تحدَّث معي
ما زلتُ أتذكَّر الأضواء الساطعة وتوم جونز (الاسم الذي اختاره الجرَّاح)، وغطاءً طويلًا أزرقَ يُغطي صدري، وعندما تحدَّثت مع صديقي عن أولِ شيءٍ خطَرَ على ذهني — المثلَّجات، كما تبيَّن — لأُلهِيَ نفسي عن الإحساس الغريب بالنبش النابع من داخل بطني. ثم رُفِعَت رضيعة، مغطَّاة بالدماء، عاليًا فوق الغطاء.
كان ذلك في أغسطس عام ٢٠٠٩. قُبيل ذلك بأيام، في الأيام الأخيرة من حملي في طفلتي الأولى، لم أكُن قلقةً قلقًا مُفرِطًا حيال الولادة. فقد كنتُ لائقة بدنيًّا وصحيًّا، وحضرتُ جميعَ فصولِ ما قبل الولادة. كان يوجد في المستشفى المحلِّي مركزٌ للولادة تحت رعاية القابلة، به كُراتٌ للولادة (كرات شبيهة بتلك التي تُستخدَم في التمرينات الرياضية تُمارِس بها السيداتُ تمريناتٍ أثناء الحمل لتيسير الولادة) وأحواضُ مياه. كنت مُتحمسةً للشعور بأول انقباضات، وخطَّطتُ لخوض المخاض بسلاسةٍ مع بعض تدليك الاسترخاء والتنفُّس العميق.
لكن لم يجرِ الأمرُ على ذلك المِنوال. فطَوالَ أيامٍ من المخاض المبكِّر لم أشعر بأي انقباضات واضحة، وإنما فقط بألمٍ بالغ في الحوض جعلَني غيرَ قادرة على الأكل أو النوم. لم تبدُ الأمور على ما يُرام، ومع وصولي إلى المستشفى — كان الارتفاع في ضغط الدم يعني أنني غيرُ مؤهَّلة لمركز التوليد؛ لذلك انتهى بي الحالُ في عنبر الولادة — كنت مُرهَقة ومُرتعِبة.
على الفور فضَّت قابلةٌ ماءَ رَحِمي، وأوصلَتني بمُراقبٍ لقلب الجنين، وأعطتني هرمون أوكسيتوسين صناعيًّا لتحفيز انقباضاتي. عندئذٍ أدركتُ أن الألم الشديد الذي كنت قد شعرتُ به في السابق كان مجردَ وجعٍ طفيف. الآن بلَغ ألمي أشدَّه؛ كان حوضي يتمزَّق بلا شك، لا بد أن ثَمة خطأً ما. وبعدما استولى عليَّ الخوفُ والألم، بدأت أشعر بالذُّعر.
بدَت القابلةُ مُستاءة. فقد كنتُ من وجهة نظرها لا أزال في مرحلةٍ مبكِّرة نِسبيًّا من المخاض، وكان ينبغي أن أتحمَّلَها على نحوٍ أفضل. أردتُ أن أحتجَّ بأنني تسلَّقت جبالًا من قبل. وغطستُ مع أسماك القرش (حسنًا، قروش الشِّعاب المَرجانية على الأقل). وأنا حاصلةٌ على حزامٍ أسود في الجوجيتسو! لستُ خائرةَ القُوى عديمةَ الإرادة أو الصبر على الألم. لكن يصعب الكلامُ بينما وعْيُك يتبدَّد في شوشرةٍ صارخة. ظلَّت القابلة تُصرُّ بين الانقباضات على أن هذا كلَّه طبيعي تمامًا. وقد جعلتني كلماتُها أشعر بأنني وحيدة. إما أنها لم تكُن مُدرِكةً ما كنتُ أشعر به، أو أنني كنتُ فاشلة فشلًا ذريعًا في الولادة.
اكتشفتُ بعد ذلك بمدةٍ طويلةٍ أن الجنين كان في وضعٍ صعب، حيث كان وجهُه للأمام بدلًا من أن يكون للخلف؛ أي إنه بدلًا من دخولِ قَناة الولادة بسلاسة، انحشَرَت جُمجمته فيها بشكلٍ خطير. أحيانًا ما يستديرُ الأطفال في هذا الوضع حين يكونُ لديهم الوقت. لكن بعد أن فضَّت القابلةُ ماءَ رَحِمي وأعطتني أوكسيتوسين، اختفى السائلُ الذي كان يجعل حركةَ الجنين سلسةً، وظل رحمي المُنقبضُ يدفع جمجمتَه بلا هَوادة لأسفل، والعظامُ تحتكُّ بالعظام.
طلبتُ تخديرًا فوق الجافية، فاختفى الألمُ كالسحر. لكن كما يحدثُ أحيانًا بعد تخديرِ فوق الجافية، تباطأتِ انقباضاتي. وقضيتُ الأربع والعشرين ساعةً التاليةَ مُستلقيةً على ظهري تُحيط بي الأسلاك والمحاليل والأجهزة. بعدما غادرَت القابلة الأولى منذ وقتٍ طويل، ظلَّت قابلاتٌ أخْرَيات يتوافدن عليَّ ويَمْضين. تفحَّصْن المخطَّطات البيانيةَ ورفَعْن الجرعات، وأجرَين فحوصاتٍ داخليةً للتحقُّق من تطورِ حالتي، وشكَكْنَ فروةَ رأسِ طفلتي بإبرة للتحقُّق من تطورِ حالتها. وفي النهاية أخبرني طبيبٌ بأنها عالقة، وأنني سأحتاج إلى جِراحةٍ قيصريةٍ عاجلة.
لم أحمل الطفلةَ في البداية؛ فقد كنتُ أشعر بغثيان وأرتعش بشدةٍ بعد الجِراحة ولم يستحسن أحدٌ الفكرة. ومن دون هذا التلامُس الأول، عانَت ابنتي لاحقًا في الرضاعة الطبيعيَّة. بدأت حياتَها باكيةً وجَوْعى في مهدٍ قوائمُه من البرسبيكس (نوع من البلاستيك الشفَّاف) (فقدَت أكثرَ من ١٠٪ من وزنها في أسبوعها الأول)، بينما تعرَّضتُ للتوبيخ ليلًا ونهارًا بسبب حالتها من مجموعةٍ أخرى من القابلات والزائرات الصحِّيات.
جعلَتني إحداهن أمضي ساعاتٍ أعتصر قطراتٍ من اللبأ (الحليب الذي يُفرَز بعد الساعات الأولى من الولادة) العزيز في مَحاقنَ صغيرةٍ (وهو الأمر الصعبُ في العتمة حين يكون المِصباحُ الوحيد المُتاح على الجدار خلفَ رأسك)، ثم تأتي التاليةُ في النوبة وتُؤنِّبني على تركي طفلتي في مَهدِها. وظلَّت أخرى تحشر ثديَيَّ في فمِ ابنتي كأنها تحشو دجاجة. تساءلتُ كم يمكن أن يصمد إنسانٌ من دون نوم.
بعد أربعة أيام ونوباتِ هلعٍ مُتعددة، سُمِح لي بالعودة إلى المنزل. كنتُ في غاية الامتنان أنني رُزِقت بطفلةٍ مُعافاة، لكنني ظللتُ أتساءل عما إذا كانت ثمة طريقةٌ أخرى.
•••
كذلك تتعرَّض النساءُ اللواتي يَلِدن بعمليةٍ قيصرية لمُضاعَفات في حالات الحمل التالية، منها تمزُّق الرحم ومشكلاتٌ في المَشيمة. كما أنهنَّ في الغالب لا يُرضِعن أطفالَهن رضاعةً طبيعية (وهي التي تَقِي الأطفالَ من العدوى)، وقد يكنَّ أكثرَ عُرضةً للاكتئاب واضطرابِ ما بعد الصدمة (مما يؤثِّر على كيفية عنايتهن بأطفالهن). فهل هذا حقًّا أفضلُ ما في وُسعنا، مع كل التطوُّرات في الطب الغربي؟
ترى إلين هودنت، أستاذ أبحاث تمريض مرحلة الولادة في جامعة تورنتو بكندا، أنه لا بد أن نَتَّبع نهجًا مختلفًا. وتقول إنه تبيَّن أنَّ ثمة شيئًا يمكن الاعتمادُ عليه في تقليل الألم والكرب واحتمالِ وقوعِ مُضاعفاتٍ وتدخُّلاتٍ أثناء الوضع. لكنه ليس عقارًا أو تصويرًا ضوئيًّا أو إجراءً جِراحيًّا. وليس وضعَ ولادةٍ معقَّدًا، أو حتى جَناح مستشفًى على أحدثِ طِراز. إنه بقاء نفس مُقدِّم الرعاية معكِ طوالَ مدَّة الولادة.
تقول هودنت إن الأمر ليس كذلك. وترى بدلًا من ذلك أن النهجَ المُندفع نحوَ التدخُّل في هذه الدول يتفوَّق على أيِّ تأثيرٍ للرعاية المُتواصلة. وتقول: «كلُّ شيء تحكمُه الساعة. يجب أن يُولَد طفلُكِ خلالَ مدةٍ زمنية معيَّنة أو ستقعُ مشكلة. ذلك ليس قائمًا على أدلة، لكن الكل يعتمدُ على الساعة.» إن لم تَسِر الأمور وَفْق الجدول الزمني — مِثل ألَّا يبدأ المخاض في ميعاده، أو كانت تطوراته أبطأ من المُعتاد، أو أن تستغرقَ الأم وقتًا أطول من اللازم في دفعِ طفلِها إلى الخارج — يُساعدها الطاقم الطبي بالعقاقير أو المقصَّات أو الجفت أو الجِراحة.
«إننا في بيئةٍ تحصُل فيها ثُلثا النساء على أوكسيتوسين أثناء المَخاض، ويخضَعْن كلُّهنَّ لمراقبةٍ مستمرة لأجنَّتِهن؛ لذلك فهن محصوراتٌ في الفِراش. يتلَقَّين تقطيرًا وريديًّا، ويتناوَلْن عقاقيرَ قوية، وتحصل ثُلثا النساء على الأقل على مُسكِّن فوق الجافية أثناء المخاض.» تدفع هودنت بأنه لا مفرَّ من أن ينتهيَ الحالُ بالنساء اللواتي يُحاولن الولادة في مثلِ هذه الظروف إلى أن يحتَجْن إلى معدَّلاتٍ مُرتفعة من العقاقير والجِراحات، سواءٌ أكان لديهنَّ مقدِّم رعاية يدعمُهن أم لا.
•••
ماذا يحدث إذن حين تلدُ النساء خارجَ تلك البيئة المتقدِّمة تكنولوجيًّا، في المنزل مثلًا؟ إنه الخيار الذي تتخذُه ٣٪ تقريبًا من النساء في المملكة المتحدة، و١٪ فقط في الولايات المتحدة. حين تلدُ النساء في المنزل، غالبًا ما تبقى معهنَّ القابلةُ نفسُها طَوال الولادة، بينما لا تتوفَّر أغلبُ العقاقير والتدخُّلات الطبيَّة من دون الانتقال إلى المستشفى.
يبدو أنه حين نستبدل بالتكنولوجيا المتوفِّرة الاهتمام بالحالة النفسية للمرأة، تصيرُ هي وطِفلُها في حالٍ أفضلَ بكثير؛ ليس من الناحية الذهنيَّة فقط، بل والبدنية أيضًا.
•••
وصلت جاكي تومكينز أولًا، وهي تتَّسِم بالكفاءة والخبرة وفي غاية الهدوء. ازداد الألمُ بأسرعَ ممَّا توقَّعت، فكانت كلُّ انقباضةٍ بمثابةِ قبضةٍ مُوجِعة تستنزف كلَّ طاقتي، وكل واحدة أقوى من سابقتها. وفي حين دخلتُ مخاضي الأول تَحْدوني الثِّقةُ بسذاجة، كنتُ أعرف هذه المرةَ مدى الصعوبة التي يُمكن أن تصيرَ عليها الأمور. قلت لجاكي: «لا أظن أنني قادرةٌ على فعل هذا.» فجاءني الردُّ العملي: «بالطبع تستطيعين.» مثلَ أمٍّ تُطَمئنُ طفلها في أول يوم له بالمدرسة. كنت قد تعرَّفتُ على جاكي ووثقتُ بها خلال مدَّة حملي؛ لذلك فإنه في حين لم تُشعِرني العباراتُ المُطمئِنةُ الصادرة من القابلات اللواتي كنَّ يتبدَّلن باستمرار خلالَ مخاضي الأول إلا بالعزلة، فهذه المرةَ أصابت كلماتُها الهدفَ. كان يوجد ألمٌ لكن مع إقصاء الخوف؛ لم يكن شيءٌ يُذكَر مقارنةً بالفوضى الطاغية الغامرة التي شعَرتُ بها من قبل. في النهاية دخَلتُ في وتيرة: أشعر به يرتفع، فاسترخى، وأغلقَ عينيَّ، وأخرج زفيرًا. كان مِثل الانحناء تحت موجة في المياه الساكنة بدلًا من مقاومة الأمواج المُتلاطمة.
بعد ستِّ ساعات أو نحوِ ذلك، سمعتُ صوتًا. كان هديرًا حَلْقيًّا، بدا أنه صدرَ مني. سألتُ في خوف: «ما الذي يحدث؟» ابتسمَت جاكي. «إنك تَدْفعين طفلَكِ للخروج.» اكتشفتُ أن هذا كان ألمًا مُختلفًا، مثل التمزُّق والتشقُّق من الداخل. لكن كان قد فات أوانُ التراجع. ولحسنِ الحظ أن هذه المرحلةَ الأخيرةَ دائمًا ما تكون قصيرةً؛ وقد يكون المخاضُ بعد دقائقَ معدودة. وصلَت قابلتي الثانية، مستعدَّةً للحدَث الكبير. كانت إلكي هيكيل امرأةً ألمانيةً ضخمة ووَدودة، وكانت ترتدي ملابسَ زاهية الألوان وتحبُّ شاي إيرل جراي. كانت قد سمعَت الصوتَ هي الأخرى. وقالت بارتياح: «لم يبقَ وقتٌ طويل.» واستكانت على الأريكة.
كان وصولها مُطمئِنًا؛ إذ كان بمثابةِ خيطٍ آخرَ في شبكة الأمان التي حاكَتها جاكي حولي. لسوءِ الحظ كان هذا الطفلُ أيضًا في وضعٍ حرج؛ إذ كان كُوعه عالقًا برأسه، وكان يتقدَّم في قناةِ الولادة ببطءٍ مُحتكًّا بها. بعد ساعتَين، راح شعاع الشمس يُطِلُّ من خلال مِصراعَي النافذة، وأخذَت أقدامُ القادمين إلى لندن تدهسُ أوراق الخريف وهم ماضون إلى أعمالهم. لكن لم يكُن الطفلُ قد أتى بعد. كنتُ مُنهَكة، وبدأ الهلعُ ينتابني مرةً أخرى.
كنت قد ظَلِلتُ أدفع الطفلَ لمدةٍ أطولَ من التي تسمح بها المبادئ التوجيهية للرعاية التقليدية. في هذه المرحلة، كانت القابلات التابعات لهيئة الخدمات الصحية الوطنية سينقُلنَني في عربةِ إسعاف إلى المستشفى حتى يستخرجَ طبيبُ التوليد الطفل، مُستعينًا بمِقصَّات وجفت، أو على الأرجح (بسبب تاريخي السابق) بولادةٍ قيصريَّة أخرى. من شأن هذا أن يضمنَ ولادةً في الوقت المُناسب. لكن قد يكون للجِراحة العاجلة مَخاطرُها، التي من بينها صعوباتٌ محتملة في حملِ الطفل على الرضاعة الطبيعية. كما أن البقاء في المستشفى وقضاءَ وقتٍ أطولَ في النقاهة سيجعلُني أقلَّ قدرةً على العناية بابنتي ذات الثلاث السنوات في هذا الوقت الحَرِج من حياتها.
بدلًا من ذلك واصلَت جاكي وإلكي مُراقبةَ الطفل، وأكَّدَتا لي أنه ما دام كلُّ شيء يبدو على ما يُرام، فلم تكن ثَمة حاجةٌ إلى التدخل. قالتا لي: «إنكِ تُبلين بلاءً رائعًا. سيأتي في ميعاده.» وقد كان. كانت تلك هي اللحظةَ التي تغيَّرَت فيها الإحصائيات؛ اللحظة التي تحاشيتُ فيها جِراحةً قيصرية طارئة، واستبدلتُ بها ولادةً خاليةً من المضاعفات. كان هذا إثباتًا، جرَت أحداثُه على أرضِ غرفةِ معيشتي، لما تُظهِر التجارِبُ أنه ينطبق على عشَرات الآلاف من النساء؛ أن الطُّمأنينةَ الصادرةَ من شخصٍ نثق فيه ليست رفاهيةً مبتذَلة. إن الكلماتِ المناسبةَ يمكن أن تكون بالقوة الكافية لتحلَّ محلَّ تدخُّلٍ طبي عنيف، وتغير النتائج الجسدية.
بعد دقائقَ معدودة انزلقَ ابني إلى الماء. تحسَّسَت جاكي بحثًا عنه في الضوء الخافت ووجَّهَته إلى ذراعَيَّ؛ كان شاحبًا ومُنتفخ العينَين وفي حالةٍ مُمتازة. كنتُ أرضِّعه على الأريكة وفي يدي الأخرى قدح شاي، في نفس الوقت الذي نزلَت فيه ابنتي وقالت مرحبًا، بعد أن كانت قد نامت طوالَ العملية برُمَّتها.
•••
لكن ما تعلَّمتُه من الولادتَين المُتناقضتَين لطفلَيَّ هو مدى أهميةِ الدعم العاطفي في أي مكان تُنجب فيه النساءُ أطفالَهن. فنحن نستجيب بطُرقٍ مُختلفة جدًّا تجاه الرعاية حين تكون من شخصٍ نعرفه ونثقُ فيه وليس من مجموعةٍ من الغرباء، وهذا لا يؤثِّر على النتائج النفسية فحسب، ولكن على النتائج الجسدية كذلك. من المؤسفِ أن نظامنا الطبيَّ في العموم يطلبُ من النساء الاختيارَ بين نقيضَين؛ فبإمكانهنَّ إما الحصولُ على رعايةٍ شاملة في المنزل، لكن من دون توفُّر تكنولوجيا طبية تُنقذ الأرواح على الفور، أو رعايةٍ تدخُّلية تفتقر إلى الجانب الشخصي في المستشفى.
تقول هودنت إنه لو كانت دراساتُها قد أشارت إلى أن النساء لا بد أن يحصُلن على دواءٍ جديد باهظِ الثمن أثناء المخاض، «لكان الكلُّ قد حصل عليه في اليوم التالي.» فتقديمُ عقاقيرَ جديدةٍ ينسجم بسهولة مع النموذج الحالي للرعاية الطبية. أما تغيير طريقة العناية بالنساء بدلًا من ذلك فإنه لن يكون أكثرَ تكلفةً بالضرورة، لكنه سيتطلَّب إجراءَ تغييراتٍ أكبر في طريقة تنظيم أقسام المستشفيات، وحسَبما ترى هودنت، لا يوجد حماسٌ للتصدِّي لهذه المشكلة. «إنه يستلزم تحولًا لم يحدث في مواقفِ الأطباء والممرضات والقابلات وإداريِّي المستشفيات وفي سلوكياتهم.»
في الوقت ذاتِه، لا تزال النساء اللواتي يَلِدن في المستشفيات يَحصلن على كل التدخلات الطبية التي يحتَجْن إليها، لكنهن يحصلن على الكثير من التدخلات التي لا يحتجن إليها.
•••
صاح دانيال ذو الثمانية الأعوام بحماسٍ قائلًا: «سبايدرمان!» وهو يُريني قناعَ أكسجين زيَّنه بالملصَقات. كانت ثَمة دائرةٌ من رجال سبايدرمان صغار يتراقصون حول حافَة الفم. كان هو جالسًا على حافة الفراش، يهزُّ ساقَيه، مُرتديًا رداءَ مستشفياتٍ أخضرَ مزيَّنًا بالنجوم والقلوب.
دانيال فتًى لطيفٌ من أصولٍ إسبانية ذو شعرٍ داكن بقصةِ شعر سبايكي (على هيئة أشواك)، ولديه كيسٌ في المخ. يُتابع الأطباءُ الآفةَ عن كثب للتأكدِ من عدم نموها، وقد كان هنا في مركز بوسطن الطبي (بي إم سي) في ماساتشوستس من أجلِ إجراء تصويره الدوري بالرنين المغناطيسي. قال مجدَّدًا: «سبايدرمان!» تغضَّنَت أنفُه، وكشَف عن أسنانه الفوقية في ابتسامةٍ عريضة.
مثل مركز هاربورفيو، يَخدم مركز بوسطن الطبيُّ شريحةً سكانيةً صعبة. فالمرضى هنا في الغالب فقراءُ ومحرومون. والكثير منهم بلا تأمينٍ صِحي، والكثير لا يتحدَّثون الإنجليزية. حين وصَلتُ في الساعة الثامنة من صباحِ يومٍ باردٍ غائم، وجدتُ مبانيَ المستشفى حديثةً وباهرة، لكن الجو العام تَغْشاه كآبةٌ طفيفة. كان بالخارج رجلٌ ضخمٌ يرتدي قبَّعةَ فريق اليانكيز ويُفصح قائلًا: «سوف أصطحبُكِ معي إلى المنزل يا عزيزي.» قبل أن يلتمس بعض الفكة.
في بَهْو الدخول الشبيه بالكهف، كان ثَمة مُراهقٌ متَّشِح بالسواد ينطق بالسِّباب مُتحدثًا في هاتف آيفون وهو يدور حول النخلات الشائكة المزروعة في أصُصٍ ضخمةٍ مُتباعدة على الأرض. وراءَ بابٍ على اليسار بدَت حجرةُ انتظار العلاج بالإشعاع، حيث كان المرضى الذين بدا عليهم الضجرُ يُشاهدون نقاشًا حول فستان زفاف كيم كاردشيان على التلفزيون. لكن عندما تابعتُ المُضيَّ في الممرِّ، تغيَّرَت الأجواء. وصَلتُ إلى مساحةٍ صغيرة مُحاطة بالستائر، لكنها مُبهجة ومزيَّنة برسومات الأطفال وصور الحيوانات. كان يوجد لوحةُ دبابيس غطَّتها صورٌ مُقتطَعة لهِررٍ صغيرة. وكانت توجد خِزانةٌ مليئة باللعب. وممرِّضة الرنين المغناطيسي باميلا كوزيا، تبتسم، وقد انتعلَت حذاءً زهريًّا بنقوشٍ وردية.
مهمة كوزيا هي جعلُ أصغرِ مرضى المستشفى يجتازون التصويرَ بالرنين المغناطيسي. وهذا يتطلَّب الاستلقاء بلا حَراكٍ في الأنبوب الضيِّق لجهاز التصوير لمدة ساعة تقريبًا، وهي تجرِبةٌ مُضنية حتى لأغلب البالغين. وهي تعمل على فِعل ذلك دون تخديرهم، حينما يكونُ بالإمكان ذلك: «ليست مهمَّتنا أن نُعطيَ أيَّ أحد عقاقيرَ ما دُمنا لسنا بحاجة إلى ذلك.» على حدِّ قولها. إنها تُخدر الأطفال الأحدثَ سنًّا والأكثرَ توترًا. لكن حتى في هذه الحالة، يمكن لجعلهم يدخلون جهازَ التصوير ويستلقون على الطاولة للتخدير أن يُمثِّل تحديًا.
مثال ذلك الأطفالُ مثلُ دانيال. إنَّ لديه تأخرًا في النمو. وأمه لا تتحدث الإنجليزية، وينتابُها التوتر في المستشفى؛ مما ينتقلُ إلى ابنها. كما أنَّ بعض عمليات التصوير التي أجْراها سابقًا كانت مؤلِمة، مثال ذلك حين خرَجَت الإبرة التي كانت تحمل العقارَ المخدِّر من وريده وبدأ السائل يتسرَّب إلى ذراعه. وصل الأمر إلى حدِّ أن دانيال كان يَشرَع في البكاء بمجردِ أن يرى كوزيا في البهو.
أما الآن فقد صارت الأمورُ مختلفة. حين جاء دانيال اليوم، كان هادئًا وصامتًا، وعيناه متَّسعتان. ناولَته كوزيا بعضَ السيارات المصنوعة من عُلَب الكبريت (كانت تعرف أنها المفضَّلة لديه)، ثم أعطَته قناعَ الأكسجين ليحمله. قالت بنبرةٍ مَرِحة: «ها هو قناع الطيَّار الخاصُّ بك. حسنًا يا سيد دانيال، هل تريد العَلْكة أم الفراولة؟» ابتسم لأولِ مرة. وقال: «علكة!» رشَّت كوزيا القناع كما ينبغي فامتلأ الجوُّ برائحة علكة شديدة الحلاوة. أمسك دانيال قناعَه الذي عُطِّر لتوِّه باعتزاز، وراح يعبث بخرطومه. ما إن زيَّنه بالمُلصَقات حتى أخذَ يتوثَّب حماسًا.
ثم حان وقتُ الذَّهاب إلى حجرة التصوير. كان مَدخلُ الجناح غايةً في الترهيب. فهو مُحاط بعلامات التحذير على الأبواب والجدران والأرض. «توقَّف!» (تحذيرٌ مكتوب) على لوحاتٍ حمراء. و«خطر.» على مربَّعات بالأصفر والأسود. «احترسْ، مجال مغناطيسيٌّ دائمُ النشاط.» على الجهة الأخرى من العتبة حجرةٌ كبيرة مليئة بالمعدَّات، المحمولة على أكشاكٍ ذات عجلات بشاشاتٍ وأسلاك وأزرار ومصابيحَ وامضة. ويوجد كشَّافات ومقصَّات وأسطوانات غاز وأجهزة تسريب وحقائب مضخَّات وعلب قفَّازات وأنابيب كريم. وفي وسط الحجرة، أنبوب على شكل كعكة الدونات، يَصدُر عنه أزيزٌ عالٍ؛ كان هذا هو جهازَ التصوير ذاتَه.
إنه يولِّد مجالَ طاقةٍ أقوى عشراتِ آلافِ المرَّات من المجال المِغناطيسي للأرض؛ مما يعني أن أيَّ غرض مَعدِني يدخل الحجرةَ سهوًا — قلم أو ساعة أو مشبك ورق أو قُرط — من الممكن أن يندفعَ نحوَ جهازِ المسح (وأيِّ شخص بداخله) بسرعةٍ مُميتة. إنه كبيرٌ ومَهيب، وله طاولةٌ ضيِّقة مُنزلقة للمريض تُذكِّرني بالنقَّالات المستخدَمة في إدخال الجثث وإخراجها من حجرات التجميد في المَشرحة.
وصلت كوزيا بدانيال إلى الباب. الآن عليها وضعُه على تلك النقَّالة.
•••
ليس بالضرورة أن تكون مريضَ حروق أو رضوح أو في حالة وضع؛ لتُواجه إجراءً طبيًّا مُزعجًا أو مؤلِمًا. يخضع ملايينُ الناس سنويًّا ليس فقط لعملياتِ تصويرٍ ضوئي، ولكن لإجراءاتٍ مُتوغِّلة مثل الخزعات وجِراحات ثقب المفتاح وهم مُستيقظون. على عكس الجِراحة المفتوحة، التي تتضمَّن قطْعَ شقٍّ كبير في الجلد، في جِراحة ثقب المِفتاح يعمل الجرَّاحُ من خلالِ ثقبٍ صغير، مُسترشدًا بصورٍ من كاميرا في طرَفِ أنبوب.
وتلتئمُ الجِراح أسرعَ مما تلتئم في الجِراحات المفتوحة، وغالبًا ما يستطيع المرضى العودةَ إلى منازلهم في اليومِ نفسِه. ولا يحتاج المرضى في العموم إلى تخديرٍ عام، وإنما يتلقَّون مُخدرًا موضعيًّا ممزوجًا بعقاقيرَ مهدِّئة. لكن على الرغم من الفوائد، فإن الاستيقاظَ أثناء الخضوع لجِراحة من الممكن أن يكون مسألةً مروِّعة. إن الأعراض الجانبية الخطيرة تحدُّ من كميات العقاقير المهدِّئة التي يستطيع الأطباءُ إعطاءها دون أذًى، وعادةً ما يُفصح المرضى عن مستوياتٍ مُرتفعة من التوتُّر والألم.
في كل تجارِب لانج، أفصح المرضى الذين تلقَّوا «حديث المُواساة» عن شعورهم بقدرٍ أقلَّ كثيرًا من الألم والقلق عن أولئك الذين تلقَّوا الرعايةَ العادية فقط. في تجرِبةٍ على ٢٤١ شخصًا خضعوا لإجراءاتٍ في الكُلى والأوعية، بلغَت درجاتُ الألم في مجموعة التدخُّل درجتَين ونصفًا من عشرة في ذروتها مقارنةً بسبعٍ ونصفٍ في المجموعة الضابطة، أما القلق، بدلًا من الارتفاع باضطراد، فقد انخفض إلى صفر.
من المجالات التي تتمنَّى أن تُحدِث فيها تحولًا التصويرُ بالرنين المغناطيسي مثل حالة دانيال. إذا كان المرضى في حالةٍ من التوتر البالغ التي لا تسمح بالاستلقاء دونَ حَراك في جهاز التصوير لمدةِ ساعة تقريبًا من أجل فحصهم، فإنهم يضطرُّون إلى إلغاء التصوير؛ مما يَزيد من الظاهرة المسمَّاة «معدل الكلوسترو» (فشل الرنين المغناطيسي بسبب رُهاب الحبس). تقول كيلي بيرجيرون، مديرةُ مرفق الرنين المغناطيسي في مركز بوسطن الطبي، إن تخفيضَ معدَّل الكلوسترو مُعاناةٌ مستمرَّة. وتُعلِّل قائلةً إن التصوير بالرنين المغناطيسي من الممكن أن يكون مُفزعًا أيَّما فزعٍ للمرضى من أمثال الذين في مركزِ بوسطن الطبي؛ لأنهم في الغالب يفتقرون للتعليم، وليسوا على درايةٍ بالطب. «إنهم ليسوا على دراية حقًّا بما يحدُث لهم. لذلك فإنَّ إخضاعهم لهذا النوع من التكنولوجيا يكون مُخيفًا.»
تقول بيرجيرون إنه عند عجزِ المرضى عن إكمال فحص الرَّنين المغناطيسي في أول مرة، لا بد أن يَعودوا من أجلِ موعدٍ ثانٍ، غالبًا بمساعدةِ عقارٍ مهدِّئ. لكن إذا كانوا قلِقين جدًّا فقد لا يُجدي العقار. «إنهم يُقاومون العقار. ما قد يُفقِد أحدَ الأشخاص الوعيَ لأسبوعٍ يجعل هذا المريضَ في فورةٍ من النشاط.» لذلك فإنهم يضطرُّون إلى العودة مرةً ثالثة، وربما يخضعون لتخديرٍ عام، بكل ما يترتَّب على ذلك من مَخاطرَ صحيةٍ ومرحلةِ نقاهة وتكلفةٍ مادية.
•••
«ستشعر بوخزٍ بعد قليل!» «ستشعر بنخزةٍ حادَّةٍ أخرى خلالَ دقيقة.» «سوف تشعر ببعض الحرقة.»
تحذيرُ المرضى من الألم أو الضيق المُوشِكين على الشعور به هو عنصرٌ أساسي في الرعاية الطبية التقليدية. لكن لانج ترى أننا نكون أكثرَ عُرضة لتأثير النوسيبو أثناءَ الإجراءات الطبية مثل التصوير الضوئي أو الجراحات، وأنَّ إخبارنا بقدرِ الأذى الذي ستُلحِقه بنا الأشياءُ لا يَزيد ألَمَنا إلا سوءًا. تقول لانج محتجَّةً: «بمجرد أن تطأَ بقدَمِك مرفقًا صحيًّا أو عيادةَ طبيبِ أسنان، تصير في حالةِ تنويمٍ مغناطيسي. إذ تكون لديك قابليةٌ كبيرة جدًّا للإيحاء.»
لذلك فجزءٌ أساسي من نهج «حديث المواساة» الذي طوَّرَته لانج هو التخلصُ من اللغة السلبية أو المُخيفة. بدلًا من إخبار المرضى باستمرارٍ كم سيُعانون من الألم، تقترح لانج التحذيرَ من أيِّ احتمالات سلبية مسبقًا أثناء مرحلة الموافقة الواعية. «لكن بعد كل ما تم، وبعد أن صار المريضُ أمامك، لستَ بحاجةٍ إلى أن تقول إن الأمر سيُشعره بوخز أو حرقة.»
درَّبَت لانج مؤخرًا فريقَ بيرجيرون على استخدام «حديث المواساة». رغم أن بيرجيرون تعتقدُ أن فريقها يتعاملُ بالفعل بحساسيةٍ مع المرضى، فإنها تقول إن لانج ساعَدَتهم في إعادة النظر في اللُّغة التي يستخدمونها أثناء إجراءات التصوير. قبل تدريبهم كان أفرادُ الطاقم يُحذِّرون المرضى روتينيًّا من ضيقٍ وشيك، حين كانوا مثلًا يُوشِكون على الحقن بصبغة التباين، التي تُساعد على ظهور أنسجة معيَّنة بصورةٍ أوضح في المسح. تقول بيرجيرون: «لم نَعُد نذكر وخز الإبرة أو النحلة. لقد تخلَّصْنا من كل ذلك. صِرْنا نقول: «سوف أُعطيك صبغة التبايُن.»» وبدلًا من حبسِ المرضى في جهاز التصوير، صار الطاقم يجعلهم مُستريحين. وصار زرُّ الهلع يُسمى زرَّ الاستدعاء.
من العناصر الأخرى في نهجِ لانج حثُّ المرضى على تخيُّلِ صورٍ إيجابية. أحدُ أكثر الأجزاء رهبةً في التصوير بالرنين المغناطيسي هو التثبيتُ في «ملف الرأس»، وهو قِناعٌ بلاستيكيٌّ يُثبَّت في مكانه فوق الوجه. الآن صارت بيرجيرون وزُملاؤها يُوحون للأطفال بأنهم يَطيرون في مركبةٍ صاروخية، أو أنَّ ملف الرأس هو قناعُ كرة قدم. أما الكبار، فقد يُوحون لهم بالاستلقاء على طاولةٍ للتدليك، بل ويعرضون عليهم الاختيارَ بين العلاج العِطْري بأقراصِ البرتقال أو اللافندر لتعزيزِ وهمِ ذَهابهم إلى المُنتجَع.
على الرغم من نتائجِ لانج الإيجابية، فإنَّ بيرجيرون تتوقَّع أن يَنْشب صراعٌ لإقناع المؤسسة الطبية بتطبيق «حديث المواساة». إذ تقول: «لأنه في الحقيقة ليس دواءً على الإطلاق، وإنما مجردُ طريقةِ تفكير. ومن الصعب جدًّا أن تُدخِل أداةً أو طريقةَ تفكير من ذلك النوعِ في نظامٍ صِحي غربي، تُوجِّهه الاختباراتُ والنتائج.» لكنها تقول إنه منذ بدأ فريقها استخدامَ هذا المنهج صار المرضى أكثرَ قابلية للمُضيِّ في اختباراتهم، وصارت عملياتُ التصوير تجري أسرعَ مع مقاطعاتٍ أقل، وانخفضَ عدد المرضى الذين احتاجوا إلى التهدئة بالعقاقير.
تقول بيرجيرون إن الأفضل من ذلك «أنني لم أرَ منذ مدةٍ طويلة طفلًا يصرخ أثناء دخوله. وقد كان ذلك أحدَ أكبر فوائدِ هذا الأمر برُمَّته.»
•••
عبَرَت كوزيا بدانيال عتبةَ الخطر إلى حُجرة جَهاز التصوير. وسارَت به حول الأنبوب البُنِّي الفاتح، يُشاهدهما أفرادُ الطاقم الطبي في مَعاطفهم البيضاء من خلالِ نافذة من حُجرة التحكم المُجاورة. «هذه هي الحجرة الكبرى. يوجد بداخلها الكاميرا الكبيرةُ الضخمة.»
شجَّعَت دانيال على أن يضربَ جانب الأنبوب براحةِ يده، ثم أشارت إلى الطاولة. «تعالَ واجلس هنا.» صَعِد قفزًا وواصلَت هي الكلام. «ها هو قِناع الطيَّار الخاصُّ بك. فكل المَركبات الفَضائية بحاجةٍ إلى قناعِ طيَّار. ما رأيك في الحصول على بعض المُلصَقات على بطنك؟ واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة.» جلس هادئًا وهي تُلصق وسائدَ جهاز تخطيط كهربية القلب على صدره؛ لرصدِ نشاط قلبه، وتُدخِل ذراعه في سِوارِ قياسِ ضغط الدم.
بسَطَ طبيبُ التخدير أنبوبًا بلاستيكيًّا ووصلَه بقناع دانيال. وقال: «يحصل الطيَّارون على أكسجين حين يرتفعون في السماء. ومهمَّتُك هي أن تتنفسَ الأكسجين.» وضع دانيال القناعَ على وجهه وتنفَّس. ثم صرخ، فضمَّته كوزيا بشدة. وهمسَت: «فلتُفكِّر في إحدى مغامرات سبايدرمان.» ثم قالت بعد ثانيتَين: «لقد نام.» لقد أبلى دانيال بلاءً حسنًا.
قالت كوزيا إنه من الممكن أن يُجرب إجراءَ التصوير من دون مهدِّئ في المرة القادمة. حوَّلَت أشياءَ بسيطة، مثل تجنُّب اللغة المُخيفة، والسماح له باختيارِ عِطر وتزيينِ قِناعه بالملصقات، وتشجيعه على تخيُّل رحلة في مَركبةٍ فضائية، صبيًّا صارخًا مُقاومًا كان لا بد من تخديره في ظروفٍ مؤلمة، إلى آخرَ مُنهمِكٍ يؤمَّل ألا يحتاج من الآن فصاعدًا إلى أي تخدير على الإطلاق.
أرقدت كوزيا دانيال وغطَّته بملاءة، قبل أن تدفعَه داخل جهاز التصوير. كان مُحاطًا بأصوات الصفير والرنين، وظهر معدلُ ضربات قلبه في ذبذباتٍ خضراء على شاشةٍ قريبة. في الحجرة المُجاورة، حجرة التحكُّم، ظهرت مسطَّحات مخه على شاشة كمبيوتر، تتحرك بالأبيض والأسود.
•••
في الجانب الآخر من البلدة في مستشفى ماساتشوستس العام، ترعى فيكي جاكسون المُصابين بمرضٍ عُضال. ولكونِها اختصاصيةَ رعايةٍ تخفيفية، فإنَّ عملها ليس وصفَ العقاقير أو العلاجات، وإنما الحديث. إنها تُواجه الأسئلة التي غالبًا لا تُطرَح على الأشخاص المُوشِكين على الموت: ما قدرُ المعلومات التي يريدون معرفتها عن توقُّعات سَير مرضهم، هل يُفضلون التخفيف من الأعراض أو إطالةَ العمر، أين وكيف يَودُّون الموت؟ هدف جاكسون الأساسي هو تحسينُ نوعية حياة هؤلاء المرضى خلال الوقت المتبقِّي لهم. لكنها وجَدَت في تجرِبةٍ رائدةٍ نُشِرَت عام ٢٠١٠ أن هذه الأحاديثَ يُمكن أن تفعل أكثرَ من ذلك بكثير.
أثناء هذه الجلسات، لم تُركز جاكسون وزملاؤها على التفاصيلِ الطبية للسرطان الذي كان يُعاني منه المرضى، وإنما على حياتهم الشخصية، بما في ذلك مسائل من قَبيل كيفية تكيُّفهم وعائلاتهم مع التشخيص، ومع أيِّ أعراضٍ جانبية لعلاجهم. على سبيل المثال، حكَت لي جاكسون عن مريضٍ بسرطان البنكرياس — فلنُسمِّه بيتر — كانت قد رأته في اليوم السابق للقائنا، بعد أن كشفَ آخِرُ مسحٍ له عن خبرٍ سيِّئ.
تقول جاكسون إنها لا تستطيعُ إنجازَ عملها دون أن تعرف مَرْضاها معرفةً كاملة؛ اهتماماتهم ومبادئهم وأُسَرهم. وتقول إن الرعاية التخفيفية الحقَّة لا تتمحورُ حول مساعدة الناس على الموت، بقدرِ ما تتمحور حول مساعدتهم على الحياة. يتطلَّب التوصلُ إلى سبيلٍ لفعل ذلك معرفةَ شخصياتهم وما تَعنيه الحياةُ لهم، سواءٌ كان لعبَ الجولف، أو مشاهدةَ المسلسلات التلفزيونية، أو التمتُّعَ بالعافية للتمكُّن من حضورِ زفاف. «يختلف الأمر من شخص لآخر.»
سيستغرقُ الأمر المزيدَ والمزيد من الدراسات لتأكيدِ هذه النتيجة وتحديدِ سبب حدوث مثل هذا التأثير الهائل بمجردِ الحديث مع اختصاصيِّ رعايةٍ تخفيفية. قد تكون معدلاتُ الاكتئاب الأقلُّ أحدَ العوامل؛ فمرضى السرطان المُكتئبون لا يعيشون طويلًا في العموم. كما أنه من الوارد أن تكون العلاجات المكثَّفة في نهاية الحياة، حين يكون المرضى معتلِّين للغاية، من الأشياء التي تُعجِّل بالموت بدلًا من تأخيره.
حين تسَنَّت الفرصةُ للمرضى ليتكلَّموا مع شخص لا عن الورم الذي يُعانون منه، ولكن عمَّا يُريدونه في الوقت المتبقِّي لهم، اتخَذوا قراراتٍ مختلفة. مع أنهم اختاروا الرعايةَ المكثَّفة في البداية، لكنهم حوَّلوا تركيزهم في الشهور القليلة الأخيرة إلى تحسينِ جودةِ حياتهم. وهكذا تلقَّوا علاجًا أخيرًا أقلَّ، ويبدو أنهم قد عاشوا أطولَ نتيجةً لذلك، إلى جانبِ كلِّ الفوائد الأخرى.
تُجادل جاكسون بأنه على النقيض في نموذج الرعاية المِعيارية تكون العلاجاتُ المكثَّفة هي الشيءَ الوحيد المُتاح. يتلقَّى المُصابون بالسرطان في مراحله الأخيرة جولةً تِلْو أخرى من العلاج الكيماوي؛ لأن عدم القيام بذلك في غيابِ أيِّ بديلٍ معناه ببساطةٍ الاستسلام.
تقول جاكسون: «يصير التدخلُ مُرادفًا للأمل.» ثم تستدرك قائلةً: «لكنه ليس كذلك.»
•••
في كثيرٍ من الأحيان حين نتلقَّى علاجًا طبيًّا، يُنظَر إلى حالتنا الذهنية باعتبارها شاغِلًا ثانويًّا، ولا يتعدَّى دورنا نحن المرضى توقيعَ استمارات الموافقة وطلبَ العقاقير المخفِّفة للألم. حين وضعتُ طفلتي الأولى، تلقَّيتُ رعايةً طبيةً عصرية، لكنني شعرتُ (شأنَ العديد من النساء) كأنني غرضٌ على حزامٍ ناقل، مُتلقٍّ سلبيٌّ لسلسلة من التدخلات الطبية المُربِكة التي بدأتْ بفضِّ ماء الرحم، وانتهت بجِراحةٍ عاجلة. غالبًا ما نُركز على أهميةِ تخفيف الألم أثناء الولادة، لكنني وجدتُ في النهاية أنَّ فقدان السيطرة أكثرُ إزعاجًا من الألم الجسدي الذي شعرتُ به حين ولَدتُ فيما بعدُ دون عقاقيرَ قوية.
إن المشاريع الثلاثة التي جاء ذِكرُها في هذا الفصل — مُساندة القابلات للنساء أثناء الولادة، وتغيير اختصاصيِّي الأشعة طريقةَ كلامهم مع المرضى، ومناقشة الأطباء الأسئلةَ الصعبة مع المرضى الميئوس من شفائهم — تمنحُ المرضى بدلًا من ذلك دَورًا فعَّالًا. قد تبدو هذه كتدخُّلاتٍ بديهية، لكن تُجسِّد كلُّها تحولًا جذريًّا (وفي حالة نظامنا الطبِّي، تحولًا ثوريًّا) فيما تَعْنيه رعايةُ شخصٍ ما. إذ لا يصير الطبُّ طبيبًا مُطلَق السيطرة يُغدِق العلاجاتِ على مُتلقٍّ سلبي، وإنما شَراكة بين بشَر مُتساوِين.
كذلك يُشكِّل هذا المبدأ صميمَ العديد من الحالات التي رأيناها حتى الآن، بما في ذلك مرضى متلازمةِ القولون العصبي في عيادة بيتر هورويل للتنويم المغناطيسي، ومتلقِّي زراعة الكُلى لدى مانفريد شيدلوسكي، ومرضى الحروق المُستغرقين في عالم ثلوج هانتر هوفمان. بدلًا من حلِّ مشكلاتهم دوائيًّا بجرعاتٍ دائمةِ التزايد من العقاقير والتدخلات، يُسخِّر مُمارسو الطبِّ هؤلاء المواردَ النفسيةَ لدى المرضى؛ لتكون مُكونًا حاسمًا في رعايتهم. ويفعلون هذا مع البالغين والأطفال، ومع الشكاوى المُزمِنة وحالات الطوارئ، ومن الولادة وحتى الموت.
يمنح هذا النهجُ تجرِبةً أفضل للمرضى. كما أن تكلفتَه أقل. ويُحسِّن النتائجَ الجسدية. يُعاني المرضى من مُضاعَفاتٍ أقلَّ، ويتعافَون أسرع، ويعيشون أطولَ. تُظهِر نتائجُ التجارِب أنَّ الحالاتِ الفرديةَ مثل حالة دانيال وحالتي ليست صُدفًا سعيدة، وإنما تعكس صورةً أشملَ تنطبق بشدة على مئات الآلاف من المرضى. ففي نهاية الأمر، نحن بشر، ولسنا آلاتٍ. حين نتلقَّى رعايةً طبية، فإن حالتَنا الذِّهنية لها اعتبار. الذين يشعرون بالوحدة والخوف لا تتحسَّن حالتهم مثل الذين يشعرون بدعمٍ وأمان وسيطرة.
ماذا إذن عن بقيَّة الوقت؟ فنحن لا نقضي الجزءَ الأكبر من حياتنا مَرْضى، وإنما أشخاص تتنازَعُهم الأزمات اليومية، نُواجه علاقاتٍ صعبةً ووظائفَ مُجهِدة وحركةَ مرورٍ سيئة، ونتفاوض على مواعيدَ نهائيةٍ في العمل، وإحباطات وديون. في الجزء الثاني من الكتاب، سنتجاوز أساليبَ العلاج والمُداواة الطبِّية لنستقصيَ أهمية أذهاننا في الحياة اليومية. كيف تؤثِّر أفكارنا واعتقاداتنا ومشاعرنا على صِحتنا الجسدية على مدارِ حياتنا؟