قد شُفُوا من أسقامٍ مثل السُّل، والعمى، والتصلُّب المتعدد، والسرطان.
إنني مهتمةٌ بهذه الحالات الظاهرة من الشفاء. لكنني شخصيًّا لا أُومِن بالمعجزات، على الأقل النوع الذي يُخالف قوانينَ الطبيعة منها. لكن هذه الحالات تُثير سؤالًا عميقًا: هل يمكن للتجرِبة الدينية والإيمانِ التأثيرُ على أدمغتنا؛ ومن ثَمَّ على أجسادنا؟ تبدو لورد مكانًا مُناسبًا للبحث.
بدأت في الحمَّامات. كنا نعمل في نوباتٍ مدتُها ثلاث ساعات، حيث الحرُّ والزِّحام في الحجيرات، والحُجَّاج يَظهرون واحدًا تِلو الآخر من خلال الستار. كنا نطلب من النساء خلع ملابسهن، ونلفُّهن بملاءة. وكنا نبذل قصارى جهدنا للتواصل بلغة الإشارة، فنُساعد كلَّ واحدة منهن في فكِّ أزرارها، وفك رِباط حذائها، وحلِّ حمَّالة صدرها. ثم نصطحبهن، واحدةً تِلو الأخرى، عبر الستار الداخلي. وفي مجموعةٍ من الحركات المنظَّمة الميكانيكية كنا نسير بهنَّ إلى الطرَف الأقصى من الحوض، ونُغطسهن إلى الوراء في الماء. كانت بعض النساء يبكين، وبعضُهن يصرخن، ونحن نُغطسهن في المياه الباردة. كان بعضهن يلمسن تمثال مريم ويُقبِّلنه. وبعضهن يتيبَّسن ويتشنَّجن، مقاوِماتٍ للماء؛ وأخرياتٌ يقذفن بأنفسهن للوراء بقوةٍ شديدة، حتى إننا كنا بالكاد نُمسكهن قبل أن تصطدم رءوسُهن بالدرجات المغطَّاة بالقرميد.
ظلَّت امرأةٌ أمريكية واقفةً مدةً طويلة، تهمس إلى التمثال. وأخذت امرأةٌ نيجيرية تبكي وتطلب مني الدعاء لابنها. بعد ذلك كنا نقلبُهن، ونُردد صلواتٍ ونحن نخرج بهن من المياه. ثم نُلبِسهن ثيابَهن ونُرسلهن إلى الخارج عبر الستار إلى شمس الربيع.
•••
لكن في السنوات الأخيرة، حدَث ارتفاعٌ مُفاجئ في الاهتمام بالأمر. إذ نُشِرت آلاف الدراسات عن الموضوع حتى الآن في مجلاتٍ طبِّية ونفسيةٍ كبرى، وفي الوقت نفسِه تُقدم كليات الطب الأمريكية بانتظامٍ دوراتٍ في الدين والروحانية والصحة.
لكنني سريعًا ما وجدتُ أن ما خَفِي كان أعظم.
•••
تصف شيري كابلان نفسَها بأنها «فتاةٌ يهودية لطيفة.» إنها جميلة ذاتُ عينَين زرقاوين وشعرٍ أحمرَ مجعَّد. لقد نشأتْ في فلوريدا، لكنها أمضت منتصف العشرينيَّات من عمرها في مانهاتن؛ تستمتع بالحفلات، وتُواعد الشُّبَّان، وتعمل في مجلة. بعد ذلك عادت إلى ميامي، وأنشأتْ مشروعًا لتقديم الطعام مع شقيقتها، واستقرَّت مع صديقٍ دائم. ثم في عام ١٩٩٤، حين كانت في التاسعة والعشرين من عمرها، تبدَّل كلُّ شيء. فقد شُخِّصت إصابتُها بفيروس نقص المناعة البشرية (إتش آي في).
بدأ «مركز العلاقات الإيجابية» ببضعِ نساء توصَّلَت إليهن شيري من خلال العيادات الإقليمية، وكنَّ يلتقينَ كل أسبوع للدردشة مع احتساء القهوة. بعد سنوات قليلة، صارت للمجموعة ميزانيةٌ تُقدَّر بنصف مليون دولار، وأصبحت تضمُّ أكثرَ من ١٥٠٠ عضو. قدَّم المركز أنشطةً اجتماعية، ومجموعاتِ دعم وخطوطَ اتصالٍ مباشر وطنيةً، وإعلاناتٍ شخصيةً، وجولة بحرية سنوية في الكاريبي. وقد سافرَت شيري في أنحاء العالم مع عملها، ونالت جوائز، والتقَت بمشاهيرَ مثل ريتشارد جير.
يبدو الأمرُ جنونيًّا بعضَ الشيء. يُصيب فيروس نقص المناعة البشرية خلايا كتلة التمايز ٤ التابعةَ لجهاز المناعة، فيستخدمها في صُنْع آلاف النُّسخ من نفسِه ويقتلها في هذه العملية. في النهاية ينخفض عددُ خلايا كتلة التمايز ٤ في الجسم للغاية، حتى إن جَهاز المناعة يتوقف عن العمل؛ مما يجعل المرضى عُرضةً لأمراضٍ تُهدد حياتهم. تُتيح العلاجاتُ المُتاحةُ اليوم للعديد من الأشخاص المُصابين بفيروس نقص المناعة البشرية أن يعيشوا حياةً طويلة وصحِّية، ولكن في منتصف تسعينيَّات القرن العشرين قبل توفُّر تلك العقاقير، كان يُنظَر إلى العَدْوى عامةً باعتبارها حكمًا بالإعدام.
إلا أن جيل إيرونسون، اختصاصيةَ علم النفس في جامعة ميامي في فلوريدا، لاحظَت أن بعض المرضى الذين رأتهم لم يَصيروا مَرْضى. تحدَّث كثيرٌ من أولئك المرضى عن أهمية الروحانية في حياتهم، فبدأت تتساءل عما إذا كان لها تأثيرٌ حقًّا على صحتهم.
من المرجَّح أن التغيراتِ في الإيمان الديني تُبدل من عواملَ سلوكيةٍ ربما تُؤثر بدَورها على تطورِ المرض، مثل اتباع نظام معيشي صحي أو تناول الدواء بانتظام. لكن تقول إيرونسون إن نتيجتها كانت ذاتَ مغزًى، حتى بعد أن وضعَت في الحسبانِ الاختلافاتِ في نمط الحياة والدواء وعواملَ نفسيةً أخرى مثل التفاؤل والاكتئاب.
هذه الدراسة ليست حاسمةً بمفردها، وعلى حدِّ علمي، لم يُحاول أحدٌ أن يُكرر نتائج إيرونسون. لكن إن كانت على صواب، فلا توجد حاجة للاحتجاج بالتدخُّل الربَّاني لتفسير السبب وراء تحسُّن المرضى الذين لجَئوا إلى الرب. فبدلًا من ذلك، تعتقد إيرونسون أن هذا قد خفَّض مستويات التوتر لديهم.
كذلك قد يُمدُّنا إيماننا بالربِّ بالدعم الاجتماعي المطلَق في وجه المِحَن. إذ يقول مايكل موران، وهو طبيبٌ كاثوليكي من بلفاست، وعضوٌ في اللجنة الطبية الدولية في لورد، ويتطوَّع بانتظام: «ثَمة شعورٌ بأنه يوجد شخصٌ آخرُ غيرُك تُلقي عليه أحمالَك. وأحيانًا، يبدو الأمر كأنَّ أحدًا يأخذك بين ذراعَيه ويحملُك.»
غير أن نيوبرج يُحذر من أن الإيمان الديني، شأن تأثير البلاسيبو، له جانبٌ مُظلِم، إذا كنتَ مثلًا تذهب إلى كنيسة أو مجموعة دينية تعتنق الكراهيةَ والسخط على الآخرين. «عادةً ما تكون تلك مشاعرَ سلبية جدًّا؛ مما قد يجعلها ضارَّةً بعقلِ الإنسان وجسده.» ويُجادل نيوبرج بأن الحدَّ من التوتر وإفادة الصحة يستلزمان «أن تكون مُتدينًا تديُّنَ مَن يعتنق عواطفَ إيجابية؛ عواطف مَحبَّة وشفقة وتواصُل، إحساس بالاتِّحاد وما إلى ذلك مع الأشخاصِ الآخَرين. ليس الأشخاص الذين ينتمون إلى مجموعتك فحَسْب، ولكن مَن هم خارج تلك المجموعة.»
•••
كان الوقت قُبيل الغسَق حين كنتُ واقفةً على الجهة الأخرى من النهر قُبالةَ الكهف في لورد. كنت واقفةً أمام دار نوتردام، أحدِ المستشفيات التي تَرْعى المرضى من الحُجَّاج هنا، في انتظارِ بدءِ مَوكب القُربان المقدَّس. ظهرت مجموعة من القساوسة، يحملون بتبجيلٍ خبزَ القربان الأبيض المُستدير على منصَّتِه الذهبية، مغطًّى أسفل مظلَّة مُزخرَفة باللونَين الذهبي والكريمي.
كان المكان مُزدحمًا بالمُحتشدين. تجمَّع القساوسة على أرضٍ مفتوحة أمام المستشفى، وانضمَّت إليهم مجموعةٌ من الناس على كراسي مُتحركة ونقَّالات. شكَّل حشدٌ آخرُ من الحُجَّاج والسائحين دائرةً حولهم، بينما جلس كثيرون آخَرون على الجدار المُقابل للنهر في صفٍّ ممتدٍّ بعيدًا بامتداد ضِفافه. أُقيم قُداسٌ قصير، ثم شرَع الجميع في السير صوبَ أقربِ جسر. مضى القُربان أولًا، تتبعه النقالات — حاملةً مرضى بأقنعة أكسجين ومحاليل — ثم الكراسي المتحرِّكة، تدفعُها ممرِّضات يضَعْن أغطيةَ رأس بيضاء وشملات سوداءَ مع صليب أحمر مميَّز.
بعد أن مضى الأشدُّ مرضًا، دخل في الصف حُجاجٌ آخَرون، تجرُّهم «عربات خيل» زرقاء. كانت ثَمة فتاة، ربما في الثانيةَ عشرةَ من عمرها، ترتدي مِعطفًا واقيًا من المطر وسروال جينز ورديًّا، وشَعرها معقوصٌ على هيئةِ ذيلِ حِصان. كانت محنيَّة الظهر، وتتمايل بشدةٍ إلى الأمام والخلف، لكنها كانت ترفعُ يدَ أمِّها في الهواء في انتصار. وخلفها مباشرةً ولدٌ صغير، في الثانية أو الثالثة من عمره، ذو شعر أشقر كثيف مُلتف، يمصُّ كُمَّ سُترتِه الزرقاء.
سار خلفهم أولئك القادرون على السير. كان يوجد المئات منا، في موكبٍ تحرَّك ببطء عابرًا الجسر، ثم سار مُتعرجًا أمام الكنيسة الكبيرة ذاتِ البرج التي تُميز موقع الكهف. راحت موسيقى الجُوقة تَصْدح من خلال مكبِّرات الصوت على امتداد المسار. وصاحت امرأةٌ مُسنَّة نشيطة بجانبي: «آمين! آمين! هاليلويا!»، مُستخدمةً مظلَّتَها عصا مشي.
بدلًا من دخول الكنيسة، دُرْنا هابطين ما بدا كأنه ممرٌّ سُفلي خرساني، فتساءلتُ إلى أين نحن ذاهبون. لكن ما إن صِرنا تحت الأرض، حتى انعطفنا فاتَّسعَ الدِّهليز مؤدِّيًا إلى كاتدرائيةٍ ضخمة تحتَ الأرض، في حجم ملعب كرة قدم (وقد قرأتُ فيما بعدُ أنها تتَّسعُ لعشرين ألفَ شخص). إنها مبنيَّة من الخرسانة، وبها صفوفٌ من الأضواء الكاشفة المربَّعة، وعوارضُ خشبية مائلةٌ ضخمة.
عُلِّقت الراياتُ القِرمزية على كلِّ حائط، تُزينها صور القدِّيسين. ورُصَّت مئاتُ المقاعد الخشبية في صفوفٍ منسَّقة مواجهة لمنصَّةٍ مركزية مرتفعة، بدرجات على جهاتها الأربع كلِّها جعلَتْها تبدو مثل الهرَم. كانت برَّاقةً تحتَ ضوء الكشافات، وعليها مذبحٌ أبيضُ كبير، وتمثال فِضي للمسيح على الصليب، وكرة ذهبية مليئة بالبَخور، يتلوَّى مُتصاعدًا منها دخانٌ رمادي إلى السقف.
أمام المنصَّة مباشرةً كانت توجد صفوفٌ من عربات الخيل الزرقاء تلك؛ إذ كان المرضى في موقع الصدارة. والآن أرى الجوقة، على جانبٍ واحد، تُصاحبها أبواقٌ وأرغن ذو أنابيب. مع بدءِ القُدَّاس، عرَضَت الشاشاتُ المُتدلية من السقف لقطاتٍ مقربةً للقساوسة حول المذبح، لِتُريَنا ما يحدث عن قُرب؛ وهي لقطاتٌ كانت تُنقَل أيضًا إلى المؤمنين حول العالم على قناة «لورد تي في».
أخذنا نُغني وننشد بلُغاتٍ عدَّة — باللاتينية والفرنسية والألمانية والإسبانية — مُسترشِدين بالترجمة المكتوبة على الشاشات. كان ثَمة الكثيرُ من الوقوف والجلوس والانضمام. في إحدى المراحل، سار قساوسةٌ بأردية كريمية اللون بالقربان، رافعين إياه أمام كل مجموعة من الحشد وهم يقرعون جرسًا. وحين وصَلوا إلى الناحية التي كنا فيها من القاعة، ركع كلُّ من كانوا حولي، ورشموا الصليب على صدورهم.
شعرت أنني في غير محلِّي وسط كل هذا الغناء وتلك الإشارات. فلم أحضر قدَّاسًا كاثوليكيًّا قط، ودائمًا ما أحاول بأقصى جهدي أن أتجنَّب المراسم الدينية. إذ إنني أشعر بعدم الارتياح حِيالَ فكرة استبدال المنطق والتفكير الواضح بالأردية والتعاويذ والقُوى العليا الغامضة. لكنها في الوقت ذاتِه تجرِبةٌ جميلة؛ غزوٌ للحواسِّ في غاية الإبهار. صفوف المصابيح، والألوان الذهبي والأحمر والكريمي والفِضي. رائحة البَخور الحُلوة والمدخنة، الموسيقى الباعثة على الأمل، والحشد الهائل. والجهد البدني المُتناغم في الوقوف والجلوس.
على نحوٍ غيرِ متوقَّع على الإطلاق، شعرت بإحساسٍ قويٍّ بالترابط، كأنني في مركزِ شيءٍ أكبر، أكبر بكثير. راوَدَني شعورٌ أننا، في هذه القاعة الكبرى، مربوطون بخيوطٍ ممتدَّة بعيدًا في أنحاء العالم، وكذلك في الزمن مستقبلِه وماضيه. من حوْلي، كان آلافُ الناس الذين لم ألتقِ بهم قط قبل اليوم يتحدَّثون ويُغنون بلغاتٍ مختلفة، لكن بتزامنٍ وتناغم مثاليَّين. وكانت صورهم تُبَث في أنحاء الكوكب حتى يتسنَّى مشاركةُ هذه اللحظة مع ملايينَ آخَرين. تُشكل هذه الترانيمُ والحركات طقسًا ظلَّ الناس يشتركون فيه طيلةَ قرون، ومن المرجَّح أن يدوم لقرونٍ مُقبِلة.
يُجادل اختصاصيُّ علم الأعصاب أندرو نيوبرج بأنَّ مثل تلك الطقوس عنصرٌ بالغُ الأهمية في كيفية تأثير الدِّين والروحانيات علينا بدنيًّا، وكذلك ذهنيًّا. فهو يدفع بأنَّ لها تأثيرًا قويًّا جدًّا؛ لأن جذورها ممتدَّة امتدادًا عميقًا في تاريخنا التطوُّري. فقد بدأت في عالم الحيوان في طقوس التزاوج. لكن حين أصبحَت أدمغتُنا أكثرَ تعقيدًا، على حدِّ قوله، اتَّخذنا طقوسًا لأغراضٍ أخرى أيضًا، من تحميم الطفل إلى حفل افتتاح الألعاب الأولمبية. يقول نيوبرج: «جزءٌ مما تفعله الطقوسُ في النهاية هو ربطُ كلٍّ منا بالآخَر.» فإذا كانت طقوسُ التزاوج تربط بين فردَين، فإنها في السياق الديني أو في أيِّ سياقاتٍ ثقافيةٍ أخرى تُساعد على جمعِ شملِ المجتمع أو الجماعة في مجموعةٍ مشتركة من الحركات والمعتقَدات.
من ناحية الدِّين، تربط الطقوسُ بيننا برِباطٍ قويٍّ جدًّا؛ لأنها تجعل المعتقَدات المجرَّدةَ التي نتشاركها تبدو أكثرَ تماسكًا. ويقول: «حين تعتنقُ اعتقادًا معيَّنًا من الممكن أن تكون مُتحمسًا له بشدة. لكن إذا دُمِج في طقس، يصير تجرِبةً أشدَّ تأثيرًا بكثير؛ لأنه لم يَعُد شيئًا تُفكر فيه في رأسك فحَسْب، وإنما تشعر به في جسدك.»
قد يكون هذا أمرًا بسيطًا مثلَ صلاة المسبحة الوردية، التي تربط بين مجموعةٍ من المعتقَدات الدينية والحركة البدنية المتمثِّلة في عدِّ الحبَّات بين أصابعك. لكن غالبًا ما تكون الطقوسُ أكثرَ تأثيرًا حين تشمل مجموعاتٍ من الناس يؤدُّون جميعًا الشيء نفسَه معًا، كما نفعل في هذه القاعة الهائلة تحت الأرض.
لم تُحوِّلني لورد إلى شخصيةٍ مؤمِنة. لكن بعد حضور هذا القدَّاس الهائل تحت الأرض، انبهرت بالتأثير المادي الذي قد يمتلكه الإيمان الديني. هنا في هذه الكاتدرائية، تُرجِمَت رؤيةٌ مشتركة إلى شيءٍ أمكنَنا جميعًا رؤيته وسماعه والإحساس به (وتذوُّقه في حالةِ مَن تناولوا القربان). قد يكون الإيمانُ الديني شيئًا غيرَ مادي، لكن هذا الطقس جعله شيئًا ملموسًا في العالم. فجأةً أصبحت لا أجدُ صعوبةً بالغة في تصديقِ أنَّ ذلك الإيمان قد يكون له تأثيرٌ قوي على الجسم أيضًا.
•••
إذا كان بالإمكان تفسيرُ التأثيرات الفسيولوجية للإيمان الدينيِّ بآلياتٍ مثل التوتُّر والطقوس، فهل ثَمة حاجةٌ إلى وضع الرب في الصورة من الأساس؟ لقد رأينا بالفعل بعض الفوائد المادية لبرامجِ تأمُّلٍ علمانية، مثل تدريب التعاطف القائم على المعرفة والحدِّ من التوتر القائم على اليقظة الذهنية، ولكن هل تفقد أيَّ شيء عند هذا التحوُّل؟
ممَّا شجَّعني أن بارجمينت يُجادل بأن الروحانية لا تَعني بالضرورة الإيمانَ بخالقٍ محدَّد، ولست بحاجةٍ إلى أن تكون مُتدينًا حتى تستفيدَ من تأثيراتها. إذ تجد في دراساته أن المتطوِّعين الذين لم يرغبوا في التأمُّل بترديدِ عبارةٍ دينية كان بإمكانهم اختيارُ بديل، مثل إحلال «أمُّنا الأرض» محلَّ الرب (وإن كان شخصٌ واحد فقط هو الذي فعل ذلك). إن أيَّ شيء نرى أنَّ له شخصيةً أو طبيعةً إلهية — بحيث نراه مُتفردًا أو مُميزًا — لا بد أن يفيَ بالغرض. في الولايات المتحدة، يُفهَم هذا عادةً على أنه يعني شخصيةً إلهية من نوعٍ ما؛ الرب، يسوع، شيء مُتعالٍ، على حدِّ قوله. لكن من الممكن أن يكون شيئًا آخر.
في السويد على سبيل المثال، يُنظَر إلى الطبيعة باعتبارها مقدَّسة؛ إذ يستجيبُ الناس للطبيعة، ويشعرون بها على نحوٍ مُماثل لشعور الشخص بالرب من خلال الصلاة. يقول بارجمينت: «يكتب الناس عن تجرِبة وُجودهم في الهواء الطَّلْق، وتوحُّدهم مع الطبيعة، وشعورهم بنبضٍ في الطبيعة لا ينتهي أبدًا.»
يقول بارجمينت إن المجتمع الغربي يميل إلى تقدير الوصول لأقصى درجات السيطرة وتخطِّي الحدود. «إننا نُحاول حلَّ المشكلات. ونُحاول تعزيزَ إطالة العمر.» لكن في مرحلةٍ ما، نُواجه جميعًا أحداثًا وتجارِبَ لا يُمكننا التحكم فيها. وبينما حقَّق الطبُّ الغربي تقدمًا هائلًا في الصحة ومتوسط العمر المتوقَّع، فإنه ليس مُجدِيًا جدًّا في مساعدتنا على التعامل مع تلك العوائقِ حين تطرأ. يقول بارجمينت: «إن المثال الكلاسيكيَّ هو حين يُدرك الأطباء أنه لم يَعُد بيدِهم شيءٌ يفعلوه لمرضاهم. من المؤسف أنهم في بعض الأحيان ينسحبون فحَسْب. بل أحيانًا ينسحبون غاضبين لأنَّهم يُواجهون حدودَ سيطرتهم ولا يعلمون ماذا يفعلون حيالَ ذلك.»
وهو يحتجُّ بأن الروحانية تملأ ذلك الفراغَ بمساعدتنا على القَبول بأننا بشرٌ ضعفاءُ فانون. مهما بلَغَ الطبُّ من براعة، فعلى حدِّ تعبيره «سوف نُواجه كلُّنا مشكلاتٍ مُستعصيةً إلى حدٍّ ما، منها الألمُ الجسدي. وفي نهاية المطاف، سنقضي كلُّنا نَحْبنا.»
•••
أرغب في أن أعرف بشأن المعجزات.
«إذا كان يوجد مكانٌ في العالم الغربي فيه اتصالٌ بين العلم والدِّين والصحة فهو لورد.» قال أليساندرو دي فرانشيشيس، رئيس مكتب لورد الطبِّي، هذا وهو مُسترخٍ، متربِّع الساقَين وقد استندت ذراعه اليمنى على ظهرِ كرسيِّه. كان مكتبه، الواقعُ على مَرْمى حجَر من مدخل الكاتدرائية الكائنة تحت الأرض، فسيحًا وأنيقًا، ويضمُّ أريكةً وكراسيَّ بذراعَين — بلَون القهوة ومبطَّنَين ومصنوعَين من خشب الجوز — موضوعَين حولَ بِساطٍ فارسي. وراءهما، مكتبٌ خشبي ضخم عليه تمثالٌ قائم للمسيح مصلوبًا، ومصباحٌ أخضر عتيق الطِّراز. على رفِّ الكتب، وُضِع في موقعٍ بارز كتابا «وهم الإله» لريتشارد دوكينز و«التصميم العظيم» لستيفن هوكينج تحت أربع صور في إطارات لفرانشيشيس في لقاء مع البابا.
أما دي فرانشيشيس نفسُه فقد كان له سمتٌ أكاديمي، بجبهةٍ عالية وشعرٍ داكنٍ أشيَب. وهو طبيبُ أطفال سابق من نابولي، بإيطاليا، ولديه أيضًا شهادةٌ في علم الأوبئة من هارفارد. إنه جذَّاب لكنْ مولعٌ بالجدال؛ إذ ظل ينهال عليَّ بأسماء العلماء ليرى ما إذا كنت على درايةٍ بأعمالهم، ويرفض أن أُقاطعه وهو يحكي قصصًا طويلة، مثل قطار متعرِّج ولكن لا يُمكن إيقافه.
شرَع الأطبَّاء المُنتسبون إلى لورد في فحصِ كلِّ حالةِ شفاءٍ حدَثَت وتوثيقِها. يقول دي فرانشيشيس إن الهدف لم يكُن إلا «إثبات وجود الرب من خلال قوة التفسير العلمي.» أقرَّ البابا بيوس ذلك المَسعى عام ١٩٠٥، حين أصدر مرسومًا يقضي بوجوب إخضاع حالات الشفاء المزعومة في لورد «لإجراءٍ مُناسب».
وما زال ذلك الإجراءُ مستمرًّا حتى اليوم، تحت قيادة دي فرانشيشيس. إذ إنه عند الإعلان عن حالة شفاء، يَعقِد اجتماعًا مع الأطباء التابعين الموجودين في لورد حينَذاك. ويجمعون معلوماتٍ عن الحالة. هل كان الشخص مريضًا حقًّا؟ هل تحسَّن تحسنًا مؤكَّدًا؟ هل شهد أيُّ شخص لحظةَ الشفاء؟ كما أنهم يطلبون سجلَّات وفحوصات بالأشعة من المَوطن الأصلي للمدَّعي، قبل زيارة لورد وبعدها؛ ويتحقَّقون مما إذا كان هذا الشخص قد تلقَّى أي علاج ربما يُفسر تعافيَه، ويجمعون الآراء الطبية، وينتظرون أحيانًا عقودًا؛ للتأكد من استمرار الشفاء.
إذا اقتنَع أطباء، يُرسلون ملاحظاتهم إلى اللجنة الطبِّية الدولية للورد، التي تُصوت على ما إذا كان الحادث حالةَ شفاء بحقٍّ أو لا، وتُصدر تقريرًا طبيًّا رسميًّا. يقول فرانشيشيس إن هذا أقصى ما في وُسعِهم عملُه بصفتهم أطباءَ. يُرسل التقرير إلى الأسقف المحلِّي التابع له المدَّعي ليحسم أمرَ ما إذا كان شفاؤه يُمثل معجزةً إلهية.
يحتجُّ دي فرانشيشيس بأن هذا الإجراء يُعطي لورد «جدِّية، وقُدرة على تفسير العلاقة بين الإيمان والطِّب» ليست موجودةً في أيِّ موقعِ حجٍّ آخَر في العالم. كنت قد تساءلت عمَّا إذا كان دفاعيًّا بشأن الأدلة الطبية التي تدعم التسع والستين معجزةً التي أُعلن عنها حتى الآن، لكن بدا واضحًا أنه كان فَخورًا بالتقارير، وأعطاني نُسخًا من أيِّ شيء أردتُ الاطلاع عليه.
تشتمل الوثائقُ التي أعطاني إياها على تقاريرَ عن حالاتِ شفاء من حالاتٍ مثل السرطان والعمى والشلل تعود إلى تواريخَ مختلفة على امتداد القرن العشرين. أدهشَني أن العديد من التشخيصات الأصلية، ومنها تشخيصُ رجل فرنسي قيل إنه كان مُصابًا بالتصلُّب المتعدِّد، مُستندة على مشاعر المرضى وأعراضهم وليس على الفحوصات المادية. كان هؤلاء الأشخاص قد صرَفَهم أطبَّاؤهم باعتبارهم حالاتٍ ميئوسًا منها، وكان من الواضح أن شفاءهم كان بمثابةِ معجزة من وجهة نظر أولئك المعنيِّين. لكنني بدلًا من اعتبار أن حالات التعافي هذه تُقدِّم دليلًا على تدخل خارقٍ أو إلهي، أتساءل عما إذا كانت تُبرهن حقًّا على قدرة العقل على فرض أعراض المرض الطاحنة علينا، وقدرة الإيمان الديني على إزاحة ذلك العبء.
كان أحدُ التقارير التي أُطلِعتُ عليها مُختلفًا. إنها حالة جندي إيطالي شابٍّ يُدعى فيتوريو ميتشيلي؛ المعجزة الثالثة والستين، التي اعتُرف بها عام ١٩٧٦. أُدخِل فيتوريو إلى المستشفى في أبريل ١٩٦٢، حين كان في الثانية والعشرين من عمره، لألمٍ في الورك. شُخِّصَت حالته بأنها ورمٌ خبيث — ساركوما عظمية — في الحوض. على مدار الشهور القليلة التالية، دمَّر الورمُ العظام في وَرِكه اليُسرى، وغزا العضلاتِ المحيطةَ به. وفقًا للتقرير، لم يتلقَّ فيتوريو علاجًا للسرطان — لا جِراحة ولا علاجًا كيماويًّا ولا إشعاعيًّا. ولما صارت ساقُه متدلِّيةً مُتقلقلةً من جسده، غطَّاه الأطباءُ بجبيرةٍ من رأسه إلى قدمَيه، وقالوا إنه لا يوجد شيءٌ يُمكنهم فِعله.
هذه هي الحالة التي اخترتُ أن أُجريَ عليها مزيدًا من التحقيق. ما إن عُدتُ إلى المملكة المتحدة، عرَضت تقرير فيتوريو على تيم بريجز، جرَّاح العظام والخبير في الساركوما العظمية في المستشفى الملَكي الوطني للعظام في ستانمور، بميدلسكس. تُظهِر الصورُ الإشعاعية التي التُقطَت قبل زيارة فيتوريو إلى لورد ورمًا كبيرَ الحجم يغطِّي وركه اليُسرى، وتآكُل رأس عظْمة الفَخِذ وتجويف حوضه تمامًا. وتكشف العيِّناتُ الهستولوجية — شرائح لخلايا من النسيج المحيط — سرطانًا مُنتشرًا مُتوغلًا. بعد ذلك، في الصفحة التالية، كانت توجد صورة بالأشعة السينية التُقطَت بعد عودة فيتوريو من لورد ونزع جبيرته. لم يعد ثَمة أثرٌ للسرطان، وعادت العظام للنُّمو. كان العظم يبدو مشوَّهًا قليلًا، مثل نسيج الندبة، لكن البِنْية كانت موجودةً — كرة عظْمة الفخذ وتجويف الحوض — وكلُّها في حالةٍ وظيفية مُمتازة.
بدا بريجز مُنبهرًا في البداية. إذ قال: «إنه أمرٌ مُذهِل.» وأخذ التقرير لِيَدرسه بالتفصيل، ثم دعاني بعد بضعةِ أسابيع إلى مكتبه. قال بنبرة انتصار: «أحملُ لكِ تفسيرًا!» بعد دراسة الشرائح الهستولوجية، تأكَّد من أن السرطان كان خبيثًا فعلًا، لكنه قال إنه لم يكن ساركوما عظميةً، وإنما بدا مثل سرطان الغُدد الليمفاوية، وهو سرطان أكثرُ شيوعًا لا يُصيب الخلايا العظمية نفسها، وإنما الخلايا الليمفاوية، وهي نوعٌ من خلايا الدمِ البيضاء، داخلَ نُخاع العظام.
على النقيض، عادةً لا يحتاج مرضى سرطان الغدد اللِّيمفاوية إلى جِراحة، ومن الممكن أن يستجيب استجابةً جيدةً جدًّا للعلاج الكيماوي. الأهم من ذلك أن بريجز وزملاءه لاحَظوا إشارةً، مطمورةً في تقرير لورد، تُفيد باحتمال أن يكون ميتشيلي قد تلقَّى عقارًا اسمه إندوكسان. وهذا اسمٌ آخرُ لعقار سيكلوفوسفاميد، أحدُ العقاقير المثبِّطة للمناعة الذي كثيرًا ما يُستخدَم لعلاج سرطان الغدد الليمفاوية؛ لأنه يقتل خلايا الدمِ البيضاء. يكتنفُ الغموضُ التقريرَ في هذه النقطة — فهو يذكر في مواضعَ أخرى أن ميتشيلي لم يُعالَج من السرطان — لكن التفسير الوحيد المعقول من وجهةِ نظر بريجز أن تكون تلك الإشارةُ إلى الإندوكسان دقيقة. فهو يقول إن ميتشيلي «قد استجاب لها أفضلَ استجابةٍ كما هو واضح.»
لم يندهش بريجز من نموِّ مَفصل ميتشيلي مجدَّدًا بمجرد زوال السرطان. ويقول: «بعد العلاج الكيماوي، يكون لدى العظامِ إمكانيةٌ مُدهشة للتجدُّد.» ويعتقد أنه من الوارد أن يكون هذا الأمر قد استغرق من ستة إلى اثنَي عشرَ شهرًا في حالة ميتشيلي. من المُستحيل معرفةُ ما حدث على وجه اليقين من المعلومات المحدودة في التقرير الطبي. لكن رغم أنَّ تعافيَ ميتشيلي بدا له معجزةً حتمًا حينَذاك، فلا يبدو أنه يوجد أيُّ شيء يستعصي على العلم تفسيرُه.
أما هناك في لورد، فإن دي فرانشيشيس مُصرٌّ على أنه حتى إذا عثَرْنا على تفسيراتٍ طبية لاحقًا لبعض المعجزات، فإن هذا لن يُبدل من مكانتها كعلاماتٍ على التدخُّل الإلهي عند مَن يريدون تصديقَ ذلك. ويقول: «إن المعجزة وجهةُ نظر. يؤمن الأساقفة بأنَّ الشخص قد تلقَّى هِبةً من الرب.»
بِتُّ أشعر ببعض الحيرة بشأن الهدف من التحقُّق عِلميًّا من حالات الشفاء من الأساس. فعلى الرغم من كل البحث الدقيق للَّجنة، فإن مسألةَ وجود معجزات إلهية تبدو لي مسألةَ إيمانٍ لا علم. بيدَ أن ما نتفقُ عليه أنا ودي فرانشيشيس هو أن الدين — ولورد مثالٌ ساطع على ذلك — هو مزيج قويٌّ من كلِّ الطُّرق التي يستطيع بها العقلُ أن يُفيد الصحة، بما في ذلك التواصلُ الاجتماعي والحد من التوتر وتأثيرات البلاسيبو. ورغم أن هذا مِن شأنه أن يُساعد الناس على التحسُّن بشتَّى الطُّرق، فهو يُثبت أيضًا أن العقل لا يستطيع، في العموم، أن يصنع معجزاتِ شفاء. فحُجَّاج لورد، على الرغم من كل ما لديهم من إيمان، لا يعودون عامةً إلى دِيارهم وقد حدث لهم تحولٌ جسدي. وفي نهاية المطاف، من بينِ مئات ملايين الحُجَّاج الذين جاءوا للزيارة، أُبلِغ فقط عن بضعةِ آلافٍ من حالات الشفاء، وزُعِم وجود ٦٩ معجزةً فقط.
يقول دي فرانشيشيس: «لو كانت لورد قد اعتبرَت نفسها عيادة، لكانت أُغلِقَت في اليوم التالي، فهذا فشلٌ ذريع! لا، لورد ليست عيادة. إنها مكانٌ للعبادة.» ويُجادل بأن إحصاء حالات الشفاء يُغفِل الهدف؛ فإن لدى لورد شيئًا أكبرَ بكثير لتُقدِّمه، وأكثرَ قدرةً على إحداث تحوُّل. ويقول إن الهدف الأساسي من المكتب الطبيِّ كان توثيقَ المعجزات؛ ومن ثَم إثبات وجود الرب. لكن الآن لدى دي فرانشيشيس مهمةٌ مختلفة.
•••
قلت «مرحبًا.» فنظر لي كريستوفر متهلِّلًا. إنه في الرابعة والعشرين، لكنه يبدو أصغرَ بكثير. إنه ضئيلُ الحجم، يجلس مُنكمشًا على كرسيِّه المُتحرك بظهرٍ محدودب وأطرافٍ ضعيفة. وقد جذَب يدي، ثم أشار إلى ابتسامته العريضة ليحثَّني على التقاطِ صورةٍ له بهاتفي. أرَيتها له فحملَ الشاشة على بُعد بوصة أو اثنتَين من عينَيه الحولاوَين ليتفحصَ الصورة قبل أن يهزَّ رأسه؛ علامة الرضا عن النتيجة.
وُلِد كريستوفر بحالةٍ جينية نادرة تُسمَّى مُتلازمة روبينشتاين-تايبي. وهو طفرةٌ في جينٍ رئيسي واحد تتسبَّب في مشكلاتٍ واسعةِ النطاق منها التخلفُ العقلي، وتوقُّف النمو، ومشكلاتٌ في القلب، وصعوبات في التنفس وتناول الطعام والرؤية والكلام. لا يستطيع كريستوفر السيرَ أو الكلام، حسَبما أخبرتني أمُّه، روز. وهو يرتدي حفَّاضات، ويحتاج إلى رعايةٍ مستمرَّة.
كنت لم أزَل أستوعب هذا حين قدَّمت لي روز ابنتها، ماري روز، التي تصغر كريستوفر بثلاث سنوات. وُلِدَت هي الأخرى بمتلازمةٍ جينية مدمِّرة، لا علاقة لها بحالة أخيها. إذ ينتشر في جسدها أورامٌ حميدة تُدمر الأعضاء التي تسكنها، من عينَيها ومخِّها إلى قلبها ورئتَيها. تفوق ماري روز كريستوفر طولًا ووزنًا. وكانت ترتدي بِذلةً رياضية وردية وتُزين شعرَها الأشقرَ زهورٌ وردية وبرتقالية. ومثل كريستوفر، تستخدم ماري روز كرسيًّا متحركًا، وترتدي حفَّاضات، ولا تستطيع الكلام. ولا تستطيع أن تُطعم نفسَها. كما أنها مُصابة بالصرَع، وكفيفة. وقد أمسكت يدَها وقلت لها إنني مُعجَبة بالزهور التي في شعرها، لكن لم يتبدَّل التعبير المشدوهُ على وجهها.
روز وطِفلاها من مقاطَعة كاونتي كورك في أيرلندا. وكانوا في لورد كجزءٍ من رحلةِ حجٍّ ضمَّت ١٣٠ شخصًا تُديرها جمعيةٌ خيرية أيرلندية صغيرة تُسمى كازا. وقد التقينا في بَهْو الفندق بعد العشاء، في بداية إقامتهم التي استمرَّت أسبوعًا. تبدو روز مُشرقةً ومُتواضعة، لكنَّ عينَيها الداكنتين تصرخان بالإنهاك.
كانت قد جاءت بكريستوفر إلى هنا أولَ مرة وهو في عمر أربعة أشهُر، حسَبما أخبرَتني. لم يكُن قد غادَر المستشفى قط، وقال الأطباء إن أمامه شهرًا واحدًا فقط على قيد الحياة. أخذَته إلى المطار، مصحوبةً بفريقٍ طبي، واستقلَّت طائرة إلى لورد. تقول: «إنه المكان الأقربُ إلى السماء. لم أرِد أن يتألَّم حين يأتيه الموت.» وهي الآن تأتي بطِفلَيها كل عام. فهي تقول إنهما يستطيعان في لورد أن يَلقيا القَبول. «الناس في الوطن لا يُدركون أنهما فردان طيِّبان. إنهم لا يرون سوى الكراسيِّ المُتحركة. أما هنا، فالناس يُقابلونهما بالودِّ ويُحبُّونهما.»
منذ تلك الزيارةِ الأولى، خالَف كريستوفر التوقُّعات. لقد خضع لسبعَ عشْرةَ جِراحة، على حدِّ قول روز، «لقلبه ورئتَيه وساقَيه وأذنَيه وعينَيه؛ كل أجزاء جسمه.» لكنها تعزو الكثيرَ من التحسُّن الذي حدث له لحجِّهم السنوي. فهي تقول بإصرار: «لم يكُن كريستوفر سيظلُّ على قيد الحياة لولا القدومُ إلى لورد. لم يكُن من المفترَض قطُّ أن يأكل أو يتفاعل. والآن انظري إليه.» كان ابنها حقًّا يستمتع بوقته؛ إذ راح يتجول في أنحاء البهو على كرسيِّه المتحرك، وكان قرةَ عين النُّزلاء الآخَرين. في الوقت ذاتِه كانت ماري روز «تُصاب بأربعين نوبةً في اليوم.» على حد قول روز. «أما الآن فهي تُصاب بثلاث. ابتسامتها الأولى كانت في الكهف حين كانت في عمر تسعة أشهر. حينَذاك عرفت أنها ستكون بخير.»
مع ذلك، بدا لي أن الشخص الأحوجَ إلى لورد هو روز نفسُها. فهي ترعى كِلا طفلَيها طوال الوقت في الديار، علاوةً على زوجها، الذي تقول إنه مُعتلٌّ اعتلالًا شديدًا. «في الوطن، لا أستطيع الذَّهاب إلى مكان»، هكذا قالت. «لا أستطيع دفع كرسيَّين متحركين.» رحلة الحج هذه هي العطلة الوحيدة التي تحظى بها. «ليس لديَّ حياةٌ أخرى.» هذا ما قالته بصراحة. «هنا، أستطيع أن أكون روز. فأنا شخص أيضًا. ما إن وُلِد أبنائي، نَسِي الناس في موطني أنَّ لي وجودًا. لكن حين أكون هنا، أشعر أنني موجودة. تَعلَم سيدتنا العذراء أنني حية.» إنها لا تعلم إن كانت ستتحلَّى بالقوة للمُواصلة من دون هذه الرحلة السنوية، ودعم الطاقم الطبي والحُجاج الآخَرين. «ثمة حِملٌ ثقيل على كاهلي، وحين يأتي وقت عودتي يكون قد زال»، على حد قولها. «لا أدري إن كان السبب هو الحمَّامات. أم الكهف. أم الأحضان. أم النظرات. لكنه يحدث هنا. إنني أعود إلى الديار إنسانًا جديدًا.»
لقد اكتشفت أن الأمر المُذهل في لورد هو أن كل شخص أتحدَّث إليه، سواءٌ شُفِي أو لا، يشعر بأنَّ معجزةً قد حدثت له.
على الضفَّة الأخرى من النهر في دار نوتردام، يحزم فوجُ حجٍّ آخَرُ أمْتِعته للرحيل. هناك قابلت كارولاين ديمبسي من دون جارفان، وهي مُعلمة في السابعة والأربعين من عمرها ذات شعرٍ أشقر قصير تنتعل خُفَّي كروكس أرجوانيَّين. كانت تقتسم غرفةَ المستشفى مع ثلاث نساء في الثمانينيَّات من العمر. وقد جلَسْنا على فِراشها وتسامَرنا بينما أحضرت المُمرضاتُ بسكويتًا مُستديرًا وأقداح الشاي.
مات صديقها بالسرطان. والآن كارولاين مُصابة بالساركوما. كانت قد ظهرَت منذ سبع سنوات في ساقها واستُؤصلَت جِراحيًّا، لكنها عادت في بطنها. ليست كارولاين مُتعمقةَ التديُّن، ولم ترغب في المجيء إلى لورد، والسبب الوحيد لوجودها هنا هو إلحاحُ أمِّها. لكنها الآن لا تريد العودة إلى الوطن.
تقول: «ثَمة شيءٌ مختلف في القدَّاسات هنا.» «في الديار، تشعر أنه مجرَّد طقس، فلا أحد يَعْنيه حقًّا. لكنه هنا حقيقي. تشعر كأنَّ آلاف الناس يُصلُّون من أجل أن تصير بخَير.» وهي لم تستفد استفادةً كبرى من الحمَّامات. لكن في وقتٍ سابق من ذلك اليوم كانت قد حضرت قدَّاسًا للمسح بالزيت، وبمجردِ أن اقترب منها القسُّ بالزيت، «لم أستطع أن أتحرَّك. لقد ذُبتُ. شعرتُ بانفراجٍ هائل.» حين عاوَد السرطان كارولاين، «كنتُ خائفة جدًّا»، على حد قولها. «لكن اليوم راوَدني هذا الشعور. تحلَّي بالأمل، وعيشي حياتَكِ، ولا تخشَيها.»
على الجهة الأخرى من الممرِّ كان جون فلين ذو الاثنين والثمانين عامًا. إنه أصلع، ويلهث حين يتحدث. على فِراشه تبعثرَت طائفةٌ مُذهِلة من الأقراص والكبسولات، الوردية والبيضاء وذاتُ اللونَين الأحمر والأخضر؛ معبَّأةً في زجاجاتٍ صفراء، وأكياس من الرَّقائق المعدنية، وبرطماناتٍ معدِنية بيضاء. ظل جون يعمل في مسبكِ حديد طوالَ ٣٠ عامًا حتى تمزَّقَت أوتارُ كتفه، ولم يَعُد قادرًا على العمل. حينَذاك جاء إلى لورد لأول مرة، عام ١٩٨٨. «تعلَّقتُ بالتجرِبة.» هكذا قال. وهو يعود إليها الآن للمرة السادسةَ عشْرة.
إنه يُعاني من ألمٍ عصبيِّ المنشأ، ويدٍ مشلولة، وساقٍ لا تَقْوى على السير بعد أن أصابَته سكتةٌ دماغية قبل سبعة أعوام، ومن التهابٍ في المَفاصل في كلِّ مكان في جسده. ويقول إن الإحباط يَغْشاه وهو في الوطن حيالَ الأشياء التي لم يَعُد قادرًا على فعلِها. لكنَّ المجيء إلى لورد يجعله يرى الأمور رؤيةً موضوعية — فأنت ترى أناسًا أسوأ حالًا منك بكثير، على حدِّ قوله — ويُساعده على قَبول وضعه.
خارج المستشفى، جلسَت نساءٌ في العتمة، يُدخنَّ ويتَجاذبنَ أطراف الحديث وهن يُرسلن نظرَهن عبر النهر نحوَ الكهف المُضاء بالمصابيح الكشَّافة. دلَّتني جوان على كرسيٍّ مُتحرك زائد — «إنني مُصابة بتصلُّبٍ متعددٍ وداء السكَّري والتهاب المفاصل.» هكذا قالت. «إنني في السادسة والخمسين من عمري.» — وآن، التي تُعاني من اكتئابٍ متكرِّر. «لقد غَرِق أخي وأنا في الرابعة من عمري.» هكذا قالت. «ومات أبي حين كنت في السابعة. وتعرَّضتُ لتحرُّشٍ جنسي في طفولتي. وتزوَّجت، ثم هجرَني زوجي مع امرأةٍ أخرى.»
ما يُميز لورد من وجهةِ نظرهما هو الدعمُ الاجتماعي. إن فرصة مناقشة المشكلات هي من الأشياء التي لا تشعرانِ أن مِهنة الطب — أو المجتمع — تُقدمها في بلادهما. لم تلتقِ المرأتان سِوى هذا الأسبوع، ومع ذلك «تشارَكْنا قصة حياتنا.» على حد قول جوان. «حين أكون في الديار، أجدني كأنَّني مسافرة وحدي. أما هنا، فثَمة تآزرٌ عظيم.»
«في الديار، لا أحد يُكلم الآخَر.» هكذا كرَّرَت آن، وقد حملت قدح شاي في يدٍ وسيجارةً في اليد الأخرى. «حين نذهب إلى الطبيب النفسي، يُعطينا دواءً. لقد قال لي الطبيب النفسي: «لستُ هنا للإصغاء. مهمتي هي التشخيصُ ووصف الدواء.»» وهي لا تنتقدُ مهنة الطب، على حدِّ قولها. فلا يُمكن للأطباء الإصغاءُ لكل قصة، ولولا مستشفياتُ الأمراض النفسية ما كانت ستُصبح هنا اليوم. «لكن هنا، ثَمة خوفٌ أقل. الناس لا يخشَون أن يتحدَّثوا. الحب يتدفَّق خارج الجدران.» ما يذكره كلُّ فرد من الحُجاج أيضًا الرعاية والدعم اللذان يلقَونهما من المُتطوعين هنا، من المُساعدين المُراهقين وحتى الأطباء الكبار. تقول جوان: «إنه شيءٌ رائع. إنهم يُعاملوننا باحترام.»
المُدهش أنني سمعتُ مشاعرَ مُشابهةً من المُتطوعين أنفسِهم. فهم يتكفَّلون بنفقاتهم ويتَنازلون عن عطلةِ أسبوع عزيزة؛ ليأتوا هنا كلَّ صيف. «إنني لا آتي إلى هنا من أجلِ الحُجَّاج.» هكذا أخبرني أحدُ المُتطوعين حين اصطفَفْنا لتناوُل العشاء في مقصف العاملين. «إنني آتي إلى هنا من أجلي. لأنني بحاجةٍ إلى هذا في حياتي كلَّ عام.» قال مُتطوعٌ آخَر، وهو موظفُ بنك في لندن لا يُخبر أصدقاءه أنه يأتي إلى لورد، إنه أتى أولَ مرة حين كان مُراهقًا، ليشكرَ الربَّ بعد تعافيه من مرضٍ ما. مرَّ على ذلك عقودٌ ولا زال يأتي؛ لأنه يشعر «بحماسٍ شديد نابعٍ من تقديم العون.»
أخبرَني المتطوِّعون والطاقم الطبيُّ أن لورد تضعُ مَشاغلهم الحياتية في نِصابها، وتُوفِّر شعورًا بالأُلفة لا يجدونه في حياتهم العادية. إنها من الأماكن التي تكتسب فيها أفضل أصدقاءَ مقرَّبين على الفور، على حدِّ قولهم. الكل هنا — المرضى والأصحَّاء — مُتساوُون، بغضِّ النظر عما يفعلونه في ديارهم.
لقد شهدتُ ما يقصدونه. إذ يختلطُ هنا فعلًا المرضى والأصحَّاء والأغنياء والفقراء في ودٍّ على نحوٍ لم أرَه في حياتي قط، وتَشيع أعمال العطف العشوائية. في الحمَّامات، يعقد المُتطوعون للحُجاجِ أربطةَ أحذيتهم. وفي الكاتدرائية، يصطفُّ المرضى في المقدمة. حتى في الشوارع الخلفية المليئة بالمتاجر السياحية ذاتِ الذَّوق الدارج، توجد مسارات للكراسيِّ المُتحركة بدلًا من مسارات الدرَّاجات. دفعَت لي راهبةٌ لم ألتقِ بها من قبلُ ثمَنَ غَدائي سرًّا. ذهبتُ إلى المحطة لأساعد الحُجاجَ في الخروج من القطار، فاكتشفتُ لاحقًا أن من بينِ رفاقي المُتطوعين مُديرًا تنفيذيًّا وعامل نظافة.
هذه، على حدِّ قول دي فرانشيشيس، هي معجزة لورد الحقيقية.
فهو يُجادل بأن المرضى في المجتمع الغربي يُهمَّشون ويُجرَّدون من إنسانيتهم. ويقول: «بمجرد أن تدخلَ المستشفى، تصير حالة سرطان دم. تصير حالة فرط كوليسترول في الدم. تصير تشخيصًا لمرض.» أما في لورد فهو يرى أنَّ المرضى لا يُعامَلون باعتبارهم أمراضًا، وإنما أناسًا، على قدَم المساواة مع أكبر الأطباء. «من المألوف في لورد أن نُغنِّيَ معًا، ونُصلِّيَ معًا، ونُثرثر، ونرقص، ونحتسي الجِعَة.»
هذه، إذن، هي مهمة دي فرانشيشيس الجديدة. بصفته رئيسَ المكتب الطبي للورد، ما زال يُوثِّق حالات الشفاء التي لا يمكن تفسيرُها. لكن الأولوية لديه الآن تتمثَّل في أن يُثبت للعالم بأسره فوائدَ المنهج الذي يلقى فيه المريضُ الاحترامَ والتقدير والرعاية من الجميع. وهو يأمُل في النهاية أن يُغير الأسلوبَ الذي يُعامَل به المرضى ليس في المستشفيات والعيادات فحَسْب، ولكن أيضًا في الحياة اليومية؛ أن يُلهِمنا كلَّنا بطريقةٍ مختلفة لا تشمل بالضرورة الإيمانَ الديني. ويقول: «إن الأمر يتعدَّى الكنيسة. إنه نموذجٌ مجتمعي مختلِف.»
إنه نموذجٌ تتداخلُ فيه حالتنا البيولوجية مع صحتنا النفسية والوجدانية والروحانية. يُفضي هذا على ما يبدو إلى نوعٍ آخرَ من التعافي، تَعافٍ يتخطى الخلايا والجزيئاتِ ليشمل إنسانيتَنا أيضًا. لقد رأينا بعضَ الأمثلة على ذلك في هذا الكتاب، حيث يكتشف الباحثون مِرارًا أن الأشخاص الذين يُعالجون بطريقةٍ أكثرَ شموليةً يتحسَّنون على المستوى الجسماني وكذلك النفسي. هنا في لورد، يُمارَس هذا المنهج على نطاقٍ كبير. ويعود الملايينُ من المرضى والمُتطوعين والعاملين في المجال الطبي على حدٍّ سواء عامًا بعد عام لمجردِ أن يشعروا بالأمر.
•••
كان الجوُّ حارًّا في الحمامات، وكنتُ أتصبَّب عَرقًا قُرْب نهاية نوبتي. كنا بعد ظهر هذا اليوم قد حمَلْنا نقَّالة تِلوَ الأخرى. إنه عملٌ شاقٌّ، بدنيًّا وذهنيًّا. فأنت تُحاول أن تفهم التعليمات التي يَصيح بها أحدُهم بالفرنسية. وتُحاول ألا تزلَّ قدمك على البلاط المبتلِّ. وتجوب في دوَّامة من الملابس الداخلية بكافةِ الأشكال والأحجام والتصميمات. والآن كان لدينا السيدة العجوز العظيمةُ البطن.
اتَّسعَت عيناها إذ غطَّسْناها في المياه. «أوهههه!» قالت هذا، وقد استدار فمُها الأهتمُ فصار كاملَ الاستدارة. ظلَّت بداخلها للحظةٍ، ثم رفَعْناها منها وأمَلْنا النقالة لأعلى. ثبتت عينَيها على تمثال مريم مع نزوح الماء. وقلنا كلنا معًا (باللغة الفرنسية): «فلتُصلِّي لنا يا سيدة لورد! فلتُصلِّي لنا أيَّتها القدِّيسة برناديت!» ثم أزَلْنا الملاءة المبتلَّة التي تُغطيها ووضعنا دِثارًا بدلًا منها.
ونحن نحملها عائدين إلى الحداجة كانت هادئة، ولم تَعُد ترتعد، وقد قبضَت على ذراعي بشدة والآخَرون يُلبِسونها ملابسَها. قالت (بالفرنسية): «شكرًا.» جذبتني إليها وابتسمَت. «شكرًا!» كانت عيناها ذات لون رمادي باهت. قبل ذلك لم أرَ سوى قُبح الشيخوخة؛ التجاعيد والدهون والعضلات الضامرة والأطراف المتقلِّصة. أما الآن فكنت أرى الحنان والحبَّ والضحك، وقد أذهلني جمالها. تساءلتُ مَن تكون، وماذا فعلَت في حياتها، ومَن عرَفَت. ما شعور المرء وقد اقترب جدًّا من الموت.
لم أدرِ ماذا أقول. فلدَيَّ معرفةٌ محدودة باللغة الفرنسية، وبعقيدتها. همَستُ لها (بالفرنسية): «كان الأمر مثاليًّا.» كان الأمر مثاليًّا.