الفصل السادس
أي حديقة! ولأي قصر! يا لها جنة مشوقة قد تعلقت بانتظار شيء لا أدري ما هو … تحت ضوء القمر.
كان ذلك في شهر مارس، وكان الرَّبيع قد أخذ يخفق في دفء حلو. ولم أكد ألقى الهواء الطلق حتى انجلى عَنِّي كل ضيق. فلستُ آلف الحياة في أعماق الدور، وإنما أوثر أن أتنفس ملء رئتيَّ. وقد أسرعتْ إليَّ أريان ثم ألصقت في لهفة وعنف شفتيها إلى شفتيَّ حتى كدنا نسقط جميعًا. قالت: هلم. لا عليَّ أن يرانا الراءون، ولكن ظل الضرم أوفق للحديث.
ثم هبطت بي درجات، وقادَتْنِي إلى مكان من الحديقة يَشْتَدُّ فيه التفاف الشجر حتى يخفى القمر دون أن يخفى انعكاس ضوئه على البحر، وكانت قد استبدلت من ثوبها النِّصفي ذي الأطواق، ومن مِنْطَقَتِها الصلبة ثوبًا واسعًا فضفاضًا كانت تُحسُّ من دونه عارية. قالت: أكاد أعرف ما تحدثت إليك به أمي. إنها مجنونة؛ مجنونة تستحقُّ القيد، وما ينبغي أن تحفل بما تقول؛ فاعلم أولًا أنك معرض هنا لخطرٍ عظيم. فأنا أعلم أنك أقبلت لتصارع المينتور أخي لأُمِّي، وإنما أُريد منفعتك؛ فأحسن الإصغاء إليَّ. وأنا واثقة بأنك ستظهر عليه.
ولكني لا أجرؤ على أنْ أُشير عليك بالطيران فإنَّه مُغامرة خطرة، والشيء الذي يَجِبُ أن تفهمه منذ الآن هو أن أملك الوحيد في النجاة رهين بألَّا تتركني. لقد توثقت بينك وبيني منذ الآن صلة لا تنفصم، ولا ينبغي أن تنفصم بحياة أو موت. لن تجد نفسك إلا بمعونتي، إلا بي، إلا فيَّ. هذا شيء يجبُ أن تأخذه أو تدعه ليس لك من دون ذلك خيار، فإذا تركتني فالويل لك؛ وإذن فهيتَ لك.
ثم أقبلت عليَّ غير حافلة بشيءٍ، واستسلمت لي مُحتفظة بي بين ذراعيها حتى أسفر الصبح.
ويجب أن أعترف بأن وقتَ هذا اللهو قد طال عليَّ. فلم أُحِبَّ قط الإقامة حتى في ظلال النعيم، وإنما أنا مَشغوفٌ بالتنقل متى ذهبت عني جدة ما ألقى من الأمر.
ثم جعلتْ تقولُ: «لقد وعدتني.» ولم أكن قد وعدت بشيء، وإِنَّما كنت حريصًا على أن أستبقي حُرِّيتي، فلستُ مدينًا بنفسي إلا لنفسي.
ومع أنَّ قوتي على الملاحظة كانت لا تزال مُغَشَّاة بِبُخار السُّكر، فقد خُيِّل إليَّ أنها استسلمت في يسر حتى لم أعتقد أني كنت السابق إلى رضاها. وهذه الملاحظة هي التي طوَّعت لي فيما بعد أن أتخلَّص من أريان. وفوق ذلك فما أسرع ما ضقت بإسرافها في تكلف الرقَّة! ضقت بإلحاحها في تأكيد حبها الأبدي، وبهذه الأسماء الحلوة التي كانت تدعوني بها؛ فقد كنتُ مرة متاعها الوحيد، ومرة كنَارها، ومرة كليبها، ومرة صُقَيْرها، ومرة قصيصتها، ولستُ أبغض شيئًا كما أبغض هذه الألفاظ المصغَّرة.
ثم إنها كانت مشغوفة بالأدب؛ فقد كانت تقول لي: «أي قلبي الصغير، سيذبل زهر السوسن عما قريب.» على حين أنَّ هذا الزهر كان قد بدأ يتفتَّح، وأنا أعلم أن كل شيء يمضي، ولكني لا أحفل إلا بالساعة الحاضرة. وكانت تقول لي أيضًا: «لنْ أستطيع أن أَعِيشَ بِدُونك.» وكان هَذَا يَدْفَعُني على ألا أفكر إلا في أن أعيش بدونها.
وقد سألتها: ما عسى أن يقول أبوك الملك إن عرف هذا؟
فأجابت: تعلم أيها الحبيب أن مينوس يحتمل كل شيء؛ فهو يرى أن أحكم الحكمة أن يقبل الإنسانُ ما لا يستطيع له ردًّا. لم ينكر شيئًا حين عرف مُغَامَرة أُمِّي مع الثور، وإنَّما زَعَم — كما حدثتني أُمِّي — أنه لا يستطيع أن يَمْضِي في مُحاورتها. ثم أضاف: «قد كان ما كان، وليس إلى استدراكه من سبيل.» وسيقول هذا القول نفسه بالقياس إلينا. وأقصى ما في الأمر أن يطردك من قصره. وأي بأس بهذا؟! سأتبعك حيثما تكون. وكنت أقول في نفسي: سنرى!
وبعد أن أخذنا بحظنا من طعامٍ يسير، سألتها أن تصحبني إلى ديدال، وأنبأتها بأني أُريد أن أخلو إليه وأدير معه الحديث؛ ولم تتركني إلا بعد أن أقسمتُ لها باسم بوسيدون على أني سألقاها في القصر بعد قليل.