الفصل التاسع
وهذا الخيط هو الذي أثار أول خصومة بين أريان وبيني؛ فَقَدْ أرادتْ أَنْ أدفعه إليها، وأنْ تَحْتَفِظَ به في حجرها زَاعِمةً أنَّ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ جَمْعِ الخيط وتفريقه، وأَنَّها في ذلك ماهرة صَنَاع، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تُرِيدُ أَنْ تُسيطر على مصيري، وهذا هو الشيء الذي لم أكن أرضاه مهما تكن الظروف. وكنتُ أقدر أيضًا أنها ستحرص على استبقائي فلا ترسل الخيط إلا في بطء، وقد تشده إليها إن أرادت فتحول بيني وبين المضي إلى غايتي كما أريد.
وقد أصررت على الامتناع رغم سلاحها الأخير وهو الدموع؛ لأني كنتُ أعلم أنَّ من شأن النساء إذا نزلت لهن عن أيسر الأمر ألا يَرْضَين إلا بأكثره. أسلم لهن الأصبع الصغرى فستتبعها اليد، ثم الذراع، ثم سائر الجسم.
ولم يكن هذا الخيط مُتخذًا من الكتان ولا من الصوف، وإنما اتخذه ديدال من مادة صلبة لم يستطع سيفي حين جرَّبته أن يصنع فيها شيئًا. وقد تركتُ سيفي عند أريان مُصممًا — رغم ما بيَّنه لي دايدال من أن الأداة تمنح الإنسان قُوَّة إلى قوة — على أن أصرع المينوتور بقوة ذراعيَّ وحدها.
فَلَمَّا بلغتُ مدخل اللابيرانت — وهو رواق تزينه الفأس المثناة؛ وهي علامة شائعة في الجزيرة — ألححت على أريان في أن تلزمه ولا تفارقه، وقد حرصتْ على أن تدير الخيط حول معصمي بعقدة زعمت أنها عقدة الزَّواج، ثم ألصقت شفتيها بشفتي وقتًا حسبته لن ينقضي؛ فقد كنتُ حريصًا على أن أتقدم.
وكان رفاقي الثلاثة عشر من الفتيات والفتيان وفيهم بيريتوس قد سبقوني. وقد وجدتهم في الحجرة الأولى وقد أذهلهم الأرج، وقد أُنْسِيتُ أَنْ أَقُول إن ديدال قد أعطاني مع الخيط قطعة من النسيح قد غمسها في مادة مضادة لهذا الطيب، وألحَّ عليَّ في أن أكمم بها فمي دائمًا؛ وأنَّ أريان كانت قد استأثرت بهذه القطعة أيضًا عند الرواق. وبفضل هذه الكمامة استطعت أن أحتفظ بصوابي وإرادتي، ولكني كنتُ أختنق شيئًا، فقد تعودت — كما قلتُ — ألا أجد الحياة الكاملة إلا في الهواء الطلق، فكان هذا الهواء المغلق يضايقني بعض الشيء.
ولستُ أَستطيع أن أذكر ما صنعت، ولا ما كان على وجه التحقيق؛ فقد كانت الكِمَامَةُ تأخذ عليَّ التنفس، ولكني مع ذلك لم أُفْلِتْ مِنْ تَأْثِير الأرج حتى أصابني من ذلك ضعف في الذاكرة؛ فإذا كنتُ قد انتصرت على المينوتور فإني لم أحتفظ من ذلك إلا بأثر مختلط لا يخلو من لذة.
ولست أُبيح لنفسي أن أخترع ولا أن أتكثَّر، ولكني أذكر كذلك أن جمال الحديقة كاد يُلهيني عن نفسي، ولم آخذ في إدارة الخيط بعد أن انتصرت على المينوتور لأجد أصحابي في الحجرة الأولى إلا أسفًا. وقد رأيتهم حول مائدة قد جُمعت عليها ألوان من الطعام لا أدري كيف جاءت، ولا مَنْ جاء بها، وهم يزدردون ويعبُّون ويعبث بعضهم بأجسام بعض، ويضحكون كأنهم المجانين أو البُله.
فَلَمَّا هَمَمْتُ أَنْ أخرجهم أبوْا عليَّ وأعلنوا إليَّ أنهم راضون حيث هم، وأنهم لا يريدون خروجًا. وقد ألححتُ عليهم وأنبأتهم أني أحمل إليهم الخلاص وإذا هم يتصايحون: الخلاص من ماذا؟! ثم أخذوا يسبونني، وقد أحزنني هذا كثيرًا لمكان بيريتوس، فقد كان يتميزني في مَشَقَّة، ويَعِيبُ الشجاعة، ويَسْخَرُ من شجاعته هو، ويُعلن في غير تَحَفُّظٍ أَنَّهُ لن يُفارق لذته الحاضِرَةَ في سبيل المجد مهما يكن.
ولم أكن أستطيع أن ألومه؛ فقد كنتُ أَعْلَم أني لولا احتياط ديدال لتورَّطتُ في مثل ما تورَّطوا فيه. ولم أستطع أن أخرجهم إلا حين اصطنعتُ معهم العنف، وأعملتُ فيهم الوكز واللكز. وقد كانوا مُثقلين بكثرة ما أكلوا وشربوا وسكروا، فلم يستطيعوا أن يُقاوموا.
فَلَمَّا خرجوا من اللابيرنت احتاجوا إلى وقت أي وقت، وجهد أي جهد، ليستردوا صوابهم ويثوبوا إلى أنفسهم. على أنهم لم يفعلوا ذلك إلا مَحْزُونين، وقد حدثوني فيما بعد أنهم كانوا يرون أنهم يهبطون من قمة عالية يشع عليها النعيم إلى قرارة وادٍ ضيقٍ مُظلمٍ ضئيل؛ لأنَّ كل واحد منهم قد عاد إلى سجنه الخاص، وهو شخصه المحدود الذي لا إفلات منه. ومع ذلك فقد جعل بيريتوس بعد قليل يحسُّ الندم على هذه الصنعة العابرة التي تورط فيها، ويُؤكد أنه سيشتري نفسه أمام نفسه وأمامي بكثيرٍ من حسن البلاء. وما أسرع ما أُتيحت له الفرصة ليثبت إخلاصه لي.