قوة بافلوف
فتح كارل هاينز ويلبرز علبةً بلاستيكيَّة صغيرة، وأخرج أربعة شرائط من العقاقير. مايفورتك وتاكروليمس … هذه هي الأسماء التي يقرؤها يوميًّا، والتي صارت حياته تعتمد عليها. كان ثَمة قرصٌ إضافي في ذلك اليوم، كبسولة بيضاء كبيرة رائحتها تُشبه رائحة السمك قليلًا. قبل أن يتناولها، أدار مشغِّل الأسطوانات المُدمجة واختار أغنية «فلتُساعدني» لجوني كاش. ثم صبَّ لنفسه كوبًا من سائل أخضر زاهٍ فاحت منه رائحة لافندر قوية.
كارل هاينز طبيبٌ نفسي مُتقاعد، من مدينة إسن في شمال ألمانيا. إنه رجلٌ أكاديمي جادٌّ ذو طبعٍ هادئ يكاد يكون كئيبًا، ونظَّارةٍ صغيرة ذات إطار سِلكي. منذ ستةَ عشَر عامًا، كان قد أُصيب بفشلٍ كُلَوي. يقول إن السبب ليس واضحًا، لكن الأسباب الأكثرَ شيوعًا هي السكَّري وارتفاع ضغط الدم. وبذلك أصبح واحدًا من ٨٠٠٠٠ ألماني يعيشون على غسيل الكُلى، وهو إجراءٌ دوري يدخل فيه دم المريض في جَهاز من خلال أنبوب ويُنقَّى لإزالة الفضلات قبل أن يُعاد إلى جسده مرةً أخرى.
كان يظلُّ مُتصلًا بالجهاز لمدة تسع ساعات في المرة، أربع إلى خمس مرَّات أسبوعيًّا. لكن كارل هاينز كان محظوظًا؛ إذ كان بوُسعه الحصول على غسيل الكُلى ليلًا في المنزل. وعن هذا يقول: «لكنني لا أستطيع أن أنعَم بالنوم الليلَ بطولِه. إذ تنطلق أصوات الإنذار. لا بدَّ من فحص الجَهاز، وتغيير السوائل. ولديَّ إبرتان كبيرتان في ذراعي.» أراني ندبةً كبيرة في باطن ساعِده، حيث تنغرس الإبر في لحمه ليلةً بعد ليلة.
بيدَ أنه كان ينعم بالحياة. كان لا يزال بإمكانه تمشية كلبه وأن يرسم. إلا أن اعتماده على جهاز غسيل الكُلى جعل السفرَ مُستحيلًا، وفرصَه للبقاء على قيد الحياة للاستمتاع بالتقاعد مع زوجته وابنته لم تكن مبشِّرة. فمتوسِّط العمر المتوقَّع لمرضى غسيل الكُلى خمسة أعوام فقط.
إلا أن كارل هاينز خالَف التوقُّعات، بعد أن عاش على غسيل الكُلى ١٢ عامًا. لذا حين واتَتْه الفرصة أخيرًا لزراعة كُلْية وافَق، لكن بشيء من التخوُّف. ويقول: «بعد ذلك، صارت حياتي مختلفةً بشدة. فقد صِرت حرًّا. وأصبحتُ قادرًا على التنقُّل.» فقد أخبرني أنه خلال السنوات الأربع التي تلَت عملية زراعة الكُلية، زار هو وزوجته ابنتَهما في ليك ديستريكت بالمملكة المتحدة، وهو الأمر الذي كان سيَغْدو مُستحيلًا مع غسيل الكُلى. سافَرا بالطائرة إلى نيويورك مرَّتَين، ويُخططان لرحلة إلى جنوب إنجلترا.
أغنية «فلتُساعدني» هي إحدى أغنيات كارل هاينز المفضَّلة؛ وقد اختارها لأنها تجعله في حالةٍ مِزاجية تأمُّلية هادئة. أثناء استماعه إلى كلمات الأغنية، يبتلع الكبسولة الكبيرة ويتجرَّع مشروب اللافندر. وهو يعلم أن هذه الكبسولات، على عكس باقي حبوب الدواء التي في عُلبتِه البلاستيكية، لا تحتوي على دواءٍ فعَّال. لكنه يتعاطاها باعتبارها جزءًا من تجرِبةٍ رائدة للتحقُّق مما إذا كان لهذا الطقس — الشراب والدواء والموسيقى — القدرة على تطويع استجابة جسده إزاءَ العضو المزروع، في هذه الحالة إخضاعه بما يتجاوز آثار عقاقيره وحدها.
تستند العلاجات الوهمية التي اطَّلعنا عليها حتى الآن إلى الاعتقاد الواعي أو التوقُّع. وتعتقد أنَّ حبة دواء أو حقنةً ما سيكون لها تأثيرٌ معيَّن، فيحدث. ومع أن بإمكان تلك العلاجات الوهمية أن تُحدِث تغيُّراتٍ بيولوجيةً في الجسم، فإن تأثيرها في أغلب الأحوال يكون على الأعراض الذاتية مثل الألم؛ فهي تُؤثِّر على ما نشعر به، وليس المرض الأساسي. لكن كارل هاينز يأمُل أن يستدعيَ عقلُه آليةً من نوعٍ آخر تستطيع أن تؤثِّر على الوظائف البيولوجية الأساسية، بما في ذلك الجَهاز المناعي.
يقول المؤيِّدون إن بإمكان هذه الظاهرة خفْضَ جرعات العقاقير للمرضى الذين أُجرِيَت لهم جِراحة زرع أعضاء مثل كارل هاينز، وكذلك الذين يُعانون من الحساسية واضطرابات المناعة الذاتية وحتى السرطان. لكنها بعيدةٌ كلَّ البعد عن الطب السائد، وبالكاد يعترف معظم اختصاصيِّي علم المناعة بوجودها.
•••
تخيَّل أنك تأخذ ليمونةً صفراء كبيرة من وِعاء الفاكهة. إن قشرتها ناعمة المَلمس ولامعة ومليئة بالمسام. الآن ضَع الليمونة في صَحْن وقطِّعها أربعَ قِطَع. تتساقط العُصارة على حافة نَصْل السكين فتَصل إلى أصابعك وتُباغتك الرائحة: حادَّة وحمضية. تناولْ إحدى القِطع ولاحِظْ كيف يلمع لُبُّها، والضوء مُنعكس على مئاتِ الأجزاء الصغيرة السائلة التي امتلأ كلٌّ منها حتى أوشكَ على أن ينفجر. ثم اقضمْها، مُمتصًّا العصارةَ الحامضة المُندفعة إلى لسانك.
هل انقبض لسانُك وأنت تقرأ هذه الفقرة؟ هل بدأتَ تشعر بوخز في غُدَدك اللعابية، وتأهَّب لسانك للهجوم الوشيك للحامض؟ إن كان الأمر كذلك، فلا بد أن تكون قد أكلتَ ليمونًا من قبل، وعرَفتَ الاستجابة الفسيولوجية المناسبة. لكن هنا تأتي النقطة الحاسمة. وهي أنك لست بحاجة إلى تناول ليمونة فِعليًّا لتشعرَ بهذه التغيُّرات. فجسدُك يبدؤها تلقائيًّا استجابةً لمنظر أو رائحة ليمونة — أو ربما مجرَّد فكرة — قبل أن تتذوَّق العصارة فعليًّا.
هذا الشكل من التعلُّم الذي تؤدِّي فيه إشارةٌ ذهنية إلى استجابةٍ جسدية يُسمى الإشراط. وقد اكتشفَه عالم فسيولوجيا روسيٌّ يُدْعى إيفان بافلوف في تسعينيَّات القرن التاسعَ عشر. كان بافلوف يدرس كيف يَسيل لُعاب الكلاب حين يأتيها بالطعام. ثم لاحَظ أنها بدأت تُفرِز لعابًا بمجرد أن يدخل الحجرة، سواءٌ أكان يحمل طعامًا أم لا. فقد تعلَّمَت الكلاب أن تربط بين وجوده وإطعامها. وبعد مدَّة، صارت تستجيبُ له تمامًا كما تستجيب لغذائها.
أثبتَ بافلوف أنه يستطيع تدريبَ الكلاب على الربطِ بين أيِّ مُحفِّز — صدمة كهربية أو ضوء أو جرَس على سبيل المثال — والطعام. بمجرَّد تعلُّم الارتباط، كانت تلك الإشارة وحدها كافيةً لجعل لُعاب الكلاب يَسيل. إنه مثالٌ رائع على أن الجسم لا يستجيب عشوائيًّا للأحداث المادية والتغيُّرات، مِثل أن يلمس عصير الليمون لساننا. فهو يستخدم الإشاراتِ السيكولوجيةَ للاستعداد المسبق.
تُعِدُّنا مِثل تلك الاستجابات الاستباقية لأحداثٍ بيولوجيةٍ هامَّة مثل تناوُل الطعام أو الجماع. فبطنُك تُقرقر حين تُميِّز إشارات تُنبئك بأنَّ ميعادَ غدائك قد حان، قد تكون تلك الإشارات هي الساعةَ أو عناوين الأخبار على الراديو. كذلك تشعر بإثارةٍ من رائحة عِطْر حبيبتك، أو نغمة صوتها. (استطاع علماءُ نفسٍ تكييفَ متطوِّعين على أن يُثاروا جنسيًّا من صورٍ عادية تنوَّعَت ما بين صور لمسدَّسات وبرطمانات صغيرة، بمجرد أنْ قرَنوها بمقاطع أفلام إباحية.) كذلك فإن الأغنية التي كانت أمُّك تُغنيها لك قبل النوم تجعل نبضات قلبك تُبطئ وتسترخي.
تنشأ استجاباتٌ شَرطيةٌ أخرى لحمايتنا، فتجعلنا نستعدُّ للفرار من خطر، أو تُشجعنا على تفاديه. إذا عقَر كلبٌ شخصًا ما في طفولته، فقد تكون رؤية كلب لاحقًا كافيةً لجعل نبضات قلبه تتسارع خوفًا (وهذا أصل الكثير من أنواع الرُّهاب). إذا تناوَلْنا طعامًا جعل مَعِدتنا تضطرب، فقد يصير مجرد التفكير في ذلك الطعام أو رائحته كافيًا لجعلنا نشعر بالغثيان مرةً أخرى. وفي بعض الحالات، من الممكن لمكانٍ ما ارتبط لدينا بالشعور بالغثيان أن يُثير فينا هذه الأعراض. لهذا ينتابُ الغثيان العديد من المرضى الذين يتلقَّون علاجًا كيميائيًّا بمجرَّد أن يَصِلوا إلى المستشفى، قبل حتى أن تبدأ جلستهم العلاجية.
هذا الأمر معروف تمامًا. إنَّ أبحاث بافلوف على الكلاب وإفرازاتها اللُّعابية مشهورةٌ على مستوى العالم. الشيء الذي تجد أغلب العلماء، ناهيك عن سائر الناس، أقلَّ إلمامًا به هو أن بإمكان الإشراط أن يبعث على استجابات بلاسيبو. فإننا حين نتناول حبةً تحتوي على عقارٍ فعَّال، نتعلم أن نربط بين تلك الحبة وتغيُّرٍ فسيولوجيٍّ معيَّن. وإذا تلقَّينا لاحقًا دواءً وهميًّا شبيهًا في الشكل، فقد نشعر بالتغيُّر نفسه. فإنها استجابةٌ تلقائية تحدُث في الجسم سواءٌ أعرَفنا أن الحبة زائفةٌ أم لم نعرف. لكنها تحدُث عبر إشارات نفسية واعية؛ أي إن تلك الآثار لا تحدث إذا تناوَلْنا الدواء الوهمي ونحن مخدَّرون أو دون أن نعلم أننا تناولناه.
هل من الممكن أن تكون تلك الاستجابات مُفيدةً في الطب؟ لقد رأينا في الفصل الأول كيف اختبر طبيب الأطفال أدريان ساندلر من كارولينا الشمالية هرمون السيكريتين كعلاج للتوحُّد، ليجدَ أن تأثيره لا يتجاوز تأثير الدواء الوهمي. إلا أنه ذهل من تحسُّن الأطفال تحسنًا هائلًا في كلتا المجموعتَين، ولم يستطع أن يتجاهل ذلك الاكتشاف. أيُّ عقار يأتي بالفائدة التي أتى بها الدواء الوهمي في دراسته كان سيَلْقى اهتمامًا باعتباره علاجًا ناجعًا. لكن لأنَّ هذا العلاج كان مُتعلقًا بالذِّهن وليس مستحضَرًا دوائيًّا، فقد قُوبِل بالتجاهل. بدأ ساندلر يقرأ بنَهمٍ في أوقات فراغه عن العلاجات الوهميَّة، وتساءل كيف يُمكنه استخدامها، دون خِداع مَرْضاه.
تساءل ساندلر عمَّا إذا كان يُمكن لدواءٍ وهمي أن يُساعد هؤلاء الأطفال في السيطرة على أعراضهم بجرعةٍ أقلَّ من الدواء. وقرَّر أن يُعطيَهم أدويته الوهمية صراحةً، لتكون جزءًا من نظامٍ كان يأمُل أن يُسخِّر قُوى كلٍّ من التوقُّع والإشراط. وأتمَّ سبعون مريضًا باضطرابات نقص الانتباه مع فَرط النشاط، تراوَحَت أعمارهم من ستة إلى اثنَي عشَر عامًا، تجربته التي استمرَّت شهرَين.
قُسِّم هؤلاء الأطفال عشوائيًّا إلى ثلاث مجموعات. خضعَت مجموعةٌ لنظام إشراط. فظلُّوا طَوالَ شهرٍ يتلقَّون دواءهم العادي، لكنهم كانوا كذلك يتناولون مع عَقارهم كبسولةً مُميزة باللونَين الأخضر والأبيض؛ كانوا يعلمون أنها خاملة، لكن ساندلر كان يأمُل أن يتعلَّموا الربط بينها وبين الاستجابة النفسية لدوائهم الفعَّال. وطيلةَ الشهرِ الثاني كانوا يحصلون على نِصف جرعتهم المُعتادة من العقار، وكذلك الكبسولة الوهمية.
قارَن ساندلر بين هؤلاء المرضى ومجموعتَين ضابطتين، لم تتلقَّ أيٌّ منهما أيَّ إشراط. تلقَّت مجموعةٌ جرعتَها من الدواء كاملةً طوال الشهر الأول ونِصفَ الجرعة طوال الشهر الثاني، مثل مجموعة الإشراط تمامًا. وحصَلَت المجموعة الأخيرة على الجرعة كاملةً طوال التجرِبة.
وهذه هي التجرِبة الأولى والوحيدة التي يُعطى فيها دواءٌ وهميٌّ صريح لأطفال. ويقول ساندلر: إن الآباء والأطفال على حدٍّ سواء رحَّبوا بالفكرة، وإن أكثرَ من نِصفهم كان يُريد الاستمرار في تعاطي الدواء الوهمي بمجرد الانتهاء من الدراسة. وقد قال له أحد الأطفال لاحقًا: «إنه أفضل دواء سبقَ لي تناولُه. أظن أنه حمَل المخَّ على أن يتصوَّر أنه سوف يؤتي مفعولًا.» إن دراسة ساندلر صغيرةٌ وأوَّلية، لكنها بالاقتران بنتائج بينديتي تُشير إلى أن باستطاعة الأطباء استخدامَ إجراءاتِ إشراطٍ بسيطة لتعزيز فعالية الأدوية الوهمية، دون الحاجة إلى أي خِداع.
ذلك من وجهة نظري اكتشافٌ مُثير. فباستخدام التوقُّع والإشراط معًا، يُحتمل أن تستطيعَ الأدوية الوهمية المُتوافقة مع الاشتراطات الأخلاقية المساعدةَ في تقليل جرعات العقاقير لملايين المرضى حول العالم، في حالاتٍ تتراوح من الألم والاكتئاب إلى باركنسون واضطرابات نقص الانتباه مع فَرط النشاط.
لكن ثَمة أمرٌ آخَر في الاستجابات الشرطية يَفتح أفقًا جديدًا تمامًا من الاحتمالات. فهذه الارتباطات المكتسَبة غير الواعية ليست مُقتصرةً على الأعراض الذاتية — مثل تشتُّت الانتباه لدى المُصابين باضطرابات نقص الانتباه مع فَرط النشاط — التي تُشكِّلها تأثيرات البلاسيبو التقليدية. فمن الممكن أيضًا أن تؤثِّر على جهاز المناعة، لتُتيح مسارًا يُمكن به للعقل أن يُصبح سلاحًا في معركة الجسم في مواجهة المرض. بعبارةٍ أخرى، يُمكن للعقل أن يفعل أكثر بكثير من مجرَّد مساعدتنا على أن نكون أفضلَ حالًا وأداءً. فقد يُنقذ المرءَ من الموت عن طريقِ الإشراط.
كان العُلماء يُنكِرون إمكانيةَ هذا حتى عقودٍ قليلة مضَت. ثم اضطرَّهم اكتشافانِ عارضان ومراهقةٌ شجاعة تُدعى ماريت إلى إعادة النظر في أفكارهم.
•••
في عام ١٩٧٥، كان عالِمُ نفسٍ يُدعى بوب آدر، من جامعة روتشيستر في نيويورك، يبحث ظاهرةَ النُّفور من مذاقٍ معيَّن، التي نشعر فيها بالغثيان من طعامٍ أصابنا بالإعياء في الماضي. أراد أن يعرف كم تَبْقى تلك الارتباطات المُكتسَبة، فأخذ مجموعةً من الفئران وأطعَمها جرعاتٍ متعددةً من الماء المحلَّى بالسكارين. من المُعتاد أن تكون هذه تحلية، لكنه في هذه التجرِبة قرنَ بين الماء وحقنٍ جعَلَت الحيوانات تشعر بالغثيان. لاحقًا، أعطى آدر الفئران الماء المحلَّى وحده. وكما توقَّع، ربطت الفئران بين المذاق السكَّري والشعور بالغثيان ورفضَت أن تشربه.
من أجل التوصُّل إلى ما قتلها، أمعن آدر أكثرَ في تفحُّص المادة الكيميائية التي استخدمها لجعل الفئران تشعر بالغثيان من الأساس. كان عقارًا يُسمَّى سايتوكسان، وهو يُثبِّط جهاز المناعة إلى جانب تسبُّبه في ألم بالمعدة. ولما كانت الجرعة التي استخدمها آدر في تجرِبته أصغرَ من أن تكون مُميتة؛ فقد توصَّل إلى استنتاجٍ جذري. حين أخضعَ الفئران لعملية الإشراط لم تتعلَّم الشعور بالغثيان فحَسْب. أيضًا ثبَّطَت «الجرعات» الإضافية من الماء المُحلَّى أجهزتها المناعية لدرجة أنها أُصيبت بعدوى فتَّاكة. كان اكتشافًا مُذهلًا؛ إذ أشار إلى أن الإشراط يمتدُّ إلى أبعدَ من الاستجابات المعروفة مثل سيلان اللُّعاب ومعدَّل ضربات القلب وتدفُّق الدم. إن جَهازنا المناعيَّ يتأثر هو الآخَر.
وهكذا على الرغم أن اكتشاف آدر كان مُذهلًا، فإنه لم يلقَ قَبولًا في البداية. كانت مشكلته الأساسية أنه لم يستطع في ذلك الوقت من سبعينيَّات القرن العشرين أن يُفسِّر كيف يُمكن لإشراط جَهاز المناعة أن يعمل. كان في مواجهة مع أجيال من اختصاصيِّي علم المناعة الذين كانوا على قناعة بأن المخَّ وجَهاز المناعة لا يتواصلان. ولم يكونوا على استعداد لتغيير رأيهم دون دليل مباشر على وجودِ صلةٍ مادية بين الاثنين.
وبعد بِضع سنوات حصَلوا على الدليل. كان ديفيد فيلتن، عالِم الأعصاب الذي كان يعمل في كلية الطب في جامعة إنديانا، يستخدم مِجهرًا قويًّا لفحص أنسجة من فأر مُشرَّح، ليتتبع سير الأعصاب المختلفة في الجسم. كان مهتمًّا على وجه الخصوص بشبكة الجهاز العصبي اللاإرادي، الذي يتحكَّم في وظائف الجسم مِثل مُعدَّل النبض وضغط الدم والهضم. تنقسم أعصابنا إلى الجهاز العصبي المركزي، الذي يضمُّ المخَّ والنخاع الشوكي، والجهاز العصبي المحيطي، الذي يَسْري في الجسم. وينقسم الجهاز العصبي المحيطي بدورِه إلى فرعَين. أحدهما هو الجهاز العصبي الجسدي، الذي يتولَّى الرسائل الواعية؛ فهو ينقل الأوامر إلى العضلات بحيث نستطيع التحرُّك ويُوصل الأحاسيس مِثل الدفء والألم إلى المخ. والثاني هو الجهاز العصبي اللاإرادي الذي يتحكَّم في تلك الأجهزة الفسيولوجية التي يُعتقَد عادةً أنها غير خاضعة للسيطرة الواعية.
وقد تحقَّق مِرارًا وتَكرارًا من نتائجه، حتى تأكَّد من أنه أصاب في تحديد شرائح خلاياه. «كنتُ شِبه خائف من قول أي شيء. فقد كنت أخشى أن يكون قد فاتَنا شيءٌ ما فنبدُوَ مثل زُمرة من الحمقى.» لكن لم يكن ثَمة مَفرٌّ من حقيقة اتصال الأعصاب اتصالًا مباشرًا بخلايا جهاز المناعة. كان ذلك دليلًا قاطعًا على وجودِ اتصالٍ طبيعي بين جهاز المناعة والمخ.
بدأ فيلتن التعاون مع آدر، وكذلك مع زميل آدر، نيكولاس كوهين، وبعد مدَّة قصيرة انتقل للانضمام إليهما في جامعة روتشيستر. حاليًّا يُنسَب إلى حدٍّ كبير فضلُ تأسيس المجال البحثي المعروف باسم «علم المناعة العصبي النفسي» إلى هؤلاء الباحثين الثلاثة. فقد دافَعوا عن الفكرة القائلة بأن المخَّ وجهاز المناعة يتضافران معًا لحمايتنا من الأمراض.
تابعَت مجموعة فيلتن عملها لتكتشف شبكةً معقَّدة من الاتصالات. فإلى جانب الوصلات العصبية الطبيعية، وجدَت مستقبِلاتٍ للناقلات العصبية — جزيئات إشارة يُنتجها المخُّ — على سطح الخلايا المناعيَّة، وكذلك ناقلات عصبية جديدة تستطيع التواصُل مع تلك الخلايا. واكتشفوا أن خطوط الاتصال تسير في كلا الاتجاهَين. فقد تؤدِّي عوامل سيكولوجيةٌ مِثل التوتُّر إلى إطلاق ناقلات عصبية تؤثِّر في استجاباتٍ مَناعية، بينما يُمكن للمواد الكيميائية التي يُفرزها جهاز المناعة أن تؤثِّر بدَورها على المخ، فتبعث مثلًا على الكسل والحُمَّى وأعراض الاكتئاب التي تُلزِمنا الفراش حين نكون مرضى.
في الوقت ذاته ظلَّ آدر يعمل على الاستجابات المناعية الشرطية. كانت الثقافة الشعبية قد تشرَّبَت فكرة الإشراط البافلوفي، لكنها كانت دائمًا تُصوَّر على أنها وسيلةٌ مُريبة تستخدمها السلطات لتُمارِس سيطرتها على عقول الجماهير. ففي رواية ألدوس هكسلي، «عالم جديد جميل» (١٩٣٢)، تجد الإشراط يُستخدَم مع الأطفال في مرحلة الحَبْو، المقدَّر لهم أن يصيروا عمَّالًا في المصانع، لتجنُّب الكتب والزهور باستخدامِ أصواتٍ صاخبة وصدماتٍ كهربائية خفيفة، بينما في رواية أنتوني برجس «برتقالة آلية» (١٩٦٢)، يُلقَم البطل عقارًا ليجعله يشعر بالغثيان، ثم يُجبَر على مشاهدة مَقاطع لأعمال عنف. أراد آدر أن يعرف إن كان من الممكن على نحوٍ مُغايرٍ تسخير الإشراط في مقاومة المرض.
•••
كانت ماريت فلايز طالبةً مَرِحة في المرحلة الثانوية من مينيابوليس، بولاية مينيسوتا. كانت ذاتَ شعرٍ داكن مجعَّد كثيف ووجهٍ شاحب مُستدير كالبدر، وكانت تَهْوى العزف على البوق.
في عام ١٩٨٣، حين كانت في الحاديةَ عشْرة من العمر، أثبتَت الفحوصات إصابتها بحالةٍ هدَّدَت حياتها تُسمَّى الذئبة الحُماميَّة. وهي من أمراض المناعة الذاتية، حيث يُهاجِم جهاز المناعة بالخطأ خلايا الجسم. تستهدف بعض حالات المناعة الذاتية عضوًا أو نوعًا محددًا من الخلايا؛ فعلى سبيل المثال يؤدِّي التهابُ المَفاصل الروماتويدي إلى تآكُل المفاصل، ويقتل داء السكري الخلايا التي تصنع الإنسولين في البنكرياس. لكن في حالة الذئبة الحُماميَّة، يشنُّ جهاز المناعة حربًا على الجسم بأكمله؛ المفاصل والجلد، وفي الحالات الحادة القلب والكُلى والرئتَين والمخ.
وعلى الرغم من العلاج بالعقاقير، تدهورَت حالة ماريت بسرعةٍ خلال العامَين التاليَين. كانت في البداية لا تزال قادرةً على العزف على البوق (في مخالفة لنصيحة أطبَّائها)، لكنها أُصيبت بعد ذلك بتلفٍ في الكُلى ونوبات صرع وضغطِ دمٍ مرتفع ونوباتِ التهابٍ رئوي. كما دمَّر جهازها المناعي عامل تخثُّر حيوي في دمها، مؤدِّيًا إلى نوباتِ نزيفٍ حادٍّ. كانت حالتها في غاية الخطورة، حتى إن الأطباء كانوا يُفكِّرون في إجراء عملية استئصال رحم لها؛ لأنهم كانوا يخشَون من أنها قد تموت نتيجةً لفقدان الدم حين تبدأ الحيض. ثم، في سبتمبر من عام ١٩٨٥، بدأت تنتابُها أعراضُ فشلٍ في القلب.
لما كان الخطر يحيق بحياة ماريت، قرَّر أطبَّاؤها أنهم لم يَعُد أمامهم خيارٌ سِوى إعطائها عقارًا مُثبطًا للمناعة أكثرَ قوةً. كان ذلك العقار هو سايتوكسان، العقار نفسه الذي كان آدر قد استخدمه في تجارِبه على الفئران. كان استخدامه مع البشر في ذلك الوقت تجريبيًّا، وهو عالي السُّمِّية. وتضمُّ القائمة الطويلة لآثاره الجانبية القيءَ وآلامَ المعدة والكدماتِ الشديدةَ والنزف وتلفَ الكُلى والكبد، إلى جانب حالات عَدْوى يمكن أن تؤدِّيَ إلى الوفاة، وكذلك السرطان. كان سايتوكسان فرصةَ ماريت الوحيدة للنجاة من حالة الذئبة الحُمامية التي كانت تُعاني منها، لكنه كاد أن يُعادل الحالة نفسها خطورةً.
كان الفأر في هذه الدراسة الأخيرة مُصابًا بالمرض المُقابل للذئبة الحمامية في القوارض، الذي يُمكن علاجه بالسايتوكسان. درَّب آدر مجموعةً من الفئران على الربط بين السايتوكسان ومحلول السكارين، كما فعل في تجرِبته الأصلية. ثم ظل يُعطيها الماء المحلَّى، مع نصف الجرعة المُعتادة من العقار. مقارنةً بالفئران التي تلقَّت جرعة العقار المخفَّضة لكنها لم تخضع لعملية الإشراط، خفَّت الأعراض لديها وعاشت مدةً أطول، تمامًا مِثل الفئران التي أخذَت الجرعة الكاملة من العقار. سألت أم ماريت أولنيس إن كان من الممكن لشيءٍ مُشابهٍ أن يُجدِيَ في حالة ابنتها. هل يُمكنهم تدريب جَهازها المناعي على الاستجابة لجرعةٍ مخفَّضة من العقار، وبذلك يُجنِّبونها أسوأ الآثار الجانبية؟
اتَّصلَت أولنيس بآدر، فوافَق على الفور على المساعدة في تصميم نظام إشراط لماريت. في الوقت ذاته، أجْرَت لجنة الأخلاقيات في مستشفى ماريت اجتماعًا طارئًا لمناقشة حالتها. ذكرَت اللجنة أنه لم يكن توجد أيُّ بيانات مأخوذة من بالِغينَ أو أطفال بشأنِ ما إذا كانت تلك التجرِبة آمنةً أو إن كانت ناجعةً أو لا. من المألوف أن يكون هذا سببًا وجيهًا للرفض على الفور. إلا أن الخطر الذي كانت ماريت تُواجهه من جرعة السايتوكسان الكاملة كان بالغًا للغاية، حتى إنه رغم أنَّ نهج آدر لم يكُن قد جُرِّب على البشر من قبل، فقد أقدَمَت اللجنة على شيءٍ غيرِ مسبوق. وافقت على تجرِبته.
أثناء التخطيط لنظام الإشراط من أجل ماريت، كان التحدِّي الرئيسيُّ الذي واجَهَته أولنيس هو تحديدَ المحفِّز الذي ستَقرنه بالسايتوكسان. كان السكارين مُجديًا مع الفئران؛ لأنها لم تتذوَّقْ شيئًا حُلوًا من قبل، لكنه كان مألوفًا للغاية لدى البشر، ولا يُمكن أن يكون له تأثيرٌ كبير عليهم. سألت أولنيس ماريت عن الروائح المُميزة التي تُحبها، فأجابت الفتاة المُراهِقة قائلةً: حمَّامات السباحة واللحم المشوي في القِدْر. لكن تلك الروائح لا تُعبَّأ في زجاجات. ولزيادة احتمال تكوين ماريت رابطًا واضحًا بين المحفِّز والعقار، أخبر آدر أولنيس أنه لا بد أن يكون مُميزًا قدرَ الإمكان، ناصحًا إياها بأن تختار شيئًا قويًّا لا يُنسى، وغيرَ مألوفٍ من قبلُ لماريت.
أخذَت أولنيس تطلب من الجميع اقتراحات، وتذوَّقَت أنواعًا من الخل، ونقطَ فراسيون (نوع من النبات شبيه بالنَّعناع) للسُّعال، وحبوب الأوكالبتوس ومشروبات كحولية متنوِّعة، قبل أن تستقرَّ أخيرًا على زيت كبد الحوت. وقد أضافت إلى هذا الدواء المستخرَج من السمك عِطرَ وردٍ نفَّاذًا، على أمل أن تَزيد من فرص النجاح بالتأثير على حاسة الشم لدى ماريت، وكذلك مستقبِلات التذوُّق لديها.
ظلَّت أولنيس تُكرِّر هذا الطقس الغريب — السايتوكسان وزيت كبد الحوت وعطر الورد — مرةً شهريًّا لمدة ثلاثة أشهُر. بعد ذلك، صارت ماريت تشرب زيت كبد الحوت وتشمُّ العطر مرةً كل شهر، لكن مع تلقِّي العقار مرةً كل ثلاثة أشهر فقط. مع نهاية العام، كانت قد تلقَّت ستَّ جرعاتٍ فقط من السايتوكسان، بدلًا من الاثنتَي عشْرة المُعتادة.
•••
جلستُ إلى إحدى الطاولات في كافيتريا قسمِ علم النفس الطبِّي في مستشفى جامعة إسن بألمانيا. وانضمَّت إليَّ الباحثتان الشابَّتان، جوليا كيرشوف وفانيسا نيس. لكننا لم نكن هنا من أجل القهوة. أخذت كيرشوف من الثلَّاجة إبريقًا بلاستيكيًّا ونزعَت عن سطحه طبقةً من الغِشاء اللاصق. كان بداخله سائلٌ أخضرُ تركوازي، شديد السُّطوع كأنه نيون. صبَّت ثلاثةَ أكواب ورفَعْناها في نَخْب. وحذَّرَتني نيس قائلةً: «سوف يصبغُ أسنانَكِ وفمَكِ بالأخضر. لكنه لا يبقى طويلًا جدًّا.»
تجرَّعَت كيرشوف شرابَها وعبَسَت. ثم قالت: «سيقول مانفريد إنه ليس قويًّا بما يكفي.» لكنني حدَّثتُ نفسي بأنه يبدو قويًّا كفاية لي، ورشفَت رشفة. كانت عيناي ترَيانِ اللون الأخضر، لكنْ داهَمَهما في الحال لونٌ أرجواني، مذاق اللافندر الطاغي. بخلاف ذلك كان الشرابُ مثلَ الحليب وحُلوَ المذاق، لكنه مُرٌّ أيضًا، كأنك تشربُ زيتَ استحمام. انقبضَ فمي، وجاشَت نفسي، ولم يعرف عقلي كيف يرى التجرِبة. مع التداخُل بين الألوان المُتضاربة واضطرابِ النكهة والرائحة، كِدتُ أشعر بخلايايَ العصبية وقد نشطَت في حيرةٍ من أمرها.
كانت هذه هي الصيغة الحديثة لخليط أولنيس من زيتِ كبد الحوت ورائحة الورد؛ حليبٌ بالفراولة مخلوطٌ بملوِّنِ طعامٍ أخضرَ وقليلٍ من المستخلَص العِطري لزيت اللافندر. وهو من ابتكارِ عالم النفس الطبِّي مانفريد شيدلوسكي الذي يُتابع حاليًّا تجارِبَ آدر المُثيرةَ للفضول.
بعد أن تناوَلْنا المشروب اتَّجهتُ إلى مكتبه، آمِلةً آلا تكون أسناني قد اصطبغَت بلونٍ أخضر يبعث على الحرَج. كان مكتبه لطيفًا وفسيحًا، يتخلَّله كراسيُّ جلديةٌ حمراء، ومِنضَدةُ قهوةٍ على شكلِ مكعبٍ أسود، وصفٌّ من اللوحات الفنية الهندسية التي رسمَتها زوجتُه. بتَرحابٍ عرضَ عليَّ شيدلوسكي الجلوسَ على كرسيٍّ وجلس قُبالتي. كان طويلًا ونحيلًا، ذا شعرٍ أشقر مُسترسِل وشاربٍ مفتول. حين دخل أحدُ زملائه ليُنبِّهنا إلى أن ذلك الجزء من حرَم المستشفى يجري إخلاؤه؛ لأنَّ قنبلةً غيرَ مُنفجرة من مخلَّفات الحرب العالمية الثانية كانت قد استُخرِجَت للتَّو من موقعِ بناءٍ قريب، لم ينزعج شيدلوسكي. وإنما قال لي بمرح: «لا بد أنها واحدةٌ من قنابلكم!»
أمضى شيدلوسكي الخمسةَ عشر عامًا الماضيةَ في محاولةِ تحويل الاستجابات المناعية المشروطة إلى علاجٍ مُثبَت عِلميًّا بِناءً على الظاهرة التي اكتشفَها آدر والتي كانت مُثيرة للفضول، لكنها كانت في نهاية الأمر مستنِدةً إلى ملاحظاتٍ عَرَضية. وقد بدأ بدايةً مُثيرة بزرعِ قلوبٍ ثانية في بطون مجموعة من الفئران. قال لي عنها مُطَمئنًا: «يبدو الأمر معقَّدًا لكنه في واقع الأمر بروتوكول تجريبيٌّ شديد البساطة.» في الفئران التي تلقَّت القلبَ المزروع لكن دون تلقِّي أي دواء، ظل قلبُها الإضافي حيًّا لمدة عشَرة أيام في المتوسط قبل أن يرفضَه الحيوان المُضيف. أما الفئران التي تلقَّت عدة جرعات من دواءٍ مثبِّط للمناعة، فقد عاش القلب المزروع ثلاثةَ أيامٍ أطوَل.
إذن هل يستطيع شيدلوسكي أن يُكرِّر نتيجةَ عملية الاستزراع في البشر؟ يُجيب عن السؤال قائلًا: «ذلك هو السؤال الأهم.»
•••
يقول إن أبحاث شيدلوسكي قد أثارت اهتمامَه؛ لأنه يعلم بناءً على خبرته أن العوامل النفسية تؤثِّر على استقرار العضو المزروع. ويقول: «ثمةَ تفاعلٌ وثيق بين جهاز المناعة والمخ. أرى في عيادتي أن المرضى يرفضون عضوَهم المزروع إذا كان لديهم أزمةٌ نفسية.»
ويقول أيضًا إن هذا يُمثل خطرًا خاصًّا على المرضى الشباب، الذين تَميل حياتهم إلى أن تكون أكثرَ تقلبًا. فإذا واجَهوا انهيارَ علاقة، على سبيل المثال، أو فقَدوا وظيفتهم بسبب مرضهم، فمن الممكن أن تتدهورَ حالتهم النفسيَّة. «إذا مرُّوا بموقفٍ غير مستقر فإنهم يكونون عُرضةً لفقد العضو المزروع.» ربما يرجع هذا جزئيًّا إلى أن المرضى الذين يُعانون من التوتُّر أو الاكتئاب يكون احتمالُ تعاطيهم لأدويتهم بانتظامٍ أقل. «لكن كان لديَّ عددٌ من المرضى الذين أعلم يقينًا بصفتي طبيبًا أنهم يتناولون أدويتهم.»
أدرك ويتزكي أن الإشراط قد يوفِّر سبيلًا لتثبيط جهاز المناعة باستخدامِ جرعاتٍ أقلَّ بكثير من العقار؛ ومن ثَمَّ يُنقذ مرضاه من بعضِ أخطر الأعراض الجانبية، لا سيَّما درجة السُّمِّية على الكُلى. توصَّل هو وشيدلوسكي إلى بروتوكول لاختبار الفكرة على مرضى زراعة الأعضاء. في البداية كان من الخطير للغاية أن يُوقفا تعاطِيَ المرضى لعقاقيرهم؛ لذلك صمَّما دراسةً تجريبية لمعرفة ما إذا كان الشرابُ الأخضر يمكن أن يُثبِّط جهاز المناعة أكثرَ من نظام العقاقير المُعتاد للمرضى.
كان كارل هاينز أحدَ المرضى في تلك الدراسة الاستطلاعية. كان عليه تجرُّعُ خليط اللافندر الأخضر مع نظام عقاقيره المعتاد، صباحًا ومساءً لمدة ثلاثة أيام. وفي المرحلة الثانية من الدراسة فعَل الشيءَ نفسَه مجدَّدًا، لكنه كان يتجرَّع الشرابَ إلى جانبِ حبةِ بلاسيبو مرتَين إضافيتَين كل يوم. لجعلِ الارتباط بالعقار قويًّا لأقصى درجة مُمكنة، طلب شيدلوسكي من المُتطوعين الحفاظَ على ثَبات البيئة المحيطة بهم في كل مرة يمرُّون فيها بهذا الطقس، بأن يبتلعوا حبوبهم وشرابهم في المكان نفسِه، ويستمعوا إلى الموسيقى نفسِها. جرَّب كارل هاينز النغماتِ المركبةَ المُتذبذبة بين العلوِّ والانخفاض في مقطوعة جان ميشيل جار «أكسجين»، قبل أن يستقرَّ على أغنية جوني كاش الأكثرِ مخاطَبةً للمشاعر.
لقد أدَّت الجرعات الإضافية من المشروب الأخضر بالفعل إلى تثبيطِ جهازِ المناعة لدى المرضى الثلاثةِ في الدراسة، ومنهم كارل هاينز؛ مما أدَّى إلى تقليل أعداد جميع مجموعات الخلايا المناعية التي قاسها شيدلوسكي بنسبة ٢٠ إلى ٤٠٪ إضافية (بالإضافة إلى تأثير أدويتهم). هذا وحده لا يكفي للقول بأنَّ ذلك النظام ناجعٌ بالتأكيد، لكنه واعدٌ بدرجةٍ كافية جعلت شيدلوسكي وويتزكي يبدَآن، في الوقت الذي أكتبُ فيه كلماتي هذه، تجرِبةً أكبرَ، مع نحوِ خمسين مريضًا. إذا نجحَت تلك التجرِبة، فسيُجربان الإشراط مع إيقاف تعاطي المرضى لبعض عقاقيرهم.
من المرجَّح أن يؤدِّيَ الإشراطُ بعد عدة سنوات إلى تقليل جرعات العقاقير للمرضى ذَوي الأعضاء المزروعة، وبعد مدةٍ أطولَ في حالة مرضى السرطان؛ حيث إن تجارب ألاباما هي تجارِبُ أولية، ولم تُجْرَ على البشر قط. لكن شيدلوسكي يقول إنه لا يوجد في الحالات الأقل خطورةً سببٌ عمَلي يحول دون أن يبدأ الأطباء في استخدام العلاجات المعززة بالإشراط في الحال.
لسوء الحظ، يُلاقي العلماءُ الأمرَّين لتمويل الأبحاث التي يحتاجون إليها للوصول بتلك العلاجات إلى مرحلة الاستخدام السريري. يقول ساندلر إنه يودُّ إجراءَ تجرِبة أكبرَ على اضطرابات نقص الانتباه مع فرط النشاط، لكن تطبيقاته قُوبِلَت بالرفض. وعن هذا الشأن يقول: «أعتقد أنه نوعٌ غير مُعتاد للغاية من الدراسات.» ثم أردف: «إن فكرة استخدام الأدوية الوهمية في تجارِبَ مفتوحة (التجارب التي يكون فيها العلاج معروفًا للمريض والطبيب) هي فكرةٌ مبتكَرة، وتقلب الطاولة رأسًا على عقب. وقد يجد بعضُ المُراجعين صعوبةً في تقبُّلها.»
وباستثناءِ شيدلوسكي، يكاد لا يوجد أحدٌ يبحث في الاستجابات المناعية الشرطية. وهو يقول مازحًا: «أودُّ أن أقول إننا الأفضل في العالم. لأنه لا يوجد أحدٌ آخَر!» قد يكون آدر وفيلتن قد حقَّقا انتصارًا نظريًّا بإثبات أن المخَّ وجهاز المناعة يتواصلان، لكنْ عمَليًّا ما زال أغلب علماء المناعة يُفضِّلون تجاهُل الظاهرة.
ويقول شيدلوسكي إنه ليس أمرًا تُريده شركات الأدوية. «لا يَروق لها فكرةُ تقليل جرعات الأدوية اللازمة.» وقد كافح في الماضي، مثل ساندلر، لإقناعِ المُراجعين الأكاديميِّين. إذ يقول إنه قبل بضع سنوات لم يكن بوُسعِه أن ينشرَ أبحاثَه إلا في الدوريات البالغةِ التخصُّص، واضطرَّ إلى الانتقال من مَنصبه في سويسرا والعودة إلى وطنه ألمانيا لتعذُّرِ الحصول على تمويلٍ لأبحاثه.
غير أن الأحوال تتبدَّل الآن، ويرجع ذلك إلى حدٍّ ما إلى أبحاث بينديتي، التي جعلَت مجالَ أبحاث العلاج الوهمي بأسرِه أكثرَ قَبولًا. ويقول عنها شيدلوسكي: «لقد فتحت البابَ وعقول المُراجعين على ما يجري هنا.» بل إنه حتى غيَّر اسم الظاهرة التي يدرسها، مُحاولًا أن يجعلها أكثرَ استساغة. «كنَّا قبلَ ذلك نُسمِّيها التكييفَ السلوكي للاستجابة المناعية. والآن نُسميها تأثيرَ البلاسيبو المثبِّط للمناعة.»
لكن في الوقت الحالي يُواصل ملايينَ المرضى مثل كارل هاينز تلقِّيَ جرعات عقاقير قد تكون أكثرَ بكثير مما يحتاجون إليه. وهو يعيش في خوفٍ مستمرٍّ من أن يفقد كُلْيتَه، ويفقد معها استقلاليتَه وقدرته على السفر، وربما أيضًا حياته. يصفُ فكرة تقليل جرعته من العقاقير عن طريق الإشراط بأنها «رائعة»، ويَحْدوه الحماسُ للمشاركة في التجارِب المستقبلية.
لكن بينما ينتظر المزيدَ من التطوُّرات، يقول إنه قد استفاد من مجرَّدِ إثباتِ أن عقله يلعب دورًا في حماية عضوه المزروع. فهو يقول: «إنني أتناول عقاقيري في المنزل بوعي أكبرَ بكثير.» بفضل التجرِبة، يشعر الآن أنَّ له دورًا فعَّالًا في صحته وليس مجرد مُتلقٍّ سلبي للعقاقير، وأن الآثار الجانبية لأدويته لم تَعُد تُقلقه بالقدرِ نفسِه. ويُضيف: «إن شيئًا ما يحدث. شيء يُمكنني الإيمانُ به.»