فكرةٌ مُخالِفة
بمجرد أن التقيتُ بليندا بونانو حتى احتضنَتني وصعِدت بي إلى شقَّتها الصغيرة في الطابَق الأول من مَبنًى سكني يقع بعيدًا عن الطريق السريع في بلدة ميثيون، بولاية ماساتشوستس. كانت المساحة المخصَّصة للمعيشة في شقَّتها مُنظَّمةً لكنها مكدَّسة بشدة، تضمُّ صورًا داخل إطارات، وشموعًا معطَّرة، ويَغلب عليها اللون الأخضر. وقد أجلسَتني إلى الطاولة أمام طقم شاي رُتِّب ترتيبًا مثاليًّا وصحن به عشرُ قِطع من كعك الماكرون. كانت السيدة ذاتُ السبعة والستين عامًا مُمتلئةً لها شعرٌ كَسْتنائي وضحكةٌ كالفتَيات. قالت لي: «يعتقد الجميع أنه مصبوغ، لكنه ليس كذلك.» ظلَّت مُترقبةً حتى تذوَّقت كعكة ماكرون، ثم جلسَت قبالتي وأخبرتني بمعاناتها مع متلازمة القولون العصبي (آي بي إس).
كانت تتكلَّم بسرعة. انتابَتها الأعراضُ أولَ مرة منذ عَقدَين، حين انهار زواجها الذي دام ٢٣ عامًا. مع أن حُلمها كان أن تَصير مُصفِّفةَ شعر، كانت تعمل مُناوَبةً في أحد المصانع، حيث تُشغِّل الماكينات التي تصنع المشارط الجِراحية، محاوِلةً التوفيقَ بين العمل ٦٠ ساعة أسبوعيًّا ومعركةٍ قضائية ورعايةِ أصغر طفلَين من أطفالها الأربعة. تصف التجربة قائلةً: «لقد عانيتُ الأمرَّين.» بعد عامٍ من الانفصال بدأتْ تُعاني من آلامٍ مِعوية وتشنُّجات وإسهال وانتفاخ.
ظلَّت هذه الحالة تنتابها منذ ذلك الحين، خاصةً في الأوقات العصيبة كما حدث حين سُرِّحَت من المصنع. أُسنِدَت وظائفهم إلى عمَّال في المكسيك، وتشتَّتَت مجموعة النساء اللواتي كانت تعمل معهن وارتبطَت بهن. تلقَّت تدريبًا من جديد للعمل مساعِدةً طبيةً؛ أملًا في أن تجد وظيفةً في عيادةِ مقوِّم عظام، لكن حين تأهَّلَت للوظيفة لم تجد وظائف شاغرة. وحين وجدَت أخيرًا عملًا بدوامٍ جزئي، اضطرَّت إلى تركِه بسبب ألم قولونها العصبي.
لقد دمَّرت الحالة حياتها الاجتماعية كذلك. فتقول إنه حين تسوء الأعراض، «لا أستطيع حتى مغادرةَ المنزل. يُغشى عليَّ من الألم، وأظلُّ أجري إلى دورة المياه طَوال الوقت.» حتى شراء لوازم البقالة يتطلَّب البقاء على مَقرُبة من مرحاض، وهي لديها قائمة بالمَرافق العامة؛ واحد في متجر ماركت باسكت، وواحد آخَر في مكتب البريد في نهاية الشارع. تقول: «مضى ٢٠ عامًا وأنا أفعل ذلك.» «إنها طريقةٌ فظيعة للعيش.» والآن عليها التوفيق بين حالتها ورعاية والدَيها المُسنَّين؛ إذ تعيش أمُّها بمفردها، بينما يعيش والدها الذي يُعاني من خرَف الشيخوخة في دار للرعاية. لقيَ شقيق ليندا حتْفَه في حرب فيتنام، وماتت شقيقتها التوءم بالسرطان منذ ١٨ عامًا؛ ولذلك كانت هي الوحيدةَ الباقية لمساعدتهما.
لكن تهلَّلَت أساريرها. إذ قالت: «لكنني أسافر. أذهب إلى إنجلترا وأفعل كل شيء. كم أحبُّ ذلك!» أدهشني قولُها هذا حتى أدركتُ أنها كانت تتحدَّث عن خرائط جوجل. طلبتُ منها أن تُريَني، فانتقلنا إلى جهاز الكمبيوتر، الذي وُضع على مكتبٍ محشور بين الأريكة وجهاز الميكروويف. شغَّلَت برنامج الخرائط وهبَطَت بنا على قمَّة قصر بكنجهام في لندن.
فجأةً أدركتُ مقدار الوقت الذي قضَتْه ليندا في هذه الشقة. كانت تعرف تصميم القصر تفصيليًّا، وراحت تقترب مُحاوِلةً اختلاسَ النظر من النوافذ، ثم طارت إلى الخلف للاطِّلاع على الحدائق الخاصة. من وجهاتها المفضَّلة أيضًا جزيرة أروبا في بحر الكاريبي، وقصور المشاهير في شارع روديو درايف. وأحيانًا تبحث عن عناوين زملائها القُدامى في المصنع، أصدقائها الذين فقَدوا وظائفهم فانتقلوا إلى كنتاكي أو كاليفورنيا، أماكن لا يُمكنها زيارتها في عالم الواقع أبدًا؛ بسبب إصابتها بمُتلازمة القولون العصبي، واحتياجات والِدَيها.
على مرِّ السنين، مِثل العديد من مرضى مُتلازمة القولون العصبي، تنقَّلَت ليندا من طبيب إلى آخر. خضَعَت لتحاليل لتحديد الأشياء التي لديها حساسية منها والتي لا تتحمَّلها، وجرَّبَت الامتناع عن كل شيء من الجلوتين والدهون وحتى الطماطم. لكنها لم تجد أيَّ راحةٍ حتى شاركت في تجرِبةٍ قادها تيد كابتشوك، الأستاذ في كلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن. كانت تجرِبةً من شأنها أن تُحدِث ثورةً في عالم أبحاث تأثير البلاسيبو.
•••
عند دخولي المنزلَ طُلِب مني أن أخلعَ حذائي، وقُدِّم إليَّ فنجان شاي إيرل جراي. كانت الأرضيات الخشبية مغطَّاةً بسجادٍ فارسي، فيما وُضِعَت في موضعٍ بارز في الصالة غلَّايةُ شاي نُحاسيةٌ كبيرة. كان الديكور أنيقًا، وضمَّ أثاثًا من حِقبٍ تاريخية قديمة، وقِطعًا فنِّيةً حديثة، وأرففًا امتلأت بالكتب؛ صفوفٌ من الكتب الضخمة المجلَّدة نُقِشَت عليها بالذهب حروفٌ صينيَّة، بجوار مجلَّدات بالإنجليزية تنوَّعَت من «خِزانة الملابس اليهودية» إلى «صيَّادو العسَل البرِّي في نيبال». لمحتُ عبر النافذة درجاتٍ مُتباينةً من الأخضر والوردي في حديقة زينة مشذَّبة ربَّما تبدو مُلائمةً أكثرَ في اليابان.
كان كابتشوك نفسه يرتدي قُرطًا ذهبيًّا، وله عينان بُنِّيتان كبيرتان وشعرٌ رمادي تَعْلوه قَلَنسُوةٌ سوداء. كان يُحبُّ الاقتباس من النصوص التاريخية، وصاحَب إجاباتِه على أسئلتي وقفاتٌ طويلة وجَبينٌ مُجعَّد. طلبتُ منه أن يقصَّ عليَّ روايته هو للمسار الذي أتى به إلى هنا، فقال إنه بدأ منذ كان طالبًا، وسافر إلى آسيا لدراسة الطب الصيني التقليدي.
وهو قرارٌ يَعزوه إلى «جنون الستينيَّات. فقد أردتُ أن أفعل شيئًا مُناهضًا للإمبريالية.» على حدِّ تعبيره. كما أنه كان مُهتمًّا بالأديان والفلسفة الشرقية، وآراء الزعيم الصيني الشيوعي، ماو تسي تونج. «الآن أرى أن ذلك كان سببًا رديئًا حقًّا لدراسة الطب الصيني. لكنني لم أُرِد أن أنضمَّ إلى الجموع، لم أُرِد أن أكون جزءًا من النظام.»
بعد أربع سنوات في تايوان والصين، عاد إلى الولايات المتحدة يحمل شهادةً في الطبِّ الصيني، وفتح عيادةً صغيرة للعلاج بالإبر الصينية في كمبريدج. شاهَد فيها مرضى حالات شتَّى، تَراوَح أغلبُها من شكاوى مُزمِنة من ألم إلى مشكلات في الجهاز الهضمي والبولي والتنفُّسي. لكنه على مرِّ السنوات صار أقلَّ ارتياحًا لدَوره كمُعالِج. كان يَبْرع فيما كان يفعله، بل ربما كان في غاية البراعة. كان يرى حالاتِ شفاءٍ كبيرةً، أحيانًا قبل حتى أن يتلقَّى المرضى علاجهم. قال لي: «كان لديَّ مَرْضى يُغادرون عيادتي في حالةٍ مختلفة تمامًا. لمجرد أنهم جلَسوا وتحدَّثوا معي، وكتبتُ لهم وصفةً طِبية. شعرت بالرعب من أنني صِرت مُعالجًا روحانيًّا. قلتُ في نفسي: سحقًا، هذا خرَف!»
في نهاية المطاف انتهى كابتشوك إلى أنه ليس لديه قُوًى خارقة. لكنه بالمِثل اعتقد أن تعافيَ مرضاه بصورةٍ مُدهشة ليس له علاقة بالإبر أو الأعشاب التي كان يَصفها. وإنما كان بسبب شيءٍ آخَر، وقد شغَله أمرُ اكتشاف ماهية ذاك الشيء.
في عام ١٩٩٨، كانت كلية الطب بجامعة هارفارد، الواقعة في الشارع نفسه بالقُرب من عيادة كابتشوك، تبحث عن خبير في الطبِّ الصيني. كانت مَعاهد الصحة الوطنية الأمريكية تفتتح مركزًا كُرِّس لتمويل البحث العلمي في مجال الطب البديل والتكميلي. وعلى الرغم من صِغَر حجمه مقارنةً بمراكز مَعاهد الصحة الوطنية القائمة التي تُجري أبحاثًا على السرطان أو الجينات، على سبيل المثال، فقد كان مُبشرًا بأن يكون مصدرًا جديدًا مُفيدًا للأموال المخصَّصة للأبحاث لهارفارد. قال لي كابتشوك عنه: «لم يكن يوجد أحدٌ هناك يعلم أيَّ شيء عن الطب الصيني أو أي نوع من الطب البديل. لذا فقد عيَّنوني.»
لكنَّه بدلًا من دراسة الطب الصيني مباشرةً، قرَّر أن يتحرَّى تأثير البلاسيبو؛ ليكتشفَ ما إذا كان من الممكن أن يُفسِّر السبب وراء التحسُّن الشديد لمرضاه. ففي حين أن بينديتي مُهتمٌّ بالجُزيئات وآليات تأثير البلاسيبو، فإن تركيز كابتشوك مُنصبٌّ على الناس. فالأسئلة التي يطرحها نفسية وفلسفية. لماذا يؤثِّر فينا توقُّعنا للشفاء هذا التأثيرَ العميق؟ هل يمكن تقسيم تأثير البلاسيبو إلى مكوِّناتٍ مختلفة؟ هل تتأثر استجابتنا بعوامل مِثل نوع الدواء الوهمي الذي نتعاطاه، أو طريقة تعامُل طبيبنا معنا؟
لكنه ليس جنونًا. إذ يقول لي كابتشوك: إنَّ ما أظهرته هذه النتائج فعلًا أن فَهْم العلماء لتأثير العلاج الوهمي دائمًا ما كان مُتخلفًا. ويقول إنه حين أتى إلى جامعة هارفارد أخبره الخبراء هناك أن تأثير البلاسيبو «هو تأثير مادة خاملة.» وهو وصفٌ شائعُ الاستخدام، لكن كابتشوك يصفه بأنه «محضُ هُراء.» إذ يوضِّح أن المادة الخاملة، حسَب تعريفها، مُنعدمة التأثير.
ما له تأثير، بالطبع، هو استجابتنا النفسية لتلك الموادِّ الخاملة. فلا الوخز الوهمي بالإبر الصينيَّة ولا الحبوب المزيَّفة في حدِّ ذاتها بقادرة على فعل أي شيء. لكنَّ المرضى يُترجمونها بطُرقٍ مختلفة، وهو ما يُحدِث بدَوره التغيُّراتِ المُتبايِنةَ في أعراضهم.
إنه المنظورُ الذي دعَمه دان مورمان، عالم الأنثروبولوجي في جامعة ميشيجان، الذي درس العلاجاتِ العُشبيةَ التي استخدمها المُعالجون الأمريكيون الأصليون قبل أن يصيرَ مُهتمًّا بالعلاجات الوهميَّة، والذي أجرى تحليلًا لتلك التجارِب التي أُجرِيَت على علاج القُرحة. يرى مورمان أن المكوِّن الفعَّال هو المعنى؛ المعنى المُرتبط بأي علاج طبِّي والمحيط به، سواءٌ كان وهميًّا أو غيرَ ذلك. (وهو يُريد تغيير اسم تأثير البلاسيبو إلى «الاستجابة للمعنى»، لكن لا يبدو أن تسميتَه لاقَت أي رواج.)
كان تأثير ذلك التواصل البشري مُدهشًا. فالمرضى الذين حصَلوا على عقاقيرهم في حضور الطبيب كان تخفيفُ الألم لديهم أعلى بنسبة ٥٠٪. اشتملَت الدراسة على أربعة عقاقير مختلفة، وكانت النتيجة هي نفسها للعقاقير الأربعة كلِّها. يقول مورمان: «لا أرى هنا أيَّ دواء وهمي على الإطلاق. ما أراه بالفعل هو طبيبٌ مُعالج يرتدي زِيًّا موحَّدًا من نوعٍ ما.» ويرى أنه بدلًا من التركيز على الحبوب الوهمية، ينبغي أن نبحث بشأن تلك المظاهر الطبِّية التي تجعلنا نتوقَّع أن نشعر بتحسُّن؛ سواءٌ كان المِعطف الأبيض والسماعة ومُعدَّات المستشفى اللامعة لدى الطبيب الغربي، أو البَخور والتعاويذ لدى المُعالج التقليدي.
لكن حين سأل كابتشوك المرضى في التجارِب السريرية عمَّا يعتقدونه بشأن الأقراص التي كانوا يتعاطَونها، سمع شيئًا كان لا يزال غيرَ متَّسقٍ على الإطلاق. كان الاعتقاد المِحوري السائد في جميع المناقشات عن تأثير العلاج الوهمي أنه لكي يؤتيَ مفعولًا، يجب أن تعتقد أنك تتلقَّى علاجًا حقيقيًّا. وغالبًا ما يشعر المرضى بتأثيراتٍ كبيرة للعلاج الوهمي حين يكون احتمال تلقِّيهم الدواءَ أو الدواء الوهمي بنسبة ٥٠٪. لطالما افترض العلماء، بطريقةٍ مُتعالية إلى حدٍّ ما، أن السببَ في ذلك هو أن الناس ينسَون ببساطةٍ أنهم من المحتمل أن يكونوا قد تناوَلوا دواءً وهميًّا. إلا أن كابتشوك وجد أن الأمر لم يكن كذلك. إذ يقول: «إن هؤلاء الناس يُفتَنون بالتجارِب المُزدوجة التعمية. ينشغلون بشدة بشأن ما إذا كانوا قد تلقَّوا الدواء الوهمي. ويُفكرون في الأمر كلَّ يوم.» فكيف يظلُّ ما يشعُرون به تأثيراتٍ للدواء الوهمي؟
حينذاك توصَّل إلى أجرأ أفكاره، وربما أكثرها شذوذًا حتى الآن.
•••
قالت لي ليندا، بينما كنتُ أحتسي الشاي وألتهم كعكة ماكرون أخرى: «لقد صُعِقت!» كانت قد انضمَّت إلى تجرِبةٍ سريرية عن طريق طبيب الجهاز الهضمي الذي كانت تُتابع معه حالتها، أنتوني ليمبو من جامعة هارفارد، الذي كان مُتعاونًا مع كابتشوك. في بداية التجرِبة، ناوَلها ليمبو زجاجة بها كبسولاتٌ بلاستيكية شفَّافة بداخلها مسحوقٌ بُنِّي. بعدَ سنواتٍ عديدة من المُعاناة من مُتلازِمة القولون العصبي، كانت ليندا مُتحمِّسة لتُجرِّب أحدثَ عقارٍ تجريبي للحالة. ثم أخبرها ليمبو أن الحبوب كانت دواءً وهميًّا، بلا أي مكوِّن فعَّال على الإطلاق.
كانت ليندا قد اطَّلَعت على كل ما يتعلق بالأدوية الوهمية حين تدرَّبَت للعمل مُساعِدةً طبِّية، واعتقدَت أن تعاطيَها فكرةٌ حمقاء. قالت لي: «لقد قلت له: «مهلًا، كيف ستُجْدي حبَّة سكَّر نفعًا؟» لكنني كنت أفعل أيَّ شيء يقوله؛ لأنني كنت يائسة.» أخذَت الزجاجة معها للمنزل، وكانت تتناول الكبسولات مرَّتَين يوميًّا مع فنجان شاي.
تقول ليندا: «تناوَلتُها في اليوم الأول فقط، ثم نسيتُ أمرها.» ثم حدث أمرٌ مُفاجئ. أدركَت بعد عدة أيام أنها لم تَعُد مريضة. تقول: «شعرت بأنني في أفضل حال. لا آلام ولا أعراض ولا أي شيء. حتى إنني قلتُ لنفسي: «مهلًا، هذا الشيء فعَّال.»»
طوالَ أسابيعِ التجرِبة الثلاثة، عادت ليندا تعيش حياةً طبيعية. صارت تستطيع أن تأكلَ ما تُريد، وأن تخرج دون الانشغال بمكانِ أقربِ مِرحاض. وذهبَت إلى السينما مع صديق، وإلى حفلِ عَشاء في مطعم أوليف جاردن. ثم بدأ يُساورها القلق من نهاية الدراسة. «حين بلَغتُ الأسبوع الثالث قلتُ في قرارة نفسي إنني لا أستطيع التوقُّفَ عن هذه الحبوب.» توسَّلَت إلى ليمبو أن يُعطيَها مزيدًا من الحبوب الوهمية، لكنه أوضح لها أنه ليس لديه مُوافَقة أخلاقية تُتيح له أن يَصفَها لها فورَ أن تنتهيَ الدراسة. وبعد ثلاثة أيام من انتهاءِ جُرعتها من الحبوب، عادت إليها الأعراض.
لم تكن ليندا المريضةَ الوحيدة التي استفادت من الدواء الوهمي. فقد ضمَّت تجرِبة كابتشوك ٨٠ مريضًا يُعانون من مُتلازمةِ قولونٍ عصبيٍّ طويلةِ الأمَد، حصل نِصفُهم على جرعة من الدواء الوهمي. أخبر الأطباء هؤلاء المرضى أنه رغم أن هذه الأدوية لا تحتوي على مكوِّنٍ فعَّال، فهي ربما يكون لها تأثير من خلال عمليات شفاء ذاتي دماغية جسدية.
عادت ليندا الآن إلى نقطة البداية، لكنَّ أبحاث تأثير البلاسيبو تغيَّرَت إلى الأبد. إحدى العقَبات الكبرى في طريق استخدام العلاج الوهمي في الطب هي القلقُ من أنه من غير الأخلاقي أن تخدعَ المرضى. إلا أن دراسات كابتشوك تُفيد بأنه يمكن للعلاجات الوهمية الصريحة أن تُجدِيَ نفعًا هي الأخرى.
•••
قرَع ساعي البريد بابي، وحين فتحتُ ناوَلني أنبوبًا أسودَ من الكرتون مكتوبًا عليه «قابلٌ للكسر». كان يُشخشِخ مِثلَ لُعَب الأطفال. كان بداخله، ملفوفًا بغِلافِ فقَّاعاتٍ هوائية، برطمانٌ بلاستيكيٌّ شفَّاف صغير مليءٌ بكبسولات باللونَين الأزرق والأبيض، تبدو تمامًا كالعقاقير التي تشتريها من الصيدلي. كُتِب على المُلصَق: «كبسولات ميتابلاسبالين المهدِّئة. تؤخَذ كبسولةٌ أو اثنتان، ثلاثَ مرَّات يوميًّا.» كان هذا هو دوائي الوهمي.
المُنتَجات ليست رخيصةً؛ إذ يتراوح سِعرها بين ١٠ و٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا، لكن كما يُوضِّح الموقع، تُشير الدراسات إلى أنه كلَّما ارتفع سِعر الدواء الوهمي، كان تأثيره أفضل؛ ربما لأن لدينا اعتقادًا غريزيًّا بأن العلاجاتِ الباهظةَ أكثرُ فاعليَّة. حين وصَلَت كبسولاتي، وضعتُها في خِزانة المطبخ بجانب الأدوية الأخرى، فبدَت فعَّالة على نحوٍ يبعث على الاطمئنان، بلونها الأزرق الشبيه بلون الحلوى الزاهي، حتى إنه يكاد يلمع.
بعد عدة أسابيع، أمضيتُ يومًا حافلًا في رعاية طفلَيَّ اللذَين كانا مريضَين. بعد أن أدخلتُهما إلى الفِراش أخيرًا كنت بحاجةٍ ماسَّة إلى قضاءِ ما تبقَّى من المساء في العمل، لكن أصابني صداعٌ شديد. فتحتُ خِزانة المطبخ وأخرجتُ البرطمان. تساءلت، هل كانت النتائج التي انتهى إليها كابتشوك صُدفةً؟ أو هل يُمكن حقًّا للأدوية الوهمية أن تُساعدنا في حياتنا اليومية؟
بالطبع، يستخدم الأطبَّاء وشركات الدواء بالفعل تأثيراتِ البلاسيبو. كما تُظهِر تجرِبة بينديتي التي استخدم فيها التنقيط المُعلَن والخفيَّ للمسكِّنات، فإننا نختبر تأثيرات البلاسيبو في كلِّ مرة نتلقَّى عقارًا. أيُّ فوائدَ نشعر بها في النهاية هي مزيج من التأثير الفعَّال للعقار وتأثيرِه الوهمي. تكاد تعود كل تأثيرات بعض الأدوية إلى مكوِّناتها الكيميائية؛ فتأثير البلاسيبو لمركَّبات الستاتين، المخفِّضة للكوليسترول، على سبيل المثال، على مستويات الكوليسترول ضئيلٌ إن لم يكن مُنعدمًا. أمَّا في حالةِ أدوية أخرى، مِثلَ مُضادَّات الاكتئاب، فتقوم أذهانُنا بمعظم المهمَّة.
ومن ثَمَّ تتمثَّل إحدى طُرقِ الاستفادة من تأثيرات البلاسيبو في تعزيز تأثير البلاسيبو المُرتبط بالعقاقير الفعَّالة التي نتناولُها. لكن من مشكلات الأدوية الوهمية أنَّها لا تُؤتي نفعًا على نحوٍ جيِّد مع الجميع (لأسباب سنتناولها لاحِقًا في هذا الفصل). إلا أنه توجد طُرقٌ لتصميم العقاقير بحيث تُثير استجاباتٍ وهميةً أكبرَ في المزيد من الناس. تُفيد الدراسات بأن أي شيء يُساعد على إعطاء انطباع بدواءٍ قوي ناجع سوف يؤدِّي إلى إحداثِ أثرٍ أقوى.
على سبيل المثال، عادةً ما تكون حبوب الدواء الكبيرة أكثرَ فاعليةً من الحبوب الصغيرة. وحبَّتا الدواء في الجرعة لهما أثرٌ أفضل من حبة دواء واحدة. وحبة الدواء المطبوع عليها اسمُ علامة تِجارية معروفة أكثرُ فاعليةً من حبة الدواء التي تخلو من أسماء العلامات التِّجارية. وعادةً ما تؤتي حبوبُ الدواء الملوَّنة أثرًا أفضل من البيضاء، وإن كان اللون يعتمد على التأثير الذي تُحاول أن تُحدِثه. فالأزرق يُساعد على النوم، بينما الأحمر مُفيد في تخفيف الألم. وحبوب الدواء الخضراء تُحقق أفضلَ النتائج في علاج التوتُّر. ثَمة أهميةٌ أيضًا لنوع التدخُّل؛ كلما زادت جِدِّية العلاج، ازداد تأثير البلاسيبو. بوجهٍ عام، الجِراحة أفضل من الحَقْن، والحَقْن أفضل من الكبسولات، والكبسولات أفضل من الحبوب.
تلك كلُّها أمورٌ رائعة، ولكن هل يُمكننا أن نَسُوق تجارِبَ البلاسيبو الصريحة إلى نتيجتها المنطقية؟ هل يُمكننا أن نتعاطى، عن علمٍ منَّا، حبوبًا عديمةَ المفعول لنحثَّ أدمغتنا على حلِّ مشكلاتٍ مِثل الاكتئاب أو عُسْر الهضم أو الألم أو النوم؟
يقول كابتشوك إن هذه الفكرةَ تروق له. ويُضيف: «أعتقد قطعًا أن الناس يُفرِطون في تعاطي الأدوية.» ويقترح أن خير بداية قد تكون الحالات التي عادةً ما يتعاطى فيها الناس الدواء مدَّةً طويلة، والتي ثبَت فيها أن التأثير الفعَّال للعقاقير نفسها لا يتعدى تأثير الدواء الوهمي، مثل حالات الألم أو الاكتئاب. أما المرضى الذين يُريدون الأدوية، فيقترح كابتشوك أن يُجرِّبوا جرعةً من الدواء الوهمي أولًا، قبل الانتقال إلى دواءٍ فعَّال إذا لزم الأمر.
هذا أمرٌ منطقي بالتأكيد في الحالات الحادَّة التي أثبتَت فيها العقاقير فاعليتَها. إذا أُصيبَ ابني بعدوى خطيرة، سأرغب في إعطائه مُضادًّا حيويًّا، وليس حبة دواء وهمي. لكن كابتشوك يدفع بأن استخدام الدواء الوهمي وحدَه، في بعض الحالات، قد يكون بنفس فاعلية الأدوية المُتاحة، كما في حالات الألم أو الاكتئاب أو مُتلازِمة القولون العصبي، وقد يُخلِّص الناسَ من آثارٍ جانبيةٍ سلبية مثل الإدمان. يقول كابتشوك: «آمُل أن يحدُث نوعٌ من التحوُّل؛ لأن المَرْضى بحاجة إلى علاجاتٍ ذاتِ آثارٍ جانبية أقل. لا يُريد الناس أن يستمرُّوا في تعاطي الأدوية أوقاتًا طويلة.»
يردُّ إرنست على ذلك بأن الحالات التي لا نملك لها علاجاتٍ ناجعةً على الإطلاق قليلة، ويقول إنه حين لا تكون الأدوية فعَّالةً فتوجد عادةً علاجاتٌ أخرى يُمكن للمرضى أن يُجرِّبوها (كالعلاج الطبيعي أو العلاج المعرفي السُّلوكي مثلًا). لكنَّ إيمان كابتشوك بالعلاجات الوهمية يُشاركه فيه سيمون بولينجبروك، مُحلِّل المعلومات الاستخباراتية من تشيلمسفورد في إسيكس، وهو شريكٌ مؤسِّس في شركة «أبلاسيبو»، الشركة التي صنعَت كبسولاتي.
حين سألت بولينجبروك عن السبب في قراره بأن محاولة بيع العقاقير غير الفعَّالة كان فكرةً سديدة، أخبرني أنه كان في الجيش. وأثناء خِدمته في روديسيا (التي صارت زيمبابوي الآن) في سبعينيَّات القرن العشرين، لدَغَته قُرادة. بعد عودته إلى المملكة المتحدة، بدأ يُعاني من مجموعة من الأعراض، منها صُداع وإرهاق وألم في المَفاصل والعضلات. كان أطبَّاؤه في حَيرة من أمرهم. وحين شُخِّصَت حالته بأنها داء لايم، وهو عَدْوى بكتيريَّة تنتشر عن طريق القُراد، كانت العدوى قد وصَلَت إلى جَهازه العصبي، وأتلفَته تلفًا يستعصي شفاؤه.
حاليًّا يجلس بولينجبروك على كرسيٍّ متحرِّك، ويشعر بألمٍ دائم من الأعصاب التي تنشط من غير داعٍ. ويقول في هذا الشأن: «إنه ألمٌ كاذب. فجَهازي العصبي لا يعمل جيدًا. كما يصعب عليَّ أن أعرف ما إذا كانت الأشياء ساخنةً أو باردة. لذلك لا بد أن أحتاط فيما ألمِسه عند الطهي أو الاستحمام؛ لأنني لستُ واثقًا ممَّا إذا كان سيحرقني.»
وقد وُصِفَت له أدويةٌ متعدِّدة لمعالجة أعراضه، وفي إحدى المراحل كان يتعاطى تسعة عقاقير مختلفة في الوقت ذاته، ما بين مُسكِّنات لمضادَّات اكتئاب. كانت مفيدةً في التخلُّص من الألم، لكنه يقول إنها بدأت تُسيطر على حياته، وسبَّبت له تقلُّباتٍ مِزاجيةً حادَّة. يقول: «كانت تُبدِّل حالي بالتعاقب من ميَّال إلى القتل إلى راغب في الانتحار. لم أكُن شخصًا لطيفَ المَعشَر.»
لكن ألهمَته الأبحاث الجارية على الأدوية الوهمية، فقرَّر بولينجبروك أن يتوقفَ عن تعاطي العقاقير رُويدًا، جرعةً جرعة، مُستبدِلًا إيَّاها بأقراصٍ خاملة صنَعها بنفسه. ويقول إنه حاليًّا «تقريبًا لا يكاد» يتعاطى دواءً فعَّالًا. وحين سألته ما إذا كان مُسيطرًا على ألمه بالأدوية الوهمية كما كان بالمسكِّنات، أخذ بولينجبروك يُفكِّر للحظةٍ، ثم قال: «يبدو لي أنني كذلك.»
حاليًّا يُدير «أبلاسيبو» مع صديق له، لبيع الأدوية الوهمية على شبكة الإنترنت. الكبسولات التي أرسلها لي عبارةٌ عن غِلافٍ جيلاتيني من الفئة الصيدلانيَّة، وتُماثل الدواء التقليدي في كل شيء، باستثناء أنها خاوية. ومُلصَقها مُصمَّم ببراعة، مُستخدِمًا رَطانةً لإعطاء طابَع الدواء العلمي الناجع. وثَمة تنبيهٌ باتِّباع نشرة التعليمات بدقَّة، وتبدو قائمة المكوِّنات عالية التقنية لدرجةٍ تبعث على الطُّمأنينة — نيتروجين (٧٨٫٠٨٤٪)، أكسجين (٢٠٫٩٤٦٪)، أرجون (٠٫٩٣٤٪)، ثاني أكسيد الكربون (٠٫٠٣٩٪) — رغم أن كلَّ المذكور هو المكوِّنات الكيميائية للهواء.
لكن على الرغم من التغليف المُقنِع، فإنني أجدُ أنه من الصعب تخيُّلُ أن تُنفِق الناس نُقودها التي كسبَتها بمشقَّة على شيء يُقرُّ صراحةً بأنه لا شيء. سألت بولينجبروك، هل الغرض من «أبلاسيبو» أن تكون مشروعًا جادًّا؟ يقول: «نوعًا ما بدأ الأمر مُزحةً. كنَّا نضحك على أنفسنا. لكنها مزحةٌ حقيقية.» ويُقرُّ بأن الشركة لم تُحقِّق أيَّ مبيعات كبيرة بعد، لكنه يُؤكِّد أن منتجاته سوف تَلْقى رَواجًا يومًا ما، مع تنامي النتائج العلمية وتزايُد الوعي بقدرة الأدوية الوهمية.
هناك في مطبخي، فتحتُ برطمان البلاسيبو وتناولتُ كبسولتَين مع كوب ماء، وأنا واقفة بجانب الحوض تمامًا كما أفعل حين أتناول مسكِّنات بلا وصفةٍ طبِّية. خطر لي بحث بينديتي، وتصوَّرتُ مُختبَره المُقام تحت الأرض في تورينو، وحاولتُ أن أتخيَّل الإندورفينات وهي تغمر مخِّي. ثم انتظرت لأرى ما سيحدث.
إنها ليست تجرِبةً علمية بالتأكيد، لكن في غضون عِشرين دقيقة أو نحو ذلك زال الألم فعلًا. وبعدما تدارَكتُ أزمتي الصغيرة، صار بإمكاني العودة إلى العمل. وشعرت بالقوة، قليلًا فحَسْب؛ إذ عرَفتُ أن كلَّ ما احتجتُ إلى فِعله كان في عقلي أنا.
•••
مدرسة بيبي حاجرة الثانوية هي عبارةٌ عن بناءٍ مُتهالِك من الطوب اللَّبِن في مدينة طالْقان في شمال شرق أفغانستان. ترتدي طالِباتها زيًّا موحَّدًا عبارة عن عباءاتٍ سوداء وأغطيةِ رأسٍ بيضاء، ويتلقَّين دروسَهن على مكاتبَ خشبيةٍ بالية مصفوفة في ظلِّ شجرة بالخارج. في صبيحة يوم ٢٣ مايو عام ٢٠١٢، كانت الفصول تسير حسَب المُعتاد حين اشتكَت واحدةٌ من الفتَيات من أنها تشمُّ رائحةً كريهة.
بدأتِ الفتياتُ واحدةً تِلو الأخرى يَشعُرن بغثَيان ودُوار، ويُغمى عليهن. وخلالَ ساعات، كان قد دخل المستشفى أكثر من مائة طالبة ومعلِّمة. ظهر في الصور التي نشَرَتها وسائل الإعلام حرسٌ مسلَّحون خارج المستشفى وفوضى بداخلها. فاضت العنابر المكتظَّة بفتَياتٍ متوجِّعات، بدا أنهنَّ يتنفَّسن بمشقَّة، فيما أخذت قريباتُهن تهوين لهنَّ.
كانت الفتَيات ممنوعات منعًا باتًّا من ارتياد المدرسة في ظلِّ نظام طالبان البائد، لكن استعادت الأفغانيَّات حقَّهن الأساسي في التعليم حين أطاحت القوَّات الغربية بالمُتطرِّفين عام ٢٠٠١. لكن ظل ارتياد المدرسة أمرًا يتطلب شجاعةً. فقد عانت عدَّة طالبات من اعتداءات بإلقاء ماء النار عليهنَّ من طالبان. وأُغلِقَت مئات من مدارس الفتيات في المناطق الخاضعة لنفوذ طالبان لأسبابٍ أمنية، وجاء في أحد الاستقصاءات أن أكثرَ من نِصف الأهالي الأفغان يُبْقون بناتهنَّ في المنزل لحمايتهن.
ثم جاءت واقعة السُّم، أو كما بدا الأمر. كانت الواقعة التي حدَثَت في مدرسة بيبي حاجرة هي السادسةَ من نوعها في أفغانستان في ذلك العام. منذ ٢٠٠٨، سقط أكثر من ١٦٠٠ شخص من ٢٢ مدرسة في أنحاء البلد مُصابين بالإعياء في ظروفٍ مُماثلة. وكان يُعتقَد أن التسميم حملةٌ منظَّمة للترهيب تشنُّها طالبان. أعلنت السلطات الأفغانية عن عدَّة اعتقالات واعترافات، وأفادت بأن الضحايا سقَطوا إما جرَّاءَ غازٍ سامٍّ أو مصدر مياه مسمَّم. في تلك الأثناء نشَرت وسائل الإعلام المحلية والعالمية صورًا مُفجِعة للضحايا وهم محمولون على نقَّالات، ومعلَّقًا لهم محاليل.
لذلك انتبهوا؛ فلتأثيرِ البلاسيبو جانبٌ مُظلِم. قد يكون للعقل تأثيرٌ نافع على الجسد، لكنه قد يُحدِث أعراضًا سلبيَّة أيضًا. والمصطلح الرسميُّ لهذه الظاهرة هو «تأثير نوسيبو» (المُقابل اللاتينيُّ لعبارة «سوف أمرض»، مِثلَما أن بلاسيبو هي المُقابل اللاتيني لعبارة «سوف أتحسَّن») وهي لم تلقَ الكثير من الدراسة لشواغل أخلاقية. لكن حسَب معلوماتنا عن بيولوجيا تأثير البلاسيبو، لم تكُن التلميذات الأفغانيات يتظاهَرْن بالأعراض. فقد خلقَ الخوفُ أو الاعتقاد بأنهن على وشك الإصابة بالمرض أعراضًا جسدية حقيقية، بل وأدَّت إلى فقدان البعض للوعي أوقاتًا قصيرة.
تواتَرَت الأنباء عن أحداثٍ شبيهة على مر التاريخ. ربما كانت هيستريا جماعيةٌ هي التي أدَّت إلى مُحاكَمات الساحرات في القرن السابعَ عشرَ في سالم، في ولاية ماساتشوستس. منذ وقتٍ أقرب، نسَب كثيرون تفشِّيَ حالات الإغماء بين طالبات المدارس في الضفَّة الغربية عام ١٩٨٣ إلى تسمُّمٍ جماعي، فيما ألقت كلٌّ من إسرائيل وفلسطين باللائمة على الأخرى، حتى انتهى المُحقِّقون الرسميُّون إلى أن الأعراض راجعة إلى سببٍ نفسي.
بل إن تأثير النوسيبو هو أحد التفسيرات لقوة لعَنات الفودو. أمضى كليفتون ميدور، الطبيب في كلية طب فاندربيلت في تينيسي، سنواتٍ في توثيق أمثلة على تأثير النوسيبو. في كتابه «أعراض مجهولة المنشأ» (٢٠٠٥) يحكي قصة رجل من ألاباما، في الثمانين من العمر، أصابته لعنةٌ من لعنات سحر الفودو. بحلول الوقت الذي عاده فيه الطبيب، داريتون دوهارتي، كان المريض المسكين مهزولًا، وبدا على وشك الموت. مُستنتجًا أن لا شيء ممَّا قد يقوله سيُغيِّر من ثقة المريض الراسخة في أنه على وشك الموت، لجأ دوهارتي إلى الحيلة. بموافقة الأسرة، أعطى الرجل عقارًا مقيئًا قويًّا، ثم أخرج سحليةً خضراء من حقيبته خِلسةً، مُتظاهرًا بأنها قد خرَجَت من جسد الرجل. وقال دوهارتي للرجل إن الطبيب المُشعوذ قد أفقسَ السحلية بداخله بالاستعانة بالسحر. أمَا وإنَّ الحيوان الشِّرير قد اختفى، فسيتعافى الرجل مرةً أخرى. وهو ما حدث بالفعل.
من المستحيل التوثُّق من قصة دوهارتي الدرامية، لكن هذه التأثيرات ليست مُتعلقةً بطالبات المدارس المُرهَفات الحِس أو ضحايا سحر الفودو السُّذَّج فحسب. فقد يتأثر أيُّ شخص، رغم أن الشخص أو الشيء الذي يُمكنه أن يجعلك تشعر بالمرض يعتمد بدرجةٍ كبيرة على خلفيَّتك الاجتماعية والثقافية، وعلى ما تجده قابلًا للتصديق. فربَّما تضحك إذا ألقى عليك طبيبٌ مُشعوذٌ لعنة، لكن إذا أذاعت نشرة الأخبار التلفزيونية خبرَ هجومٍ إرهابي بالغاز في مكانٍ قريب، أو أخبرك طبيبٌ بمِعطفٍ أبيض أنك ستموت بالسرطان، فستكون أكثرَ ميلًا إلى التعامل مع التهديد بجِدِّية.
من هذا المنظور، يكون تأثير النوسيبو رسالةً بيولوجية لا يُمكننا تجاهُلها، ناتجةً عن إشاراتٍ سيكولوجية في بيئتنا بأن ثمةَ خطأً ما. وكلما رأينا بيئتَنا خطيرة، كنَّا أكثرَ حساسيةً لتلك الأعراض. لكنها قد تُفعَّل في أي شخص إذا كان الإيحاء قويًّا لدرجةٍ كافية. إنها آليةٌ للحفاظ على النفس، أو على حدِّ تعبير كابتشوك، إنه ما يحدث «حين تكون في غابةٍ مليئة بالثعابين وترى عصًا، فيراها دماغك حينَئذٍ ثعبانًا.»
وأخيرًا قد يُفسِّر هذا أيضًا سببَ شعورنا بتأثيرات البلاسيبو الإيجابية. إذا كان يُمكن للخطر والتوتُّر والإيحاء السلبي أن يُسبب أعراض الألم والمرض، فمن الطبيعي أن يترتَّب تأثيرٌ مُعاكس عن الشعور بالأمن والأمان، أو الاعتقاد بأننا على وشك التعافي. فنسترخي ونَكْبت الأعراض السلبية مثل الألم. بذلك يستغلُّ البلاسيبو مساراتٍ عصبيةً قديمة مُتطورة. يُجادل همفري بأن تلقِّيَ أي نوع من الرعاية الطبية — سواءٌ كانت وهمية أو بديلة أو تقليدية — يُساعد في إقناع هذه الشبكات الدماغية البدائية بأننا محبوبون وآمنون ونتماثل للشفاء، وأنه لم يعُد ثَمة حاجةٌ إلى الشعور بالمرض.
يعتقد كابتشوك أن هذا قد يكون سبب شعور ليندا بونانو والمُشاركين الآخَرين في تَجارِبه بتأثيرات البلاسيبو، رغم أنهم كانوا يعلمون أن الأقراص التي تناوَلوها كانت خاملة. أحد الاحتمالات أنهم توقَّعوا، عن وعي منهم، أن الدواء الوهميَّ سيُساعدهم. لكن كابتشوك يرى أن الأمر أعمقُ من ذلك. حين أخذت ليندا زجاجة الكبسولات من طبيبها، توني ليمبو، فإنها «أخذت توني معها» على حدِّ قوله. «أخذت معها للمنزل الرعايةَ والاهتمام.»
شعور بعض الأشخاص بتأثير الدواء الوهمي أكثرَ من غيرهم، وإمكانية شعور الشخص نفسه بتأثيراتٍ مختلفة للدواء الوهمي باختلاف الأوقات، يدلُّ على أن بعض الناس قد يكون لديهم بطريقةٍ طبيعية درجةُ تحمُّل للأعراض السلبية أعلى من غيرهم، وكذلك أن هذه الدرجة قد تتزحزح صعودًا وهبوطًا حسَب ظروفنا. فإذا تصوَّرنا أنفُسنا في غابة ثعابين — مِثل الطالبات الأفغانيات اللواتي كان خطرُ طالبان مُحيطًا بهن، أو مِثل ليندا ورعايتها لأطفالها ونوباتِ عملها أثناء مواجهتها لطلاقٍ مُضطرب — يصير الجسد أكثرَ حساسيةً تجاه إشارات التحذير البيولوجية مثل الألم.
إن كانت هذه الفكرة صحيحة، فلك أن تتوقَّع أن يُساعد البلاسيبو في محوِ تأثيرات النوسيبو، بتخليصنا من توتُّرنا والعودة إلى زيادةِ درجةِ تحمُّلنا. حين شارَكَت ليندا في تجرِبة البلاسيبو، «كانت في غابة من الأشخاص المُهتمِّين.» على حدِّ قول كابتشوك. «شغَّل جسدُها شيئًا قلَّل ألمها. وبالقدر نفسه توقَّفَت عن الانتباه إلى ألمها.»
كان هذا مثالًا جيدًا على تأثير النوسيبو. في حالات انخفاض الأكسجين، يُنتج المخ البروستاجلاندينات كجزءٍ من آلية حماية ذاتية لنقل المزيد من الأكسجين في أنحاء الجسم. تعاظَمَت هذه الآلية لدى الطلاب الذين كانوا قَلِقين من الإصابة بصداع. تسبَّب توتُّرهم في جعل المخ أكثرَ يقظةً مما كان سيُصبح عليه في الحالة الأخرى، وجعله يتَّخذ إجراءاتٍ إضافيةً لحماية نفسه.
حين تناوَل الطلبة الأسبرين، تراجعَت مستويات البروستاجلاندين وهدَأ الصُّداع في المجموعتَين. لكنْ حدَثَت النتيجة الأكثر إثارةً للاهتمام حين تناوَلوا أسبرينًا وهميًّا. فقد كان له مفعولٌ هو الآخر، لكنه كان أقلَّ تأثيرًا من الأسبرين الحقيقي، ولم يؤثِّر إلا في مجموعة النوسيبو. استنتج بينديتي أن الدواء الوهميَّ كان ذا فاعليةٍ فقط في إزالة عامل النوسيبو الإضافي. لقد أتى مفعولُه بتخفيف التوتُّر، وهو ما جعل المخَّ يُخفِّف من إنتاج البروستاجلاندين.
لا يعلم بينديتي بعدُ إن كان هذا المبدأ سينطبق على أيِّ أنواع أخرى من الاستجابة للدواء الوهمي. لكن إن كان كذلك، فقد يتبيَّن أن هذه «طريقة جديدة للنظر إلى الدواء الوهمي»، على حدِّ قوله. قد لا تؤثِّر تأثيراتُ البلاسيبو تلك في عمليات المرض الأساسية، لكنها تُوفِّر بحقٍّ طريقةً لتحسين جودة حياتنا، مهما كانت حالتنا الجسدية، وتُبرهن على أننا لسنا بحاجة إلى أن نُصدِّق دومًا الأعراض التي نشعر بها.
•••
فهو يرى أن الطريقة التي نتناول بها عقاقيرَنا قد تكون بنفس أهمية الشكل الذي تبدو عليه. ورغم قلَّة الأبحاث في هذا المجال، فإنَّه وخبراءَ آخَرين يُشيرون إلى أن أيَّ شيء يُمكنه مساعدتنا على أن نُولِيَ قيمةً أكبر لعلاجٍ ما — سواءٌ كان فعَّالًا أو وهميًّا — قد يَزيد من أيِّ آثار نافعة نشعر بها.
أو يُمكنك أن تطلب من شخصٍ آخَر أن يُعطيَك علاجًا مُختارًا. أُجريت أبحاثٌ قليلة في هذا الصدد، لكنَّ خُبراءَ منهم همفري ومورمان يرَون أن تلقِّيَ مساعدةٍ طِبية من الآخرين يُحتمَل أن يُثير استجاباتِ بلاسيبو أكبرَ من الاستجابات الناتجة عن رعايتنا لأنفسنا؛ لأنه يخلق مَشاعر أقوى بالأمن والأمان. يقول مورمان: «مع أنني أعتقد أنه شيءٌ مُفيد حقًّا أن أتحدَّث إلى حبوب دوائي، فإنه سيكون أفضل كثيرًا إن فعلَت زوجتي ذلك معي.»
الأطفال مُعرَّضون بخاصَّة لهذا النوع من تأثير البلاسيبو. كما يعلم أيُّ والد، فإنَّ تقبيل الطفل لِيَتعافى، أو رسم قلب حول رُكْبة مُصابة بسحجة، أو دَهْن طفح جلدي بكريم، أو تخفيف سُعال بملعقة عسل يُمكن أن يكون له تأثيرٌ هائل على الألم وأشكال الانزعاج الأخرى، حتى وإن كانت تلك الأمور لا تشتمل على مكوِّنٍ طبِّي فعَّال أو قدرٍ قليل منه.
في المجموعة التي لم تتلقَّ علاجًا على الإطلاق، قال ٢٨٪ من المرضى إنهم «ارتاحوا بدرجةٍ مقبولة» من أعراضهم لمجرَّد وجودهم في تجرِبة. أما الذين تلقَّوا الوخز الوهميَّ بالإبر الصينية وحدَه، فقد خفَّت آلامُ ٤٤٪ منهم بدرجةٍ مقبولة. وفي المجموعة التي تلقَّت كلًّا من الوخز بالإبر الصينية والرعاية العَطوفة، قفز ذلك الرقم إلى ٦٢٪؛ وهو تأثيرٌ كبير يُوازي تأثيرَ أيِّ دواءٍ اختُبر من قبلُ لعلاج مُتلازمة القولون العصبي.
من وجهة نظر كابتشوك، فإن هذه الدراسة والدراسات المُشابهة تُسلِّط الضوء على ما قد يكون الدرسَ الجوهري المُستفاد من الأبحاث حول العلاجات الوهمية؛ أهمية اللقاء بين الطبيب والمريض. إذا كان المُعالج المُتعاطف يجعلنا نشعر بالرعاية والأمان، ولسنا مهدَّدين، فإن هذا وحده يمكن أن يؤدِّيَ إلى تغييراتٍ بيولوجية كبيرة تُخفِّف من أعراضنا. كانت هذه هي الإجابةَ على ما كان يحدُث في عيادته للعلاج بالإبر الصينية، قبل ذلك بسنوات. حين كان مَرْضاه يتحسَّنون قبل حتى أن يتلقَّوا أيَّ علاج، كان تفاعُلهم معه هو ما كان يُحدِث الفارق.
للأسف، نظرًا إلى ضِيق الميزانية والوقت، وكذلك التركيز على العقاقير والعلاجات المادية، يتضاءل باستمرارٍ المجالُ المُتاح في الطبِّ الغربي للعلاقة بين الطبيب والمريض. قد يُمضي الطبيبُ أقلَّ من عشر دقائق مع المريض، وكِلا الطرفَين يرى أن كتابةَ وصفةٍ طبية أهمُّ من إجراء محادثة مطوَّلة ومُطمئنة. إنه تحولٌ من قبيل المُفارَقة أن كابتشوك يُلْقي باللائمة فيه على إدخال التجارِب المضبوطة بعلاجٍ وهمي في الطبِّ في خمسينيَّات القرن الماضي. يقول: «قبل ذلك، كان الأطباء يَعلمون أن الرعاية مهمة لمَرضاهم، وأنهم كانوا عنصرًا فعَّالًا.» أما الآن فكل الاهتمام مُنْصبٌّ على البيانات والعقاقير.
لا شك أنَّ تركيز الطب الحديث على البيانات المادية والقياسات الموضوعيَّة للاختبارات قد أتاح تطوُّراتٍ هائلةً، لكن يرى كابتشوك أنه أيضًا أدَّى إلى هوَسٍ بالجزيئات والمسارات البيوكيميائية مُستبعِدًا ما «نشعر» به فعلًا. ويقول: «السبب الوحيد لاهتمام الناس بالعلاج الوهمي [الآن] هو أننا وجَدْنا أن بعضَ الموصِّلات العصبية مُنخرطةٌ في الأمر، ولأنَّ فريقي وفِرقًا أخرى كثيرةً تكتشف أشياءَ عظيمةً عن طريق التصوير العصبي. كأن مشاعر المرضى ليست مهمَّة.»
لقد سدَّ الطبُّ البديل الفجوةَ. لا تتضمَّن الأساليب العلاجية، على غِرار العلاج التجانسي والريكي، أيَّ مكوِّن فعَّال، ولا تستفيد من التجارِب السريرية الدقيقة. فهي قائمة على مبادئَ غيرِ منطقية من وجهة النظر العلمية؛ ويكاد يكون من المؤكَّد أنها لا تُجْدي نفعًا على النحو الذي يدَّعيه مُمارِسوها. لكن مع الاستشارات الشخصية والرعاية المصحوبة بتعاطف، فهي مهيَّأة تمامًا لتعظيم استجابات البلاسيبو. ربما لهذا السبب تمنَح راحةً حقيقية، خاصةً في حالة الأمراض المُزمِنة التي لا يملك الطبُّ التقليدي إمكانيةَ علاجها.
هكذا حتى إذا لم تَلقَ الأدوية الوهمية الصريحة رَواجًا، يأمُل كابتشوك أن يؤديَ عملُه إلى جدلٍ أوسعَ حول أهمية العودة بالطبيب في الطب الغربي إلى دَور المُعالِج، حتى يصير بإمكاننا الاستفادة من كلٍّ من الرعاية الخاصة «وكذلك» العلاجات المثبَتة علميًّا، وليس أحد الأمرَين دون الآخَر. فلا بد أن نتساءل «كيف يُمكننا إعطاءُ العقاقير بحيث نجعلها أكثرَ فاعلية، ونُقلِّل من هيمنة الآثار الجانبية؟» على حدِّ قوله.
إنه مُتحدثٌ مُقنِع، لكنه ذكَّرَني قبل أن يجرفني الحماسُ بأن ثَمة الكثيرَ من الأمور التي لا تستطيع التوقُّعات الإيجابية تحقيقَها. قال لي: «لن تُغيِّري الفسيولوجيا الباطنية [للمرض]. فلم أشهَدْ ذلك في أيِّ بحث.» أظنُّ أنه مُحِقٌّ في تشديده على تلك الحدود. فالشعور بأنك على ما يُرام ليس كلَّ شيء. فنحن نريد أيضًا أن نَبْقى على قيدِ الحياة، وفي حالاتٍ كثيرة، مثل الحساسية أو العَدْوى أو أمراض المناعة الذاتية أو السرطان، يكون للفسيولوجيا الباطنية أهميةٌ قُصوى.
في مثلِ هذه الحالات، لا يكفي التأثير على الأعراض الذاتية. لذلك قرَّرتُ السفر إلى ألمانيا، حيث يستخدم الباحثون العقل لاختراق الخط الأمامي في المعركة المادية للجسد في مواجهة المرض.