إما المواجهة أو الفرار
في الساعة الرابعة والنصف من صباحِ السابعَ عشر من يناير عام ١٩٩٤، ضرَب زلزالٌ مُدمرٌ مدينةَ لوس أنجلوس. كان أقوى زلزالٍ يهزُّ مدينةً أمريكية كبرى على الإطلاق؛ إذ كان بقوة ٦٫٧ درجات بمِقياسِ ريختر. تولَّدَت الموجات الصدمية على بُعد ١١ ميلًا تحت الأرض، واجتاحت المدينةَ طَوالَ عشرِ ثوانٍ مُرعبة. انهارَت مَبانٍ سكنية، وسقطَت جسورٌ وخطوطُ كهرباء، ودُمِّرت مستشفيات، وخرج قطارُ شحن من ٦٤ عربةً عن مساره. لقي عشَرات الأشخاص مصرعَهم، وأُصيب الآلافُ، مع انقطاع الأنوار في أنحاء المدينة، وخروجِ الحرائق عن السيطرة.
•••
إذا كان قد سبقَ لك أن تحرَّكتَ مُتفاديًا سيارة، أو استيقظت على جَلبةٍ مُخيفة في هَدْأة الليل، فستعلم كيف يُمكن لجسدك أن يستجيبَ بقوةٍ للخوف. خلال جزء من الثانية من استشعار الخطر، تشعرُ بتدفُّق الأدرينالين فتتسارعُ خفقاتُ قلبك، وتصيرُ أنفاسك أثقلَ، وتتَّسع حدقتا عينَيك. ويتحول الدمُ عن المناطق غير المُلحَّة مثل الأمعاء والأعضاء التناسلية نحوَ الأطراف والمخ. ويتباطأُ الهضم، بينما تُفرَز الدهون والجلوكوز في مجرى الدم لتزويدِ خطوتك التالية بالطاقة.
تُعرَف هذه الاستجابة للطوارئ بالطبعِ باسم «المواجهة أو الفرار.» وهي خاضعةٌ لسيطرة الهرمونات التي تُفرَز في مجرى الدم، ومنها الأدرينالين والكورتيزول، وكذلك الجهاز العصبي السمبثاوي، الذي يربط بين المخ والأجهزة العضوية الرئيسية للجسم (والمسئول عن الاستجابات المشروطة التي وردَ ذِكرها في الفصل الرابع).
نشأ ردُّ فعل المواجهة أو الفرار في الأصل استجابةً للصدمات الجسدية أو التوتُّر؛ الإصابة أو الإنهاك أو الجوع. لكنه قد يَنتج عن عواملَ نفسيةٍ أيضًا. فلا توجد حاجةٌ إلى الانتظار حتى هجومِ حيوان مُفترِس. فإنَّ أجسادنا تصير مستنفَرةً فورَ أن نرى مصدرَ تهديدٍ أو نَشمَّه أو نسمعَه أو حتى نتخيَّله.
أو هذا ما يحدث لأغلبِ الأنواع. كما يُبين باحثُ التوتر الرائد في جامعة ستانفورد، روبرت سابولسكي، في كتابه الصادر عام ١٩٩٤ بعنوان «لماذا لا يُصاب الحِمار الوحشيُّ بقُرحة المعدة»، يستعينُ الحِمار الوحشي بكل قُواه عند مطارَدة الأسد له، في استجابة المواجهة أو الفرار. حين تنتهي المطاردة، يتعافى الحِمار الوحشي (ما لم يُؤكَل)، وتعود حالته الفسيولوجية إلى طبيعتها؛ في صورة السكينة والهدوء. إن الحيوان لا يستعرضُ مُلابَسات المطاردة في ذهنه، أو يُمعِن التفكير فيما إذا كان الحظُّ سيُحالفه المرةَ القادمة أو لا.
لكن الناس مُختلفون عن الحمار الوحشي. فقد أعطَتنا أذهانُنا الأكثرُ تطورًا القدرةَ على التعلم من أخطائنا والتخطيطِ للمستقبل، لكنها أعطَتنا أيضًا القدرةَ على الانشغال بمُشكلاتنا طوال الوقت. إذ نُعيد استعراض المواقف الماضية وننشغلُ بالمستقبلية، من هجماتٍ إرهابية أو بطالة أو علاقات إلى حركة مرور سيئة أو شِجار مع صديق. نُسمي هذا توترًا، وهو يبعثُ في الجسم الاستجابة نفسَها للطوارئ مثل أن تُحاصَر في زلزال، وإن كان بدرجةٍ أقل. فقد نكون جالسين بجوارِ المدفأة في المنزل، يُحيط بنا أصدقاؤنا ونتناول وجبةً مغذِّية، لكن تظلُّ أذهاننا وأجسادنا في حالةِ تأهبٍ شديد.
لحسن الحظ لا تقضي هذه المخاوفُ اليومية علينا في الحال، لكنها قد تكون بنفس الفتك مع مرور الوقت.
•••
حياة ليزا مقيَّدة بقوانينَ لا يُمكنها توقعُها أو فهمها. إذ تقول: «أحيا في خوفٍ من أن أخرقَ أحدَ قواعد براندون.» قد يكون تغيرًا طفيفًا في الروتينِ اليومي أو خطوةً أو حركة في غيرِ موضعها، أو شيئًا لا يدَ لها فيه على الإطلاق. «أحيانًا لا أعلم حتى ما الذي سيجعلُه يثور، ثم ما يَلبث أن يبكيَ ويصرخ. من الممكن أن يتحولَ إلى حيوان حين ينزعج.»
ليزا خبيرةٌ اقتصادية في الثانية والأربعين من العمر، من سان فرانسيسكو، وبراندون هو ابنُها. قبل أربع سنوات كانت حالتُه قد شُخِّصَت بأنها توحُّد ذو أداءٍ وظيفيٍّ عالٍ. ولما كانت العناية به تُمثل تحديًا مستمرًّا يوميًّا، فقد اتصلتُ بها لأعرفَ كيف تكون الحياةُ مع توترٍ دائم لا يفتر.
تقول ليزا إنها لأولِ وهلةٍ ظنَّت فحسبُ أن طفلها كان ذا شخصيةٍ غريبة هادئة. لكن مع تقدُّم براندون في العمر، صار واضحًا أنَّ ثمة خَطبًا ما. كان يُكرر الكلمات، أو يفتح الأبواب ويُغلقها بلا توقُّف، ربما لمدة ٢٠ دقيقة في المرة الواحدة. بعد أن شُخِّصَت حالتُه بأنها توحُّد، اتخذَت الأسرةُ مسارًا مُختلفًا. تخلَّت ليزا عن العمل بدوامٍ كامل (فهي تعمل الآنَ بدوامٍ جزئي) للعناية ببراندون وشقيقه الأكبر ناثان. لكن استمرَّ سلوك براندون في التدهور. فقد كان ينغمسُ في عالَمِه الخيالي، وينفجرُ في نَوباتِ غضبٍ عنيفة.
يبلغ براندون من العمر الآن ثمانيةَ أعوام. وقد طلبتُ من ليزا صورته، فأرسلَت لي بالبريد الإلكتروني واحدةً التُقِطَت في المنزل في وقتٍ سابق من ذلك اليوم. تُظهِر الصورةُ الأمَّ والابنَ جالِسَين على الأرض، مُستندَين إلى أريكة، في استرخاءٍ ومُبتسمَين. يبدو براندون جميلًا في قميصٍ أزرق قصيرِ الأكمام، بشعرٍ بُنِّي فاتح وابتسامةٍ لطيفة موجَّهة مباشرةً إلى أمه.
تبدو اللقطةُ خاليةً من الهموم، لكن حين أصغيتُ لقصةِ ليزا، أدركتُ أنها كابدَت سنواتٍ من العمل الشاق والكمَدِ لتصلَ إلى هذه المرحلة. ظلَّ سلوك براندون طَوالَ عامٍ أو نحوِ ذلك سيئًا للغاية، حتى إن ليزا لم تكن تستطيعُ مغادرة المنزل. فهي تقول: «ظننتُ أن الحال ستنتهي به في إحدى مؤسَّسات الرعاية.» لكن بعد الحصول على مساعدةٍ من مُعالجِ سلوك، صارت الحياةُ أسهل تدبيرًا. وتُمارس ليزا الآن العلاجَ باللعب مع ابنها يوميًّا، فتُشجِّعه على التفاعل والتواصل بالعينَين. إذ تقول إنه مهووسٌ بالخرائط، وقد حفظ نظامَ النقل العامِّ لسان فرانسيسكو بالكامل. «حين أُساير عالمَه الخياليَّ يصير محبَّبًا حقًّا.»
تُضيف قائلةً: «لكن لا بد أن أُواصل ذلك باستمرار. لا يُمكنني أن أستريح.» وتقول إن براندون يذهب إلى مدرسةٍ عادية لكنه متأخِّر دراسيًّا، وليس لديه أيُّ أصدقاء. أثناء الاستراحة، حين يلعبُ الأطفال الآخرون معًا، يسير هو حولَ نطاق منطقة الألعاب مُتظاهرًا بأنه سائقُ حافلة. ليزا مُقتنعةٌ بأنه يريد التواصل، لكنه لا يعرف كيف يفعل هذا.
تقول: «إنه شيءٌ مُفجِع. حين يرى أحدًا مُصابًا في منطقة الألعاب يذهبُ إليه ويُريد المساعدة. لكنه لا يعرف ماذا يقول.» يحتاج براندون إلى مُساعدٍ شخصي في المدرسة، وهو أمرٌ يكرهه، ويُمثِّل حاجزًا آخرَ بينه وبين الأطفال الآخرين؛ لذلك فهي تتطلع إلى مدرسةٍ يستطيع أن يتمتعَ فيها بمزيدٍ من الاستقلالية. «إنني أُكرِّس حياتي من أجل أن أجعلَه في البيئة المناسبة.»
في المنزل، تعيش ليزا حياتَها في أوقاتٍ تستمر ١٥ دقيقة. وهي تشرحُ الأمر قائلةً: «لا بد أن أُعطِيَه باستمرارٍ شيئًا ليفعلَه أو أن أتفاعلَ معه مباشرةً، وإلا سيقعُ في مشكلة. بمجرد أن أستيقظ، لا بد أن أُخطِّط لليوم، كيف سيسير. ثم آمُل خيرًا.» أسوأ الأوقات هي عندما يهتاج براندون، وهو ما يحدث كثيرًا. فهو يصيح ويصرخ، لساعاتٍ أحيانًا. تقول ليزا: «ذاتَ مرة غادَر مجموعةً كنسيَّة ولم تكن الأمور قد سارت على هَواه. فلكَمَني في بطني. فقلت في نفسي ويحي، لا يُمكنني أن أُعيده. سيكون عليَّ أن أتحلَّى بشخصية الأم تيريزا لمجردِ أن أُحبه.»
سألتُها عن نوعية الأشياء التي تُثير غضب براندون. فأجابت بأنه يرتبكُ من الأشياء المستفزَّة، مثلًا صوت الضحك حين يأتيهم ضيوف. «يشرع في الصُّراخ لأن الصوتَ عالٍ جدًّا.» أيضًا يُمكن للتفصيلات الصغيرة التي لا تَروق له أن تُفقِدَه صوابَه. يشمل هذا أيَّ تغيير في الروتين اليومي، مثل حينما ذهبَت لتأخذ براندون من المدرسة ولم يكن ناثان في السيارة كالمعتاد؛ لأنه كان لديه مَوعدٌ لدى الطبيب. أو حين يدوس أخوه على إحدى خرائطه. أو تلك المرةَ التي اقتطعَت فيها ورقةً لتُدوِّن شيئًا.
فهي تقول: «يا للهول. لم يَرُق له أنني اقتطعتُ الورقة، وثار غضبُه من ذلك.»
ساد الصمتُ بُرهةً، ثم أدركتُ أن ليزا كانت تتحدث وهي تبكي. حاولتُ أن أتصوَّر كيف يبدو الأمر. الإنهاك، وعدم التيقُّن بشأن المستقبل. الحال المتقلِّب والمُعاناة من أجل التواصل. القنوط مِن أن يكون لديك طفلٌ حبيس وحده، وحيدًا ومُحبَطًا، في عالَمٍ لا تستطيع أن تُنقِذه منه؛ عالم لا يسَعُك سِوى أن تراه لِمامًا.
قلتُ إنني آسفة، وإنني لم أقصد أن أجعَلَها تبكي.
•••
طالما دفعَت تحدِّياتُ العناية ببراندون ليزا إلى حدِّ الانهيار. فهي تعترف قائلةً: «أكرهُ الإقرار بذلك، لكنني أحيانًا حين يفقدُ صوابه أفقدُ أنا أيضًا صوابي.» وقد أقحَما أُسرتَهما في الأمر. فهي وزوجها على وشكِ الانفصال. إنهما ما زالا على علاقةٍ طيبة، ويُخطِّطان لإنشاء بيتَين حانِيَين لأطفالهما، لكن الرابطة بينهما انكسرَت تحت وطأة حالة ابنهما. تقول ليزا: «لا أستطيع التعاملَ مع زوجي وأطفالي. فإما زوجي وإمَّا أبنائي.» تبدو الآثار النفسية والعاطفية المدمِّرة لموقفها واضحة. لكن ماذا عن الأثر الجسدي؟
لكن تأثير التوتُّر المُزمن يتجاوزُ القلب. إذ يحرق الجسمُ الوقودَ أثناء استجابة المواجهة أو الفرار؛ لرفعِ معدَّلات سكَّر الدم. وهذا يمنحُنا شحنةً ضرورية من الطاقة، لكنه من الممكنِ أن يَزيد مع الوقت من خطرِ الإصابة بالبدانة والسكَّري. كما أنه يُدمر جهازنا المناعي.
بمجرَّد انقضاء الحدَث الباعث على التوتر، تعود هذه الهرمونات سريعًا إلى معدَّلاتها الطبيعية؛ فالكورتيزول مثلًا يؤدِّي وظيفةَ مِفتاحِ إيقاف لنفسه. إنه نظامٌ ذكي يضمن ألا تكونَ الخلايا المناعيةُ — التي تستهلك الطاقة، ومن الممكن أن تهاجِمَ الجسم إن ظلَّت تعمل لوقتٍ أطول من اللازم — موجودةً إلا إذا كان ثَمة حاجةٌ إليها.
لم يكُن الارتباطُ بالشيخوخة مُفاجئًا لليزا. فقد سألتها عمَّا إذا كان التوترُ قد ترَك أثرًا جسديًّا عليها، بعد مرور أربع سنوات على تشخيصِ حالةِ ابنها بالتوحُّد. فردَّت بالإيجاب. فهي في الثانية والأربعين من عمرها، وشعرها بُنِّي فاتح في الأصل، مثل شعر براندون. «لكنني فجأةً، خلال السنوات الثلاث الماضية، استحال شعري رماديًّا.»
•••
قُدتُ السيارة شرقًا ثم جنوبًا من أتلانتا، بولاية جورجيا، حتى غابت المدينة بعيدًا ومالت أشعَّة الشمس عبر أشجار الصَّنَوبر، مُحدِثةً على الأسفلت خطوطًا مثل خطوط الحمار الوحشي. تصاعد صوتُ توم بيتي من الراديو، وراحت الطيور الجارحة المحلِّقة تنظر باشتهاء إلى جثث الحيوانات المدعوسة بوفرةٍ على الطريق.
بعد بضع ساعات وصلتُ إلى مَشارفِ بلدةٍ تُسمَّى ميلدجفيل. تشعَّبت الطُّرق إلى مساراتٍ ضيقة ذات حواف وَعْرة، وبدا المكانُ بأسْرِه منسيًّا. كانت توجد مَنازلُ خشبيةٌ خَرِبة وراءَ أسوارٍ سلكية، وبعض المقطورات أمامها كراسي بلاستيكية. في مرحلةٍ ما، وجَّهَني نظام الملاحة في سيارتي إلى طريقٍ مسدود؛ حيث استحال الأسفلت إلى حصًى منتشرٍ بين الأشجار، أمام منزل أبيض ملطَّخ ذي نوافذ صغيرة وقوائمَ خشبية.
تقع ميلدجفيل على شريط من الأرض على شكل هلال عبرَ جنوبِ شرقيِّ الولايات المتحدة، يُعرَف بصفةٍ غير رسمية باسم «الحزام الأسود.» استُوحِيَ هذا الاسم في القرن التاسعَ عشر من لون تُربة المنطقة ذاتِ الخصوبة غيرِ العادية، التي كانت مَوطنًا لمَزارع القطن التي كان يعمل فيها العبيد. وصار فيما بعد يُشير إلى النسبة المُرتفعة من الأمريكيِّين الأفارقة الذين يعيشون هنا؛ إذ يَزيدون إجمالًا عن ٥٠٪ من السكان.
لمَّا كنتُ مُهتمة بمعرفة طبيعة الحياة هنا، فقد جعلني برودي أتواصل مع بعض السكان، ومنهم سوزان. حين وصلَت إلى منزلها أخيرًا، وجدت كوخًا متينًا من الطوب — أجمل منزل في الشارع — بسلالمَ من الطوب تؤدي إلى الواجهة، وفِناءٍ من الطوب في الخلف. مرَّت سريعًا طيور العصفور الأزرق والكاردينال الأحمر. تمتدُّ في الخلف مباشرةً وحتى الغابة ساحةٌ مُترامية، حيث توجد شاحنةٌ صغيرة محطَّمة، والمزيد من الطوب المكدَّس. أخبرَتني سوزان فيما بعدُ أن حيوانات القيوط زائرةٌ مُستديمة هنا، وكذلك الثعالب والأرانب والديوك الرومية البرِّية.
فتحَت الباب حاملةً كلبًا أبيضَ مُتحمسًا بين ذراعَيها. قالت لي مُعتذرةً، وهي تَعبر بي صالةً مُبعثَرة إلى حجرةِ معيشةٍ نظيفة: «إننا في خِضمِّ إخلاءٍ للمنزل.» على أحد الجدران توجد مِرآة ضخمة مُزخرَفة، وعلى آخرَ كمانان مصغَّران ذهبيَّان. على الأرض بِساطٌ فيروزي أزغب، ونَمارقُ بأطرافٍ طويلة، بينما امتلأت الرفوف بصورٍ عائلية وزجاجٍ منحوت.
كانت سوزان ذاتَ شعرٍ قصيرٍ رمادي وبلا مساحيقِ تجميل، وترتدي ملابسَ غيرَ رسمية عبارةً عن سروالِ ركضٍ وردي زاهٍ، وقميصٍ واسع قصيرِ الأكمام مطبوعٍ عليه «جورجيا كوليدج بوبكاتس». وحين حيَّتني كان صوتها قويًّا ورنَّانًا.
قالت لي إنها ترعرَعَت في ميلدجفيل في «منزل شوزن» — سُمِّي بهذا الاسم لأن بإمكانك الوقوفَ فتراه من أولِه لآخره — بدورةِ مياه خارجية، وصنبورَي مياهٍ خارجيَّين بالاشتراك مع تسعِ عائلات. تتذكر قائلةً: «كان لدينا قِدرٌ أسودُ ضخم لتدفئة المياه.» وكانوا يصنعون الصابون لأنفسهم ولحمًا باردًا من نسائل لحم الخنزير. كانت تعيش مع جدَّيها. (قالت لي: «كنتُ أعرف والدَيَّ. لكنهما كانا مجرد شخصَين أعرفهما.») كان جَدُّها يُدللها، لكن جَدَّتها كانت تُؤدِّبها بالعصا. وكان الكثير من أصدقائها يتغيَّبون عن المدرسة لقطف القطن؛ وهو ما أرادته سوزان، إلا أن جَدَّتها لم تكن تسمح لها بذلك. «كانت تقول إنه يَبْري كل الجلد المحيط بأظافري، ويُبلي يدَيَّ.»
إن سوزان الآن عضوةٌ محورية في هذا المجتمع المحلِّي؛ فهي تعمل بنشاطٍ في الكنيسة، وتتطوع في مركزٍ لأطفال المنطقة. وهي مُتزوجة منذ ٥٠ عامًا من زوجها، جورج. كان يبدو جَليًّا أنهما قد ناضَلا بشدةٍ من أجل ما يَملِكانه. فهي تقول إن جورج قد بنى هذا المنزلَ بنفسه، مُستخدمًا قوالبَ طوب جمَعها من مَنازلَ أخرى أثناء هدمها. وأشارت إلى أن المِدفأة الكبيرة قد بُنِيَت من طوب المنزل الذي عاشت فيه طفولتها.
حين سألتها عن الحياة في ميلدجفيل في الوقت الحاضر، أخبرتني أن البطالة مشكلةٌ كبرى. فقد اختفت الأعمال الزراعية، وقد شهدت أيضًا اختفاءَ أغلب كِبار أرباب الأعمال في المنطقة؛ شركة «ماوهوك»، التي تصنع ألياف الأبسطة؛ وشركة «جي بي ستيفينز» للتصنيع؛ و«أوكوني بريك». تقول إن اليأس قد بلَغ بالشباب هنا مَبلغًا كبيرًا. وتُضيف: «إنهم غيرُ مستعدِّين للذَّهاب إلى الجامعة. فكل ما يُريدونه هو النقود السهلةُ المَنال.» عِوضًا عن ذلك، كانت المنطقة «موبوءة بالمخدِّرات».
لدى سوزان أربعةُ أبناء، كلهم كبار الآن. تقول إنها كانت تسعى لغرسِ القيم المسيحية فيهم، إلى جانبِ احترام الكبار. لكن ذلك لم يكن كافيًا لإنقاذ ابنتها، جينيفر، من غواية المخدِّرات والجريمة. تتذكر سوزان حين كانت تُثرثر مع أحد الجيران على الهاتف في أحد الأيام وقاطعَها عاملُ الهاتف، وطلب منها الذَّهاب في الحال إلى مبنى الأمنِ العام التابع لقسم الشرطة. كانت ابنةُ جينيفر، جيسيكا، ذاتُ الستةَ عشرَ شهرًا، قد أُنقِذَت لتوِّها من منزلٍ تُركت فيه يومًا كاملًا بمفردها هي وطفلةٌ أخرى في سنٍّ مُشابِهة، وقد تجاهَلَهما تمامًا الرجالُ الثلاثة الذين كانوا بالخارج في الشُّرفة الخارجية على ما يبدو.
تبيَّن أن جينيفر كانت في مقاطعةٍ أخرى، في السجن. بعد مُضيِّ أكثرَ من ٢٠ عامًا، لا تزال سوزان تتذكَّر حين دخلَت ورأت حفيدتَها والطفلةَ الأخرى جالستَين على الأرض، وقد وُضع طعامٌ في صحون من الفوم بين سيقانِهما. أخذت هي وزوجها جيسيكا في ذلك اليوم. كانا بالفعل يُربيان أخاها الأكبر كيفين، وفي نهاية المطاف صارا يعتنيان بطفلِ جينيفر الثالث أيضًا.
تقول سوزان إن جينيفر سبَّبَت لها قدرًا هائلًا من التوتُّر على مَرِّ السنوات، حين كانت تظهر لتُطالب بالأطفال مثلًا. ذاتَ مرةٍ اختفَت مع كيفين عدةَ أيام، وقد أعياها هي وزوجَها القلقُ حتى توصَّلا إليهما أخيرًا في نُزُل. لكن الآن كان الأحفاد قد غادَروا المنزل ونادرًا ما ترى ابنتها. «ما حاجتنا إليها الآن؟ لقد شبُّوا عن الطَّوق.»
إلا أن كيفين ما زال يُسبب لها الهمَّ. فبعد مدة وجيزة في الحياة العسكرية ترَك الجيش، وعاد إلى ميلدجفيل وخالَط رفاقَ السوء. تقول سوزان إنه قبل بضعة أسابيع من زيارتي، خرج من السجن وجاء إلى المنزل راغبًا في الانتقال إليه. لكنها طلبت منه المغادرة: «لا أستطيع أن أعيش مع أشخاصٍ يسرقون مني.»
•••
ما الذي يُسبب الاختلاف؟ إن التأثير لا يُبرِّره توفرُ الرعاية الصحية أو الموارد المادية؛ فإذا كان هذا كلَّ ما هناك، فينبغي لكلِّ شخص يتعدَّى خطًّا معينًا من الفقر أن يتمتعَ بالحالة الصحية نفسِها. لكن بدلًا من ذلك يوجد تدرجٌ صحِّي خطيٌّ في الطيف الاجتماعي الاقتصادي بأسرِه، صعودًا إلى المجموعات الأوفر حظًّا. وعلى الرغم من أن الناس الذين يعيشون في فقرٍ يميلون إلى اتباعِ أساليبِ حياة غيرِ صحية أكثرَ (فهم مثلًا أكثرُ إقبالًا على معاقرة الخمر والتدخين وأقلُّ ممارسةً للرياضة)، فإنَّ الباحثين حين يضَعون هذا في اعتبارهم، لا تختفي الآثارُ الصحية. يرى ميلر أنه علاوةً على العوامل السلوكية يُسبب التوترُ واغتراب المرء لكونه فقيرًا التهابًا مُزمنًا يُدمر الصحة طَوالَ حياة الناس.
وهنا أيضًا نجد الأطفالَ خصوصًا عُرضةً للخطر. فإن التعرُّض للانتهاك أو مواجهةَ المِحَن مبكرًا — بما في ذلك في الرحم، عن طريق التعرض لهرمونات التوتُّر من الأم — يُقصر تيلوميرات الأشخاص ما تبقَّى لهم من العمر.
•••
إلا أنه توجد بعضُ الجهود لوضع رؤيتها موضعَ التطبيق، وسنرى في الفصل العاشر ما يحدث حين يُحاول الباحثون تخفيفَ آثار التوتر في بعض المجتمعات المحلِّية التي هي في أمَسِّ الحاجة إلى ذلك، ومنها ميلدجفيل. لكن، في الوقت ذاتِه، هل يوجد أيُّ شيء يُمكننا فِعله نحن الأفرادَ لحماية أنفسنا من الآثار المُنهِكة للتوتر؟
يستطيع قليلون منا التخلُّصَ من كل التوتر في حياتهم، بينما لا تستطيع سوزان تغييرَ حيِّها الذي تعيش فيه، ولا تستطيع ليزا التخلصَ من براندون. لكنَّ ثمَّة بعضَ الأخبار السارَّة. إن المشكلات الخارجية — الديون والعلاقات المُتوترة وإنجاب طفل متوحِّد — في العموم لا تؤذي أجسادَنا مباشرةً. ما يُؤذينا هو استجابتنا النفسيةُ لتلك الظروف؛ أي إنها ليست حالةَ بيئتنا، وإنما حالتُنا «الذهنية». وهذا شيء يُمكننا السيطرة عليه.
أما الخوف فهو، على النقيض، يجعل الجسمَ يدخل في وضعية السيطرة على الأضرار؛ إذ يستعدُّ للهزيمة. فإننا مُطارَدون ولا مفرَّ لنا. إننا في معركةٍ مع خَصم يفوقنا بأسًا. هنا يَنشط الجهاز العصبي السمبثاوي، لكن بدرجةٍ أقل. فتنقبض أوعيتنا الدموية الطرفية، وينبض قلبُنا بكفاءةٍ أقل؛ لذلك يُضخُّ الدم بكمياتٍ أقلَّ في أنحاء الجسم. يعمل هذا على تقليل فقدان الدم في حالةِ وقَعنا في الأسر وأُصِبنا. لكنه يُضعف أداءنا ويُنهك الجهاز القلبي الوعائي؛ لأن القلب يضطرُّ إلى العمل بجهدٍ أكبر لضخ الدم في الجسم. علاوةً على ذلك، ترتفع نسبة هرمون التوتر الكورتيزول؛ إذ يستعدُّ الجهاز المناعي للإصابات والالتهابات.
يُطلق علماء النفس على هذه الاستجابات المُتناقضة «التحدِّي» و«التهديد.» حين نُواجه مواقفَ عصيبةً في الحياة العصرية — إلقاءَ خِطاب أمام جمهور، أو مواجهةً مع شخص نُفضل تحاشيَه، أو تحدِّيًا جسديًّا مثل منحدر التزلُّج — يأتي دورُ الحسابات القديمة نفسِها. حيث نُوازن دون وعي بين فرصنا: هل نعتقد في أعماقنا أننا سنفوز أو سنخسَر؟ تقول مينديز إن الإجابة بوجهٍ عامٍّ تكون خَليطًا من العوامل. هل ذاكرتَ للاختبار؟ هل أنت شخصٌ مُتفائل؟ هل نِمتَ جيدًا الليلة السابقة؟ «بإمكان كل تلك العوامل التأثيرُ على طريقةِ إدراكنا لمواردنا في مواجهة المهمة التي نحن بصددها.»
أما فيما يتعلَّق بالصحة على المدى الطويل، فإن استجاباتِ التحدي تبدو إيجابيةً بدرجةٍ كبيرة، أما حالات التهديد فهي أشدُّ ضررًا. فقد اكتشفَت مينديز أن الناس الذين يمرُّون باستجابة التحدِّي يعودون إلى حالتهم الطبيعية سريعًا إلى حدٍّ ما، وتُشير طائفةٌ من الدراسات إلى أن تلك النوبات الهادئةَ والمعتدلة من ذلك التوتر «الإيجابي»، التي تتخلَّلها أوقاتُ راحة، توفِّر تمرينًا مُفيدًا للجَهازَين القلبي الوعائي والمناعي. إذ تقول مينديز: «من نَواحٍ كثيرة، ما نفعله في هذه المهامِّ المُجهدة نفسيًّا يُشبه على نحوٍ جيدٍ ما تراه في جهد التمارين.» تمامًا كما يحدث في التمارين الجسدية، حين نخضع لقدرٍ معقول من الجهد، ثم نعود إلى المنزل ونستريح، يجعلنا هذا في النهاية أشدَّ قوةً ومرونة. في الحقيقة هذا ما نفعله في كل مرة نركب قطارَ الملاهي أو نُشاهد فيلمًا مُرعبًا.
على النقيض، يستغرقُ الأشخاص في حالة التهديد وقتًا أطولَ ليعودوا إلى حالتهم الأصلية بعد انتهاء المهمة، على الصعيدَين الذهني والبدني. فهم يَجْنحون للقلق أكثرَ بشأن كيف أبلَوا، ويظلون أكثرَ يقظة لأي تهديد مستقبلي. كذلك يظل ضغط دمهم مُرتفعًا. مع الوقت، من الممكن أن يؤديَ الضغط الزائد على القلب إلى ارتفاعٍ في ضغط الدم. وكما رأينا، من الممكن أن يؤدي تَكرارُ إفراز الكورتيزول إلى إتلاف الجَهاز المناعي.
مما يُثير الاهتمامَ أن مينديز اكتشفَت أن مجرد تغيير طريقة تفكيرنا في استجابتنا الجسدية تجاه التوتر يُمكن أن يكون له أكبرُ الأثر. فقد عرَّضَت مُتطوعين لمحنةٍ شاقَّة تُسمى «اختبار ترير للتوتر الاجتماعي». وهو يشمل ١٥ دقيقةً من إلقاء خِطاب أمام جمهور وإجراء عملية حسابية ذهنية أمامَ لجنةٍ من الحُكام الصارمين، ويُعتمَد على هذا الاختبار في الدراسات المختبَرية في إثارة حالة المواجهة أو الفرار.
تُثبت أبحاث مينديز أننا لسنا مُضطرِّين إلى الخضوع للتوتر. فبإمكاننا ولو بتحولٍ بسيط في موقفنا أن نبدأ الحدَّ من الآثار الصحية للأحداث المُجهِدة نفسيًّا، وأن نُبلِيَ بلاءً أفضلَ تحت الضغط. لكنه لا يتيسَّر دائمًا للأسف أن نُقرِّر أن نكون أقلَّ توترًا أو أن نُفكر في مشكلاتنا بطريقةٍ أكثرَ إيجابية. يُمكن للأشخاص الذين يُعانون من التوتر المُزمن، على وجه الخصوص، أن يَصيروا رهنَ أنماطِ تفكيرٍ سلبية.
وذلك لأن التوتر، بمرور الوقت، يُعيد تشكيل أدمغتنا ماديًّا.
•••
ذاتَ ليلة في ساعةِ تناوُل الشاي، وَثبَت ابنتي ذاتُ الخمس السنوات مُبتعدةً عن أصابع السمك التي كانت تتناولها وصرخَت. أشارت إلى عنكبوتٍ كبير على الحائط قرب مَقعدها، ورفضَت العودة حتى التخلُّصِ من ذلك الكائن.
شكَّل هذا لي مشكلة لأنني أرتعبُ من العناكب. لكن لما كنتُ البالغةَ الوحيدة في المنزل حينذاك فقد كان عليَّ أن أفعل شيئًا حيالَ الأمر. أحاول ألا أنقل خوفي غيرَ المبرَّر إلى ابنتي (وإن كان من الواضح أنني قد فَشِلتُ في ذلك حتى الآن). اقتربتُ من العنكبوت المُزعج، مُتسلحةً بقاعدةِ فنجان وكوبٍ بلاستيكي.
شعرتُ بصراعٍ دائر في ذهني. من جانبٍ كانت إشارةُ إنذار تُومض بالأحمر. لم تكن تحوي كلمات، وإنما تنطوي على خوفٍ عميق ونُفور. كان يُصارع علامةَ الخطر البدائية هذه صوتٌ عاقلٌ مطمئِنٌ يُصرُّ على أن كل شيء على ما يُرام. كان هذان الجيشان يتصارعان من أجل السيطرة على جسدي أيضًا. كان أحدهما يُقنع عضلاتي بأن تتجمَّد، بينما كان الآخر يبعث توجيهاتٍ بالاسترخاء والمُضيِّ قُدمًا. أخرجت العنكبوت من المطبخ كما ينبغي، لكن كان فعلُ هذا يُشبه الخوضَ في عسلٍ أسود.
أغلب الوقت، نعتصمُ بوهمِ كوننا أشخاصًا كاملين مُتماسكين. لكن تمرُّ علينا لحظاتٌ معيَّنة، حتى في مواقفَ يومية مثل مواجهة عنكبوت، تنكشف فيها آلياتُ المخ المُتضاربة. حين نستشعر خطرًا مُحتملًا، تتفاعل عدةُ أقسام رئيسية من المخ لتُقرِّر ما الواجبُ فِعله. أحد هذه الأقسام هو اللوزة الدماغية، وهو نظامُ استجابة سريعة لرصد التهديدات الموجودة في البيئة. وهو يختزن الذكريات العاطفيةَ، وخاصةً المُزعجة منها، وحين تظهر مُجددًا حالاتٌ مُشابهة، يُثير الخوفَ والقلق واستجابةَ المواجهة أو الفرار. إن اللوزة الدماغية هي مصدر الرُّهاب بأنواعه والأحكام المسبقة؛ إذ تعمل في لمحِ البصر ولا تنطوي على تفكيرٍ واعٍ.
يعمل قرن آمون، الذي يُضيف محتوًى واقعيًّا للذكريات، ضدَّ نزعاتها البدائية، وكذلك تعمل القشرة الجبهية الأمامية، التي تؤدِّي وظائفَ معرفيةً أعلى مِثل التخطيط والتفكير العقلاني. يعمل هذان الاثنان بوتيرةٍ أبطأ، لكنهما يُحللان المواقفَ بطريقةٍ أكثرَ منطقيةً لتهدئة فزعِنا والحد من استجابتنا للخوف أو التوتر. الطرف الذي يفوز في النهاية هو الذي يُحدد ما إذا كنا سنتحدَّث بتقريعٍ أم برفق، وما إذا كنا سنفرُّ أم سنُواجه مخاوفنا. ويتبيَّن أن الاحتمالات تتراكم في دماغِ أيِّ شخص وفقًا لخبراته الحياتية، ولا سيَّما تعرضه السابق للتوتر.
لدينا ها هنا، إذن، تفسيرٌ لكيفية استمرار آثار المِحَن المُبكرة طيلةَ العمر (وسنكتشف تفسيرًا آخَرَ في الفصل العاشر). يؤثِّر التوترُ على كيفية عمل المخ؛ مما يجعلنا مُفرِطي الحساسية حيالَ المشكلات المستقبلية من خلال تدمير مسارات المخ نفسِها التي من شأنها أن تُساعدنا على البقاء هادئين ومُسيطرين.
•••
بعد لقائي بسوزان، عبَرتُ البلدة إلى طريقٍ هادئ عليه لافتةٌ مكتوب عليها: «هيئة إسكان ميلدجفيل». المنازل هنا عبارة عن أكواخٍ صغيرة، ينقسم كلٌّ منها إلى شقَّتَين صغيرتين. وقد اندهشت من درجة تجرُّدها من اللمسات الشخصية مقارنةً بمنزل سوزان. فلا توجد حدود، ولا أسوار، ولا زهور، ولا أثاثُ حدائق؛ مجرد صفَّين من صناديقِ الطوب المُتطابقة، الموزَّعة بانتظام على الحشائش.
طرقتُ باب العنوان الذي كنت قد أُعطِيتُ إياه وقابلَتني مونيكا. استغرقَت بعض الوقت لتأتيَ إلى الباب لكنها رحَّبَت بي بحرارة. قالت: «لقد نسيتُ أنكِ آتية!» كانت السيدة ذاتُ التسعة وثلاثين عامًا ترتدي فستانًا صيفيًّا أخضرَ في أصفر بلا حمَّالاتٍ ترك اللحم الأسمر المُكتنز لصدرها وذراعَيها ومنكبَيها يفيض من وراء الشريط المطَّاطي. كان شعرها الأسود مُلتفًّا في خصلاتٍ لامعة، وكانت حين تبتسم تكشف عن سِنةٍ ذهبية برَّاقة.
يؤدي الباب الأمامي إلى حجرة المعيشة مباشرةً، وهي مساحةٌ صغيرة مربَّعة ذاتُ حوائطَ مجردةٍ وأرضية من الفينيل. كانت الحجرة خافتةَ الإضاءة — فقد كانت الستائرُ مُنسدلةً مع أن أشعَّة الشمس كانت رائعةً بالخارج — وكانت قِطع الأثاث الوحيدة هي أريكةً وكرسيًّا زرقاوَين باهتين ومنضدةً منخفضة وتلفازًا. رغم وجود منفضة سجائرَ على المنضدة، كانت توجد بضعة أعقاب سجائر مُبعثَرة على الأرض. أشارت مونيكا إلى الأريكة، وغيَّرَت محطة التلفاز شاردةَ الذهن حين جلسنا لنتحدَّث.
أخبرَتْني أنها لم تُكمل دراستها الثانوية، وأنها تعمل الآن في مَقْصف مدرسة. بدا على وجهها الامتعاض. وقالت: «أجْني ٧٠٠ دولار شهريًّا.» «شهريًّا!» كما أنها أمٌّ عزباءُ لتاكيشا، التي عادت لتوِّها من المدرسة، مُرتديةً قميصًا أحمرَ قصير الأكمام وسروالًا أسودَ ضيقًا، وفي شعرها الطويل المضفور عُقدةٌ فراشية حمراء. وهي فتاةٌ مُراهقة طويلةُ القامة، لكن بَدينة وخَرْقاء بعضَ الشيء. حين أمرَتْها أمُّها جلسَت قُبالتنا، وراحت تنقِّر على أزرار هاتفها.
قالت لي مونيكا إن مِن أكثر الأشياء التي تَشغَل بالَها مسألةَ الحفاظِ على سلامة ابنتها: «إنني لا أسمح لها بالذَّهاب إلى أي مكان.» إن تاكيشا في الثالثةَ عشرة فقط، لكنَّ الأطفال الآخَرين في فصلها كانوا قد بدَءوا يُدخنون ويشربون ويُمارسون الجنس.
تستعيد مونيكا ذكرياتِ سنوات مراهقتها، منها ذاتَ مساء حين دعَتها صديقةٌ مقرَّبة للخروج. لكن لأنها لم تكن تثقُ في الفتاة الأخرى التي كانت ستنضمُّ إليهما، فقد رفضت. تقول: «سمعتُ في اليوم التالي أنهما حُبِستا بتهمة السرقة. فقد صبَّتا على رجلٍ مُسنٍّ شحمًا ساخنًا وسرَقَتاه. لنفترض أنني كنتُ في السيارة! إن قرارًا سيئًا واحدًا كفيلٌ بأن يُغير حياتَك بأكملها.» لكن تاكيشا ما زالت بعيدةً عن المتاعب حتى الآن، وتحصل على درجاتٍ جيدة في المدرسة (في مرحلةٍ ما أثناء مُحادثتنا، قالت عرَضًا اقتباسًا باللاتينية)، وأخبرتني أنها تودُّ أن تكون طبيبةَ أطفال حين تكبر.
بدا واضحًا أن العلاقة بينهما وثيقة؛ فكلٌّ منهما تُمازح الأخرى برِفق، وتنظر تاكيشا نحوَ أمِّها بخجل من أجل الحصول على مُوافقتها قبل أن تتحدث، كما حدَث مثلًا حين سألتها كيف تَقْضي وقتها. يبدو أنه لا توجد أشياءُ كثيرة لتفعلها في ميلدجفيل. قالت: «أحبُّ مطالعةَ هاتفي. وأحبُّ الأكل.» وكانت إجابة مونيكا مُشابهة. فالمسرَّات في حياتها هي التلفاز — أكثر ما تُشاهده هو البرامج الحوارية، والوثائقية التي تُقدم قصصًا حقيقية، مثل برنامج عن فتاةٍ مُراهقة شنقَت نفسها بعد تعرُّضها للتنمُّر على الإنترنت — وتناولُ الطعام. تقول مونيكا إن تاكيشا لا تُمانع أن تتناول الطعام الصحيَّ إذا تسنَّت لها الفرصة، مثل الشوفان أو الزبادي أو السَّلطة. «لكنني لا أتناوله، ولذلك لا أشتريه.»
إنها ترتاح بدلًا من ذلك لتناولِ أجنحةِ الدجاج وغيرها من المأكولات المقليَّة. فهي تقول: «إننا نعيش في فقر. لذلك أتَّجهُ إلى الطعام. فهو كلُّ ما لدي. أكرهُ ذلك، لكنني آكلُ لأتخلَّص من مشكلاتي وتوتُّري.»
•••
لماذا يتصرف الناسُ في المجتمعات المحلية الفقيرة على نحوٍ مُختلف؟ يوجد العديد من الأسباب العملية؛ فالخَضْراوات الطازَجة وعُضويةُ صالة الألعاب الرياضية ليست من الأشياء الزهيدةِ الثمن. كما أنه يوجد ضغطٌ قوي من الأقران للإقدام على قراراتٍ مصيرية سيئة، ولدى مونيكا سببٌ وجيه وراءَ جعلِ تاكيشا تلزم البيتَ على الرغم من أن ذلك يُؤثِّر على صحة ابنتها. ولأولئك الذين ليس لديهم أملٌ منطقي مطلقًا في الهروب من الفقر والاستمتاع بمُكافآت من قبيلِ منزلٍ لائق، أو وظيفةٍ تنطوي على تحدٍّ، أو إجازة مُمتعة، أو أولئك الذين يَدرُجون على فقدانِ أشخاصٍ أو أملاك يعتزُّون بها، قد يكون التركيز على المُتع الرخيصة الفورية مثل السجائر أو الطعام المقلي استجابةً منطقية تمامًا.
لكن يعتقد بعضُ علماء النفس ومنهم جريج ميلر أن ثمة عاملًا آخرَ أيضًا. إذ تُفيد الدراسات بأن التوتُّر في المراحل المبكِّرة من الحياة لا يجعل الناسَ أكثر تيقظًا للتهديد فحَسْب. إذ يؤثِّر أيضًا على دوائرِ المكافأة في المخ التي تُنظم شهيتنا لكلِّ شيء من الطعام إلى المُخدرات والجنس والمال.
إلى جانب اللوزة المخية، تُساعد القشرة الجبهية الأمامية على تنظيمِ مناطقَ أخرى من المخ ومنها النَّواة المُتكئة، التي تُشكل جزءًا من منطقةٍ تُسمَّى المخطَّط البطيني. تجعلنا النواةُ المُتكئة نرغبُ في الأشياء، وتلعب دورًا مهمًّا في الإدمان. إن الرسائل التي تُرسلها القشرة الجبهية الأمامية إلى النواة المُتكئة تُخفف من رغباتنا؛ إذ تُذكرنا بتبعات أفعالنا، وتُساعدنا على التخلِّي عن المتعة الفورية مُقابلَ مكافآتٍ أكبرَ في المستقبل.
من المرجَّح أن يُعطيَ الشخصُ الذي يعمل مخُّه على هذا النحوِ الأولويةَ للمتعة الفورية على حساب النتائج المستقبَلية. إذ سيكون مُندفعًا، وعُرضةً لمَخاطرِ سلوكياتٍ غيرِ صحِّية، مثل تناول الأطعمة الغنيَّة بالدهون والإدمان والممارسات الجنسية المحفوفة بالمخاطر. وهذا الأمر منطقيٌّ من وجهةِ نظرٍ تطورية، مثل أن تكون مُفرِطَ الحساسية للتهديد؛ فحين تكونُ في بيئة تندر فيها الموارد وتُحيط بك الأخطار في كلِّ مكان، يكون التهامُ الطعام الغني بالسُّعرات حين تجده، مثلًا، أو أن تُنجب الأطفال في سنٍّ صغيرة إستراتيجيةً جيدة. لكن في العالم الحديث، تَزيد هذه السلوكياتُ من صعوبة هروب الناس من الفقر، وتُدمر صحتَهم في الوقت نفسِه.
إذن يُمكن للتوتر، بالعديد من الطُّرق المختلفة، أن يُعيد تشكيلَ المخ على نحوٍ يجعل الناسَ الذين يُكابدون بيئاتٍ مُناوئة يُعانون من ضررٍ أكبر، ويُهيئهم لمرضٍ مُزمن مدى الحياة. يُساعد هذا الإرثُ القاسي في تفسير السبب الذي يجعل الأشخاصَ المعرَّضين للتوتر، مثل مونيكا، يُقدِمون على الاختيارات التي يتَّخذونها، وسبب استمرار مُعاناتهم من آثارٍ صحية حتى إن تحسَّنَت ظروفهم. لكنه أيضًا يُثير تساؤلًا. هل يُمكن الحيلولة دون هذه التغيرات في المخ، أو حتى عكسها؟