الفصل الثالث
ذهب سمعان إلياس — حسب عادته — إلى العمروسة لمشتري الحبوب، وصحب معه نجله سليم الذي أحب مرافقته إلى تلك القرية الجميلة، فلما أطلا عليها من بعيد شاهدا الأهالي يشتغلون بالحصاد، وبعضهم على البيادر (الأجران) يذرون القمح، فوقع ذلك المنظر أحسن وقع في نفس الشاب، وقال: ما أطيب أهل هذه القرية وأشد أجسامهم وأصح أفهامهم! فإنني لا أنسى مطلقًا ما سمعته في السنة الفائتة من الشيخ صالح، الذي اجتمعنا به في منزل صاحبنا يوسف الهلالي، فقال: نعم يا بني، إنَّ الطبيعة خصَّت هذه القرية بجانب عظيم من الجمال، وأهلها أهل دعة وإخلاص رغم ما يبثه فيهم ذوو المآرب والغايات. واعلم يا سليم أنَّ قضية العصابات التي اتَّهم فيها أصحابنا آل الهلالي وأبناء قريتهم، كان مثيرها الشيخ أحمد سلمان شيخ القرية المجاورة للعمروسة، ولولا مساعدة القائمقام لكان الآن ذلك الشيخ مقيَّدًا بالسلاسل الحديديَّة.
– نعم هو لكذلك.
سَمعا هذا الصوت من بستان فوق الطريق فبغتا، ثمَّ التفتا إلى فوق، فإذا بالشيخ صالح وفي يده بعض الفاكهة أعدها لهما، فبادراه بالسلام ورحَّب بهما، وقال: علمت بقدومكما اليوم فبادرت إلى هذا المكان لموافاتكما والترحيب بكما، فترجلا عن جواديهما وصعدا إلى البستان حيث جلسا مدة يتجاذبان أطراف الحديث مع الشيخ، وعلما منه أنَّ أهل القرية يوجسون خيفة من عصابة شريرة تعبث فسادًا في تلك النواحي، وهم لا يعرفون إذا كان أفرادها من المسيحيين أو المسلمين، وقد وقع أحد أبناء القرية في أيدي رجال العصابة فأوسعوه ضربًا وسلبوه كل ما كان يحمله، وتركوه عاريًا بين حيٍّ وميتٍ، ويظن أهل القرية أنَّ العصابة مسيحيَّة جاءت للانتقام منهم؛ ولهذا السبب جئت إلى هنا لأنبهكم لتكونوا على حذر تامٍّ فيما تتكلمون، وتساعدونني على تهدئة الخواطر الثائرة.
توجَّه سمعان إلياس وابنه سليم إلى منزل صديقهما القديم يوسف الهلالي، فرحَّب بهما هذا الصديق ونجله وأحلَّاهما على الرحب والسعة، ولكن سمعان لحظ أنَّ هنالك شيئًا من الفتور لم يكن يشعر به قبلًا في بيت صديقه.
وفي مساء ذلك اليوم توافد الضيوف على منزل الهلالي — حسب العادة — وتحامل بعضهم على المسيحيين غير مراعين أدب المجالس وشعور الضيفين، فكتم سمعان غيظه، وقال لعلَّ ذلك مما جرى لابن قريتهم وهم يحسبون أنَّ المسيحيين فعلوا به ذلك، ولكن الشاب سليم لم يتمالك أنْ قال: يظهر أنَّ بعض الإخوان لا يعلمون أننا مسيحيان، ونحن ننتظر أنْ يكرمنا إخواننا المسلمون، كما نكرمهم لو كانوا ضيوفنا ويحبوننا كما نحبهم؛ لأننا نعتقد أنه لا فرق بين مسلم ومسيحي، بل الله والوطن للجميع، ونحن يجب أنْ نكون كاليد اليمين واليد اليسرى تعاون الواحدة منهما الثانية.
فسُر الشيخ صالح بهذا الكلام، وقال «أصبت»، ولكن أحد الحاضرين تهجم على الشيخ وسليم، وقال: «لا، بل إنَّ المسلمين كالرأس والمسيحيين كالحذاء المرقع.»
فنظر الشيخ إليه شذرًا وانتهره قائلًا: «اسكت أيها الغبي الجاهل! فأنت عدو المسلمين وخزي وعار على الأمَّة والدين، فلولا أمثالك لكان الإسلام عنوان فخار لنا بين الأمم لا عنوان التأخر والانحطاط، كما يزعم الأجانب عنَّا والدين براء مما تزعمون وتعملون، لو كان الدم العربي يجري في عروقك لهزتك الأريحية، وجُدت بدمك في سبيل ضيف كريم حلَّ في منزل أعز رجل في قريتنا، وله منزلة خاصَّة في قلوبنا، وضيفنا صديق قديم لم يبادئنا العداء، ولا رأينا منه غير المودة والإخلاص.»
وحدث شغب بين الحاضرين وتكدر صاحب الدار وهمَّ بطرد الرجل لولا أنْ تداخل سمعان، خشية أنْ يتفاقم الشقاق، فقال: أخشى أنْ يكون صاحبنا قال ما قاله متأثرًا بأسباب خاصَّة، والإنسان قد يشتم أخاه وأعز الناس لديه في مثل هذه الأحوال، فأرجو أنْ ننتهي عند هذا الحد، وانفضَّ الاجتماع تلك الليلة ولم يحدث حادث آخر، ولكن الحاضرين لم يكونوا على مثل ما عهدهم سمعان، فاستغرب الأمر وعزم على ألَّا يطيل الإقامة في العمروسة هذه المرَّة، واتفق مع صاحب الدار على أنْ ينهضا مبكرين جدًّا في صباح اليوم التالي ويذهبا إلى البيادر لمعاينة الحبوب.
وفي صباح اليوم الثاني نهض سمعان إلياس وصاحب الدار وابنه وساروا إلى البيادر — ولم تكن بعيدة عن المنزل — وتركوا سليمًا نائمًا، ولم يكن أحد من الخدم في المنزل؛ إذ ذهب كلٌّ في سبيله.
واستيقظ سليم ونهض ليغسل وجهه ويلبس ملابسه ويلحق بأبيه، فإذا به يسمع وقع أقدام لطيفة في غرفة محاذية، وما أتمَّ لبس ملابسه حتى سمع نقرًا خفيفًا على الباب، فقال «تفضل»، وإذا به يرى فتاة رائعة الجمال لم تفتح العين على أتم منها شكلًا، وألطف قوامًا، وأصح عافية، يكاد الدم يتدفق من خديها والضياء من عينيها وجبينها الوضاء، دخلت الغرفة وحيت أجمل تحية، ثمَّ قالت: «عفوًا يا سيدي إذا أزعجتك.»
تلعثم سليم في بادئ الأمر؛ إذ خُيل إليه أنَّ الفتاة دخلت على غير علم بوجوده، ثمَّ تمالك روعه، وقال بعد أنْ رد التحية: «أخشى أنْ يكون وجودنا سببًا لتعبكم وإزعاجكم، وأظن أنَّ والدي ذهب مبكرًا فظننت أنني رافقته، فدخلت على غير علم بوجودي، فأنا آسف لذلك جدًّا.»
قالت: «بل أنا مسرورة من هذه الصدفة التي جعلتني سعيدة بمرآك، وطالما سمعت عن أدبك الجم وأخلاقك الحسان، فكنت أرجو أنْ تتاح لي مثل هذه الفرصة؛ لأرى الشاب الذي يحبه أهل القرية ويتمثلون به.»
فخشي سليم عاقبة التمادي معها في الكلام، وظنَّ أنها تستدرجه للغرام، وهو يعلم أنه ضيف رجل معروف بكرمه وحسن سمعته وسمعة أهله، ففي وجوده مع فتاة مسلمة منفردين باعث للريبة والشبهة، ثمَّ قال: «هل تسمح لي سيدتي أنْ أنسحب وألَّا أكون مثقلًا عليك إذا بقيت؟ فأنا أجلك عن ألسنة الناس.»
قالت: طب نفسًا وقر عينًا، فما أنا من الرعونة بالدرجة التي تصورتها يا سيدي، ولا أنا آتية الآن لأمرٍ يدعو إلى الريبة وليس في المنزل إلَّا والدتي، وهي بعيدة عنَّا في المطبخ تعد الطعام، ولكنني جئت لأمر ذي بال دفعني إلى مجاوزة حد اللياقة إذا كان في دخولي عليك في هذا الوقت ما يحسب خارجًا عن حدود اللياقة، فأنا أحذرك من خطر قريب لا يعرف به أحد من أهلي سواي، وقد عرفته بالصدفة.
لقد كان والدك أحب الناس لأبي، ولقد سمعتك تتكلم مع الشيخ صالح في العام الماضي، فكان حديثك موضع إعجاب الشيخ الذي طالما حض شبان القرية على التمثل بك في اجتهادك وأخلاقك، فجعلني ذلك أشد اهتمامًا بأمرك، والآن لا وقت للزيادة، فاحذر أنت ووالدك فإن هنالك مكيدة تدبر لاغتيالكما وأنتما عائدان إلى زحلة، حيث يكمن شقيان لكما في طرف الغابة عند الكهف الكبير، فإذا نويتما العودة فأظهرا أنكما عائدان من تلك الطريق، ثمَّ عودا بأسرع ما يمكن وسيرا بطريق الجبل، والآن أستودعك الله وإياك أنْ تبوح بشيء مما أقوله لك لأحد، فتسيء إلى من أحسنت إليك.
فقال: معاذ الله يا سيدتي! إنَّ مرآك اليوم بهذه الطلعة البهية كان عندي كشعلة الطور، وصوتك العذب كصوت الملاك المنقذ يحذر من خطر قريب، فشكرًا لله الذي أرسلك إليَّ كما كان يرسل للأبرياء رسله الأطهار، فكيف أستطيع أنْ أكافئك على هذا المعروف الذي لا أنساه، وما دمت في قيد الحياة فأنا أسير لطفك، بئست العادات والتقاليد التي تأبى علينا الاجتماع، ولكن ثقي يا سيدتي أنَّ صورتك لا تُمحى من ناظري وفؤادي، وصوتك العذب يبقى في أذني يرن كلما طابت الذكرى وذكرت المودة والوفاء.
نعم، إننا لا نستطيع الاجتماع ثانية، وقد لا يسمح الزمان بمثل هذه الفرصة السعيدة النادرة، ولكن روحي تبقى محلقة في سماء العمروسة ترصد كوكبها الوهاج.
فهزت هذه الكلمات أعطاف هيفاء، وتذكرت أنها سمعت من الشيخ صالح أنَّ سليم شاعر مجيد، ثمَّ نظرت إلى ما حولها، وإذ تأكدت أنَّ المكان لا يزال خاليًا قالت: أرى أنَّ كلامك المنثور كأنه عقود الجمان، وهو يتضمن شعرًا تنم عنه كلماتك العذبة التي تسيل رقة وشعورًا، وأنا مولعة بالأدب والشعر، وهكذا شقيقي محمد فإذا كنت ترغب في مكافأتي على هذه الخدمة الحقيرة، فأرجو أنْ تهدي شقيقي كتابًا من كتب الأدب يكون لنا خير تذكار منك، وحبذا لو ترفقه بشيء من نظمك فإنني أعدك أنني أتلوه مرات كل يوم ذاكرة لك فضلك على الدوام، لا أستطيع أنْ أمكث هنا طويلًا فأستودعك الله.
خرجت هيفاء وسليم يشيعها بنظراته وفؤاده، وقد سحره جمالها وأسره أدبها وظرفها وكمالها، ثمَّ أخذ يفكر فيما قالته له وحذرته منه، فتعجب كيف يضمر أهل القرية أو أحدهم لوالده شرًّا وهو أصدق صديق لهم، إنَّ ذلك لمن الطيش والحماقة بمكان — إنسان يقتل إنسانًا لم يؤذه في شيء ولا كاد له في أمر، ولم تحدث بينهما عداوة — ذلك عجيب، وخشي أنْ يقول لوالده شيئًا فيضحك والده منه، أو يُظهر العناد فيعرض نفسه للخطر وهو يحب والده أشد محبة، ويعرف أنه شجاع مقدام أو يخبر الشيخ صالح أو يوسف الهلالي، فيكون بذلك كمن يبوح بسر هيفاء فسكت على الضيم طول النهار وهو يفكر في هذه الأمور.
السفر والعودة إلى العمروسة
في صباح اليوم التالي نهض سمعان وسليم مبكرين وامتطيا جواديهما وسارا عائدين إلى زحلة، بعدما ودعا صديقهما يوسف الهلالي ونجله محمد وشكراهما على ما أظهراه من الكرم والإكرام، وما أبعدا قليلًا عن القرية حتى قال سليم لوالده: «يا أبي، أُفضل أنْ نسير بطريق الجبل ريثما نجتاز أعالي الغابة، ثمَّ نعود إلى استئناف السير بالطريق العادية بعد ذلك بقليل حيث تتقاطع الطريقان، فإن في أعالي الغابة نبع ماء سمعت بعذوبة مائه وأحب أنْ أشرب منه.» فقال والده: «لا، بل نسير في نفس الطريق التي جئنا منها.» فتوسل إليه سليم حتى أجاب والده طلبه دون أنْ يعرف حقيقة الدافع الذي دفعه إلى هذا الإلحاح.
وما توسطا الجبل حتى رأيا جزع شجرة كبيرة يسد الطريق، ثمَّ سمعا جلبة وراءهما وفوقهما فالتفتا حولهما وإذا بهما بين عصابة من اللصوص وقطاع الطريق.
وكان سمعان ونجله سليم من الشجعان البواسل، ولكن اللصوص لم يتركوا لهما مجالًا لإظهار شجاعتهما، بل صوَّب بعضهم البنادق إلى صدريهما وتقدم زعيم اللصوص، فقال: «اشلحا.» «سَلِّما تسْلَما.»
فنظر سمعان إلى سليم، وقال: افعل كما أفعل، والتفت حوله فلم يجد سبيلًا للنجاة، فالطريق شعب ضيق في الجبال ولا منفذ منه إلَّا حيث سد بالشجرة الكبيرة التي لا يستطيعان أنْ يمرا فوقها، ومن ورائهما وفوقهما اللصوص، وقد صوَّب بعضهم البنادق، فالمقاومة لا تُجدي نفعًا؛ لأن هؤلاء الأشرار لا يمهلون الرجل إلَّا ريثما يتحرك حتى يكونوا قد أطلقوا النار عليه فأردوه قتيلًا، فنظر إليهم سمعان، وقال: يا أولادي، نحن إخوان لكم، جئنا هذه القرية بتجارة وقد دفعنا كل ما لدينا من المال ثمنًا للحبوب التي اشتريناها، فإذا كنتم بحاجة فالله كريم منان، ونحن لا نبخل عليكم بما تبقَّى معنا، إنما إذا كان لكم ثأر على أهل القرية فنحن غرباء. قال ذلك؛ لأنه ظنَّ أنَّ هنالك عصابة مسيحيَّة تعبث بالأمن في تلك الجهة انتقامًا من المتاولة، كما كان يعتقد أهل القرية أنفسهم، ومع أنه رأى من أزيائهم ما غيَّر اعتقاده إلَّا أنه حسب أنهم ربما غيَّروا ملابسهم، وتعمم البعض منهم تعمية للناس.
فتقدَّم زعيم اللصوص وقال: «لا تضيعا الوقت، فنحن لا نريد بكما شرًّا، إذا أجبتما طلبَنا حالًا، فانزعا ملابسكما واتركا جواديكما وكل ما تملكان لنا، وإلَّا فإذا حاولتما الاستغاثة أو المقاومة فليس أمامكما إلَّا الموت الزؤام.» فتقدَّم سمعان، وقال: «رويدكم أيها الإخوان! أمَّا الجوادان وما لدينا من مال فنتركه لكم عن طيب خاطر إذا كنتم تتركوننا بملابسنا؛ إذ إنه من العار أنْ نسير عاريين ونحن غرباء عن هذه الديار، فنستحلفكم بالله ألَّا تشددوا علينا، وهاكم ساعتي وخاتمي فخذوهما.» فقال الزعيم: «يظهر أنكما رجلان طيبان، فانزعا ملابسكما الخارجيَّة فقط، وأبقيا قسمًا مما تلبسان لستر عورتكما وسوف نربطكما بشجرة ريثما نبعد عنكما، ويبقى بقربكما رجل منَّا فإذا رفعتما صوتكما بالاستغاثة، فُتك بكما، فإياكما أنْ تفعلا شيئًا، والآن ترجَّلا حالًا فلا موضع لإطالة الكلام.»
فما انتهى من كلامه حتى ارتفع صوت امرأة تستغيث، وتقول: «شباب، شباب، اللصوص اللصوص!» ثمَّ تلا ذلك إطلاق بندقية، فجفل الجواد الذي كان يركبه سليم — وكان جموحًا — وجرى مسرعًا به، فضُرب بصخر بارز، ثمَّ انقلب به في حفرة كائنة في أسفل الطريق، فأغمي على سليم ولم يعد يعي على شيء.