مقاومة الإجهاد
في صباح الثامن من مايو من عام ١٩٧٨، راح رجلان يسيران وئيدًا عبرَ مشهدٍ يختلط فيه الضبابُ والرِّيح والثلوج. كانت لِحْيتاهما وشعرُهما الأشعث الذي كان رائجًا في حقبة السبعينيَّات يتوارَون أسفل بِذْلتَين مبطَّنتَين بقَلَنسوتَين — إحداهما حمراءُ والأخرى زرقاء — وكانا ينتعلان حذاءينِ كبيرين برقبة وقفَّازات ونظارتَي وقايةٍ بعدساتٍ ملوَّنة لحماية أعيُنهما من بياض الجليد المتجمِّد الذي يُعمي الأبصار. كان الاثنان قد أنهكَهما التعبُ ويتنفَّسان بجهدٍ جهيد؛ لذا كانا يتوقَّفان كلَّ بضع خطوات ليستندا إلى مِعْولَي الثلج اللذَين كانا يحملانهما، وهما يلهثان وقد فتَحا فمَيهما على اتساعِهما، ويتواصلان باستخدام إشارات اليد لأنهما كانا في غايةٍ من الإعياء ولم يستطيعا الكلامَ. ثم يُعاودان المُضيَّ قُدُمًا بمشقَّة، وهما يكادان يفقدان وعيَهما، وقد خارت أطرافُهما، مُدرِكَين أنه لم يَعُد لديهما سوى الإرادةِ لمتابعة المُضي.
كان هدفُهما على بُعدِ بضع مئات الأمتار لأعلى قمَّة جبل إفرست. كان إدموند هيلاري وتينسينج نورجاي من شعب الشيربا هما أولَ من بلَغ القمة، التي ارتفاعها ٨٨٤٨ مترًا — أعلى قِمم العالم — في عام ١٩٥٣. لكن هيلاري، وكل الآخرين الذين تسلَّقوا الجبل منذ ذلك الحين، اعتمدوا على أسطواناتٍ مُلئت بأكسجينٍ إضافي من أجل التسلُّق. أما رينولد ميسنر، المُتسلق ذو الثلاثة والثلاثين عامًا من إيطاليا، وزميله في التسلُّق الأسترالي بيتر هابلِر، فكانا عازِمَين على الوصول إلى هناك مِن دونها.
قال المتسلِّقون والأطباء على حدٍّ سواء إنهما مجنونان. إذ إن كمية الأكسجين المُتاحة في الهواء للتنفُّس في ذلك الارتفاع الشاهق تُعادل فقط ثُلُث تلك الموجودة في مستوى سطح البحر. لم يكُن أحدٌ يعلم ما قد يحدث للجسم في تلك الظروف، لكن افتُرضَ بوجهٍ عامٍّ أن الاثنَين سيتعرَّضان لتلفٍ حادٍّ في الدماغ أو ربما ما هو أسوأ. استنتج علماءُ الفسيولوجيا، الذين درَسوا حالة متسلقِّي الجبال أثناء رحلة استكشافية سابقة قادَها هيلاري في ١٩٦٠-١٩٦١، أن مستويات الأكسجين على القمة تكفي بصعوبةٍ لبقاء الإنسان على قيد الحياة دون أن يتحرَّك، ناهيك عن الإقدام على رحلةِ تسلُّق شاقَّة.
بيدَ أنَّ ميسنر كان مُعتادًا على مُجابَهة الموت في سلسلةِ جبال الهيمالايا. إذ كان قد فقدَ أخاه قبل ثماني سنوات في انهيارٍ ثلجي — وسبعة أصابع نتيجةً لقضمات الصقيع — أثناء صعود قمَّة نانكا بربت المعروفة بخُطورتها. كما أنه تسلَّق قمة جاشيربروم، التي ارتفاعها ٨٠٦٨ مترًا، من دون أكسجين. وكان عازمًا على الوصول إلى أقصى حدودِ قدرات الجسم البشري، سواءٌ بلَغ أعلى قمة إفرست أو لم يَصِل.
كان إنجاز ميسنر وهابلِر بُرهانًا فائقًا على التحمُّل، على الرغم من الجسد والمخ اللذَين كانا يصرخان من نقص الأكسجين. بيدَ أن التجارِبَ الفسيولوجية التي أُجرِيَت منذ ذلك الوقت على أشخاص يُمارسون رياضاتٍ على ارتفاعاتٍ عالية كشفَت عن مفارقة.
من المعروف أن الناس يَصِلون إلى درجة الإنهاك بسرعةٍ أكبرَ في علوٍّ مرتفع. على سبيل المثال، يتراجع الأداء الهوائيُّ للمتسلِّقين المُتمتعين باللياقة البدنية المُتأقلمين على الارتفاعات إلى نحو الثُّلث على ارتفاع ٥٣٠٠ متر مقارنةً بمستوى سطح البحر. التفسير التقليدي لذلك هو أن دِماءنا لا يُمكنها حملُ قدرٍ كافٍ من الأكسجين إلى أنحاء الجسم في البيئة المُنخفضة الأكسجين. وبذلك تَصير عضلاتنا مُنهَكة، ولا نَقْوى على مُواصَلة النشاط.
إننا نتنفَّس بمشقَّة ونتمرَّن بصعوبة حتى مع بقاء مستويات الأكسجين في دمائنا على ما هي عليه، من دون أثر لتوتُّر أو تلفٍ بالمخ أو العضلات أو القلب.
إذن ما هو الشيء الذي يجعلنا نتباطأ؟
•••
في الثاني عشرَ من أغسطس عام ٢٠١٢، دخل حَلْبةَ السِّباق شابٌّ لندنيٌّ في التاسعة والعشرين من عمره يُدْعى محمد فرح، من أجل ما يُمكن القول بأنه أكبرُ سباق في حياته؛ نهائي الخمسة آلاف متر في دورة الألعاب الأولمبية في لندن. مع اقترابه من خطِّ البداية، حيَّته الجماهير صاحبةُ الأرض المُتهلِّلة بالوقوف والتصفيق. كانت في الأسبوع السابق قد رأتْ فرح وهو يدخل التاريخ حين فاز بالميدالية الذَّهبية في سباق ١٠٠٠٠ متر. إذ كان أولَ فوز أوليمبي بريطاني في الحدث الذي تُسيطر عليه الدولتان الأفريقيتان إثيوبيا وكينيا. والآن كانت الجماهير تُريد منه أن يُعيد الكَرَّة.
ولكن مع أنه كان مُنافسًا قويًّا في ذلك السباق، فإن هذه المسألة كانت مختلفة. فقد كان فرح لا يزال يتعافى من الإجهاد البدني الذي أصابه حين فاز منذ أسبوع. كما أن سباق الخمسة الآلاف متر كان يُشكِّل له تحدِّيًا أعظمَ بكثير. فقد كان في المركز الحادي عشرَ في قائمةِ أسرعِ عدَّائي العالم ذلك العام، وكان يصطفُّ إلى جانبه سبعةٌ من أسرعِ الرياضيِّين، ومن بينهم الأسرعُ على الإطلاق، الأسطورة الإثيوبي، ديجين جيبريميسكيل، الذي كان مرجَّحًا أن يفوز.
لحسنِ حظ فرح، بدأ سباقُ الاثنتَي عشْرة ونصف لفَّة بدايةً بطيئة. وقد ظلَّ في المؤخِّرة طَوال الجزء الأكبر من السباق، ثم صار في المركز الثاني وراء جيبريميسكيل في الكيلومتر الأخير مع تَسارُعِ وتيرة السباق. وكان في المدرَّجات، وسطَ الآلاف الذين راحوا يُلوحون بالأعلام البريطانية، ابنة زوجته وزوجته، تانيا، التي كانت حُبْلى في توءمَين وعلى وشك الولادة.
ثابَرَ فرح ليُصبح في المقدمة، ثم مع قرع جرس اللفَّة الأخيرة، اتَّسعَت خطوته ومرق بعيدًا عن جماعة العدَّائين، وراح جسدُه النحيف يتحرَّك بسلاسةٍ في صُدْرةٍ بيضاء وسروالٍ قصيرٍ أزرق، فيما أخذت سلسلةٌ ذهبية تتقافز حول عنقه. ثم قُرْب المُنعطَف الأخير جاء جيبريميسكيل، مُقتربًا بسرعة بزِيِّه الأخضر في أصفر. كان يبدو أن المرشَّح للفوز سيتصدَّر السباقَ لا محالة، لكن يبدو أن صخب الجمهور قد شدَّ من أزْرِ فرح. فقد كشف عن أسنانه وانتفخ ذراعاه، وابتعد بطريقةٍ ما عن جيبريميسكيل، وعبَر خطَّ النهاية وقد اعتلَت وجهَه بهجةٌ امتزجت بدهشة وعدمِ تصديق.
إنها ظاهرةٌ نراها كثيرًا في ألعاب القُوى. تتحطَّم أرقامٌ قياسية؛ ويكون الفوز ببذلِ مجهودٍ جبَّار في نهاية السباق. يبدو أن الرياضيين يحشدون كلَّ ما لديهم لبلوغِ أقصى ما في وُسعِ أجسادهم، ولكنهم ما إن يَعبُروا خطَّ النهاية، حتى يكونَ لديهم من الطاقة والقوة العضلية ما يجعلهم يقطعون دورةً كاملةً حول المِضمار متوثِّبين ابتهاجًا بالنصر. وهذا يُثير سؤالًا مُشابهًا لذلك الذي أثاره متسلِّقو قمة إفرست. لماذا حين نشعر أننا على وشكِ الانهيار، نجد لدينا مخزونًا كبيرًا من الطاقة؟
•••
ليس تيم نوكس، اختصاصيُّ فسيولوجيا الرياضة في جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا، من الرجال الذين يخضَعون للسلطات. في الواقع، إنَّ من دأبه تفنيدَ الاعتقاداتِ السائدة، وأحيانًا يصنعُ أعداءً لكنه أيضًا يُنقِذ حياة رياضيِّين.
كان الاعتقادُ السائد أن الرياضيِّين يعتريهم التعبُ حين تصلُ أجسادهم إلى حدودِها الطبيعية؛ حين ينفَدُ الأكسجين أو الغذاء من العضلات، أو حين تتضرَّر نتيجةً لتراكُم النواتج الثانوية السامَّة مثل حمض اللاكتيك. يؤدِّي هذا بدَوره إلى الألم والإجهاد، فيُجبِرنا على التوقف عن التمرين إلى أن نتعافى.
لم تتعرَّض هذه النظرية الأساسية للتشكيك منذ اقترحَها عالم الفسيولوجيا الحائزُ على جائزة نوبل، أرشيبالد هيل، في عام ١٩٢٣. لكن حين حاوَل نوكس اختبارَها لم تكن نتائجُه منطقية. أولًا: كانت نظرية هيل تفترض أنه إذا تمرَّن الرياضيون إلى أقصى حدٍّ لهم، فإنه قبل مدَّة وجيزة من التوقُّف بسبب الإرهاق يحدث ثباتٌ في مستوى الأكسجين؛ لأن القلب لا يستطيع أن يضخَّ الدمَ بسرعةٍ كافية لتوصيل الأكسجين إلى الأنسجة التي تحتاج إليه. لكن ذلك لم يحدث، كما في حالة التجارِب التي أُجرِيَت على ارتفاعاتٍ شاهقة. إذ يقول: «لم نجد أن الأكسجين نَفِد من الرياضيِّين حين أجرَينا لهم التحاليل. لم يكن بوُسعِنا أن نرى هذا.»
من وجهةِ نظرٍ تطوُّرية، ذلك النظام منطقيٌّ تمامًا. فمن شأن الاعتماد على علاماتٍ للضرر في عضلاتنا لإنذارنا من الإجهاد أن يجعلَنا قريبينَ من الانهيار بدرجةٍ خطيرة في كل مرة نُجهد فيها أنفسَنا. أما التوقُّف عن النشاط الجسماني مُسبقًا فيضمنُ هامشًا آمنًا للخطأ، ويدلُّ على أن باستطاعتنا مواصلةَ العمل حتى بعد الشعور بالإنهاك. ويقول نوكس: «نرى أن هذه هي الطريقة التي تطوَّر بها البشر؛ لأنك دائمًا ما تحتاج إلى الطاقة فيما بعدُ لتفعلَ أشياءَ أخرى.» فعلى سبيل المثال، قد نحتاج فجأةً إلى الفرار من حيوانٍ ضارٍّ. «وحين كنا نعيش على الصيد كنا دائمًا ما نضطرُّ إلى العودةِ بالطعام إلى الديار.» لهذا السبب، رغم أن فرح ركض إلى درجة الإنهاك للفوز بالذهبية الثانية، ظلَّ لديه طاقةٌ باقية لأداء تمارين البطن والركض فورَ عُبوره خطَّ النهاية.
يرى نوكس أن التأثير يكون أوضحَ في الارتفاعات العالية. فالحاكم المركزيُّ يُلاحظ انخفاضَ الأكسجين في الهواء ويُجري حساباتِه مقرِّرًا أن النشاط الجسدي في تلك الظروف غيرُ آمن. رغم أن عضلاتنا تكون مُنتعشةً وقادرة تمامًا على النشاط، فإنه يجعلنا نشعر أننا في غاية الإنهاك، حتى إننا بالكاد نَقْوى على السير، ويوجِّه مواردنا بدلًا من ذلك إلى التنفُّس، لضمانِ حصولِ المخ على أكسجين كافٍ. الشيءُ نفسُه يحدث أيضًا في البيئات الأخرى التي قد نتعرَّض فيها للخطر. فنشعر بالكسل في الطقس الحار ليس لأنَّ عضلاتنا كلَّت، ولكن لأنَّ الحاكم المركزيَّ يحدُّ من نشاطنا تحسُّبًا لارتفاعِ درجةِ حرارتنا ارتفاعًا مُفرِطًا. وحين نُصاب بالمرض، تبعث إشاراتٌ من جهاز المناعة على الشعور بالتعب حتى نخلد للراحة ونُوفِّر طاقاتنا لمقاومة العدوى.
لكنَّ أكثر ما يُحيِّرني بشأن فكرة تحكُّم المخ في الشعور بالإجهاد هو ما إذا كان يوجد أيُّ دورٍ للوعي. هل نستطيع فعليًّا التحكمَ في الحاكم المركزي؟
توجد أدلةٌ مُتزايدة على أننا نستطيع في بعض الأحيان. فقد أثبتَ عددٌ كبير من الدراسات أنه بإمكان العوامل النفسية أن تُغيِّر من إحساسنا بالإجهاد، فتعدل المرحلة التي نشعر فيها بالتعب. يتأثَّر الأداء الرياضيُّ مثلًا بما يُحفِّزنا (من وجودِ مكافأةٍ مالية أو مُنافِسين آخَرين وحتى صوت الطلقات النارية)، وما إذا كنَّا سنفوز أو نخسَر، والمسافة التي نعتقد أننا سنحتاجُ إلى أن نَعدُوَها.
لذا فإنه بالإضافة إلى المتغيِّرات الجسدية من درجة الحرارة، وتوفُّرِ الأكسجين، واللياقة ومستوى الجهد، يضمُّ المخُّ مُتغيراتٍ نفسيةً مِثل درجة شعورنا بالثقة ودرجة ضرورة المهمة. ثم يستخدم الشعورَ بالتعب ليُحدِّد أقصى سرعةٍ لنا. إذا كنا قَلِقين حيالَ لياقتنا، أو متردِّدين بشأن المسافة التي علينا أن نقطعَها، فإننا نركضُ ببُطءٍ أكبر. أما إذا كنا واثقين من المهمة التي نحن بصددها، أو كنا نُواجه موقفَ حياةٍ أو موت، فإن الحاكم المركزيَّ يضع هذا في الحُسبان ويُرْخي قبضتَه.
لهذا السبب يكون الناسُ في حالات الطوارئ قادرين على إنجازِ أعمال تتطلب قوةً بدَنية وقوةَ تحمُّل يجدونها في الظروفِ العادية مُستحيلةً. وإذا تغيَّر الموقف، يتغيرُ مستوى شعورِنا بالتعب أيضًا. فإننا ساعةَ السباق تأتينا دفعةٌ من الطاقة حين نرى خطَّ النهاية. وحين نكون مُهدَّدين، نشعر بالإنهاك بمجردِ أن يزولَ الخطر.
من الوارد أن يكون حماسُ فرح وثقتُه ودعمُ الجمهور قد تعاوَنوا جميعًا معًا حين كان يستعدُّ لسباق الخمسة آلاف متر؛ مما حمَل الحاكمَ المركزيَّ لديه على السماح بأداءٍ أمثلَ ومنحَه التفوقَ على مُنافسيه. وبالمِثل يبدو أن عَزْم ميسنر وهابلِر الشديد على النجاح قد أدَّى بهما إلى الاقتراب بدرجةٍ خطيرة من أقصى الحدود الطبيعية للجسد، ليُسجِّلا ارتفاعًا قياسيًّا كاد أن يودِيَ بحياتهما.
قد يفسِّر وجودُ الحاكم المركزي سببَ نجاح التدريب المُتقطع، وهو عبارة عن الانطلاق لمُددٍ قصيرة في تمارينَ مكثَّفةٍ تتخلَّلها أوقاتُ راحة. وبحسب رأي نوكس، لا يزيد العَدْو السريع المُنتظم، الذي يحفزنا على بلوغ حدود أقصى ما في وُسعِنا من أداء، من لياقتنا البدنية فحسب، وإنما يُعيد تدريبَ المخ كذلك. فهو يُعلِّم الحاكمَ المركزي أنه لا ضرر من الضغط على أنفسِنا إلى هذه الدرجة؛ ومن ثَم فإنه من الآمن أن نضغطَ على أنفسنا أكثرَ قليلًا في المرة القادمة.
لكنه قد يكون ممَّا يجعلنا نشعر بالتحرُّر مجرَّدُ أن نعلم درجة إفراط المخ في الحماية. يقول نوكس: «لسنا بحاجة إلى تصديق ما نشعر به، ولسنا بحاجة إلى تصديق ما يقوله مخُّنا. مهما شعرنا بالتعب، يُمكننا الاستمرار، ويظلُّ بوُسعنا أن نؤدِّيَ أفضل.»
•••
راحت سامانثا ميلر تَحكي لي بكلِّ واقعية، وهي تحدِّق نحوي بعينَيها الزرقاوَين فيما راحت تمضَغُ شطيرةَ فلافل، قائلةً: «كان الأمرُ أشبهَ بالدفن حيةً. فقد كنت مُنهَكة، وأشعر بآلامٍ مبرِّحة في المفاصل. كأنني مُصابة بالإنفلونزا طوال الوقت بلا يقينٍ من الشفاء. لم أكُن قادرةً على فعلِ أيِّ شيء. كنت أشعر بأني مُحاصَرة.»
أما الآن فإن سامانثا تبدو نشيطةً وأصغرَ من سنوات عمرها البالغة ٤٦ سنة. كانت مُهندَمة في ثيابٍ زهرية ذاتِ نقوش وردية مُستوحاة من الخمسينيَّات، وقَلَنسُوةٍ ذات زغب، وأحمر شفاه زاهٍ؛ وكان شعرها الأشقر مُلتفًّا بشكلٍ جميل ومثبَّتًا بزهرة قَرَنفل بيضاء. تقابَلْنا لتناوُلِ الغداء في مطعمٍ تركي في شارع آبر ستريت الرَّاقي في لندن، وقد بدَت أثناء تبادُلنا الحديثَ مُفعَمةً بالطاقة ومرِحةً وحادَّةَ الذكاء. من الصعب أن تُصدق أنها كانت قد أمضَت لتَوِّها عدة سنوات تُكافح للعودة من تجرِبةٍ مريعة.
في أواخر التسعينيَّات كانت سامانثا تعيش في هامبستيد، في لندن، وتُدرِّس الفنون في مدرسةٍ ثانوية لديها «نقص في الموظَّفين والتمويل». كانت تجد التعامل مع الأطفال مُجهِدًا. إذ تقول إن الأطفال ما زال لديهم «عناد الشباب. فلم يَقهرهم شيءٌ بعد.» أيضًا كانت سامانثا مُولَعةً بصعود الجبال بالدرَّاجة وبالسباحة، وكانت حياتها الاجتماعية حافلة. حين كان يطرأ شيءٌ لا بد من إنجازه، كانت تتحمَّل مسئوليتَه. وكانت دائمًا تسعى للكمال.
ثم أصابها المرض. تقول: «أصابني داءٌ فيروسي يتعلق بالغُدد.» لم تُفكِّر في أن تأخذ إجازةً من عملها. «لذا كنت أذهب وأنا أُعاني من ارتفاعٍ شديد في درجة الحرارة. وكانت تلك هي المرحلةَ التي تغيَّر فيها شيءٌ ما.» على الرغم من أنها تعافَت من المرض، فقد كانت تشعر فيما بعدُ بنُعاس طوالَ الوقت. وبعد بضع سنوات خضعَت لجِراحة في الظَّهر، وأثناء وجودها في المستشفى أُصيبَت بعدوى أدَّت إلى التهاب في المعدة والأمعاء. وتقول: «كان الأمر مريعًا. كان جسدي يتعرَّض للهجوم من جميع الجوانب.»
تعافَتْ من الجِراحة ومن التهاب المعدة والأمعاء، لكنها بقِيَت غيرَ قادرة حتى على النهوض من الفِراش. كانت مُنهَكةً لكن لا تنام، وتشعر بألمٍ دائم، وصار لديها حساسيةٌ مُفرِطة من الصوت والضوء. لم تكُن تستطيع النزول للطابق السفلي؛ لذا كان صديقها يترك لها فاكهةً بجانب الفراش حين يذهب إلى العمل. ساوَرَها شعورٌ بأنها مغلوبة على أمرها وخائرةُ القُوى؛ فلم تكُن تستطيع الجلوسَ مُنتصبةً ولا الاستماعَ إلى الراديو ولا فتْحَ بابِ منزلها (تتذكر أنها كانت تتأمَّل حالها وتقول لنفسها إنها لو كانت قعيدةً على كرسيٍّ مُتحرك، وقد عَدِمَت استخدامَ ساقَيها تمامًا، كانت على الأقل ستمتلكُ الطاقة للوصول إلى باب منزلها).
وكانت كلما حاولَت استنهاضَ همَّتِها، كانت أعراضها تسوء أكثر. هكذا ظلَّت مُستلقيةً طيلة شهور، تحفظ كلَّ تفصيلة في الحجرة، وتُحدق في صورةٍ كبيرة على الحائط، منظر طبيعي من أوكسفورد شاير كانت قد رسمَته هي بنفسها. «كنتُ أفكِّر في نفسي قائلة إنني لا أصدق أنني رسمتُ تلك اللوحة. وأتساءل، كيف يُمكنني أن أفعل أيَّ شيء مرةً أخرى من الأساس؟»
رغم أنَّ صديقها كان مُساندًا لها، فقد شعرَت أن أصدقاءها وأُسرتَها لم يفهموا الأمر. إذ كانوا يقولون أشياءَ على شاكلة: «أنا أيضًا مُتعَب طوالَ الوقت.» فكانت تُدرك أنهم يعتقدون أنها كانت بطريقةٍ ما تختار التَّمارُض. من اللحظات التي كانت مؤلِمةً أشدَّ الألم حين قال لها أبوها: «لقد صار الأمر مُضجِرًا، أعتقد أنَّكِ لا بد أن تتعافَي.» من دون حياة أو أمل في الشفاء، لجأتْ سامانثا إلى صديقها وأختها التوءم. طلبت منهما أن يُساعداها على الانتحار.
•••
انتبهَ الأطباءُ إلى الحالة في القرن العشرين بعد سلسلة من الأوبئة الغامضة التي أُصيبَت فيها أعدادٌ هائلة من الناس بوهنٍ وإجهاد ليس لهما تفسير. وقَعَت حالتان غريبتان بصفةٍ خاصة من تفشِّي هذا الوباء في مستشفى رويال فري في لندن في خمسينيَّات القرن العشرين، وفي بُحيرة تاهو، بولاية نيفادا، في ثمانينيَّات القرن العشرين، حيث نُعِت المرض باسم «متلازمة راجيدي آن» («راجيدي آن» هو اسم دُمْية مصنوعة من القماش رثَّة الهيئة). ثم بدأ الأطباء يرَون حالاتٍ فرديةً تطرأُ في عموم السكان أيضًا.
ولأنه لا توجد آليةٌ بيولوجية واضحة، فإنه كثيرًا ما يُزعَم أن الحالة لها سببٌ نفسي؛ فقد وصفَها الأطبَّاء النفسيون في سبعينيَّات القرن العشرين بأنها «هيستريا جماعية»، فيما أطلَقَت عليها الصِّحافة في ثمانينيَّات القرن العشرين في تصرفٍ قاسٍ اسمَ «إنفلونزا المُترَفين»، في إيحاء بأن المُصابين بها كانوا شبابًا مُدلَّلين مُتكاسِلين عن العمل. لكن تتَّفق السلطات الطبية حاليًّا على أنها حالةٌ مُتفردة حقيقية، وإن كانت مُسبِّباتها لا تزال موضعَ نقاش، لكن ما زال الكثير من المُصابين بها يشعرون بالتجاهل باعتبار أنهم مُصابون بوسواسِ المرض، وأنَّ عليهم تمالُكَ أنفسِهم.
ثار اهتمامُ نوكس بمُتلازمة الإجهاد المُزمن بعد أن رأى رياضيِّين مُصابين بالمرض، وأدرك أن ذلك لا يُلائم هذا القالَبَ النمطي. إذ يقول: «رأيتُ الكثير جدًّا من الرياضيِّين المُحترِفين الذين كانوا يُريدون الركض، وكانوا يخسَرون كل شيء، ولا يزالون غيرَ قادرين على الركض. كان آخِرُ شيء يريدونه أن يكونوا مَرْضى.»
وهو يعتقد أن سرَّ هذه الحالة يكمُن في المخ. «يحدث خطأٌ في إعدادات الحاكم المركزي. فهو يُبالغ في تقديره لإحساسنا بالتعب.» أغلب الأبحاث الجارية عن فكرة وجود الحاكم المركزي تتضمَّن تحوُّلاتٍ دقيقةً في حدود الأداء نفسِها، غالبًا لدى نخبة الرياضيِّين. لكن ماذا يحدث إذا تعطَّل ذلك النظامُ بأكملِه؟ إن الإجهاد الذي يَحمينا عادةً من المبالغة في الضغط على أنفسنا قد يُصبح سجنًا في حد ذاته.
أيًّا كان المُسبب — فيروسًا، أو الإفراط في العمل، أو (على الأرجح) تضافرًا بين عدة عوامل — فإن نوكس يرى أنه في مُتلازمة الإجهاد المُزمن تتضاءل حدودُ النشاط البدني بشدَّة، إلى الحد الذي يصير معه المرضى عاجِزين عن الحركة من الأساس. إذا كان نوكس مُحقًّا فهذا معناه أن المُصابين أمثالَ سامانثا لم يكن بمقدورهم أن «يُقرِّروا» أن يكونوا أكثرَ نشاطًا مِثلما كان بمقدور ميسنر الرقصُ على قمة إفرست، أو كان بمقدور فرح أن يقتطع ٢٠ ثانيةً من زمن فوزه بالميدالية في لندن.
لكن هذا يدلُّ بالفعل على أنه من الوارد أن تكون حالتهم مُتأثرةً بعواملَ نفسيَّة. وبالفعل، أحدُ أقوى الاكتشافات العِلمية بخصوص مُتلازمة الإجهاد المُزمِن أنه حين يقتنعُ المَرْضى بأن حالتهم بيولوجية وغيرُ قابلة للعلاج، ويخشَون أن يكون الانخراطُ في نشاطٍ أمرًا مؤذيًا، فإن احتمال شفائهم ينخفضُ انخفاضًا كبيرًا. ويقول نوكس في هذا الصدد: «إذا اعتقَدوا أنها حالةٌ غيرُ قابلة للشفاء، تصبح غيرَ قابلة للشفاء.» رغم أن الإشارات الصادرة عن الجسم ذاتُ أهمية واضحة في تحديدِ وقت شعورنا بالتعب، فإن المخَّ في النهاية هو المُسيطر.
يُثير هذا أيضًا تساؤلًا حول ما إذا كان يُمكن استخدامُ العلاجات المعرفية والسلوكية لدفعِ المخ ببطء إلى العودة عن حدوده المُتطرفة. إذا كان التمرين المُتقطع يُفلِح مع الرياضيِّين عن طريق تعليم الحاكم المركزي أن مستوياتِ الجهد المُتزايدةَ آمنة، فهل من الممكن أن ينجَح هذا مع مرضى مُتلازمةِ الإجهاد المُزمِن؟
•••
عقَدَت سامانثا اتفاقًا مع صديقها وشقيقتها. كانت قد أُحيلَت إلى مُتخصِّص يُدعى بيتر وايت في مستشفى سانت بارثولوميو في لندن. طلبَا منها راجِيَين أن تمنحَه ستة أشهر فقط. وإذا ظلَّت بلا تحسُّن بعدها، فسوف يُساعدانها على إنهاء حياتها.
بعيدًا عن نوكس، كان وايت يستنبطُ أفكارًا مُشابهة عن مُتلازمة الإجهاد المُزمِن. وهو لا يستخدم مسمَّى الحاكم المركزي، لكنه يعتقد هو الآخَر أنَّ مجموعةً من البواعث — الجينيَّة والبيئية والنفسية — تُسيطر على الجسم وتُفقِد الجهازَ العصبي توازُنَه، فتُؤدي بالمخِّ إلى أن يهبطَ هبوطًا هائلًا إلى ما يعتبره مستوًى آمنًا من الجهد. في محاولةٍ لعكس اتِّجاه هذا التغيير، وضع مع زملاءَ له منهجًا يُسمَّى العلاج التدريبي التدريجي (جي إي تي)، الذي يهدف للعمل مثل شكل مخفَّف جدًّا من التدريب المتقطِّع.
تتمحور الفكرة حولَ وضعِ حدٍّ أدنى من النشاط يستطيع المريضُ ممارستَه بأمان، ثم زيادته تدريجيًّا. ولا بد أن تكون كلُّ خطوة صغيرةً، حتى لا يُجازفوا بحدوث انتكاسة. يُفيد مرضى مُتلازمة الإجهاد المُزمِن بشعورهم بإجهادٍ يفوق بكثير الأصحاءَ عند ممارسة تمارينَ ثابتةِ المستوى. لكن أثبتَ وايت أنهم بعد دورة من العلاج التدريبي التدريجي يقلُّ شعورهم بالتعب بعد الكمِّ نفسِه من التمارين، رغم أن لياقتهم البدنيةَ لم تتغيَّر. مثل الرياضيِّين حين يؤدُّون تمريناتِ العَدْو المتكرِّر، يُعيد هذا التمرينُ تدريبَ مخِّ المرضى بتمهُّلٍ على أن كلَّ مستوًى تالٍ من النشاط آمِن.
كذلك يستخدم وايت العلاجَ المعرفيَّ السلوكي (سي بي تي)، حيث يعمل مُعالجون نفسيُّون مع المرضى لمقاومة الأفكار والاعتقادات السلبية التي لديهم عن مرضهم. يستند هذا إلى اكتشافِ أنه ما دام المرضى يخشَون من أن يؤدِّيَ أيُّ جهد إلى انهيار، فسوف يظلُّ الإجهاد مُسيطرًا بقبضةٍ من حديد. يُشجِّع العلاج المعرفي السلوكيُّ المرضى على تجرِبةِ أفكارٍ وطُرقٍ أخرى للتأقلُم، واختبار ما إذا كان من المُناسب بذلُ قدرٍ قليلٍ من النشاط. والمأمول أن يُقلِّل هذا من خوفهم، ويُساعِدَهم على إدراكِ أن بعض الجهد من الممكن أن يكون آمنًا في جميع الأحوال، وأن لديهم فرصةً للتعافي.
اقترح وايت أن تُجرِّب سامانثا مزيجًا من العلاج التدريبي المتدرِّج والعلاج المعرفي السلوكي. وقد سألت معالجتها النفسيةَ قائلةً: «هل سأتحسَّن؟» فأجابتها: «بالتأكيد ستتحسَّنين.» ولأولِ مرة صدَّقَت سامانثا أنه قد يكون صحيحًا.
كان الهدف من تمرينها الأول مُقتصرًا على التقلُّبِ على الفِراش مرةً كلَّ ساعة. وكانت كلَّ بضعة أيام تَزيد نشاطَها زيادةً طفيفة حتى استطاعت أن تجلسَ مُنتصبةً لمدة خمس دقائق في المرة الواحدة. لاحقًا، حين غادَرَت الفراش، كان من الممكن أن تُحاول أن تطهوَ، لكنها كانت تنقسمُ إلى أجزاء. بأن تنزلَ إلى الطابَق الأرضي. ثم تُقطع البصل. وتعودَ إلى الطابق العلوي وتستلقيَ. ولما كانت شخصيةً مُبدِعة، فقد وجدَت صعوبةً في تقبُّلِ انعدام العَفْوية. إلا أن توخِّيَ الكمال الذي شعرَت بأنه يُسهِم في حالتها حينئذٍ ساعَدها.
وقد احتفظَت بمذكِّرةٍ بنشاطها، ومع مرور الشهور أصبحت قادرةً على فعلِ المزيد من الأشياء. فهي تقول متذكِّرةً: «السير لمدة دقيقتين حول البِناية. ثم السير ثلاثَ دقائق. لكن السير خمس دقائق كان من الممكن أن يجعلَني طريحةَ الفراش ثلاثةَ أسابيع.» كان عليها الالتزامُ بنظام، لا تَزيد على مستوى النشاط المحدَّد لها ولا تقلُّ عنه، مهما شعرَت بأنها على ما يُرام.
كانت إذا أفرَطَت في النشاط، خارَت قُواها. فهي تقول: «كان لا بد من انضباطٍ بالغ. كانت زلَّةٌ واحدة تعود بي إلى البداية.» كانت حين تخرقُ القواعدَ وتُحاول المبالغةَ في الحركة، تبدأ في الشعور بأن جسدها يَخذلها. «كنت أشعر بسخونةٍ من قدمي لرأسي، كأنني تسمَّمت. ثم كنتُ أظل مُنهَكةً طيلة أسابيع.»
استغرق الأمر منها خمسَ سنوات من العزيمةِ الراسخة، لكنها استطاعت في النهاية أن تشقَّ طريقها للخروج من الإجهاد، والعودةِ إلى الحياة الطبيعية.
•••
بدلًا من ذلك دعَت المجموعاتُ الممثِّلة للمرضى إلى منهجٍ يُدعى الوتيرة. وهو يُساعد المرضى على التأقلُمِ مع الحياة في الحدود الجسدية التي فرضَتْها الحالة، وتُشجعهم على ألا يفعلوا أيَّ شيء يقتربُ بهم من الإنهاك. كان ذلك سيُصبح منطقيًّا تمامًا لو كانت متلازمةُ الإجهاد المُزمن غيرَ قابلة للشفاء حقًّا. لكن، حسَب نظرياتِ وايت، يُمكن لتعزيز اعتقادات سلبية والعمل على إبقاء الحالة على ما هي عليه بدلًا من السماح للمرضى بالتعافي، أن يأتيَ بنتائجَ عكسية.
مَن الذي كان على صواب؟ قرَّر وايت وزملاؤه إجراءَ تجربةٍ حاسمة. فتعاوَنوا مع أكبرِ جمعية خيرية للمرضى في المملكة المتحدة، التي تحمل اسم «العمل من أجل مرضى اعتلالِ الدماغ المصحوب بألم العضلات»، لتصميمِ وإجراءِ دراسةٍ استغرقَت خمسَ سنوات. وقد ضمَّت الدراسة ٦٤١ مريضًا، قُسموا إلى أربع مجموعات. مجموعة ضابطة حصَلت على الرعاية الصحية المُعتادة فحسب؛ النُّصح بتجنُّب الإفراط في النشاط، بالإضافة إلى عقاقيرَ لأعراض كالاكتئاب والأرَق والألم حسَب الحاجة. أما المجموعاتُ الأخرى فقد حصَلَت على هذه الرعاية التقليدية، وإلى جانب ذلك إمَّا العلاج المعرفي السلوكي، أو العلاج التدريبي المتدرِّج، أو الوتيرة، الذي أصبح طريقةً علاجية (علاج الوتيرة التكيُّفي، أو إيه بي تي).
إذا كانت التجارِبُ السابقة قد لاقَت استقبالًا سيِّئًا، فقد قُوبِلَت هذه الدراسةُ بغضبٍ عارِم. فقد انهالَت على دورية «ذا لانسيت» الخطاباتُ التي تنتقدُ أساليبَ وايت. ورفضَت جمعيةُ «العمل من أجل مرضى اعتلال الدماغ المصحوب بألم العضلات» النتائجَ. ووصف أحدُ أساتذة الجامعة التجرِبةَ بأنها «غيرُ أخلاقية وغيرُ عِلمية» في شكوى من ٤٣ صفحةً إلى المجلة، بينما استخدم بعضُ المرضى الفيسبوك ليتساءلوا: «متى ستسحب «ذا لانسيت» هذه الدراسةَ المُخادعة؟»
•••
جادَل كاتِبَا المقال بأن العديد من الحالات الطبية على امتداد التاريخ قد تكون راجعة إلى «ميمات»، مثل اضطراب «دماغ السكك الحديدية»، وهو مزيجٌ من الإعياء والأعراض النفسية التي كانت تُصيب المُسافرين بالقطارات في منتصف القرن التاسعَ عشَر (الذي كان اختراعًا جديدًا حينها)، وكان يُعتقَد أنه ناتجٌ عن تلفٍ غيرِ مرئي في المخ ينشأ عن الاهتزازات أثناء السفر. وقالا إنه من الوارد أن تكون بعض جوانب مُتلازمة الإجهاد المُزمن تنتشر هي الأخرى بأسلوب الميم نفسِه.
في رأي وايت أن المشكلة تأتي، كما كان الحال دائمًا، من العقلية السائدة في الطِّب، التي ترى المرضَ إما عُضويًّا أو نفسيًّا. إذ يقول وايت: «لدى السوادِ الأعظم من الأطباء هذا الفَهمُ المزدوَج للعقل والجسد.» ويُردف قائلًا: «اذهب إلى طبيبٍ نفسي من أجل العقل وطبيبٍ بشري من أجل الجسد.» إنه تمييزٌ يترك مرضى مُتلازمة الإجهاد المُزمن أمام خيارَين فحسب؛ إما أن تكون حالتُهم عضوية، وغيرَ قابلة للعلاج في الوقت الحالي، وغيرَ مُتأثرة على الإطلاق بأيِّ عواملَ نفسية. أو أن يكونوا مُصابين بوسواس المرض واختلقوا الحكايةَ برُمَّتها. ولا عَجَب في أن يتخذوا مَوقفًا دفاعيًّا.
يدفع وايت بأنه بالأحرى تمييزٌ خاطئ. فالعقل والجسد يتفاعلان حتمًا ويعكس كلٌّ منهما الآخرَ، ويقول: «المرض النفسيُّ عضويٌّ في الوقت نفسِه، والمرض العضويُّ له بُعدٌ نفسي.» يكتشف العلماء على نحوٍ مُتزايد أن الاضطراباتِ النفسيةَ مثل الفصام والاكتئاب تعكس حالاتِ شذوذ بِنيويَّةً في المخ، بينما تُسبِّب مشكلات الأعصاب مِثل داء باركنسون أعراضًا نفسيَّة وكذلك جسدية.
يُشير وايت إلى أنه على الرغم من أن العلاج المعرفي السلوكي كثيرًا ما يُعتبر علاجًا نفسيًّا، فإنَّ له تأثيراتٍ عضويةً على الجسم. فقد بيَّنَت دراساتٌ عديدة أن الخضوع لدورةٍ من العلاج المعرفي السلوكي يؤدي، على سبيل المثال، إلى زيادةٍ ملحوظة في مادة المخ، أو أن بإمكانه التأثيرَ على معدَّلات هرمونات التوتُّر مثل الكورتيزول.
وإنه يُجادل بأنه من المحتمل أن يُساعد حدوثُ تحوُّلٍ أكبر في المواقف مرضى مُتلازمة الإجهاد المُزمن على تقبُّل فكرة تضافُر العوامل الجسمانية والنفسية في مرَضهم، دون خوفٍ مِن أن يُوصَموا بوصمةٍ ما. إن مُتلازمة الإجهاد المُزمن ليست إما عضويةً أو نفسية. إنها كلا الأمرَين.
•••
مضى عامان منذ تماثَلَت سامانثا للشفاء من مُتلازمة الإجهاد المُزمن. وقد قالت لي وهي تغمس قطعةً من الخبز الأبيض في سلاطة الحِمَّص: «إنني أفعل أمورًا أكثرَ من نساءٍ كثيرات في سنِّي. لقد ركبتُ الدرَّاجة لآتيَ إلى هنا. وأستطيع ترتيب قِطَع الزينة الخاصة بي!» لا يزال عليها توخِّي الحذر؛ فالذَّهاب في جولةٍ شاقَّة بالدرَّاجة، أو المبالغةُ في الإجهاد في العمل، قد يُنشط أعراضَها. وتقول: «لا بد لي من التراجع على المستوى الذهني والجسدي.»
لذلك صارت الآن تأخذُ إجازاتٍ مرَضيةً حين ينتابُها المرض، وتُقابل بعضَ الأشياء بالرفض. كما صارت تعمل مُعالِجةً بالفنِّ بدوامٍ جزئي، حيث تصنع الفَخَّار مع نُزلاء السجون ومَرْضى نفسيِّين بحالاتٍ مثل الاضطراب الثنائي القُطب والفصام. وتقول إن العمل بالصلصال يوفِّر لهم مساحةً آمنة للحديث. وتُضيف: «إذا صار الحديث صعبًا، بإمكانك الرجوعُ إلى الصلصال في الحال.»
بالطبع تنتهي تلك القصيدة بأغنيةٍ مُبهجة لعصفورٍ ضعيف؛ نابعة من المَوَات الكئيب للشتاء، رمزًا «للأمل المُبارَك».