الفصل الثاني
السماء صافية الأديم، والأرض مكسوة أبسطة خضراء، وقد برزت الطبيعة بأبواب الربيع البديعة، يزينها الزهر بكل لون زاهٍ وشكلٍ يروق للعين مرآه، ينبعث منه أريج العطر فتطيب به الأرجاء. إلَّا أنَّ الإنسان الذي أوجده الله ليكون متممًا لجمال الطبيعة لا يعرف كيف ينعم بالًا ويسعد حالًا بمثل هذه المناظر البديعة، فيزيدها حسنًا وإبداعًا ويتم مقاصد الله فيه.
هكذا كانت الحالة في البقاع في ذلك اليوم الجميل؛ فإن «المعلقة» مركز القضاء كانت غاصَّةً بمئات الناس من شاكين ومشتكين وأرباب الدعاوى والوسطاء الكثيرين، وكان القائمقام غريب الدار من رجال العهد البائد، عرف بأخلاق الناس في تلك الجهة، فاستغلَّ جهلهم وملأ جيوبه بالدراهم التي كان يجمعها من القضايا الكثيرة، التي كانت تنشأ لسبب أو لغير سبب معقول في كثير من الأحيان.
اجتمع أهل قرية العمروسة كلهم تقريبًا هنالك، منهم المتهمون بأمر العصابات ومنهم الأهل والشهود، واجتمع عدد من وجهاء المسلمين الذين جاءوا ليتوسطوا في الأمر، وكذلك عددٌ من وجهاء المسيحيين الذين سئموا حوادث التعدي وأتوا يخاطبون القائمقام بشأنها، وبينهم المطران الذي زار القائمقام وألحَّ بوجوب محاكمة المعتدين والتشديد عليهم، وإيقاع العقاب بهم؛ منعًا لتكرار مثل هذه الجرائم المنكرة، وإلَّا رفع الأمر إلى قناصل الدول جمعاء.
هكذا كانت حالة القضاء المحزنة في ذلك اليوم العصيب، وبدلًا من أنْ ينصرف القوم إلى أعمالهم، ويعمل أصحاب العقول منهم فيما يعود على البلاد بالخير، كان كل فريق منهم يسعى للإيقاع بخصمه، ويدبر له الحيلة للوقوع في حبائل الحكام، فكان كثير من الأبرياء يذهبون فريسة المساعي، ويفلت القتلة الأشرار من بين يدي العدالة، ويزدادون جرأة على الإيقاع بالخصوم، وتذهب حقوق الأبرياء الضعفاء ضياعًا، وكان من بين المتهمين كثيرون من أهل العمروسة وشى بهم المفسدون فسُجنوا بحجة أنهم من رجال العصابات، وأفلت سلمان أحمد وجماعته؛ لأنهم هم الذين دبروا هذه الوشايات وأوقعوا غيرهم في غيابات السجون.
وخاف القائمقام من تفاقم الشر، فدعا رجلًا من وجهاء البلدة شديد الدهاء، جعله له شريكًا وواسطة في أعماله العديدة، فأعرب له عمَّا يخامره من الخوف إذا لم تنته هذه القضية كما يجب، وقال: «ما العمل يا شاكر أفندي والفريقان متشددان؟ إني أرى الخطر قريبًا.»
– لا خطر يا مولاي؛ فأنا أصرف لك هذه المسألة وتربح من الفريقين.
– تبًّا لك! ماذا تقول؟
– أقول: إنَّ المسألة ليست بذات بال، بل إنَّ هنالك لنا صيدًا.
– وأي صيد تعني؟
– إننا نربح من المسلمين والمسيحيين على السواء، ونُرضي الفريقين.
قال: إذن أترك المسألة لك، ولكن حذار أنْ توقعنا في مشكلة جديدة، فأنا لم أجمع للآن ما يكفي لضمانة الحصول على مركز جديد إذا خسرت مركزي هذا بسبب سوء تصرفك إذا زدت النار اشتعالًا.
قال: طِب نفسًا، فسوف أزيل الخصومة وآخذ مقابل ذلك أجرًا حلالًا لك نصفه.
فتهلل القائمقام وقال: «حقًّا إنكم أنتم أهل البلاد تزيدوننا نهمًا وشرهًا، ثمَّ تقولون: إنَّ الأتراك يرتشون. والله لو لم تفتح عيني الآن لصرفت الأمر بالحزم، وأرضيت ضميري، وأرحت البلاد والعباد، أو تركت الوظيفة لسواي.»
فقال شاكر أفندي: لكنك لو فعلت ذلك «لقطعت رزقنا»، وأوقعتَ الضرر بنفسك، فلو كان أهل البلاد على شيء من الحكمة، لما وقع بينهم مثل هذه الحوادث المؤلمة، ولكنه صحَّ فيهم القول المأثور «كيفما تكونون يُولى عليكم.» والآن ما لنا ولذلك، فأنا ذاهب وسأعود إليك بعد ساعتين، وقد اتفقتُ مع المسيحيين على أنْ أصرف لهم هذه المسألة التي آلمتك كثيرًا؛ لأنها وقعت في عهدك، وهكذا أفعل بالمسلمين بعد ذلك فتكون موضع الشكران، وأكون أنا من الرابحين.
وهكذا تمَّ الصلح بين الطائفتين ظاهرًا، وبقيت الحزازات في الصدور، وانصرف كلٌّ من الخصمين وهو أشد حقدًا على خصمه مما كان.
الشيخ صالح والصلح
عرف الشيخ صالح بما تمَّ، وما كان من دخائل القائمقام فأرغى وأزبد، وقال: يا للعار! أيُقتل الأبرياء، وتُيتَّم الأطفال، وتُحول القرى الآمنة إلى معاقل للصوص والقتلة السفاحين، ثمَّ يُتهم الأبرياء ويسجنون ويبقى الجاني حرًّا طليقًا، وينتهي الأمر بأن يأخذ الحاكم أجرًا على ما كان، إنَّ ذلك لمنتهى الظلم فإن الحاكم الذي لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليستحق أشد العقاب وحقت عليه لعنة الله واحتقار الناس أجمعين. ثمَّ ركب الشيخ جوادًا وسار إلى زحلة فقصد منزل صديقه سمعان إلياس وقابله مقابلة طويلة، وعلم منه أنه مثله مستاء مما كان، عالم ببواطن الأمور ودخائل القائمقام.
فقال: إذن كيف يسكت المسيحيون عن هذا المجرم الذي يدبر أمور الناس؟ قال: وما يفعلون وهم لم يعلموا بما كان حتى انتهت المسألة، وأخذ الناس يتقولون بها وليس من يستطيع أنْ يتفوه بشيء ضده؛ لأنه لم يثبت على القائمقام شيء وإذا رفع أحد دعوى عليه عرَّض نفسه لانتقامه وللمحاكمة أمام محاكم قضاتها أكثرهم ليس بأعدل من القائمقام ولا بأكثر منه نزاهة، فكان نصيب الشاكين منه نصيب المجرمين المعتدين.
فقال الشيخ: «لا أرى رأيك وأنا أود أنْ أجتمع بفريق من عقلاء المسيحيين الذين يهمهم العدل ويسعون إلى الصلاح.» فكان له ما أراد واجتمع في ذلك المساء بعدد من كبار مسيحيي المعلقة وزحلة، وكانوا كلهم حاقدين على المتاولة لما جرى، وظنوا الشيخ من أولئك الذين يسعون في التوسط للمجرمين؛ تخفيفًا لعقابهم أو طمعًا بنيل بعض المال منهم، فحينما قابلوه كانوا ينظرون إليه نظرة الريبة والحذر.
فأخذ الشيخ يوبخهم لسكوتهم على ظلم الحكَّام؛ لأن ذلك علة فساد الأحكام، قالوا: ماذا تريد إذن؟
قال: اسمعوا وعوا ولا تقاطعوا حديثي قبلما آتي على آخره «أنتم وجهاء البلاد، ولا أقول وجهاء المسيحيين فقط؛ لأنه لا يجب أنْ يكون في المعاملات مسيحي ومسلم، بل الكل سواء، فلو رأيتم أنَّ الظلم حاق بكم لوجب أنْ تقوموا في وجه الظالم، فإذا خشيتم صولته فاجمعوا العقلاء من أهل الرأي في البلاد وخاطبوهم في الأمر، وارفعوا عرائض الشكوى بذلك إلى أولي الأمر موجهين أنظار الحكومة إلى خطر الحالة، فإن أجابوكم فبه وإلَّا …» وهنا وقف أحد الحاضرين، وقال: ما العمل إذا كان الظلم من الحكومة نفسها، وهي مسلمة تنظر إلينا كأننا غرباء عنها أعداء البلاد؟
قال: اسمع يا بني «نحن إخوان إذا اختلفنا في الاعتقاد فلا نختلف في الحقوق والواجبات، ولقد أساءت الحكومة صنعًا بأن فرقت بيننا وأوجدت بين الطائفتين هوة عظيمة.
فمن هو المسلم ومن هو المسيحي؟ أليسا كلاهما أخوين من بني الإنسان، تربطهما ربط الإخاء والمصلحة العامَّة ووحدة اللغة والوطن، والله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل دين، فأي مسلم يجسر أنْ يقول: إنَّ الإسلام يأمر بالتعدي على الأبرياء وقتل النفس التي حرم الله قتلها؟ إنَّ المسلم الذي يقول بمثل ذلك يستحق أنْ يقطع لسانه، والمسيح جاء الناس بدين المحبَّة والإخاء، وأمر تلاميذه أنْ ينشروا تعاليمه بين الناس، فهل أنتم تفعلون بما أمركم به السيد الذي تتسمون باسمه؟ وهل تغفرون للناس زلاتهم حتى يغفروا لكم زلاتكم؟ وهل تنظرون إلى المسلمين كإخوان؟
إذا كان لبعض الرؤساء الدينيين غاية في إيجاد الشقاق، فيجب أنْ يكون للناس عقول وأفهام، فلا يستسلمون للشهوات ويكونون آلات للهدم في يد الأشرار.
لكل إنسان إرادة وعقل، فإذا وجد من الأمور ما لا ينطبق على الصواب، وجب عليه ألَّا يعمله أيًّا كان المحرض عليه، وإذا أساء إليك أخوك المسلم فعاتبه أو استعن عليه بأخٍ مسلم آخر تجد منه روح العدالة والإنصاف، ولا تجعلوا للمفسدين بينكم سبيلًا، فإنَّ ذلك يفسد عليكم أمركم ويوسع بينكم هوة الشقاق، وإذا ظلم مسيحي مسلمًا فقوموا أنتم عليه قومة واحدة يشعر أنه ظالم مكروه، فلا يعود إلى التعدي فيما بعد.»
فقال أحد الحاضرين: ولكن ما العمل والمسلمون يرون أنهم أفضل منَّا ويجب أنْ يكونوا مقدمين علينا في الحقوق؟ فقال الشيخ: «معاذ الله أنْ يكون هذا من الدين في شيء؛ فإن روح الإسلام هي روح الإخاء، وهكذا هي روح المسيحيَّة، وإن اختلف التعبير لتباين الوسط الذي ظهر فيه الإسلام عن الوسط الذي ظهرت فيه المسيحيَّة، ولكن الإسلام يقول: إنَّ الخلق سواسية، وأحب الناس إلى الله أحبهم إلى عياله؛ أي إنَّ خير الناس هو مَن كان أكثرهم نفعًا للناس، وإنما الجهل هو علة الشقاء، وهو الذي حمل المتعصبين من الفريقين على أنْ يؤولوا تعاليم الكتب المقدَّسة — كما يريدون — ألا ترون أنَّ الإسلام في أول عهده كان أكثر تساهلًا منه الآن، والمسلمون في ذلك العهد أهل بداوة وعصبية!
إنه لقد حان الوقت الذي فيه يعرف الإنسان أنَّ الدين إنما وضع لخيره ومنفعته؛ حتى يكون له هدى يسترشد به في ظلمات الحيوة، والآن أيها الإخوان، ها أنا أضع يدي بيدكم وأطلب إليكم أنْ تنضموا إليَّ في محاربة الشر والتعصب الذميم، وترفعوا من بينكم الأحقاد لنقضي على هذه الروح الشريرة التي تعمل فينا وتخرب ديارنا، وتفسد أخلاقنا وتصرفنا عن أعمالنا اليوميَّة وتولد بيننا الحزازات.»
فوافقه الجميع على ذلك، ووكلوا إليه وضع الخطَّة الملائمة التي تكون أفضل أساس للاتحاد.
فسُر الشيخ بذلك وخرج وكله آمال بالمستقبل رغم ما يبدو من تعقد الحالة وكثرة المعضلات.