الفصل السابع
لقد نهض ديدال لاستقبالي حين فاجأته في حُجرته المظلمة مُقبلًا على لوَيْحات من الرصاص أَمامه قد انتثرت من حولها أدوات غريبة. وهو رجل طُوَال، لم تنحنِ قامته على تقدُّم سِنِّه، وهو يحمل لحية أطول من لحية مينوس وكانت سوداء، على حين كانت لحية رادامونت شقراء. أمَّا لحية ديدال فكانت مفضضة، وجبهته العريضة تشقها أخاديد أفقية، وحاجباه المختلطان يكادان يحجبان نَظَراته حين يخفض رأسه، وهو طويل الحديث عميق الصوت، ويفهم محدثه أنه حين يصمت فإنما يفعل ذلك ليفكر.
وقد بدا فأثنى على حُسْنِ بلائي الذي وصلت أخباره إليه — فيما قال — على اعتزاله وانقطاعه عن الناس. وأضاف إلى ذلك أني أبدو له أبلهَ بعضَ الشيء، وأنه لا يقدر حسن اصطناع السلاح، ولا يرى أن قيمة الإنسان في قوة ذراعيه. قال: وقد رأيتُ قديمًا سلفك هيرقل، وكان أبلهَ لا يستطيع أن يُعطي شيئًا غير البطولة. وإنَّما أحببتُ منه ما أُحب منك هذا الإقدام على غاية في غير تردد ولا تراجع، بل هذا التهور الذي يدفعكما إلى أمام، ويظهركما على العدوِّ بعد أن ينصركما على ما في نفوسنا جميعًا من الجبن. وكان هيرقل أشدَّ منك مُثَابَرَة، وأَحْرَصَ مِنْكَ على الإتقان، حَزينًا بعض الشيء، ولا سِيَّما بعد أنْ يُتِم عمله. أما ما أُحب منك فهو هذا الابتهاج الذي يميِّزك من هيرقل. ويُعجبني منك أنك لا تُريد أن تعوق نفسك بالتفكير؛ فالتفكير حظ قوم آخرين لا يعملون، ولكنهم ينشئون للعاملين ما يدفعهم إلى العمل.
فقد كنت في سنك حريصًا قبل كل شيء على أن أتعلم. وما أسرع ما استيقنت بأنَّ قُوَّةَ الإنسان لا تغني — أو لا تكادُ تغني — عنه شيئًا إلا إذا أعانتها الآلهة، وأنَّ المثل الذي يقولُ: «إن الأداة أجدى من القوة.» لم يكن مُخطئًا! وما كنتَ لتقهر قُطَّاعَ الطرق في البلوبونيز أو في أتيكا لو لم تُعِنْكَ على ذلك الأسلحة التي وعدك بها أبوك. وكذلك فكرتُ في أني لن أُغْنِي شَيئًا إذا لم أجد ما أصطنع من أداة، وأنَّ سبيل ذلك هو أن أُتقن الحساب والميكانيكا والهندسة كما يُتْقِنُها المصريون على الأقل؛ فهم ينتفعون بها انتفاعًا عظيمًا، ثم فكرتُ في أني لن أنتفع بهذه العلوم في الحياة التطبيقية إلا إذا تعرفت خصائص الأجسام ومميزاتها، حتى الأجسام التي لا يظهر أننا في حاجة عاجلة إلى استخدامها؛ فقد يستكشف في هذه الأجسام كثير من المزايا لم يكن نَتَوَهَّمها من قبل، شأنها في ذلك شأن الناس أنفسهم.
وكذلك أخذ حظي من المعرفة يتسع ويقوى؛ ثم أردتُ أن أعرف مهنًا وصناعات وأقاليم ونباتات أخرى، فزرت بلادًا بعيدة تلمذت فيها لعلماء أجانب، لم أُفارق أحدًا منهم إلا بعد أن استقصيت ما كان عنده من العِلْم. ولكني بَقِيتُ يُونانيًّا حيثما ذهبتُ وحيثما أقمتُ، ومن هنا عُنيت بك أيها النسيب لأنك يوناني.
وقد قدرت أن ليس هُناك سجن يستطيع أن يمتنع على رغبة السجين في الفرار، وأن ليس هناك أسوار ولا خنادق تستعصي على الجراءة والعزم، فرأيتُ — وأرجو أن تُحسن الفهم عني — أنَّ الخير أنْ أُقيم البناء وأنظمه بحيثُ لا يكون مُعجزًا لساكنة عن الهرب، بل مانعًا له من التفكير في الهرب؛ فجمعت في هذا البناء ما يستجيب لشهوات الإنسان على اختلافها، وليست شهوات المينوتور كثيرة ولا شديدة الاختلاف، ولكن كان عليَّ أن أُفكر في الناس جميعًا، وفي كل من يقضى عليه أن يدخل اللابيرنت. وكان يجب أيضًا — بل قبل كل شيء — أن أضعف إرادتهم؛ ومن أجل ذلك ركبت ألوانًا من العقاقير يمزج فيما يُدار عليهم من نبيذ. ولكن هذا كله لم يكُن كافيًا، فوجدتُ أكثر منه.
وكنتُ قد لاحظت أن هناك ألوانًا من النبات إذا ألقيت في النار أثارت وهي تحترق دخانًا مُخَدِّرًا بعض الشيء، فرأيتُ أَنَّها عظيمة النفع فيما كنتُ أحاول من الأمر، وقد استجابت بالضبط لما دعوتها إليه، فاتخذت مواقد لا تخمد نارها في ليل أو نهار وغذوتها بهذه النباتات. والأبخرة التي تصَّاعد منها لا تنيم الإرادة وحدها، ولكنها تُشِيعُ سكرًا خلابًا، وتدفع إلى فنون من الخطأ المغري، وإلى ضروب من النَّشاط الفارِغْ تصدر عن رءوس قد شملها الذُّهول وعبث بها الشراب، ضروب من النشاط الفارغ؛ لأنها لا تنتهي إلى شيء إلا أنْ يكون وهمًا، ولا تُثير إلا مناظر لا تثبت، لا تنتهي إلى غاية ولا تعتمد على منطق.
وتأثير هذه الأبخرة ليس مُتفقًا بالقياس إلى الذين يَخْضَعُون له جميعًا، وإِنَّما هو يَخْتَلِفُ باخْتِلَافِها وينشأ عنه اختلاط غريب يجعل لكل واحد لابيرنته الخاص. وقد كان اختلاط ابني إيكار فلسفيًّا يرقى إلى ما بعد الطبيعة. أمَّا أنا فأرى أبنية ضخمة وجمعًا من القصور المتراكمة تختلط فيها السلالم والدهاليز … بحيث انتهى هذا كله في تخليط ابني إلى مأزق تَتبعه خطوة غامضة إلى أمام. ولكن أشد من هذا كله غرابة أنَّ هذه العُطور إذا استنشقها الإنسانُ حينًا لم يستطع أن يستغني عنها؛ لأنَّ الجسم والعقل قد اتخذ منها متاعًا لا قيمة بإزائه للحياة الواقعة، ولا رغبة في العودة إليها، وإنما هو البقاء والبقاء المتصل في اللابيرنت.
ولما كنتُ أَعْلَمُ أَنَّك تُريدُ أَنْ تنفذ إليه لتُصارع فيه المينوتور فقد أَرَدْتُ أن أظهرك على جليَّة الأمر؛ وما أطلت عليك الحديث إلا لأُحَذِّرك؛ فلن تستطيع أن تخرج منه وحدك، بل يجبُ أن تصحبك أريان؛ ولكنها يجبُ أن تبقى على عتبة الدار بحيثُ لا تشم هذا الأرَج. فيجبُ أن تحتفظ بعقلها وصوابها في الوقت الذي تخضع أنت فيه للسُّكر. ولكن اجتهد في أن تملك أمرك حتى حين يأخُذُك السُّكر، هذا هو المهم، وقد لا تُعينك إرادتك على ذلك، فقد قلتُ: إن هذا الدُّخان يضعفها، فقد خطر لي أن أجمع بينك وبين أريان بخيط يمثل الواجب تمثيلًا مُحَسًّا. هذا الخيط يُمكِّنك بل يضطرك إلى أن تعود إليها بعد أن تكون قد بعدت عنها. واحرص على كل حال على ألا تقطعه مهما يُحِطْ بك من الظروف، ومَهْمَا تلح عليك المغريات، ومهما تدفعك إليه شجاعتك من مُغامرة. عُدْ إليها وإلا ذَهَبَ عنك كل شيء، بل ذهب عنك الخير كله. سيكون هذا الخيط وصل ما بينك وبين الماضي؛ فعُد إليه، عد إلى نفسك، فلا شيء ينشأ من لا شيء، ولن يَعْتَمِد مُستقبل أمرك إلا على مَاضِيك الذي كُنت فيه وحاضرك الذي أنت عليه.
وقد كنتَ خليقًا أن أُحَدِّثك أقل مِمَّا حدَّثْتُك لو أَنِّي عُنيت بك أقل مما أُعْنَى بك في حقيقة الأمر. ولكني أُريد قبل أن تستقبل مَصيرك أن تسمع لحديث ابني فستحقق حين تسمعه مِقْدار الخطر الذي أنت مُقْدِمٌ عليه، وإنْ كَانَ هو قد استطاع بِفَضْلي أنْ يُفْلِتَ من فتنة اللابيرنت، ولكن عَقْلَه على ذلك قد ظَلَّ خاضعًا لسحر هذه الفتنة.
ثم اتجه إلى باب مُنخفض وأزاح ما كان يُغطيه من أستار، وقال في صوتٍ رفيع: أي إيكار، أي بُنَيَّ العزيز، أقبل واعرضْ علينا ما يُساورك من القلق، بل امضِ كما تفعل في أثناء وحدتك في حديثك إلى نَفْسِك دُون أن تحفل بي ولا بضيفي. هبنا غير حاضرين.