الفصل الثالث
وكُنْتُ في هذا العام قد عُدت إلى بلاد اليُونان. ومع أنَّ الحظَّ كانَ خَليقًا أن يَحْمِيني — فهو يحمي الأمراء عن رضًا — فقد ألْحَحْتُ في أن أكون بين الضحايا على رغم ما وجدت من مُقاومة الملك والدي … فلستُ في حاجة إلى الامتيازات الموروثة، ولا أُريد أن أمتاز إلا بشجاعتي وبأسي.
وكنتُ أُدِيرُ في نفسي أني سأقهر المينوتور وأريح اليونان من هذه الضريبة البشعة، وكنتُ على ذلك مَشُوقًا إلى أن أرى أقريطش التي كانت تُرْسِلُ إلينا في أتيكا بغيرِ انقطاع أشياء جَمِيلة مُتْرَفة غريبة؛ فَقَدْ سَافَرْتُ إذن بعد أن انضممت إلى الثلاثة عشر الآخرين، وبينهم صديقي بيريتوس.
وكانت جماعات ضخمة من الشعب تَزْدَحِمُ لتَرَانا؛ وكان الرِّجال جميعًا عُرَاة الصدور والظهور، وكان مينوس وحده، وقد جلس تحت مظلته قد اتخذ رداءً أحمر قانيًا غير مَخِيط يتدلى من كتفيه إلى كعبيه في أثناء فخمة، وعلى صدره العَريض كَأَنَّهُ صَدْرُ ذوس قد انْتَظَمَتْ عُقُودٌ ثلاثة بعضها فوق بعض. وكثير من أهل الجزيرة يتخذون مثل هذه العقود، ولكنها عقود مُبتذلة. أما عقود الملك فكانت تأتلف من الجُمان وقطع من الذَّهب قد نُقِشَتْ عليها أزهار السوسن.
وقد أطال النَّظَرَ إلينا بعد أن رَحَّبَ بِنَا في جزيرته مُجْريًا على ثغره ابتسامة تُوشك أنْ تَكون ساخرة؛ فقد كان يعلم أَنَّنا إنما أتينا إلى جزيرته مَقضيًّا علينا.
وكانت الملكة وابنتاها الأميرتان قائمات إلى جانبه. وقد خيل إليَّ فورًا أن كبرى الأَميرتين قد لحظتني. وقد هَمَّ الأحراس أن يقودونا، ولكني رأيْتُهَا تَمِيلُ إلى أُذن الملك وتقول له في صوت خافِتٍ باليُونانية، وقد سمعتها لأني دقيق السَّمْع: «إِنِّي أَضْرَع إليك في أَنْ تُبْقِي على هذا.» تقول ذلك وهي تُشِيرُ إليَّ بِأَصْبعها. هُنَالِكَ ابتسم مينوس وأصدر أَمْرَهُ فلَم يقد الحرس إلا رفاقي. ولم أكد أنفرد بين يديه حتى أخذ في سؤالي.
ومع أَنِّي قَدْ أَزْمَعْتُ أَنْ أصدر عن الحذر الشديد في كل ما آتي، وألا أُظهر شيئًا من نسبي النبيل، ولا من خططي الجريئة، وقد ظَهَرَ لي فجأة أنَّ مِنَ الخير أنْ ألعب لعبًا صريحًا ما دامت الأميرةُ قد التفتت إليَّ، وأنَّ شيئًا لن يستطيع أن يصل بينها وبيني، ويكفل لي عطف الملك عليَّ كما يستطيع ذلك إعلاني إليهما أَنِّي حفيدُ بيتيه. بل قد لمحت بأنَّ الناس يتحدثون في أتيكا بأنَّ بوسيدون العظيم قد ولدني؛ هنالك قال الملك في جد: سنتبين ذلك بعد قليل حين نخضعك لامتحان الموج؛ فلم أتردد في أن أجيب بأني واثق بأنْ أَخْرُج ظافرًا من كل امتحان. وقد أظهر سَيِّدات القصر هؤلاء شيئًا من التأثر حين رأينَ ثِقَتي بنفسي، وإن كنت لم أَرَ ذلك في وجه مينوس.
قال الملك: أما الآن فانصرف إلى تجديد قواك؛ فإنَّ رفاقك ينتظرونك على المائدة، ويجبُ أن تكون مُحتاجًا كما يُقال هنا إلى أن تُقِيمَ أَوْدَك بعد هذه الليلة الشاقة. خُذْ حَظَّكَ مِنَ الرَّاحَةِ؛ وأرجو أن تشهد عند آخر النهار ألعابًا رَسْمِيَّة ستُقَام تكريمًا لك.
ثم نستصحبك أيها الأمير ثيسيوس إلى كنوسوس، حيث تنام في غرفة من غرفات القصر، ثم تُشَارِكُنا من غد في العشاء. سيَكُون عشاءً يسيرًا، عشاءَ أُسرة، تُرسل فيه نفسك على سجيَّتها ويسعد هؤلاء السيدات بأنْ يَسمعنك تحدثهن بما قدمت من مآثر، وما أحسنْتَ من بلاء. أَمَّا الآن فسيتخذن زينتهن استعدادًا للحفل. سنلقاك هناك، وستجلس مع رِفَاقِكَ تحت المقصورة الملكية مُباشرة، ذلك مكان مقسوم لك لأنك أمير. وسيشرف رفاقك بالجلوس فيه معك؛ فما أُحِبُّ أن أفرق بينك وبينهم.
وكان الدهش يأخذني من جميع حواسي، ولم أكن أستطيع أن أصور إلى أي حد كنت أرى أهل الجزيرة غرباء، ولما لم يكن يُتاح لهم جميعًا أن يتخذوا مجالس في المدرج، فقد كانوا يزدحمون ويتدافعون في المسارب وعلى درجات السُّلَّم. وكانت جماعة النساء ضخمة كجماعة الرجال، وكن عاريات الصدور والظهور، وقليلٌ منهن كن يتخذن القراطق قد انفرجت عن صدورهن انفراجًا واسعًا رأيته مُخالفًا للحياء لما كان يظهر من أثدائهن.
وكانوا جميعًا رجالًا ونساءً قد اتخذوا مَنَاطِقَ شَدُّوها شدًّا عنيفًا على أوساطهم؛ فبدت خصورهم غاية في الضآلة والنحول كأنها المرامل. وكانَ الرِّجال سُمْرًا قد اتخذوا في أَيْدِيهم وسَوَاعِدِهم وأعناقهم من الخواتم والأساور والعقود مثل ما اتخذ النساء.
وكان سَيِّدات القَصر قد اتَّخَذْنَ أَمَاكنهن في المقصورة التي أَجْلَسنا تحتها، وقد عرضن زينة رائعة مُترفة من الثياب والحلي، وأشرفن على ميدان اللعب، وكانت كل واحدة منهن قد أحاطت خَصْرَها بثوب ألحقت به قطع عِراض من النسيج، فهو منتفش في صورة رائعة مما يلي الخصر، ثم هو يَتَدَلَّى في منظر جميل مُخْتَلط حتى يبلغ الأقدام التي حبست في أحذية من الجلد الأبيض.
وكانت الملكة في وسط المقصورة تَمْتَازُ مِنْهُنَّ جميعًا بزينتها الفخمة؛ قد عُرِّي صدرها وذراعاها. وقد فصلت على ثدييها العظيمين ضروب الجوهر من اللؤلؤ والمينا والأحجار النفيسة. وقد أُحِيطَ وجهها بخصل طويلة سود، ورصفت على جبهتها خصيلات دقاق. وكانت شرهة الشفتين، منقبضة الأنف، كبيرة العينين فارغتهما، تُرسل منهما نظرات تُوشك أن تشبه نظرات الصوار. وقد اتخذت شيئًا يُشبه أن يكون تاجًا من الذهب لم تضعه على شعرها مُباشرةً، وإنما وضعته على قلنسوة قاتمة غريبة تُثِيرُ الضَّحك، وهي تنفذ من التاج وتنتهي بطرف مرتفع مُحَدَّدٍ ينعطف إلى الأَمَام كَأَنَّه القرن قد انحنى على جبهتها.
وكان قرطقها المفتوح من أَمَام إلى منطقتها يرقى على ظهرها حتى يبلغ العنق، فيحاول أن يُحيطه ببنيقة شديدة الانفراج.
وكان ثَوبُها النِّصْفِي المنتشر من حولها يعرض للإعجاب على بياضه المشرب بالصفرة ضروبًا من الطراز بعضها دون بعض، منها ما يُصور السوسن الأرجواني، ومنها ما يصور الزعفران، وأسفلها يُصور زَهرات البَنَفْسَج وقد أَحَاطَتْ بها أوراقها الخضر. ولما كنتُ تحت مقصورتها كنتُ أراها من قريب جدًّا كُلَّما التفتُّ إلى وراء. وكنت أفتن بِحُسْنِ اختيار الألوان، وجمال الطراز، ودقة العمل، وبلوغه حد الكمال.
وإذ كنت أتهيأ لمواجهة المينوتور؛ فقد كنتُ حريصًا على أن أنتفع بما كنتُ أرى من مَكْرِهم وتَسَلُّلهم؛ لَعَلِّي أستعينُ بشيءٍ من ذلك على إجهاد الثور وإذهاله.