الفصل الأول
لقد مُلئ العَالَمُ بالمعجزات، ولكن لا أشد إعجازًا من الإنسان.
سوفوكل من حديث الجوقة في قصة أنتيجون
أُوديب
:
ها أنا ذا أحضر وقد استجمعتُ شخصيتي كاملةً في هذه اللحظة من لحظات الزمان
السرمدي، أَشْبَهُ شَيء بشخصٍ يظهر على مقدمة المسرح قائلًا:
أنا أُوديب، قد عَمَّرْتُ أربعين سنة، ومَلَكْتُ عِشْرِين عَامًا، وبلغتُ بقوة ذارعي قمة السعادة. لقد كنتُ لقيطًا لا يُعْرَف له أصل، ولا يحمل ما يثبت شخصيته، وأنا الآن أسعد الناس بأني لستُ مدينًا بشيء لإنسان. لم تُوهب لي السعادة، وإنما أخذتها قسرًا، وأنا من أجل ذلك عرضة للغرور، وقد أردتُ أن أتجنَّبه، فسألتُ نفسي: ألم يكن في أمري أثر للقضاء والقدر؟ أعمد بهذا السؤال إلى أن أعصم نفسي من دُوار الكبرياء هذا الذي تزلُّ له أقدام كثير من أبعد القادة صوتًا، وأعظمهم امتيازًا.
… هَلُمَّ! هَلُمَّ! يا أُوديب! لا تُغامر بنفسك في كلامٍ طويل تُوشِكُ أَلَّا تُحْسِنَ الخروج منه. قُلْ في يُسرٍ ما تريد أن تقول، ولا تشع في ألفاظك هذا الورم الذي تحرص على أن تتقيه في حياتك، كل شيءٍ يسيرٌ، وكل شيءٍ يأتي في إبَّانه؛ فكُنْ يَسيرًا وكن صائبًا كالسهم. امضِ إلى غايتك في غير عوجٍ ولا التواء …
وهذا يردُّني إلى ما كنتُ أقول آنفًا. نعم! إذا ظننتُ أَحيانًا أني صنيعة الآلهة، ومصدر ذلك رغبتي في التواضع والاعتدال، وفي أنْ أرُدَّ إليهم فضل ما كُتِبَ لي من تفوق، فمن العَسِيرِ أَلَّا يتعرض مثلي للغرور والكبرياء. وسبيلي إلى القَصْدِ أنْ أَزْعُم أنَّ فَوقِي قوة مُقدَّسة أخضع لها راضيًا أو كارهًا.
ومن ذا الذي لا يُذعن مُطمئنًّا لقوةٍ مُقدسةٍ ترقى به إلى حيث بلغت! إن إلهًا يقُودك يا أُوديب، وليس في الأرض اثنان يُشبهانك. بذلك أُحدِّث نفسي في أيام الآحاد والأعياد، فأمَّا في سائر الأيام فإني لا أجد الوقت للتفكير فيه. وما أَنَا وهذا كله؟ إني لسيئ التفكير، ليس حُسن المنطق من خصائصي، وإنما أنا أصدر دائمًا عن الحَدْس.
من الناس من يسأل نفسه في كل فرصة، وفي كل موطن تزدحم فيه العربات: أيجبُ أن أتأخر؟ أمن حقي أنْ أمضي إلى أمام؟ أمَّا أنا فأمضي في حياتي كأنَّ إلهًا يُرشدني إلى ما أُريد.
أنا أُوديب، قد عَمَّرْتُ أربعين سنة، ومَلَكْتُ عِشْرِين عَامًا، وبلغتُ بقوة ذارعي قمة السعادة. لقد كنتُ لقيطًا لا يُعْرَف له أصل، ولا يحمل ما يثبت شخصيته، وأنا الآن أسعد الناس بأني لستُ مدينًا بشيء لإنسان. لم تُوهب لي السعادة، وإنما أخذتها قسرًا، وأنا من أجل ذلك عرضة للغرور، وقد أردتُ أن أتجنَّبه، فسألتُ نفسي: ألم يكن في أمري أثر للقضاء والقدر؟ أعمد بهذا السؤال إلى أن أعصم نفسي من دُوار الكبرياء هذا الذي تزلُّ له أقدام كثير من أبعد القادة صوتًا، وأعظمهم امتيازًا.
… هَلُمَّ! هَلُمَّ! يا أُوديب! لا تُغامر بنفسك في كلامٍ طويل تُوشِكُ أَلَّا تُحْسِنَ الخروج منه. قُلْ في يُسرٍ ما تريد أن تقول، ولا تشع في ألفاظك هذا الورم الذي تحرص على أن تتقيه في حياتك، كل شيءٍ يسيرٌ، وكل شيءٍ يأتي في إبَّانه؛ فكُنْ يَسيرًا وكن صائبًا كالسهم. امضِ إلى غايتك في غير عوجٍ ولا التواء …
وهذا يردُّني إلى ما كنتُ أقول آنفًا. نعم! إذا ظننتُ أَحيانًا أني صنيعة الآلهة، ومصدر ذلك رغبتي في التواضع والاعتدال، وفي أنْ أرُدَّ إليهم فضل ما كُتِبَ لي من تفوق، فمن العَسِيرِ أَلَّا يتعرض مثلي للغرور والكبرياء. وسبيلي إلى القَصْدِ أنْ أَزْعُم أنَّ فَوقِي قوة مُقدَّسة أخضع لها راضيًا أو كارهًا.
ومن ذا الذي لا يُذعن مُطمئنًّا لقوةٍ مُقدسةٍ ترقى به إلى حيث بلغت! إن إلهًا يقُودك يا أُوديب، وليس في الأرض اثنان يُشبهانك. بذلك أُحدِّث نفسي في أيام الآحاد والأعياد، فأمَّا في سائر الأيام فإني لا أجد الوقت للتفكير فيه. وما أَنَا وهذا كله؟ إني لسيئ التفكير، ليس حُسن المنطق من خصائصي، وإنما أنا أصدر دائمًا عن الحَدْس.
من الناس من يسأل نفسه في كل فرصة، وفي كل موطن تزدحم فيه العربات: أيجبُ أن أتأخر؟ أمن حقي أنْ أمضي إلى أمام؟ أمَّا أنا فأمضي في حياتي كأنَّ إلهًا يُرشدني إلى ما أُريد.
(الجوقة في مقدمة المسرح وقد انقسمت قسمين؛ أحدهما عن يمين، والآخر عن شمال.)
الجوقة
(بقسميها)
:
نحن الجوقة، التي كُلِّفت في هذا المكان أن تُمثل رأي أَضخم عدد مُمكن من
الناس، نُعلن دهشنا وحزننا أمام هذه الشخصية الممعنة في إيمانها بنفسها. فهذا
الشعور الذي يظهره أُوديب لا يقبل من غيره إلا إذا ألقي من دونه جحاب.
وليس من شكٍّ في أنَّ من الخير للإنسان أن يترضَّى الآلهة. ولكنَّ أقوم السبل إلى ذلك أن ينحاز إلى رجال الدين، وإن أُوديب ليُحْسِنُ إذا استَشَارَ تيرسياس؛ فهو الذي يمسك إرادة الآلهة. إن أوديب ليظهر العناية بنا، وهو يوشك أن يُغْضِب الآلهة علينا، ولعله أن يكون مصدر هذه الآلام التي تبهظنا الآن (في صوتٍ خافتة) سنشتري رِضَاهم ببعض الضحايا التي لا يرتفع ثمنها، وببعض الصلوات التي يحسن توجيهها، وسنباعد ما بيننا وبين ملكنا فنحوِّل إليه وحده العقاب على هذه الكبرياء التي تستوجب العقاب.
وليس من شكٍّ في أنَّ من الخير للإنسان أن يترضَّى الآلهة. ولكنَّ أقوم السبل إلى ذلك أن ينحاز إلى رجال الدين، وإن أُوديب ليُحْسِنُ إذا استَشَارَ تيرسياس؛ فهو الذي يمسك إرادة الآلهة. إن أوديب ليظهر العناية بنا، وهو يوشك أن يُغْضِب الآلهة علينا، ولعله أن يكون مصدر هذه الآلام التي تبهظنا الآن (في صوتٍ خافتة) سنشتري رِضَاهم ببعض الضحايا التي لا يرتفع ثمنها، وببعض الصلوات التي يحسن توجيهها، وسنباعد ما بيننا وبين ملكنا فنحوِّل إليه وحده العقاب على هذه الكبرياء التي تستوجب العقاب.
جوقة اليمين
(إلى أوديب)
:
لا يشك أحد في أنك سعيدٌ، وإن كنت تُسرف في إعلان هذه السَّعادة، ولكننا نحن
لسنا سعداء، نحن شعبك. أي أُوديبُ نحن شعبك لسنا سعداء. وددنا لو نُخفي هذا
عليك، ولكن هذه القصة لن تأخذ طريقها إلا إذا حدَّثناك بنبأ مروِّع. إن الطاعون
— ما دام يجب أن نسميه باسمه — ما زال ماضيًا في دفع المدينة إلى الحداد؛ وقد
عوفيت منه أسرتك إلى الآن، ولكن من الملائم ألا يُغضِي الملك عما يُصيب أمته من
الرَّزايا، وإن لم يصبه منها طرف.
جوقة الشمال
:
على أننا لا نكادُ نَشُكُّ في أنَّ بين سَعَادَتِكَ وَشَقَائنا صلةً خفية،
بذلك تلمح لنا أحاديث تيرسياس. ومن الخير أن نتعرف جلية الأمر فيه، سيُنْبِئُنا
بِذَلك أبولُّون، فأنت قد أرسلت الرجل الكريم كريون صهرك إلى معبد الإله،
وسيعود إلينا عما قليل بما ننتظر في لهفة من جواب الوحي.
أوديب
:
ها هو ذا مقبلًا! (يدخل كريون)
أوديب
(إلى كريون)
:
وإذن؟
كريون
:
أليس من الخير أن نتحدث منفردين؟
أوديب
:
لماذا؟ إنك تعلم أني أزدري الرِّياء والخواطر المستورة، فستقول إذن كل شيءٍ
أمام كلِّ الناس. إلى ذلك أدعوك، بل بذلك آمرك. من حق الشعب أنْ يعلم كما أعلمُ
أنا كل ما من شأنه أن يدفع عنه الضر. على هذا النحو وحده يستطيع أن يعينني على
دفع البلاء، ماذا قال الوحي؟
كريون
:
بالضبط هو ما كنتُ أخاف، وهو أنَّ في المملكة شيئًا قد شمله الفساد.
أوديب
:
قف. ليس محضر الشعب كافيًا. يجب أن تُدعى إلى هذا المكان أُختك جوكاست
وأبناؤنا الأربعة.
كريون
:
اسمع لي، إني أحمد لك دعاء جوكاست؛ فأنت تعلم أنَّ شعور الأسرة شديد السلطان
على نفسي، وهي مع ذلك تستطيع أن تشير علينا فتُحسن المشورة. أما الفتية
فيُخيَّل إليَّ أنهم أصغر سنًّا من أن يُشاركوا في هذا الحديث.
أُوديب
:
ليست أنتيجون طفلة. أمَّا إتيوكل وبولينيس فهما كما كنت في سنهما، ليسا غبيين
وفيهما جراءة وإقدام، فمن الخير أن ندعوهما، وأن نشغلهما ببعض الهم. أما إسمين
فلن تفهم شيئًا.
(تدخل جوكاست وأبناء أوديب الأربعة.)
أوديب
(إلى جوكاست)
:
إنَّ أَخَاك قادم من بيتو.١ وقد أردت أن تكونوا جميعًا حولي؛ لنَسْمَع جواب الآله. هَلُمَّ يا
كريون، تحدَّث الآن: ماذا قال الوحي؟
كريون
:
قال: إن الإله لن يحوِّل غضبه عن ثيبا حتى يثأر للايوس.
أوديب
:
يثأر له من ماذا؟
كريون
:
ألا تعلم أنَّ الذي تخلفه في سرِير أُخْتِي جوكاست وعلى العرش قد مات
مقتولًا؟
أُوديب
:
أعلم ذلك، ولكن ألم يُعاقب المجرم؟
كريون
:
لم تستطع الشرطة أن تأخذه، بل يجبُ أن نعترف بأنَّ البحث عنه لم يتصل.
أوديب
(إلى جوكاست)
:
لم تنبئيني.
جوكاست
:
لقد كنتَ تُقاطعني يا صديقي كُلما حاولتُ أن أتحدَّث إليك، وكنتَ تصيح: كلَّا
لا تُحدِّثِيني عما مضى، فلستُ أُريد أن أعلم من أمره شيئًا؛ لقد بدأنا عصرًا
ذهبيًّا، كل شيء يتجدد …
كريون
:
وكانت كلمة العدل إذا نطق بها فمك تؤدي معنى العفو.
أوديب
:
لو كنت أعرف الخنزير الذي …
جوكاست
:
هوِّن عليك يا صديقي! هذا تاريخٌ قديم. لا تَعُدْ إلى ما مضى.
أوديب
:
كلَّا لن أهوِّن على نفسي، بل أنا أُريد أن أعلم من ذلك. أُقسم بالجحيم لن
أَنْتَهي حتى أظفر بالمجرم. سألتمسه حيثما يكون، وأُقسم إنه لن يفوتني، كم مضى
على ذلك من وقت؟
جوكاست
:
كنت أيِّمًا منذ ستة أشهر حين خلفت لايوس، وقد مضى على ذلك عشرون
عامًا.
أوديب
:
عشرون عامًا في حياةٍ سعيدة …
تيرسياس
:
… وهي أمام الإله كيومٍ واحد.
(وقد دخل تيرسياس مع أنتيجون وإسمين دون أن يلحظ. وهو ضرير قد اتخذ لباس الكهنة.)
أوديب
:
يا للآلهة! إن هذا الرجل لثقيل! يُقحم نفسه دائمًا في أمور الناس، من طلب
إليك الحضور؟
جوكاست
(إلى أوديب)
:
يا صديقي لا ينبغي أن تتحدث على هذا النحو أمام الصغار؛ فمن الخطأ أن ننقص من
سُلطان الرجل الذي اتخذناه لهم مربيًا وأُستاذًا، والذي يجب أن يُرافقهم
دائمًا. (ملتفتة إلى تيرسياس) كنت تقول
…
تيرسياس
:
لا أريد أن أسوء الملك.
أوديب
:
لا يسوءني ما يقال، بمقدار ما يسوءني ما تضمره النفوس ولا تقوله الألسنة؛
تكلم.
تيرسياس
:
سنتحدث منفردين يا أُوديب عن سعادتك … عما تُسميه السعادة. أما الآن فالأمر
يعني شقاء الشعب. أي أُوديب إنَّ الشَّعب يألم، ولا يمكن للملك أن يجهل هذا
الألم. إن الإله يُنشئ صلةً خفيَّةً بين السعادة التي تُتاح لقليل من الناس
والشَّقاء الذي يُفرض على أكثرهم. إن اسم الإله يتردد كثيرًا على لسانك يا
أوديب، وما ينبغي أن ألومك في ذلك، وإنما ألومك في أنك تتخذ من الإله مُقِرًّا
لعملك لا قاضيًا لك، وفي أنك لا تضطرب أمامه خوفًا.
أوديب
:
لم أكن قط ما يسميه الناس هيَّابًا.
تيرسياس
:
كلما عظمت شجاعة الإنسان أمام الناس اشتد رضا الإله حين يراه خائفًا أمامه
مضطربًا من الخوف.
أوديب
:
لو أني اضطربت أمام أبي الهول لما استطعتُ أن أُجيبه، ولا أنْ أصير
ملكًا.
الجوقتان
:
أي أوديب، أي أوديب! عبثًا تحاول، إنك لتعلم أنَّ أحدًا لا يستطيع أن يستأثر
بالكلمة الأخيرة دون تيرسياس، وإن كان ملكًا.
الجوقة الأولى
:
لقد قهرت أبا الهول، ولكن تذكر أنَّك أبيت فيما بعد ذلك أن تحفل بزجر
الطير.
الجوقة الثانية
:
ولما كانت هذه تُؤرِّق نومك، فقد دفعتنا إلى الإثم حينَ أذِنت لنا في صيدها،
على الرَّغم من تَحْرِيم تيرسياس لهذا الصيد.
الجوقتان
:
لقد كنا نتخذ من الطير طعامًا شهيًّا، ولكننا لم نلبث أن تبيَّنا الخطيئة حين
رأينا الإله الساخط يسلط الدود على زراعتنا.
الجوقة الأولى
:
وإذا كنا قد أخذنا أنفسنا بالصوم في ذلك العام، فإنما أردنا التكفير عن
خطيئتنا.
الجوقة الثانية
:
ولأننا لم نكن نجد ما نأكل.
الجوقتان
:
ولذلك فنحن على إيثارنا طَاعَتَك؛ ننصحُ لك بالإصغاء إلى ما يقوله
تيرسياس.
أوديب
(إلى ابنيه)
:
إنَّ الشعبَ يُؤثر دائمًا تفسير ما يعرض له من الأحداث بالأسرار الغَامضة على
تفسيرها بأسبابها الطبيعية، ليس إلى تغيير هذا من سبيل (إلى تيرسياس) هَلُمَّ! امض في حديثك.
تيرسياس
:
تستطيع شرطة الملك أن تبحث عن مجرم، ولكنْ إلى أن تجده أرجو أن تأخذوا جميعًا
أنفسكم بالنَّدم؛ فكلكم خاطئ أمام الإله، ولن نستطيع أن نتصوَّر إنسانًا قد برئ
من الخطايا؛ فليعكف كل منكم على نفسه، وليُحاسب ضميره، وليندم على ما قدَّمت
يداه. وفي أثناء ذلك سنقدم من الضحايا ما يُهدئ من غضب الإله الذي يمتحن
المدينة بهذا البلاء. لقد جلَّ عدد الموتى عن الإحصاء، ويستطيع بولينيس الذي
كان يسايرني آنفًا، والذي رأى ما لم أكن أرى، أن يُنبِئَك بذلك.
بولينيس
:
أجل يا أبتِ! لقد رأينا غير بعيدٍ من القصر جماعةً من المطعونين قد دنَّسهم
البراز والقيء، وهم يتلوَّوْنَ من الألم، ويُعين بعضهم بعضًا على الموت، وكان
الجو من حولهم يضطرب بما يبعثون من حشرجة وأنين، ومن زفرات ونظرات …
كريون
:
حسبك! حسبك! …
(إسمين يأخذها الإغماء.)
أوديب
:
هذه الصبية يُغْشَى عليها الآن.
إتيوكل
(إلى بولينيس)
:
ما كان لك أن تقصَّ هذا كله أمام أختك.
أوديب
(إلى جوكاست)
:
أرجو أن تُخرِجي هؤلاء الصِّبْيَة. (يخرجون ومعهم
تيرسياس) لينصرف الشعب فإني أريد أن أخلو للتفكير.
(يبقى أوديب ومعه كريون.)
كريون
:
متناقض كغيرك من الذين يُرسلون أنفسهم على سجاياها. ما نفع هذا القسم الذي
أقسمته آنفًا؟
أوديب
:
أي قسم؟
كريون
:
أترى؟ لقد أنسيته! ولكن الشعب، ولكن أبناءك لن ينسوه، وما زال تيرسياس قادرًا
على أن يذكِّرك به. لقد أقسمت لتثأرن للملك.
أوديب
:
هذا حق. لماذا لم يُحاكم المجرم؟
كريون
:
لقد طويت القضية.
أوديب
:
من الذي طواها؟
كريون
:
أنا الذي طواها أوَّلًا حين كنت وصيًّا على العرش. فقد رأيتُ من الخطأ أنْ
أَلفت إليها الشعب، وأنْ أُلقي في روعه أن الملك يمكن أن يقتل كغيره من
الناس.
أوديب
:
نعم! ولكنه يعلم ذلك الآن.
كريون
:
ولم ترد جوكاست أن يجري التحقيق؛ لأنها رأت في كثير من الحكمة أن أول عهدك
بالملك لا ينبغي أن يشيع فيه الظلام.
أوديب
:
لقد حرصت جوكاست دائمًا على أن تحوط سعادتي. إنها كاملة، جوكاست، أيَّ زوجٍ
هي! أيَّ أمٍّ هي! أَمَّا أنا فَلَمْ أَعْرِف أُمِّي قط، وإني لأُحب جوكاست حب
البنوَّة والزَّوجية معًا، قل لي: أكانت تُحب زوجها الأول؟
كريون
:
أقل مما تحبك من غير شك.
أوديب
:
قل لي أيضًا: … ألم يولد لهما الولد؟
كريون
:
هذه قصة أخرى. لست أدري أمن حقي أن أقصها عليك …
أوديب
:
لم يكن من حقك أن تُشير إليها فأَمَا وقد فعلتْ، أما الآن فأريد أن
أعلم.
كريون
:
إذن فهاك القصة: لم يكونا يُريدان الولد؛ لأنَّ الوحي …
أوديب
:
الوحي أيضًا …؟
كريون
:
… تنبأ بأنَّ لايوس سيموتُ مقتولًا بيد ابنه، ولكن في ليلة من ليالي الحب
الذي لا حذر فيه …
أُوديب
:
لقد فهمت عنك. وماذا كان من أمر هذا الطفل الذي أنتجه الهُيام؟
كريون
:
كان غلامًا لم يكد يولد حتى دُفع إلى راعٍ كُلِّف هذه المهمة الحزينة؛
مِهِمَّة إلقائه على الجبل حيث التهمته الوحوش الضارية.
أوديب
:
ألا يزال هذا الراعي حيًّا؟
كريون
:
إنك لتُسرف عليَّ في السؤال. أتريد نصيحتي؟ لا تَشْقِ نفسك بهذا، وعشْ
سعيدًا.
أوديب
:
مع هذه الشوكة في وسادتي أخشى ألا يتاح لي النوم منذ الآن. على أنك قد سمعت
أنَّ الإله يطلب عقاب القاتل.
كريون
:
أيها العزيز أوديب، إنَّ الوحي الذي يسيغه الشعب لا ينبغي أن يخيفنا نحن
الحاكمين. ينبغي أن نتخذ منه وَسيلة لتقوية السلطان، وأنْ نُؤَوِّله كما نشتهي.
لقد أنبأَنَا بأن لايوس سيموتُ مَقْتُولًا بيد ابنه؛ فقد هلك هذا الابن، ولم
يمنع ذلك من قتل لايوس. ولو قد عاش لما أُتيح لك أَنْ تَرقَى إلى عرشه؛ فلا
تشقِ نفسك بموته، ولا تكلِّفها العناء لتعلم كيف مات. إنْ كان بعض الناس قد
قتله؛ فإنما فعل ذلك من أجلك، لقد هيَّأَ لك الفُرْصَة، فما ينبغي لك أنْ
تُعاقبه، وإنما يجب عليك أن تُحْسِن إليه.
أوديب
:
ولكن ما عسى أن يقول تيرسياس.
كريون
:
أتخافه؟
أوديب
:
لا أكاد أخافه، ولكن الشعب يسمع له، ورُبَّما أثار صوته في نفسي بعض
الاضطراب. نعم! جرس صوته كأنه يخرج من الجحيم، ها هو ذا مقبلًا من جديد. إنه
ليسعى دون أن يُسمع خطوه. ماذا تُريد يا تيرسياس؟
(دخل تيرسياس)
تيرسياس
:
أي أوديب، إن الملكة تُريد أن تتحدث إليك. إنها تنتظرك في القصر. (أوديب يبتعد. تيرسياس إلى كريون) إِنَّما أردتُ
أَنْ أخلو إليك. لقد سمعتُ كلَّ ما قلتما.
كريون
:
أكنت تتسمَّع؟
تيرسياس
:
لست في حاجة إلى أن أتسمع لأسمع. إني أعرف ما يجول في النفس قبل أن أسمع صوت
المتكلم. أي كريون، ليس من الخير أن تُطَمْئِنَ أوديب.
كريون
:
ماذا تريد أن تقول؟
تيرسياس
:
أريد أن أقول إنه يُسرف في الاطمئنان، وإن نفسه كالإناء المطبق لا سبيلَ إلى
أن يبلغها الخوف، وإنَّ سُلطاني كله إنما يَأْتِي من خوف من الإله. إن هذه
السعادة المطمئنة آثمة، إنَّ عليك أن تحدث فيها صدعًا.
كريون
:
لماذا؟
تيرسياس
:
من هذا الصدع يصل الإله إلى قلبه. إن بولينيس وإتيوكل يفلتان مني. إنَّ
شُعوري بذلك يَزْدَادُ من يوم إلى يوم. ستُنبِئك بذلك جوكاست؛ إنهما يتأثران
أباهما، ويريان أنَّ من الممكن أنْ يَتَحَرَّرا منْ هذا السُّلطان الذي ينبغي
أن يُذعن له كل إنسان. إني لا أتحدث إليك عن نفسي، وإِنَّما أتحدث إليك عن
الإله الذي أمثِّله، وعن جوكاست، وعن أنتيجون هذه الفتاة التقية، وعن الشعب آخر
الأمر.
عن هذا الشعب المروَّع الذي يرى أن ما يُلِمُّ به من الكوارث إنما هو عقاب له على ما يُظْهِرُ مَلِكُهُ من الإلحاد. ثم كيف تستطيع أنتيجون أن تُكبِر أبًا، وكيف تستطيع جوكاست أن تُحب زَوْجًا يتحول قلبه عن الإله الذي تُؤثِرانه جميعًا بالإجلال؟! وأنت نفسك يا كريون يجب أن تفهم أنَّ مما ينفع الناس جميعًا أن يُذعن الملك لسلطان قوة قاهرة يستطيعون أن يفزعوا إليها حتى منه هو.
عن هذا الشعب المروَّع الذي يرى أن ما يُلِمُّ به من الكوارث إنما هو عقاب له على ما يُظْهِرُ مَلِكُهُ من الإلحاد. ثم كيف تستطيع أنتيجون أن تُكبِر أبًا، وكيف تستطيع جوكاست أن تُحب زَوْجًا يتحول قلبه عن الإله الذي تُؤثِرانه جميعًا بالإجلال؟! وأنت نفسك يا كريون يجب أن تفهم أنَّ مما ينفع الناس جميعًا أن يُذعن الملك لسلطان قوة قاهرة يستطيعون أن يفزعوا إليها حتى منه هو.
(تدخل جوكاست)
جوكاست
:
إن أوديب شديد الحزن لما قصصت عليه من نبأ. إن أنتيجون تريد أن تخلص
للدين.
كريون
:
تريد أن تكون كاهنة؟
تيرسياس
:
ليس في ذلك ما يُدهش. إن هذه الفتاة العزيزة تُريد أن تقوِّم بذلك ما في فجور
أبيها من عِوَجٍ.
جوكاست
:
لقد أفضت إليَّ بهذه النية التي يجبُ أن تظل سرًّا، والتي لم يظهر عليها
أخواها بعد.
كريون
:
آه! يا للفتاة البائسة!
تيرسياس
:
بائسة لماذا؟ ستجد عند الإله سعادة أوثق من سعادة أوديب: نعيمًا مُقدسًا
قوامه الخضوع لا الكبرياء.
كريون
:
أقدر كذلك أنَّ شَقاء الشعب قد أثَّر في نفسها.
جوكاست
:
إنها تلح عليَّ في أنْ أدعها تُعنى بالمرضَى، وقد أبيت عليها ذلك؛ لأنه ليس
من شئون الأميرات. هنالك قالت لي: فلأصلِّ من أجلهم ولأضرع إلى الإله في أمرهم،
ورُبما ضرعت إليه في أمر … ثم قطع البكاء صوتها فلم تُتمَّ.
تيرسياس
:
في أمر شخص آخر أشدَّ منهم مرضًا.
كريون
:
أكانت تفكر في أبيها؟
تيرسياس
:
من غير شك. كيف تلقَّى أوديب هذا النبأ؟
جوكاست
:
مغضبًا محزونًا أول الأمر، ثم صَائحًا لأنَّه يعرف في هذا صنع
تيرسياس.
تيرسياس
:
لست إلا أداة الإله. وما دام الإله يتخذني أداةً لإنفاذ أمره فلن يقف عملي
عند هذا الحد.
جوكاست
:
ما أعظم حظ هذا الزَّوج الحبيب إليَّ من الثبات والفضيلة والشجاعة! إن الواجب
يفرض علينا يا تيرسياس أن نردَّه إلى طاعة الإله.
تيرسياس
:
يجب على كريون أن يعينني. يجبُ عليه أنْ يزعزع ثقة الملك بنفسه فيُعِدَّهُ
بذلك لحسن الاستماع لي.
كريون
:
سأحاول، ولكني لستُ واثقًا بالنجح؛ فإن أُوديب لا يلقي السمع إلى من يثقل
عليه.
تيرسياس
:
سيهديك الإله كما يهديني إلى الوسيلة التي تمسُّ بها قلبه.
كريون
:
لم يُعْنَ الإله كثيرًا بهدايتي قط.
تيرسياس
:
إنه لا يحسن العناية إلا بهداية العميان.
جوكاست
:
إني أَعْتَمِدُ عليك يا تيرسياس؛ فمن طريقك يأتينا العلم بإرادة الإله
القدير.
١
هو الاسم القديم لدلف، أخذ من اسم الثعبان بيتون الذي قتله أبولون
قريبًا من المكان الذي أُقِيمَ فيه معبده.