استمتِعْ باللحظة
ظل الشاطئ شِبهَ مهجورٍ طَوالَ ميل أو نحو ذلك. ثم وجدتُ ما كنت أبحث عنه شمالَ محطة الإنقاذ ٢٧ بالضبط. على بُعدِ أمتارٍ قليلة من حافة المياه، جلس حَفْنة من الناس متربِّعين على مَناشفَ في صفٍّ مُنتظم. كانوا أعضاء مجموعة بوذية محلِّية، على وشك البدء في ساعةٍ من التأمُّل الصامت. اتخذتُ مكاني في نهاية الصف، في مواجهة البحر.
طيلةَ قرون، ظلَّ أتباع العقائد الدينية الشرقية يُمارسون التأمُّل بحثًا عن الاستنارةِ الروحية. وقد جاءت هذه الممارسةُ إلى الغرب في ستينيَّات القرن العشرين كجزءٍ من ثقافة الهيبي المضادَّة، التي حظِيَت بتأييدِ مشاهيرَ وفِرقٍ موسيقية مثل «البيتلز» و«ذا دورز». منذ ذلك الحينِ ظلَّت شعبيَّتُها تتنامى؛ إذ بحث الناسُ عن السلام والمعنى وسطَ المشاغل المادية للحياة العصرية، ويبدو أنه لم تَعُد رؤية متأمِّلين على شاطئ في كاليفورنيا حاليًّا أمرًا يستجلب الانتباهَ أكثر مما يستجلبُه حين تراهم في مَعبدٍ في التبت.
إلا أنني لم أكُن هناك من أجلِ رحلة روحانية. كنت مهتمَّة بالمَزاعم العِلمية بأنه يمكن للتأمُّل أن يُحسِّن الصحةَ البدنية والذهنية بالحدِّ من التوتر. من بينِ جميع مجالات الطب التي تَدرُس العلاقةَ بين العقل والجسد، دومًا كان التأمُّل، بصِلاته الوثيقة بالدِّين والروحانية — ناهيك عن المُخدِّرات التي تُوسع العقل — على علاقةٍ مُتوترة بالعلم. أفادت دراساتٌ مُتنوعة منذ سبعينيَّات القرن العشرين بأن باستطاعةِ الرهبان الذين يُمارسون التأمل تحقيقَ طائفة من الآثار الجسدية المُذهلة، بدءًا من خفض ضغط الدم إراديًّا إلى غمرِ أدمغتهم بموجاتٍ كهربائية مُتزامنة للغاية.
لقد اتُّهم بعضُ الباحثين، المُرتبطين ارتباطًا وثيقًا بمنظَّماتٍ دينية، بأنهم يتوصَّلون إلى ما يودُّون رؤيته. ومع أن الرهبان الذين أمضَوا جُلَّ حياتهم في خَلواتٍ نائية قادرون بلا شك على الإتيان بأفعالٍ فذَّة مُدهشة، فإن أهمية هذا لبقيَّتِنا ليست من الأمور الواضحة. لكن في العَقْد الأخير، وضعَ جيلٌ جديد من الدراسات القائمة على تصوير المخ والتجارِب السريرية التأمل بثبات على الخريطة العِلمية. فهي تُثبت أنه رغم أن رصد أفكارنا قد يبدو مؤقتًا، فإن بإمكانه إحداثَ آثارٍ مادية ملموسة على أدمغتنا وأجسادنا.
لكن أولًا، كان الوقت قد حان لأُجرِّب هذا النشاطَ الغامض. توجد مئاتُ الطُّرق للتأمُّل؛ تأمل التعاطف يشمل مُشاطَرة مشاعر الحب والحنان مع رفاقنا من الكائنات الحية الأخرى (سنعرف المزيد عن هذا الأمر في الفصل العاشر)، والتأمُّل التجاوزي يجعل الناسَ يُركزون على مانترا (ترنيمة) متكرِّرة. في الوقت نفسِه ينطوي تأملُ اليقظة الذهنية على الوعيِ بأفكارك وما يُحيط بك. وهو واحدٌ من أشهر المُمارَسات، وأكثرِها خضوعًا للدراسة؛ لذلك قرَّرت ذلك الصباحَ أن أُجرب تأمُّلَ اليقظة الذهنية المسمَّى بالمُراقَبة المفتوحة. وهو أن تجلس في وضعٍ مُنتصِب وثابت، وتُلاحظ ما ينشأ من أفكارٍ أيًّا كانت. ولا تُحاول أن تنتقدها أو تتفاعل معها، وإنما دَعْها تمضي.
ربَضتُ على مِنشَفتي وشرَعتُ في تأمل المياه الرَّقراقة. امتدَّ المشهد لآلافِ الأميال من المحيط الهادئ، وكان جماله يَخلبُ الألباب. بيدَ أن مواجهة هذا الامتداد الشاسع من دونِ أفكار أو أحلامِ يقظة تَشغَل بالي هو أمرٌ مُزعج بعضَ الشيء. إذ عادةً ما تتشابكُ في رأسي الأفكارُ والكلمات؛ المنطوقة والمكتوبة، والمسموعة، والمتصوَّرة، والمُتذكَّرة. ولا أعتقد أنَّ إقصاءها سيكون أمرًا سهلًا.
•••
لست الوحيدةَ التي تملأ رأسَها الأفكارُ المجردة، على حدِّ قول مارك ويليامز، الأستاذ الفخري في علم النفس الإكلينيكي في جامعة أكسفورد، بالمملكة المتحدة. إنه خبيرٌ في الآثار النفسية للتأمُّل، وشارك في تأليف الكتاب الذي صدَر عام ٢٠١١ بعنوان «اليقظة الذهنية» الذي يشرح كيف يُمكن لتدريب الدماغ على أن يكون أكثرَ وعيًا أن يؤديَ إلى الحدِّ من التوتر والقلق في الحياة اليومية. والمفاجأةُ أنه صار من أعلى الكتبِ مبيعًا، مع شهادات من مشاهيرَ مثل روبي واكس وجولدي هاون.
إننا ننهمكُ في عالَمِنا الذهني، بدلًا من ملاحظة العالم المحيطِ بنا. قد يكون هذا تَجرِبةً مُبهجة، كحُلمِ يقظة بعُطلةٍ مُترَفة، أو تخطيطٍ لهدية عيد ميلاد مثالية لصديق. لكن من الممكن أيضًا أن نستعيدَ مواقفَ سلبية مُفعَمةً بالتوتر. قد نكون في خِضمِّ تناولِ وجبةٍ شهية، أو نُحمم أطفالنا أو نسير على الشاطئ، لكننا نُعيد في رءوسنا استعراضَ جدال الأمس، أو قلِقون بشأن التزامات العمل في اليوم التالي، إلى حدٍّ لا يعود في الواقع بأيِّ نفع.
إن الشُّرود في مثلِ ذلك الانشغال أو القلق في حدِّ ذاته يجعلنا متوتِّرين، لكنه يعني أيضًا عجْزَنا عن ملاحظة الأشياء الإيجابية في العالَم من حولِنا التي قد تُخفِّف من قلقنا. أثناء استعدادنا للعمل في الصباح، نكون قد انهمَكْنا بالفعل في المتاعب التي في انتظارنا، فنغفل عن دِفء الشاي والشعورِ بالاطمئنان الذي يبعثُه، وعن أغنيةٍ رائعة على الراديو، وعن ابتسامةِ طفلنا. يقول ويليامز: «من الممكن أن تعيشَ حياتك غافلًا باستمرارٍ عن اللحظات السعيدة.» إننا في فقَّاعة، مُنعزِلين عن مَواطن الجمال والسعادة الصغيرة التي تجعل الحياةَ جديرةً بأن نَحْياها.
يقول ويليامز إننا إن لم نتوخَّ الحذر فقد يتغذى كلٌّ من الذهن والجسم على الآخَر هابطين في دوامةٍ من التدهور. إن الأفكار السلبية تُثير استجاباتِ التوتر في الجسم. لكنها عمليةٌ عكسية أيضًا؛ فحين نكون في وضعية المواجَهة أو الفرار، يصيرُ المخُّ شديدَ التأهُّب للتهديد. وكلما زاد شعورنا بالتوتر، زاد احتمالُ أن تأتيَنا أفكارٌ سلبية.
يُساعد تأمُّل اليقظة الذهنية على الحيلولة دون حدوثِ ذلك. يقول ويليامز مُوضحًا إن زيادةَ وعيِنا بأفكارنا يُتيح لنا التراجعَ وإدراك أن الفكرة السلبية أو المُثيرة للتوتر لا تُمثل الواقعَ بالضرورة. فلسنا بحاجةٍ إلى الاستجابة انفعاليًّا. إنها مجردُ ثرثرةٍ هامشية ناتجةٍ عن المخ. وبمجرد أن نُدرك هذا، يصيرُ باستطاعتنا إخمادُ تلك الثرثرة.
إنَّ امتلاكنا أفكارًا عن العالم جعَلَنا متقدِّمين عن الحِمار الوحشي بخطوة، لكن ذلك له كُلفة. فمن الممكن أن تُنهِكنا المخاوفُ بشأن أشياءَ حدَثَت بالفعل، أو لم تحدث بعد، أو قد لا تحدثُ على الإطلاق. ويبدو أن اليقظة الذِّهنية يُمكن أن تجعلَنا متقدِّمين بخطوةٍ أخرى؛ فمن الممكن أن تكون لدينا أفكار، لكننا لسنا مجبَرين أن نتركها تُسيطر علينا.
•••
في البداية، على الرغم من المنظر البديع، بدا ذِهني توَّاقًا إلى أن يكون في أيِّ مكان آخرَ غيرِ هذا الشاطئ. فقد ظل يتلوَّى ويتململ، رافضًا أن يسكن، مُلقيًا قبالتي بأفكار وصور في تتابُعٍ سريع. بَيْض (إذ كنتُ أُخطط أين سأذهب لتناول الفطور)، ومواعيد سيارات الأجرة (فلديَّ طائرة لا بد أن ألحقَ بها)، وأسئلة مقابلة (فسوف ألتقي بباحثٍ عصرَ ذلك اليوم). كانت كل فكرة وصورة من تلك تُناديني، وتُغْريني بالانسياق وراءها، حتى أضِلَّ في شِعابها.
في كل مرة كنتُ أنبذ سلسلةً من الأفكار، كانت تتبعُها أخرى سريعًا، كأنَّ ذهني تاجرٌ في سوقٍ مُتلهفٌ لبيع شيء: «ألم تُعجبكِ هذه؟ فلتُجرِّبي هذه إذن!» سُترة حمراء اشتريتها آخر مرة حين سِرت على هذا الشاطئ. أي هدايا سأشتريها لصغاري عند العودة.
في محاولةٍ لإقصاء هذه الزوبعة الذهنية، ركَّزتُ على تفاصيل المشهد القائم أمامي، وقد ثبتُّ عينَيَّ بإصرار إلى الأمام. لأول وهلة، بدا الشاطئ حافلًا بالنشاط. كانت الأمواج تتدفَّق وتتدفق، وهي تُدوِّي مثلَ رعدٍ لطيف. وراحت طيور المدوران تُحلق في دوائرَ على امتداد حافة الشاطئ. عبر مجال رؤيتي أشخاصٌ يركضون وآخَرون يُنزهون كلابهم، بينما مكثَت مجموعةٌ من البجع في الماء قبل أن تطيرَ أو تسبحَ بعيدًا عن الأنظار. طوال ٢٠ دقيقة تقريبًا، ظل راكبُ أمواجٍ يذهب ويجيء، وقد ظُلِّل بلَونٍ أسودَ في خلفية السماء، قبل أن يختفيَ هو أيضًا.
انغمستُ مدةً، ولكن مع امتداد الوقت، بدأتُ أشعر أنني مُنفصلة على نحوٍ غريب عن نشاط هذا الشاطئ. تخيَّلتُ أن الطيور والراكضين وراكبي الأمواج مثلُ أفكاري؛ إنهم يتَّخذون أشكالًا وأوقاتًا زمنيةً مختلفة، لكن في النهاية، يمضون جميعًا. بدَءوا يَبْدون أقلَّ أهميةً بطريقةٍ ما، أقل واقعية، وبدلًا من مشاهدتهم يأتون ويذهبون، وجدتُ نفسي أركِّز بعيدًا نحوَ الأفق. انجذبتُ إلى هدوئه الساحر، وخطِّه الثابت من الزُّرقة الداكنة الساكنة.
مع نهاية الساعة، شعرتُ بألمٍ في أطرافي وبشمس الصباح ساخنةً على وجنتَيَّ. حين نظرتُ في أنحاء الشاطئ بعد هذه المحاولة الأولى، شعرتُ فعلًا بالهدوء يكتنفُني وبالتواصل على نحوٍ غريب؛ ربما كأنني جزءٌ من المشهد الأكبر، وأقلُّ انشغالًا بالتفاصيل الشخصية ليومي. تَروق لي فكرةُ التحرُّر من الأفكار السلبية (ومَن لا يروق له ذلك؟) وبوُسعي أن أرى أنَّه بمرور الوقت، قد يصيرُ الأمر آليةً فعَّالة لاكتسابِ منظورٍ مختلِف عن الحياة. لكن هل هذا يُفلح حقًّا؟ فالغالبية العظمى منا ليسوا رُهبانًا، ولا نستطيع أن نُمارس التأملَ طوال الوقت. هل يُمكن لبضع جلسات قصيرة أن تَحميَنا حقًّا من فتكِ التوتر، أو حتى أن تعكسَ تأثيره؟ وهل يُمكن أن يؤثِّر ذلك بدَوره على صحتنا البدنية؟
•••
يعرف جاريث ووكر شيئًا عن كيف يُمكن للماضي والمستقبل أن يُعذِّبنا. قبل عشرِ سنوات، كان يعمل ضابط شرطة في شيفيلد، في شمال إنجلترا، أو على حدِّ تعبيره، «بوبي أون ذا بيت» (ضابط دورية). كان الشابُّ ذو الستةِ والعشرين عامًا مُستمتعًا بوظيفته النشطة، وفي أوقات فراغه كان يحلو له أن يخرج إلى التِّلال ويسيرَ في وديان يوركشاير الجميلة.
ثم في صباح أحد أيام عام ٢٠٠٦، استيقظ جاريث ليجدَ الرؤية مشوَّشةً في عينه اليُسرى. لم يستطع اختصاصيُّ البصريات أن يجدَ أيَّ خَطْب. وصف له طبيبُه مُضاداتٍ حيويةً لالتهاب الملتحمة، لكنها لم تُحدِث فارقًا. في النهاية خضَع لفحص التصوير بالرَّنين المغناطيسي، وألقى عليه طبيبُ الأعصاب خبرًا كالصاعقة؛ كان الجهاز المناعي لجاريث يُهاجم عصبه البصري. كان التفسيرُ الأرجح أنه كان يُعاني من التصلُّب المُتعدد (إم إس).
التصلُّب المتعدِّد هو حالةٌ مُزمنةٌ يُدمر فيها التهابٌ شاذٌّ الجهازَ العصبي تدريجيًّا، ومن الممكن أن يُسبب مجموعةً واسعة من الأعراض، مثل أن يُفقِد المريضَ السيطرةَ على جسده شيئًا فشيئًا. من الممكن أن تتوقف الأطرافُ والعينانِ والأمعاءُ والمثانة عن العمل واحدًا تِلو الآخر. كذلك يُعاني المرضى من الألم والإجهاد، علاوةً على مشكلاتٍ إدراكية ونفسيَّة، وخاصةً الاكتئاب. يبدأ التصلب المُتعدد عمومًا في صورةِ شكلٍ «انتكاسي خامد»، تأتي فيه الهجماتُ ثم تختفي فجأةً. إلا أن الحالة تصير «تزايُدية» في نهاية المطاف؛ أي إن الضرر يظلُّ يتفاقم ويتفاقم بثَبات. وتوجد علاجاتٌ قليلة فعَّالة، ولا شفاءَ منه.
يستلزم تشخيصُ التصلب المُتعدد نَوبتَين مثلَ تلك من الالتهاب؛ لأنه في بعض الأحيان يُصاب أشخاصٌ بنوبةٍ واحدة فقط، ثم لا يُعانون من مشكلاتٍ أخرى. لكنَّ طبيب الأعصاب المُعالِج لجاريث حذَّره من أنه إذا حدث أيُّ شيء آخَر فسوف يُواجه إعاقةً حتمية مُتفاقمة. لثلاث سنوات حاوَل جاريث أن يُواصل عيشَ حياةٍ عادية. ثم، في عام ٢٠٠٩، بدأ يفقد السيطرةَ على مثانته. وفي عام ٢٠١٠، شُخِّصت حالتُه رسميًّا بأنها تصلُّب مُتعدد.
يصف الوقتَ الذي تلا التشخيصَ بأنه «مُرهِق لدرجةٍ مروِّعة.» بعدَ مدةٍ وجيزة بدأ جاريث يجد صعوبة في المشي، واضطرَّ إلى أن يأخذ إجازةً مرَضية من العمل الذي يُحبه. وفي يونيو من ذلك العام، صار أبًا.
يتذكر أنه في أغسطس من عام ٢٠١٠، اصطحبَ زوجته وابنه في عُطلة لمدة أسبوع، حيث أقاموا في كوخ في قرية توسايد الخلَّابة. كانت فرصةً للأسرة للابتعاد والاحتفال بالمولود الجديد. ذات يوم مشمِس، ذهبوا في نُزهة في محميَّةٍ قريبة، وراحوا يتناولون الشطائر على دكة بجانبِ جدولِ ماء. اقترحَت زوجة جاريث أن ينزلا في المياه، بضعة أقدام فحسبُ في مسارٍ ضحْل لكنه صخريٌّ بعضَ الشيء. ما إن بدأ جاريث يتحسَّس طريقه بين الصخور، حتى شعر باختلالٍ في قدمَيه، كأنه قد يسقط.
فجأةً خطرَ له خاطر. إذا كان يُعاني الآن، فكيف سيكون حالُه بعد بضع سنوات؟ نظر إلى ابنه العزيز الذي كان عمره شهرَين فداهمَته فكرة أنه قد لا يُشارك ابنَه في نزهاتٍ كهذه أبدًا. لن يلعبَ معه أبدًا لعبةَ قذف الأحجار على سطح البحيرة، أو كرة القدم، أو أشياء أخرى لا تُحصى مما يفعل الآباءُ الطبيعيون مع أطفالهم. بدلًا من ذلك، سيكون جالسًا على كرسيٍّ مُتحرك، قعيدًا وعاجزًا. أفسدَت هذه اللحظةُ وحدها ما كان من الممكنِ أن يصيرَ احتفالًا عائليًّا مثاليًّا، وأطلقَت سيلًا من المخاوف والخيالات التي لم يملك منها فِكاكًا.
لكن بعد مرور خمس سنوات يبدو أنَّ جاريث صار بعيدًا كلَّ البعد عن اليأس، بل إنه يقول إنه لم يكن أسعدَ من ذلك قط. وهو ينسب الفضل للتأمُّل الواعي في تغيير حياته، وقد أصبح الآن أحدَ أقوى مُناصريه تأثيرًا، بموقعه الإلكتروني وأكثر من ٦٠٠٠٠ مُتابعٍ على تويتر. وقد رتَّبتُ لمقابلته لمعرفة المزيد عن هذا التحولِ المُذهل.
جاء ليُقِلَّني من محطة قطار بلدة بارنزلي حيث يُقيم، وكانت في السابق بلدةَ تَعْدين تقعُ في قلب يوركشاير. كانت ساعة الغداء في أحد أيام يناير الباردة، وقد خرج بي في الحال من البلدة عابرًا حقولًا كسَتْها الثلوجُ، في طريقه إلى قرية سيلكستون الريفية. واعتذر مُتعللًا بأنه لا توجد أماكنُ لائقةٌ لتناوُل الطعام في بارنزلي.
يبلغ جاريث من العمر الآن ٣٦ عامًا، وهو ودودٌ وعلى سجيتِه ومُتواضع، ذو عينَين رماديتَين ثابتتين، وينطق الحروفَ الساكنة ممدودةً على طريقة أهل الشمال. كان يبدو نحيفًا، ولكن ليس إلى درجة الهُزال، في كنزة حمراء وسروال جينز. ظل يُثرثر — فهو يقول إن باستطاعته التحدثَ عن فوائدِ اليقظة الذهنية طوال اليوم — إلى أن بلَغنا المكانَ الذي سنتناولُ فيه الغداء. بحث عن مكانٍ للمُعاقين، ثم استخدم عُكازًا ليُساعده على عبور المسافة القصيرة من موقف السيارات إلى المَقْهى.
عندما جلسنا، سألت جاريث كيف اكتشف اليقظة الذهنية. قال إنه بعد فترة قصيرة من تلك النُّزهة المُفجِعة إلى الجدول، نصحَه بها أحدُ الأشخاص كسبيلٍ للتعامل مع التوتُّر الناجم عن تشخيصه بالتصلُّب المُتعدد. قال لي: «لم يكن لديَّ فكرةٌ عن كيفية التأمُّل. كنتُ قد سمعت الكلمة من قبلُ لكنني كنت أعتقد أنها شيء يخصُّ جماعات الهيبي.» لذا اختار كتابًا إرشاديًّا من الكتب الأكثر مبيعًا عن اليقظة الذهنية من تأليفِ كاتبٍ أمريكي يُدعى جون كبات-زين بعنوان «أينما تذهب، ها أنت ذا.»
بدأ بالتأمُّل خمسَ دقائق في كل مرة، بطريقةٍ مرتجَلةٍ بعض الشيء. فكان يُغمِض عينَيه ويعدُّ شهيقه وزفيره. لو أتته فكرةٌ قبل أن يصل إلى عشرة، كان يعود إلى البداية ويبدأ من جديد. لم يحدث الكثير في البداية. لكن بعدَ شهورٍ قليلة، لاحَظَ تغييرًا.
•••
إذا كانت إليزابيث بلاكبيرن قد قفَزَت فوق الأخدود الفاصلِ بين الطبِّ النفسي والكيمياء البيولوجية في دراستها للقَسيم الطرَفي، فإن الصَّدْع الذي رأبَه كبات-زين كان أوسعَ. بصفته عالِمَ أحياء جزيئيَّة ومعلِّمَ يوجا من ماساتشوستس، كان على اقتناعٍ بأن التأمُّل الذي كان يُمارسه باعتباره جزءًا من عقيدته البوذية يُمكن أن يُساعد الناس الذين لا يستطيع الأطباءُ أن يفعلوا لهم شيئًا ذا بال، مثلًا أولئك الذين كانوا يحتضرون أو الذين دمَّرهم الألم. لكنه كان يعلم أن الأطباء لن يصفوا أبدًا نشاطًا دينيًّا. ثم ذات يوم، بينما كان يتأمَّل في خلوة، راودَته رؤيا. سيُعيد اختراعَ اليقظة الذهنية، مجرِّدًا إياها من الجوانب الدينية والروحية، ليجعلَها مُستساغةً لدى مُمارسي مهنة الطب.
كان إضفاءُ الصبغة العلمانية على التأمُّل إستراتيجيةً محفوفة بالمخاطر. يقول جودمان: «قال بعض الناس: «إنك تُخفف التعاليم، ولن يُفيد ذلك بشيء.» لم نكن قد سمعنا من قبلُ عن أحد اقتطعَ اليقظة الذهنية من البوذية التي كنا نَدرُسها جميعًا.» لكنه حوَّل التأمل من وسيلةٍ دينية محدودة إلى ظاهرةٍ ثقافية.
ويوضِّح أن معظم المُعاناة في الإصابة بالتصلُّب المُتعدد تأتي من الماضي أو المستقبل. فبعدَ تشخيصِ حالته، عذَّبته أفكارٌ راوَدَته عن كل الأشياء التي كان يعشقُها — عمله والتَّجوال — ولن يُقدِم عليها ثانيةً أبدًا، وعن المستقبل، مثل الخوف من أنه لن يرى أبناءه وهم يَكبرون إنْ سلبه التصلبُ المُتعدد بصرَه (لديه ابنان الآن)، أو أنه سيضطرُّ إلى مُعاناةِ ألم لا يُحتمَل.
ويقول: «يتعين عليَّ أن أنتشل نفسي من تلك الأفكار مرَّاتٍ لا تُحصى في أيِّ يوم من الأيام.» وهو يعتقد أن تدرُّبَه المُنتظمَ على اليقظة الذهنية يجعل هذا أسهل. «إنني رجلٌ لم أتعدَّ السادسة والثلاثين، فكيف سيكون حالي بعد عشر سنوات؟ تبدأ تلك القصةُ في ذهني لكنني لا أسمح لها بالمواصلة.» ويقول إنه إذا تمكَّن من البقاء في اللحظة الحاليَّة والتركيز فيما يجري من حوله، تزول معظم المُعاناة من حالته، وتصير الحياة طيبة، بل رائعة.
حاليًّا يُمارس جاريث التأمُّلَ نصف ساعة يوميًّا. فهو يضبط المنبِّه مُبكرًا ويتأمَّل جالسًا في الفِراش، فإما أن يُركز على أنفاسه، أو يضع السماعات، ويبقى مُنتبهًا إلى الموسيقى. لكنه يُحاول كذلك أن يدمج اليقظة الذهنية في حياته. «إذا جاء ابني وقاطعَني يصير هو موضوعَ التأمُّل.» هذا يعني أن يُولِيَ ابنه كلَّ انتباهه بدلًا من السماح لنفسه بالتشتُّت أثناء اللعب.
يعتقد جاريث أن بجانب مساعدة اليقظة الذهنية له على الاستمتاع بالحياة التي يعيشها وتقديرها، بما في ذلك الوقتُ الذي يقضيه مع أبنائه، فقد ساعَدَته أيضًا على أن يُصبح أكثرَ تسامحًا وتعاطفًا: «لا يُمكنك أن تتعاطفَ مع أحدٍ إلا إذا لاحظتَ أشياءَ — مثل العُبوس على وجه زوجتك — وجوهر اليقظة الذهنية هو ملاحظةُ الأشياء.»
كما أنها ساعَدَته على التأقلم مع الألم. يُعاني جاريث من التهابِ العصب الثالث؛ نوبات من الألم الواخز الحادِّ — مثل مخرز ثلج على حدِّ قوله — تنتابُه في جانب وجهه. ومن المتوقَّع أن تتفاقمَ مع تقدُّم حالته. حكى لي قصةً بوذية عن أن الألم يمتلك سهمَين؛ الألم الجسدي، والقصة التي نربطها بذلك الألم. وقد ذكَّرتني الاستعارة بمرضى الحروق الذين التقَينا بهم قبل ذلك الذين يتعاظمُ ألمُهم بالقلق والخوف. لكن بدلًا من أن يُلهِيَ مُمارسو تأملِ اليقظة الذهنية أنفسَهم عن الألم بأداةٍ مثل عالم الثلوج، يَهدفون إلى التخلصِ من المضمون النفسي بمواجهته مباشرةً.
يقول جاريث مُوضحًا: «إنك تدعو الألمَ للدخول. تُرحِّب بالألم، وتدعوه لفنجانِ شاي وتُعانقه. يبدو قولي هذا جنونًا، لكنه يُجدي نفعًا حقًّا. فآثارُ نوبات الألم التي أُعانيها أقلُّ بكثير جدًّا.»
ويقول جاريث: «يظنُّ الناس أن التأملَ يستهلك الوقت، لكن العكس هو الصحيح. فهو يُوفِّر الوقت، بسببِ كلِّ الوقت الذي لا نُمضيه في متابعةِ سلسلةِ أفكارٍ عديمة الفائدة. ولولا التأملُ ما كنت سأصبح قادرًا على عيش الحياة التي أعيشها الآن.»
لا أعتقد أنني كنتُ قد «فهمت» حقًّا الهدفَ من التأمل حتى تحدَّثتُ مع جاريث. فهو ليس حلًّا سريعًا؛ إذ يتطلب ساعاتٍ من الممارسة المنتظِمة، ويلزم إجراءُ المزيد من التجارِب لتحديد مَن يستفيد منه بالضبط وكيف. لكن الآن بينما أمضَغُ الشطائر في وديان يوركشاير المغطَّاة بالثلوج، وأُصغي لهذا الأبِ وضابط الشرطة وهو يصفُ ما يُعانيه يوميًّا من ألمٍ وتوتُّر وخوفٍ يصغر بجانبه أيُّ شيء عليَّ مواجهتُه، لا أملك سوى الاعتقادِ بأنه ما دامت اليقظة الذهنية تُتيح له مواجهةَ هواجسه بشجاعة، بل وبهجة، فلا بد من أنها أداةٌ قوية جدًّا.
•••
كان صباحًا صحوًا في شهر فبراير، وكنت أتمشَّى وأنا أهزُّ جسدي مُحرَجةً في أنحاء حجرة مليئة بالأغراب. كان هذا هو مركزَ اضطرابات المِزاج في جامعة إكستِر بالمملكة المتحِدة، وأولئك الذين معي هنا كانوا يَرْجون أن تستطيعَ اليقظةُ الذهنية أن تحميَهم من يأسٍ ينتابهم ويُهدد حياتهم من جرَّاء اكتئاب حاد، بقطعِ الطريقِ على الأفكار المُثيرة للتوتر.
تُسمَّى الدورة «العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية» (إم بي سي تي). وقد وضَعه مارك ويليامز وزملاؤه من جامعة أكسفورد، وهو يعتمدُ إلى حدٍّ كبير على «الحد من التوتُّر القائم على اليقظة الذهنية» مع التركيز على الاكتئاب. من وجهة نظر الطب التقليدي أن الاكتئاب ينتج من اختلال التوازن الكيميائي في المخ؛ نقص في الناقل العصبي المسمَّى السيروتونين. ترفع أغلبُ مضادَّات الاكتئاب مستوياتِ السيروتونين. لكن العقاقير وحدها تُساعد نحوَ ثلثِ المرضى فقط على التخلُّص من الاكتئاب، وكما رأينا في الفصل الأول، فإن كثيرًا من فوائدها يرجع في الواقع إلى تأثيرِ البلاسيبو. كما أنها، مثلَ أغلبِ العقاقير، تُصاحبها آثارٌ جانبية (من مشكلاتٍ في الأمعاء وعجزٍ جنسي إلى أفكارٍ انتحارية).
لا يزال بديلُ العلاجات النفسية يزداد شيوعًا. العلاج المعرفيُّ السلوكي (سي بي تي) هو أكثرُها دراسةً، حيث يتحدث المُعالجُ مع المرضى عن حياتهم ومشكلاتهم، بغرض مساعدتهم في تحديد أنماط التفكير السلبية غيرِ المُجدِية وتغييرها. لكنَّ العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية (الذي يدمج بين اليقظة الذهنية وبعض عناصر العلاج المعرفي السلوكي) أسرعُ في اللَّحاق بالركب. وفي حين أن العلاج المعرفي السلوكي هو علاجٌ قوي لمن هم مَرْضى بالفعل؛ فقد صُمِّم العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية ليكون أداةً يستطيع الناس استخدامها في الحياة اليومية؛ لتُساعدهم على أن يظَلوا على ما يُرام. وجلسة اليوم هي جلسة منشِّطة للأشخاص الذين أتمُّوا الدورة، ويُديرها ويليم كايكين وأليسون إيفانز.
يوجد هنا ٣٠ شخصًا بأعمارٍ وخلفيَّات مُتفاوتة، وقد عانَوا جميعًا من نوباتٍ متكرِّرة من الاكتئاب الحادِّ في الماضي. أخذتنا إيفانز في بعض التدريبات المختلفة، وقد فصلت بينَ كلٍّ منها بالدقِّ على إناءٍ مَعدِني رنَّان. بعد التركيز على تنفسُّنا، طلبت منا أن ننتبهَ إلى أجسادنا وإلى أيِّ أحاسيسَ جسدية نشعر بها. ثم جاء الجزء الأكثر نشاطًا، وهو السير في أرجاء القاعة مع هزهزة الجسد. الفكرة هي أن الانتباهَ إلى حركات جسمك يُساعدك على التركيز على الحاضر، بدلًا من الاستغراق في شواغلَ بشأن الماضي أو المستقبل.
يبدو المرضى هنا في إكستِر مُقتنعين بمزايا اليقظةِ الذهنية. إذ تقول فيكي، وهي امرأةٌ قصيرة وعمَلية في الثالثة والأربعين من عُمرها، ظلَّت تُعاني من الاكتئاب ٢٠ عامًا: «كنت أكرهُ مضادَّات الاكتئاب. كنت دائمًا أتوقَّف عن تعاطيها فورَ استطاعتي، ثم أُتابع حياتي وأحاولُ أن أنسى ذلك الوقت. لكن كان يحدث شيءٌ صغير فيُثير مشاعري، وأتردَّى في هُوَّة عميقة مرةً أخرى.» وتقول إنه في كل مرة كان ذلك يحدث، كان أسوأ من المرة السابقة، وأصعب أن تُخفيَه عن أبنائها. حين كان ينتابها الاكتئاب، لم تكن ترغب في مغادرة الفراش لأيامٍ مُتتالية.
أتمَّت فيكي الدورةَ منذ عامَين، وتقول إنها ساعَدَتها في ملاحظة إشارات التحذير — أمورًا مثل أن تكون مشغولةً باستمرار، ولا تنام جيدًا، وتشعر بالقلق طوال الوقت — التي تدلُّ على أنها قد تكون على شَفا الانتكاس. وتقول، إنها قبل ذلك: «لم أكُن أفهم لماذا سقطتُ فجأةً في هوَّة. الآن صِرت أكثرَ وعيًا بكثير بما أشعر به. إنه بمثابةِ سلَّمِ أمانٍ يُمكنه إخراجي من ذلك الدَّرْك مرةً أخرى.»
وكان بين الحاضرين، سو ذاتُ الثلاثة والثلاثين عامًا، وهي متسلِّقةُ صخورٍ مُحترفةٌ، وكان لديها مستقبلٌ واعد في عملها كخبيرةٍ في علوم المحيطات، حتى أدَّى التنمُّر عليها في العمل إلى إصابتها بنوبةِ اكتئابٍ حاد. وتقول: «كان كأنَّ زِرًّا ضُغِط. فقد كنتُ أهتاج بشدة وتتسارع نبضات قلبي. كنت أعرق وأشعر بالغثيان حتى إنني لا أستطيع الخروج من الباب الأمامي.» بعد أن وُصفت لها مضادَّاتُ اكتئابٍ لعلاجِ نوبةِ اكتئاب قبل عشر سنوات، قطعت سو على نفسها عهدًا بألا تتعاطى العقاقيرَ مرةً أخرى أبدًا. «من الصعب حقًّا الإقلاعُ عنها، ولها آثارٌ جانبية فظيعة. كما أنها لا تحلُّ المشكلة الأساسية.»
وقد تلقَّت دورة علاج معرفي سلوكي، قبل أن تُحال إلى كايكين. وهي تقول إن مع العلاج المعرفي السلوكي «يُحاول المرء أن يمنع الأفكار «المعتلَّة» من أن تُراودَه. لكن من السهل أن تُبكِّت نفسك، أن تظنَّ أن مشاعرك كانت في الاتجاه الخطأ.» وتقول، مع اليقظة الذهنية: «شعرتُ بارتياح لعدم التحدُّث عن كل شيء. في هذا تقبُّلٌ أكثرُ للنفس. وشعورٌ بأن الخطأ ليس خطَأَك.» بيدَ أنها لديها بعضُ الشواغل، مثلُ احتمال أن الانبعاث المستمرَّ للأفكار في رأسها ربما كان ضروريًّا لقدرتها الإبداعية بصفتِها عالمة. لكنها تتعامل مع اليقظة الذهنية كأنها مجرد تجرِبة أخرى. «حين لا أقدر على فِعلِ شيءٍ ما، أُمارس تمرينَ التنفُّس ثلاث دقائق وأحاول مجدَّدًا. إن الفرق الذي يُحدِثه ذلك مُذهِل.»
ثم قابلتُ آنا، وهي امرأةٌ في السابعة والخمسين من عمرها، ذاتُ وجهٍ تَكْسوه التجاعيد وشعرٍ أبيضَ معقوصٍ على هيئةِ ذيلِ حِصان، وقد ظلَّت تُعاني من اكتئابٍ مُتكرر طيلةَ الجزء الأكبر من حياتها. وكانت في أسوأ حالاتها تُعاني من ميولٍ انتحارية، معتقِدةً أن أبناءها سيكونون أفضلَ حالًا من دونها. كانت هي الأخرى تكرهُ مضاداتِ الاكتئاب. إذ تقول عنها: «كانت تسلبُني طاقتي. لم تكن تتخلَّص من المشاعر السلبية فحسب، بل كانت تتخلَّص من كل المشاعر.» وهي حاليًّا تُمارس التأمل يوميًّا، ولديها يقينٌ بأنه سيُساعدها على أن تظلَّ بعافية من دون عقاقير. «لقد أدركَت أن الأفكار لا يمكن أن تُؤذيَك.»
حين سألتها كيف اختلفَت حياتها بسبب العلاج المعرفي القائمِ على اليقظة الذهنية، كانت إجابتها بسيطة: «صِرت حيَّةً.»
بمجرد أن انتهت الجِلسة، جلستُ أنا وكايكين في مكتبه الذي تغمرُه أشعَّة الشمس، حيث أخبرني أنه يأمُل أن يكون بالإمكان تطويعُ العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية ليُساعد أيضًا أشخاصًا يُعانون من حالاتٍ ذهنية أخرى، مثل القلق المُزمِن أو الرُّهاب الاجتماعي أو اضطرابات الأكل. إلا أنه في نهاية المطاف يعتقد أنه من المحتمل أن تُساعدنا اليقظة الذهنية كلَّنا على التعايش مع مُتطلبات المجتمع الحديث.
فهو يقول: «صِرنا نعيش الحياةَ بأسلوبٍ آلي أكثرَ فأكثر. صار الأطفال يُصابون باضطراباتٍ ذهنية في أعمارٍ أصغرَ فأصغر.» وهو يعتقد، على نحوٍ خاص، أن التقنيات المُشغَّلة دائمًا مثل البريد الإلكتروني والهواتف الجوَّالة والفيس بوك يُمكن أن تكون ضارَّةً إذا لم نتعلم كيف نتحكمُ في تأثيرها علينا. «إننا مُضطرون باستمرارٍ إلى التعامل مع بياناتٍ واردة.» وهو يقول إنه من الصعب جدًّا أن نفعل ذلك بوَعي، أن نستجيب بتفكُّر لما يحدث حولنا بدلًا من التفاعل دون تفكير.
يقول كايكين (الذي انتقل بعد زيارتي إلى إكستِر، وصار الآن مديرَ مركز أكسفورد لليقظة الذهنية): «يوجد ملايينُ الأشخاص المُصابين بالاكتئاب في العالم. إذا استطعنا أن نوفِّر لهم بديلًا لمضادَّات الاكتئاب، فسيكون ذلك حدثًا جللًا.»
لقد قطع طريقًا طويلًا منذ بدأ، في عام ٢٠٠٠، حين «جاهَر بالسِّرِّ» في اضطرابٍ مُعلنًا أنه سوف يَدرُس العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية بعد الاهتمام بالتأمُّل سرًّا وقتًا طويلًا. يقول ويليامز هو الآخَر إنه خشيَ في البداية من احتمالِ أن تقضيَ مجرد دراسة التأمُّل على سُمْعته الأكاديمية: «حين أجرينا التجرِبة الأولى اعتقدنا أننا سوف نُلاقي تشككًا هائلًا. كنتُ من ناحية قلقًا من أن يتضرر عمَلي. لكن العلماء كانوا مهتمِّين فعلًا.»
يرجع هذا الموقف الإيجابيُّ بدرجةٍ كبيرة إلى سلسلة من الاكتشافات الحديثة التي أجبَرَت العلماء الآن على التعامل معه جِديًّا باعتباره ظاهرةً لها آثارٌ ملموسة مُذهلة. لذلك سافرتُ إلى بوسطن، بولاية ماساتشوستس؛ لألتقيَ بالمرأة التي ربما فعلَت ما لم يفعله أحدٌ لإثبات ما للتأمل من تأثير على المخ.
•••
«كنت أعتقد أنَّ مسألة العلاقة بين العقل والجسد برُمَّتها محضُ تُرَّهات. لكن بعدَ شهرٍ من صفوف اليوجا صِرتُ مُولَعةً بها.»
التقَينا في مكتب لازار في حيِّ نيفي يارد في بوسطن، الذي لم يكُن به ما يسترعي الانتباهَ إلا رفٌّ فوقَ مكتبها، تُزينه زهورٌ وردية في مِزْهريةٍ خضراء طويلة؛ وتمثالٌ برونزي لبوذا؛ وراقصةٌ من الفِضَّة جالسة في إحدى وضعيات اليوجا، مائلة للأمام بساقٍ مُستقيمة والأخرى مَثنيَّة. وهي تقول عنها: «أُحب تلك الوضعية. فبينما كنتُ أؤدي تلك الوضعية في اليوجا جاءتني لحظةُ وعيٍ مُهمة.» بدلًا من المكابَدة لتضغط على نفسها لتؤديَ الوضعية كالعادة، استرخَت. تقول ضاحكةً: «لقد تقدَّمتُ نحو ثلاث بوصات. بالاسترخاء تبلغ أهدافًا أكبرَ من التي تصل إليها بالتوتُّر والإجهاد!»
في دراستها العُليا، درست لازار علمَ الوراثة البكتيري. ثم أُصيبت ركبتُها أثناء التدرُّب للمشاركة في ماراثون. ولما كانت غيرَ قادرة على الركض مؤقتًا بعض الوقت، بدأتْ تُمارس اليوجا لتُحافظَ على لياقتها، وقد اندهشَت من تأثيرها عليها. شعرت، مثل جاريث، أن مخَّها صار يعمل بطريقةٍ مختلفة. وتقول: «لقد غيَّرَت طريقةَ تفكيري في الأشياء.» فقد شعَرَت أنها صارت أهدأ، وأكثرَ تعاطفًا، ولديها قدرةٌ أفضلُ على رؤية وجهات النظر المختلفة. إذ تقول: «إنني أعيش في بوسطن حيث يوجد الكثير من السائقين المجانين. وقد أدركتُ أنني لست بحاجةٍ إلى الغضب منهم. فربَّما يكونون في عجَلة من أمرهم، وربما هم أيضًا مُتوترون.»
وإذ فُتِنَت بما كان يحدث لدماغها، تحوَّلَت لازار من دراسة البكتيريا إلى علم الأعصاب. تدرَّبَت على استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي؛ التقنيةِ نفسِها التي شاهدَت الأطباءَ يستخدمونها لتصويرِ تكيُّسٍ في دماغ دانيال على الجانب الآخَر من البلدة في مركز بوسطن الطبي. ولما كانت ممارسةُ اليوجا في الحيِّز الضيِّق لجهاز مسح المخ غيرَ ممكنة؛ لذلك بحثَت بدلًا من ذلك مسألةَ التأمُّل المُتصلة بها.
دلَّ هذا الارتفاعُ في موجات جاما على أنه عند مُمارَسة الرهبان التأمُّل، كانت أدمغتهم على درجةٍ عالية جدًّا من التنظيم والتنسيق، مع نشاطِ أعدادٍ كبيرة من الخلايا العصبية معًا. كذلك كان لديهم نشاطٌ مُرتفع جدًّا في القشرة الجبهية الأمامية، وهي منطقةٌ مُرتبطة بالأفكار والمشاعر الإيجابية. كانت النتائج مُثيرةً للاهتمام. فقد كان واضحًا أن هؤلاء المتأمِّلين المُخضرَمين قادرون على استحضارِ حالاتٍ من الوعي خارج النطاق الطبيعي للتجربة.
إلا أن لازار فعلَت شيئًا مُختلفًا. كانت مُقتنعةً بأن مُمارَستها لليوجا لم تبعَث فيها حالةً عابرة من الوعي فحَسْب، وإنما تبعَثُ فيها تحوُّلًا دائمًا في الطريقة التي يعمل بها مخُّها. تقول: «أدركت أن مخي قد تغيَّر.» لذلك بدلًا من الاطلاع على نشاط المخ، راحت تفحص تركيبَه المادي. لم يتيسَّر لها التوصلُ إلى رهبان؛ لذلك درَسَت رجالًا عاديِّين من بوسطن — مُعالجًا وطاهيًا ومُحاميًا واختصاصيَّ تكنولوجيا معلومات — كانوا متمرِّسين في التأمل ويُمارسونه يوميًّا.
حتى تُريَني ما اكتشفَته، عرَضَت لازار سلسلةً من صور الأشعة على شاشة الكمبيوتر الخاصِّ بها. لا بد أنها قد رأت عشراتِ الآلاف منها على مدى مسيرتها المِهْنية، لكنَّ عينَيها لا تزالان تتَّسعان عجبًا عندما تُطلُّ على الجمجمة البشرية. وتقول: «يبهرني أننا نستطيع الحصولَ على هذه الصورة المفصَّلة للمخ. يبدو بعضها واضحًا وضوح الشمس، إنه أمرٌ مُذهل.»
إن لازار مُنبهرة بما نستطيع رؤيتَه في هذه الصور، لكن يدهشني أيضًا ما لا يُمكننا رؤيته. فهذا إنسان، ولكن لا يوجد في هذه التكوينات المعقَّدة المفصَّلة أيُّ شيء يُخبرنا بما يهتمُّ به هذا الشخص، أو ذكرياته الأولى، أو الموسيقى التي يُحبها، أو الطعام الذي يَعافُه. ما زال أمامنا طريقٌ طويل للغاية لنقطعَه في سبيل فَهم المخ. لكن في الوقت الحالي، هذه الصور باللونَين الأبيض والأسود هي أفضلُ نافذةٍ لدينا على أسراره. فأيُّ علامة يتركها التأملُ؟
بعد ذلك، بدأت الدراسات تُبين أن كلَّ شخصٍ من عازف الكمان حتى سائقِ سيارة الأجرة يُعزِّز المناطق المعنيَّة من المخ بخلايا وروابط جديدة، تمامًا كما نبني عضلاتنا بالتمارين البدنية. أثبتت دراسة لازار أنه يُمكن للتأمل أن يفعل هذا أيضًا. ولأول مرة كان من الممكن تفسيرُ كيف قد يُغير التأملُ الطبيعة السيكولوجية والفسيولوجية تغييرًا دائمًا.
وقد تبعها باحثون آخَرون، مُعلِنين عن نتائجَ مُشابهة لعدةِ أنواعٍ مختلفة من التأمُّل. ومع ذلك، كانت لا تزال ثَمة مشكلة. فقد تركَت هذه الدراساتُ المجالَ مفتوحًا للاعتقاد بأن «المتأمِّلين غريبو الأطوار»، على حدِّ تعبير لازار. من المحتمل أن يكون للأشخاص الذين يختارون التأمُّلَ أساليبُ حياةٍ خاصة (كثير منهم نباتيُّون أيضًا، على سبيل المثال) قد تُؤثر على أدمغتهم، أو ربما يكون الأشخاص الذين لديهم أنواعٌ معيَّنة من الأدمغة هم الأكثرَ إقبالًا على التأمل في المقام الأول. لإثباتِ أن التأمل هو ما يُحدِث التغيرات، كان من الضروريِّ الإتيانُ بأشخاصٍ لم يُمارسوا التأمل من قبلُ قط، وملاحظةُ تأثير ممارسته عليهم.
تقول لازار: «ذلك أمرٌ مهم.» كما رأينا في الفصل الثامن، يُقلل التوترُ المزمن والاكتئابُ من حجم قرن آمون والقشرة الجبهية الأمامية، فيما تصير اللوزةُ المخية أكبرَ حجمًا وأفضلَ اتصالًا. بعد ثمانية أسابيع فقط من التدريب، لاحظت لازار انعكاسَ بعض هذه التغييرات. وتُشير النتائج التي توصَّلت إليها إلى أنه يُمكن للتأمل أن يُعيد ترتيب الأمور في صالحنا، فيجعلَنا أكثرَ مقاومةً للتوتر.
تُشكل أبحاث لازار جزءًا من مجهودٍ جبَّار تقوم به معاهدُ الصحة الوطنية لإيجادِ وسائلَ للوقاية من داءِ ألزهايمر ومعالجته مع تقدُّم السكان في السن. ربما بدا قرارها بدراسةِ التأملِ جنونيًّا في حينه، لكنها صارت الآن جزءًا من المؤسسة.
•••
إنني مقتنعةٌ الآن بأن تأمُّلَ اليقظة الذهنية يمتلك القدرة على تغيير عقولِنا وأدمغتنا، على الأقل لدى أولئك الذين يُمارسونه بانتظام. لكنني ما زلت أريد معرفةَ شيءٍ ما؛ وهو هل تتجاوزُ تلك الآثارُ المروضة للتوتر المخَّ فتؤثر على جهازنا المناعي؟ وهل يُمكن أن يُساعد التحلِّي باليقظة الذهنية على إبطاء تطور حالة اضطراب مناعة ذاتية مثل التصلُّب المُتعدد؟
عودةً لمقهى يوركشاير، سألت جاريث عن رأيه. فأخبرني أنه في عام ٢٠١١، بعد أن بدأ التأمُّل بوقتٍ قصير، شُخِّصَت حالته بأنها من النوع «التقدُّمي» من التصلُّب المُتعدد الأشدِّ خطورةً، حيث بدلًا من الإصابة بنوباتٍ دورية، تستمرُّ حالة الناس في التدهور على نحوٍ مطَّرِد فحسب. لكنه خلال الخمس السنوات تقريبًا التي أعقبَت ذلك فاجَأ أطبَّاءه؛ لأن حالته ظلَّت مُستقرةً إلى حدٍّ كبير.
يقول جاريث إنه حين يقترح عليهم احتمالَ أن تكون ممارسته للتأمُّل قد ساعدَت على إبطاءِ تطورِ مرضه، ينظرون إليه «نظرةَ تهكُّم». لكنه مُقتنعٌ بأن اليقظة الذهنية أحدُ العوامل؛ إذ يقول: «إنني مُصابٌ بالتصلُّب المُتعدد التقدُّمي منذ خمس سنوات، وكان من المفترَض أن أكون أسوأ حالًا مما أنا عليه.»
لكن سواءٌ تبيَّن أن اليقظة الذهنية تُؤثر على تطور مرض جاريث على المستوى الجسدي أم لا، فإنه يقول إن الفوائد النفسية وحدها تجعلها مُجدِية. في الواقع، على الرغم من مُعاناته من حالة يُصاب عددٌ كبير جدًّا من مرضاها بالاكتئاب السريري، يُصرُّ جاريث على أنه حاليًّا أكثرُ سعادةً منه في أيِّ وقتٍ مضى في حياته. فقد قال لي أثناء تناولنا القهوة: «إن عافيتي في حالةٍ رائعة.» ثم أضاف: «يجعل التصلبُ المتعدد بعضَ الأشياء في غاية الصعوبة. لكن الحياة صعبة. وأنا أفضِّل التركيز على الأشياء الجيدة، ولديَّ الكثير جدًّا منها.»
يتذكر اليومَ الذي حاوَل فيه السَّير إلى ذلك الجدولِ مع ابنه الرَّضيع، حين ألقى به خوفُه من المستقبل في دوَّامة من اليأس؛ عندما محَت خاطرةٌ واحدةٌ فقط بهجةَ يومٍ كامل. يقول: «إذا حدَث ذلك الآن فسوف أقول: «حسنًا، هذه ليست إلا خاطرة». وسوف أشقُّ طريقي بصعوبة إلى الجدول وأستمتعُ باللحظة.»