الفصل الرابع
فتح سليم عينيه بعد نحو نصف ساعة فإذا به يرى نفسه وقد أفاق من غشيته نائمًا على فراش وثير، فنظر حوله، وإذ لم يجد والده صرخ: «أبي، حبيبي، أين أبي؟ بالله قولوا أين هو وأين أنا الآن؟»
فتقدَّم محمد الهلالي، وقال: «طب نفسًا، فأنت في منزلنا، ووالدك هنا يكتب كتابًا للطبيب في بعلبك لقربها منَّا، فالحمد لله على سلامتكما.» ثمَّ علم سليم أنَّ أهل البلدة حينما سمعوا استغاثة المرأة أسرعوا بأسلحتهم وتبادلوا إطلاق النار مع رجال العصابة، فجرحوا اثنين وألقوا القبض عليهما وعلى ثالث من رفاقهما وفرَّ الباقون، فعرفوا اللصوص — وهم غير مسيحيين كما كانوا يحسبون — وقد وجدوا معهم بعض ما سرقوه من القروي الذي سلبوا ماله من قبل.
وكان الألم الذي يشعر به سليم شديدًا، فخف أحد الرجال إلى بعلبك وعملوا لسليم الإسعافات الأوليَّة كما يفهمها أهل القرية، وشُغل بال سمعان — ولكن ابنه طمأنه — وحاول أنْ يخفف من انشغال بال والده، فقلَّل من أهمية ما أصابه، وتحمَّل الألم بصبر وطول أناة.
وبعد الظهر بساعتين جاء الطبيب فوجد أنَّ حالة سليم تستدعي مزيد العناية والراحة التامَّة، وأنَّ هنالك كسرًا في العظام يوجب عدم نقله من مكانه مدة عشرين يومًا.
فصعب هذا على والده، أمَّا سليم فسُرَّ؛ إذ كان يرجو أنْ يرى هيفاء مرة ثانية فيخفف ذلك من آلامه.
وعاد الرجلان اللذان ذهبا للتربص لسليم ووالده في طرف الغابة، وعلما بأمر العصابة الأخرى، وفهما أنها عصابة مسلمة فندما على ما فرط منهما من التسرع، وعلى ما كانا ينويان عمله؛ لأنهما تواطئا مع بعض أغرار البلدة المجاورة على قتل التاجر وابنه انتقامًا لابن بلدتهما، الذي كانوا يحسبون أنَّ المسيحيين تعدوا عليه وسلبوه ماله، وعلم الشيخ صالح بالأمر فدعاهما إليه ووبخهما، وأنذرهما بشر العقاب إذا هما عادا إلى التفكر بمثل هذه الأمور، واجتمع أهل القرية في منزله فأظهر لهم خطر الحالة، وفساد فكرة الانتقام الوحشي، وما يجر هذا العمل من الوبال عليهم أجمعين.
وكان الشيخ صالح أكبر مساعد على تخفيف المصاب على صديقه سمعان، وما زال حتى جعله يشعر كأنه بين أهله وإخوانه، بعد أنْ كان قد نقم على أهل القرية لما جرى، خصوصًا حينما علم أنه لو لم يقع بين أيدي اللصوص لوقع فيما هو أشر منه وأدهى، فشكر الله على ما كان، وشعر بالفرق بين رجل صالح يفهم معنى الصلاح، ورجل متعصب جاهل يتخذ من الدين سلاحًا لارتكاب الشرور، وانتهاك الحرمات، وقتل النفوس البريئة، وخدمة مآربه الشخصيَّة، فعظم الشيخ صالح في عينيه وودَّ لو أنَّ جميع الناس — خصوصًا رجال الدين منهم — كانوا على شاكلته؛ فقد كان دينه ظاهرًا بأعماله الصالحة، وعلمه بيِّنًا ساطعًا بأقواله الحكيمة وتصرفاته الممدوحة، وكلماته الحلوة الناطقة بإخلاصه وصدق اليقين.
لم يستطِع سمعان أنْ يطيل مكثه في العمروسة؛ لاضطراره إلى العودة إلى زحلة للإشراف على أعماله واستلام ما كان قد اشتراه من الحبوب، فترك نجله المحبوب تحت عناية صديقه يوسف الهلالي وأهل بيته، وأوصى به الشيخ صالح الذي أصبحت له في قلب سمعان مكانة عظيمة لم تكن له من قبل.
مرَّت ثلاثة أيام وسليم لوحده في منزل الهلالي لم يستطع أنْ يرى هيفاء، أو يشعر بوجودها بعد سفر والده، وإنْ يكن في العناية بما يُقدم إليه من الطعام ما يدل على اهتمامها به؛ والسبب في ذلك أنَّ الهلالي ونجله محمد وأهل البلدة لم يكونوا يتركونه لحظة واحدة؛ ظنًّا منهم أنَّ ذلك يسره ويخفف عنه ألمه، ويجعله يشعر بأنهم قاموا بواجب الضيافة، وكان كدر الجميع عظيمًا خصوصًا؛ لأن المعتدين من المتاولة.
وفي اليوم الرابع علم سليم أنَّ في القرية مأتمًا وقد ذهب جميع مَن في الدار لحضور المأتم بعد أنْ نظروا في حاجته، ووفَّوه حقه من الإكرام، وأوصوا به أجيرًا كان يشتغل في زراعة الهلالي.
فاغتنمت هيفاء هذه الفرصة وكلَّفت الأجير بقضاء عمل خارج الدار يستغرق وقتًا طويلًا، وانسلت من غرفة داخلية إلى حيث كان سليم نائمًا يئن متوجعًا، فدقت الباب بلطف ثمَّ دخلت واجفة فحيت سليم، وقالت: «سلامتك. لقد آلمنا مصابك كلنا، وكان له أشد وقع في نفسي؛ لأنني أحببت أنْ أنقذك من خطر فوقعت فيما هو شرٌّ منه، أمَّا الشريران الجاهلان اللذان كانا ينويان الشر لكما فلما علما بما كان، ندما أشد الندم على ما أصابك، وعلى ما كانا ينويان عمله.»
فأجاب سليم: «إنني سعيد بما أصابني؛ لأنه مهَّد لي السبيل إلى مثل هذا اللقاء السعيد، وكنت أظن أنَّ أبي سيرسل والدتي إلى هنا، ولكنه — على ما أرجح — لم يشأ أنْ يخبرها بما أصابني حتى لا يشغل بالها، وهو لو عرف بما أنت عليه من الظرف والكياسة لما تأخر عن إرسال والدتي إلى هنا، وما كان أسعدها لو تعرفت بك؛ فهي تحب الفتيات النبيلات مثلك حبًّا جمًّا، ولكني أقر أمامك الآن أنني كنت السبب لهذا التأخير.»
فاحمرَّت وجنتا هيفاء، وقالت: «كنت أودُّ أنْ أراك على غير هذه الحال، والله كريم فسوف تُشفى قريبًا بإذن الله.»
– لكنني متى شُفيت سأفارق القرية وأُحرم من مشاهدتك عند ذلك.
– ليتني كنت أستطيع أنْ أقوم بالعناية بك بنفسي وتمريضك مدة إقامتك هنا، فكنت أجد في ذلك كل لذَّة، ولكن العادات لا تجيز لنا حتى خدمة الإنسانيَّة المعذبة.
– بئس العادات؛ فإننا لولاها لكنَّا أسعد الناس، ولم يكن في حديثي معك ما نؤاخذ عليه أو يدعو إلى الريبة، بل إنَّ محادثة فتاة نبيلة مثلك ترفع النفس وتلجم اللسان عن التفوه ببذيء الألفاظ وتدمث الأخلاق، ولكن ثقي بأن هذه القيود سوف تزول بالتدريج، فأنا أعرف أنَّ شبان المسلمين في المدرسة كلهم متحمسون مثلنا لفك هذه القيود، وللخروج من سجن العبودية المظلم إلى نور الحرية وعالم المساواة والإخاء.
– ولكن الدين يمنع اختلاط الجنسين.
– لا أرى رأيك في هذا الأمر، والناس يؤولون أقوال الكتب المنزلة حسبما يتراءى لهم. نعم إنني أوافقك على عدم جواز التعجيل بفك القيود دفعة واحدة، ولكن العلم يزيل الجهل والتعصب الذميم، ويُبطل كثيرًا من القيود التقليديَّة التي تفصلنا الآن، والتهذيب يزيل ما علق في النفوس من الفساد ويرفع مستوى الأخلاق؛ إذ ما يمنع أنْ أكون صديقًا لك كما أنا صديق لأخيك؟! أمَّا منع اختلاط الجنسين لمنع الشر والفساد فهذا لا يأتي بالفائدة؛ لأن الممنوع مرغوب فيه، بل إنَّ اجتماع الجنسين يزيل الميل البهيمي، والحشمة أقوى من الحجاب، والمرأة الشريفة العاقلة تحترم نفسها وتحافظ على كرامتها من الامتهان، فلا تشجع الرجل على التهجم عليها، بل تجعله يحترمها ويحبها لسمو أدبها أكثر مما يحبها لجمالها، ونحن نعتقد أنَّ حبس النساء في المنزل لا يمنع عنهنَّ الشر، بل إنَّ ذلك يقوي فيهن الميل إلى الخروج من هذا السجن الضيق، فإذا سنحت لهنَّ الفرصة كنَّ أسرع إلى الشر من المتبرجات. وهناك مثال أقدمه لك؛ فإننا نحن في مدرستنا نُعطى الحرية التامَّة ونعامل كرجال أحرار، ومع أنه يجري أمور كثيرة في المدرسة لا تحمد مغبتها، فإن مستوى الأخلاق عند متخرجي مدرستنا أعلى من مستوى أخلاق متخرجي المدارس الأخرى التي تشدد على التلامذة كثيرًا؛ وذلك لأن التلامذة في مدرستنا يعوَّدون على الاستقلال والاعتماد على النفس صغارًا، فإذا خرجوا من المدرسة إلى العالم لم تبطرهم الحرية، ولا استسلموا للشهوات والأباطيل. وهكذا تكون الحال لو أُفسح المجال للبنات، وأُطلقت لهنَّ الحرية ضمن حدود الحشمة وتحت رعاية والديهن، وأُحطن بجوٍّ صالح من الفضيلة والعفاف.
كان لهذا الحديث أفضل وقع في نفس هيفاء، وكانت تربيتها لا تسمح لها بالتمادي أكثر، وخافت أنْ تطيل مكثها لدى سليم فيحضر مَن يراها هنالك، فخرجت إلى غرفة ثانية؛ لترى من النافذة إذا كان أحد قادمًا، تاركة سليم غارقًا في تأملاته، وقد شعر أنَّ قلبه يخفق خفقانًا شديدًا.
لم يرَ بين جميلات زحلة وبيروت ممن عرفهنَّ مَن ارتاح إلى رؤيتها، كما ارتاحت نفسه في تلك البرهة إلى حسناء العمروسة؛ فقد رأى في مُحيَّاها الوسيم وجمالها الطاهر آيات من الجمال، يفهمها من قرأ سفر المحبَّة واطلع على أسرار الغرام.
فكأن في كل حركة من حركاتها وسكنة من سكناتها آية من الآيات التي تبهر العقل وتأخذ بمجامع النفس.
عادت هيفاء بعد أنْ تأكدت أن لا خطر عليها من البقاء بضع دقائق أخرى تسمع من أقوال سليم ما انغرس في فؤادها وطُبع في ذاكرتها، وأحسَّت أنَّ هنالك قوة داخليَّة تدفعها إلى حيث كان، فلم تتأخر أنْ دخلت فبادرها بقوله: «ليتني كنت على غير هذه الحال فأقابلك كما تستحقين.» فتورَّد خداها؛ لأنها قرأت بين عينيه الوضاءتين ما كان يجول في خاطره، وللقلوب لغة تتفاهم بها دون أنْ تنطق الشفتان، ولكنَّ الحب الشريف يقترن بالحشمة والعفاف، فيقف المحبان عند حد المودَّة والعفاف وهما مشمولان بالحب، تحيط بهما المسرة والهناء.
تذكرت هيفاء في تلك اللحظة الشاعر، فقالت: سمعت أنك تجيد النظم والشعر ريحانة النفوس، وكنت أودُّ أنْ أسمع منك شيئًا من منظومك، أو أحصل عليه مكتوبًا فأتلوه في ساعات الوحدة، فليس كالشعر الرقيق محركًا للنفس، منهضًا للعزائم مرقيًا للأفكار؛ ولذا تراني قد حفظت كل ما وقع تحت يدي من المنظوم، فأنا أحفظ أشعار الفارض ومنتخبات أشعار أدبية والبردة، وبعض الأشعار العصريَّة.
قال: وهل تقرئين الجرائد والمجلات العصريَّة؟
قالت: لا يوجد لدينا منها شيء إلَّا ما يقع تحت يدي عرضًا من حين إلى آخر، فإذا توفقت إلى شيء من ذلك أتلوه بلهفة وشوق.
قال: سوف أُهدي شقيقك جريدة يوميَّة ومجلة شهريَّة وبعض الكتب الأدبيَّة، فتستطيعين أنْ تطالعيها وتطلعي على أمور العالم إجمالًا، فأكون قد وفيت بعض ما عليَّ من الدين لهذا البيت الكريم.
قالت: «هذا خير ما أريد، وحبذا لو استطعت أنْ أدخل مدرسة عالية حيث أتلقَّى العلم الذي تتعطش إليه نفسي.»
– خاطبي والدك بالأمر، فلا أخاله يرفض مثل هذا الطلب.
– بل والدي لا يسمح بذهابي خارج المنزل إلَّا مع والدتي، أو صحبة الخادم العجوز التي ربتني، ولا يرغب في ذهابي خارج البيت إلَّا إلى الكرْم أو البستان.
– ليتني كنت أستطيع أنْ أخاطبه بشأنك.
– إذن بي إليك حاجة.
– وما هي؟ فإنني طوع أمرك.
– هي أنني أرغب في الدخول إلى مدرسة عالية دون أنْ يعلم أحد من أهلي بمحل وجودي؛ لأنهم كلهم ضد فكرة تعليم البنات.
– هذا ما لا أستطيعه؛ إذ أكون ناكرًا للجميل، خائنًا لعهد المودَّة والإخلاص؛ لأن الناس إذا عرفوا أنَّ سليم إلياس اختفى بهيفاء الهلالي تقوَّلوا بشأننا، وعدَّوا عملي خيانة. وفرارُك مع أجنبيٍّ عارٌ وشنارٌ تلحق وصمته بوالديك الكريمين، ولا يصدق أحدٌ أنك إنما سِرت معي لغرض شريف وغاية نبيلة، فإذا كنت تطلبين العلم فخاطبي والدتك بالأمر لعلها تساعدك، وأنا أضمن لك مساعدة والدتي إذا قُدر لك النجاح، ولي ابنة عمٍّ في مدرسة الأميركان تكون لك أعز من أخت، أو إذا شِئت الدخول في أي مدرسة أخرى فكلنا نستطيع مساعدتك، وأنا أضمن نجاحك؛ لأنك وأنت بعيدة عن وسائل العلم ومناهل المعرفة تُظهرين من الرغبة ما تظهرين رغم ما يعترض سبيلك من العقبات.
قالت: «إنَّ أبي وأمي وأخي جميعهم يعتقدون أنني لم أُخلق للمدرسة، وهم من الآن يهتمون في أمر زواجي، وأنا أكره إرغامي على الزواج بمن لا تروق عشرته لي ولا أزال صغيرة السن، فإذا أُتيح لي فرصة للتعليم نلتُ ما تطمح إليه النفس.»
قال: جربي أوَّلًا إقناع أهلك ونرى بعدئذٍ ما يكون.
ودَّعت هيفاء سليم بعد أنْ جرى بينهما هذا الحديث الطويل، وهي تود ألَّا تخرج من أمامه لولا خوفها من الفضيحة والعار، وكان هو أكثر منها قلقًا؛ لأنه كان يعتقد أنَّ وجودها في غرفته باعثٌ للريبة مع أنه كان سعيدًا جدًّا برؤيتها، مبتهجًا بسماع كل كلمة من كلماتها.
مرَّ عليه يومان كانا كأنهما سنتان، لم يرَ في خلالهما هيفاء ولا علم شيئًا عن والده.
وفي صباح اليوم الثالث حضر الطبيب ونزع الرباط وطمأنه بأنه يستطيع أنْ يغادر العمروسة بعد أسبوع؛ لأن الكسر قد جُبر وأنه يستطيع القيام قليلًا في غرفته والمشي خطوة بعد أخرى، وبينما هو يحاول القيام، إذ لم يكن أحد في المنزل، شعر بحركة خارج الغرفة، ثمَّ سمع صوتًا لطيفًا، يقول: «الحمد لله على السلامة.» فالتفتَ إلى الوراء ورأى هيفاء تبتسم له، وتقول: «شاء الحظ أنْ يخدمني اليوم أيضًا، فأنا وحدي الآن هنا، وقد جئتُ لأرى ماذا تحتاج إليه من الخدمات، ولأرى إذا كنت رأيت شيئًا في قريتنا حرَّك قريحتك الوقادة فأسمع منك ما يحلو ويطيب.»
قال: أي شعر ينظمه رجل متألم موجوع؟!
قالت: يظهر أنَّ قريتنا لا تحرك القريحة الشعرية، ومن فيها لا يستحقون نظم الشعر، وسكتت قليلًا.
فحار سليم في أمره، وقال: لا، بل أرجو أنْ تسنح لي فرصة أخرى أكون فيها صحيح الجسم والعقل، فأنظم في وصف العمروسة ومن فيها من الشعر ما يليق بالمنظوم لأجلهم، والآن ما لنا وللشعر، فالشعراء في كل وادٍ يهيمون، وأنا الآن كطير في قفص لا يحلو له التغريد، فدعينا من الشعر وأخبريني هل نجحت مع والدتك ورضيت أنْ ترسلك إلى المدرسة؟
قالت: لا، بل إنَّ والديَّ لم يسمحا لي بذلك، ولما فاتحت شقيقي بالأمر هزأ بي، وقال: إنه سوف يرسلني إلى مدرسة العالم أتعلم فيها الأمومة عند زوج غني، وأنا أعلم ذلك الزوج المقصود، فهو خامل الذكر مجرم أثيم، جمع من المال مبلغًا كبيرًا جله، اجتمع لديه من عرق الفلاحين المساكين الذين كانوا يشتغلون له ليلًا ونهارًا، ثمَّ يأكل أجورهم وتعبهم متعللًا تارة برداءة العمل، وأخرى بمحلِ الموسم أو الخسارة، وهو معروف بلؤم طباعه وخسته، ويقال: إنه كان في بادئ أمره سفَّاحًا أثيمًا، فلما جمع ثروته أخذ يتظاهر بالوجاهة، وما هو إلَّا أفَّاك لئيم.
– ولكن الناس إذا رأوا رجلًا غنيًّا احترموه وأحبوه دون أنْ يعلموا أو يبالوا بمعرفة الطريقة التي توصل بها إلى غناه.
– لا وقت لدينا الآن للإطلالة، فأنا أثق بك وأعلم أنك كأبيك صدقًا وإخلاصًا، وحيث إنني أطلعتك على سري فأرجو أنْ تمدني برأيك الصائب، ولا تتركني فريسة الأقدار؛ فإنني أفضل الموت ألف مرَّة على أنْ أكون زوجة لذلك الغني الشرير، أو بالأحرى عبدة لشهواته فيلتصق اسمه المخزي بي، وإنني أقول لك الحق الصراح، وهو أنك الوحيد الذي فاتحته بهذا الأمر الذي يتوقف عليه مستقبل حياتي، ولا أعلم ما جرأني على ذلك أو دفعني إلى مثل هذا العمل، ولكن ما سمعته عنك جعلني أنْ أثق بك وأعتمد عليك، ففي كلمة منك سعادتي أو شقائي.
فأجاب سليم: «آه! ما أحرج مركزي الآن! فأنا بين عاملين؛ يدفعني الواحد لإنقاذك من هذه الحالة الوبيلة، ويجعلني الآخر أنظر إلى الأمور نظرة عمليَّة وأترك المسألة لتدبير الله وشعور والديك، وما أخالهما يسمحان بشقائك إذا علما أنَّ هذا الزواج لا يحلو في عينيك، ولا أظنهما يرغمانك على قبول هذا الزوج اللئيم.»
– أنت لا تعلم العادات، فهما لا يرغمانني بالقوة، بل يجعلاني في حالة لا أستطيع معها التخلص من هذا الزوج السمج الفظ، الذي يظن أنَّ النساء إنما خلقن لخدمة الرجل وإشباع شهواته، ولقد تزوج أربع نساء لا يستحق أنْ يكون خادمًا لإحداهن لو كان للأخلاق والصفات قيمة عندنا، وهنَّ الآن يندبن حظهنَّ العاثر، وطلق إحداهنَّ منذ بضعة أيام بعد أنْ أشبعها إهانة وعذابًا، ولعلَّ ذلك تمهيدًا لزواجه الجديد.
– قاتله الله! فلن ينال قلامة ظفر منك.
قال سليم ذلك، وقد شعر بنار الغيرة تأكل قلبه، ودفعته الحماسة إلى أقصى حدٍّ؛ إذ تمثل لديه ذلك الملاك الطاهر في قبضة شيطان رجيم وفاجر شرير، يذل نفسها ويُميت عواطفها الإنسانيَّة، ويحط من أخلاقها العالية ويسبب لها الشقاء الأبدي. ثمَّ عاد إلى نفسه، وقال: إنني أتداخل بما لا يعنيني، وهذا يجر إليَّ مشاكل لا مبرر لها. ثمَّ نظر إلى هيفاء فرأى نور الذكاء يتوقد بين عينيها، وأثر الهمَّة والإقدام باديًا عليها، فقال: وهل يليق أنْ تكون هذه الفتاة الفتَّانة امرأة رجل لا يرعى حرمة، ولا يحترم النساء ولا العواطف، ولا يعرف للطهارة والشرف معنى، ولم يعد يملك صوابه، فقال: لا تكونين — بإذن الله — إلَّا لمن تحبين وتريدين، ولمن يجل مقامك ويرعى حرمتك، ويحبك حبًّا يقرب من العبادة، فلا يكون له إلاك، وتكونين أنت ملاكه الحارس وفردوسه الأرضي، ومبعث سعادته وهنائه.
فدنت منه، وقالت بصوت خافت: «أواه! ليت ذلك ممكنًا!» وأجهشت في البكاء، ثمَّ عادت، فقالت بصوت متهدج: «أنا أتعس بنات جنسي؛ لأنه قُدر لي أنْ أحب من لا أستطيع أنْ أبادله الحب وأشاطره حلو الحياة ومرها، جرح قلبي وهو لا يعلم بما فعل وتملك فؤادي وهو لا يبالي بي.»
لم يعد سليم يستطيع السكوت، فقال: «بل هو يهواك بكل جارحة في الفؤاد، وهيهات أنْ ينساك وإنْ يكن نصيبه منك البعاد.» ثمَّ فتح يديه كأنه يحاول أنْ يضمها إليه، ثمَّ تذكر مركزه فعاد إلى الوراء قليلًا ورآها ترتعش وقد ارتسمت على محيَّاها دلائل المسرة والابتهاج ممتزجة بالخوف والحذر، ثمَّ قالت: «أواه! لقد تطوحت كثيرًا وما كان يليق بي أنْ أفوه بمثل هذا الكلام وأنت غريب عني للآن، ولكنني أرى أنَّ قلبينا قريبان، ويكاد ما نفتكر به أنْ يكون واحدًا، والفكر والمبدأ إذا اتفقا في اثنين يجعلانهما أكثر قرابة من بعضهم البعض، ممن تربطهم القرابة والنسب إذا كانوا مختلفين في المبادئ والأذواق والأفكار. والآن قل لي بربك ماذا أعمل وكيف أنجو مما أنا فيه، فأنت أكبر مني عمرًا وأكثر اختبارًا، ولقد فتحت لي قلبك فلا تستطيع أنْ تغلقه فيما بعد، وإذا لم يكن لنا سبيل للاتحاد في هذه الحياة، فليكن حبنا الطاهر خير رابطة تربط القلبين برابطة الذكرى المفرحة، واعلم أينما سرت أنَّ لك في العمروسة أختًا تُسر بنجاحك وتبتهج بسعادتك، وتغتبط إذا سمعت عنك خيرًا.» وهمَّت بالانصراف فلم تقوَ رجلاها على حملها، ثمَّ سمعت نقرًا على البوابة الخارجية فأسرعت من داخل العلية الكبيرة إلى داخل البيت، ثمَّ سارت من الجهة المقابلة ففتحت للطارق، فإذا به الشيخ صالح.
وكان أبوها يشتغل في مناظرة فَعَلة يعملون في حقل له قريب من البيت، فبادرت هيفاء إلى حيث كان ونادته ثمَّ عادت إلى حجرتها تتأمل فيما جرى.
دخل الشيخ صالح على سليم فوجده جالسًا على المقعد قلقًا، فطيَّب خاطره حاسبًا أنه متضايق من الإقامة في تلك القرية، ثمَّ جاء يوسف الهلالي فأقام الثلاثة يتكلمون في شئون مختلفة، وبعد قليل قال الشيخ ليوسف: «إذا كان لديك شغل يوجب التفاتك للعمال فاذهب للحقل، وأنا أقيم هنا مع سليم أفندي قليلًا ريثما تعود.» فقال: إذن أترككما ساعة ثمَّ أعود.
الشيخ الفاضل والشاب العاقل
افتتح الشيخ صالح الحديث، فقال: «إنَّ قلبي يطفح بشرًا يا بني كلما شاهدتك، فأنت مثال للشبان في أخلاقك وآدابك العالية واجتهادك؛ ولهذا جئت الآن لكي أراك وأباحثك في أمر هام.»
– هذا فضل منك يا سيدي، والشاب العاقل هو مَن يحترم آراء الشيوخ ويعمل بنشاط الشباب.
– يا بني، إنَّ التكتم ليس إلَّا مكرًا مضرًّا، فأنا أمقت التكتم والتستر، وسوف أفتح لك قلبي وأود أنْ تصارحني الكلام.
– سمعًا وطاعة سأكون عند إرادتك يا مولاي.
– ربما علمت بما كان من أمر العصابات واتهام محمد الهلالي وغيره، ولقد قُدِّر لهذا العاجز أنْ يخدم بلاده وبني جنسه خدمات إذا لم تثمر كثيرًا، فأقل ما يقال فيها إنها كانت صادرة عن إخلاص.
تذكر يا بني ما جرى لنا من الحديث في العام الماضي، ولقد قلت حينئذٍ: إنَّ الاتحاد لا يكون إلَّا متى توفرت الوسائل وزالت أسباب النفور والاختلاف، فهاك ما جرى في هذا العام من الحوادث، ألم يأت كله مصداقًا لما قلت؟ ألم تكن أعمال العصابات دليلًا على فساد الأخلاق ووجود التعصب الذميم؟ ومن هو الذي ينفخ في بوق التعصب، هل من مصلحة أولئك الفقراء الصعاليك الذين ليسوا إلَّا آلات مسخرة، أم هو من مصلحة الناس الآمنين في بيوتهم العاملين بجدٍّ ونشاط، أنْ يكون مثل هذا الخلاف المستفحل والشر الذي استعصى داؤه ودواؤه؟ إذن أنا منبئك بشيء لست تعرفه.
كاد محمد الهلالي أنْ يقع في فخ بعض الزعماء ولولا تدخلي في الأمر قبل استفحال الشر، لكان الآن أكبر زعيم للصوص وقطاع الطرق والأشرار، وكانت آخرته إمَّا صريعًا من يد شقي آخر أو طريحًا في السجون مكبَّلًا بالحديد، ولكنني تمكَّنت من إقناعه بالعدول عن هذه الخطة، فثاب إلى رشده وعاد أبناء قريتنا كلٌّ إلى عمله، وإنني واثق — كل الثقة — أنَّ قريتنا الصغيرة أفضل قرى البقاع حالًا، وأوفرها غنًى وأكثرها مواشي، والفضل في ذلك عائد إلى انصراف الأهالي لأعمال الزراعة بهمَّة ونشاط، وأصبح أهل القرية الآن أكثر الناس كراهية للصوص، ألم ترَ كيف نكَّلوا بالأشقياء الذين حاولوا سلبكما أنت ووالدك؟ وهنالك أمر لا أعرف إذا كنت عرفتَ حقيقته، وهو أنَّ اثنين من شبَّان القرية كانا يحاولان ترصدكما وأنتما عائدان إلى زحلة، وسلبكما مالكما وإيقاع الأذى بكما؛ اعتقادًا منهما أنهما بذلك يخدمان الإسلام والمسلمين، ويحفظان هيبة الطائفة وينتقمان من أعدائهما بإيذاء مسيحيين، فلما علمت بأمرهما دعوتهما ووبختهما، فندما على ما فرط منهما وأصبح أهل القرية اليوم بعد أنْ جمعتُهم وشرحتُ لهم ما نالني في أسفاري وغربتي مدة عشرين سنة في أكثر بلدان الشرق، وبعض بلدان المغرب من غِيَر الدهر وعِبَره، وما رأيت من فضل الاتحاد وشر التحزب والتفرق أشد الناس تمسكًا بالاتحاد، واعتقادًا بأن الناس إخوان وأنَّ كل إنسان يجب عليه أنْ يعمل على قدر طاقته في سبيل الإصلاح لا متواكلًا معتمدًا على سواه.
وقد بيَّنت لأهل القرية أنَّ إيواء اللصوص ومساعدةَ الأشرار إذا كانوا من طائفتنا لا خير فيهما؛ لأن ذلك يشجع غيرهم على الانضمام إليهم، وبالتالي يكثر المجرمون والأشرار في الطائفة ويبعث في نفوس الطوائف الأخرى على الكراهية والمقت، فضلًا عن الخوف منَّا، فيؤلفون العصابات مثلنا لمقاومة أشرارنا، فنكون أكبر معوان على الشر وفساد الأخلاق، وهدم ما قام به السلف الصالح من المدنية والعمران، بيد أننا لو كنَّا حربًا على الأشرار لما تجرأ شرير أنْ يعتدي على بريء، ولعاش الناس سعداء أحرارًا يعاون الواحد الآخر، ويعمل الكل على استجرار المنفعة لنفسه ولأخيه، ثمَّ تمثلت بكما، إذ قلت: هاكم سمعان إلياس وابنه فإنهما أحبُّ إليَّ من أهلي، فهما أكثر الناس نفعًا لقريتنا الصغيرة مع أنهما مسيحيان لا تربطنا بهما رابطة قرابة ولا علاقة طائفية، ولكن الناس إخوان والدين المعاملة، فهل رأى أحد أهل قريتنا في هذا التاجر إلَّا الخير والنفع؟ هل قصده أحد لأمر إلَّا وساعده؟ وهل رأيتم في نجله إلَّا فتى كبير الهمة، صحيح العقل، ماضي العزيمة، يسير على خطوات أبيه في حبه للخير وخدمة الناس، وهو مع حداثة سنه ملمٌّ بالعلوم العقليَّة والنقليَّة إلمامًا يجعله مستعدًّا لتقلد أكبر المناصب، فهل تعلمون السبب في ذلك؟ فسكت الحاضرون، وقلت: إنَّ ما جعل هذين الرجلين كما هو أخلاقهما العالية، والعلم الذي جعلهما عاملين شريفين يعملان لتحصيل المال وإنفاقه في أقوم السبل، والله إنني لم أرَ أكرم منهما نفسًا ولا أقل منهما ادعاء، ولقد استفزَّ هذا الكلام صاحب الدار، فقال: وما قولك في إرسال محمد إلى المدرسة وهو الآن في الثانية والعشرين من عمره؟ فقلت: لا كبير على العلم، ثمَّ قال: وابنتي، وهي في الرابعة عشرة، هل تظن أنَّ التعليم ينفعها؟ قلت: إنَّ تربية الأمَّة لا تكون إلَّا بتربية بناتها وتدميث أخلاقهن، وتعليمهن العلوم التي تؤهلهن لتربية رجال الأمَّة. والآن ما رأيك يا بني فيما قلتُ؟ وهل تعرف مدرسة تناسب محمد وأخرى تناسب هيفاء بنت صاحب الدار؟ ولقد بلغني أنها تحسن القراءة والكتابة، وقد اطلعتُ على كتاب كتبتْه لأبيها مرة يدل على استعداد فطري نادر.
فأبرقت أَسرَّة سليم، وقال: إنَّ ما يراه الشيخ هو خير ما أراه، ولقد تفضلت يا مولاي فجعلت لنا مقامًا لا نستحقه، وأنت البادئ بالفضل والإحسان، فما فعله والدي كان لمصلحته الخاصَّة، وأمَّا أنت فقد صنعت جميلًا لأهل قريتك وأحسنت الظن بنا حبًّا بالخير، ولو كان يوجد كثيرون مثلك في هذه الديار لما كنا كما نحن الآن، ولكنني أرى أنَّ آمالنا أصبحت قريبة المنال بفضل من هم مثلك علمًا وفضلًا واختبارًا.
أمَّا ما تسألني عنه بشأن محمد وشقيقته فالمدارس كثيرة، وأنا أفضل المدارس الأميركية أو المدارس العالية التي يديرها بعض الوطنيين، الذين تربوا في المدارس الأميركية وأُشربوا روح تلك الأمَّة العظيمة وتعاليمها، وقدموا الوطنية والأخلاق العالية على كل اعتبار؛ لأن الأميركيين لا غاية سياسية لهم عندنا، وهنالك مدارس للبنات توافق ابنة صاحبنا الهلالي، وهذه المدارس تعلم البنات مبادئ العلوم العصرية، وتثقف عقولهنَّ وتربيهنَّ التربية القويمة، وتعدهنَّ لتكنَّ زوجات صالحات وأمهات فاضلات، ونساء يفتخر الوطن بانتمائهن إليه، ولا أُخفي عليك أمرًا، ربما لا تعرفه، وهو أنَّ الفضل في تربيتي وتعليمي العلوم العالية راجع إلى والدتي بالأكثر؛ لأن أبي كان يرغب أنْ أنضم إليه حينما انتهيتُ من الدروس الابتدائية، ولكن والدتي، التي كانت قد أرضعتني حب العلم منذ الصغر، واهتمت بتربيتي اهتمامًا عظيمًا، ألحَّت على والدي أنْ يرسلني إلى الكلية، ووعدته أنْ تقتصد من مصروف المنزل وتقطع عن نفسها من الزينة والملبوس، وغير ذلك ما يكفي لسد نفقات المدرسة، وهكذا تمكنت بفضل والدتي العاقلة من استئناف الدرس.
فقال الشيخ: «نِعم الأم ونعم الأب والابن، وما أسعد البيت الذي تكون ربته خير رفيق ومعوان لزوجها، وأكبر معلم ومرشد لأولادها! فحيث تعلمتْ والدتك فهنالك تتعلم هيفاء، وما العبرة يا بني بالمدرسة، بل باستعداد الطالبة ورغبتها، فالمدرسة تمهد السبيل أمام الطلاب وعليهم هم التحصيل، فمن أحب العلم ورغب فيه نال منه ما أراد، وسوف يعود رب الدار عما قليل فساعدني على إقناعه.»
وشعر سليم في تلك اللحظة بوقع خطوات خفيفة في الغرفة المحاذية، فعلم أنَّ هيفاء كانت تنصت لأقوالهما وتسمع ما دار بينهما من الحديث فاغتبط؛ لأنه علم أنها ستنال ما تطلب وترغب فيه.
ثمَّ جاء يوسف الهلالي ففاتحه الشيخ صالح بأمر تعليم ولديه، وما كان من رأي سليم فأظهر الميل إلى ذلك، ولكنه استصعب إدخال محمد إلى المدرسة وهو في الثانية والعشرين من عمره، أمَّا بشأن ابنته، فقال: إنها أصبحت كبيرة على المدرسة ولا يرى فائدة من إرسالها خارج البيت؛ لأن ذلك يضحك أبناء القرية ويبعث على استخفافهم به والسخرية منه، فضلًا عن أنَّ هنالك مَن يود الاقتران بابنته، وقد عرض مهرًا يوازي أضعاف ما يأخذه غيره من الوالدين مهرًا لبناتهم.
فضحك الشيخ، وقال: ومَن هذا الزوج الذي تود أنْ تبيعه ابنتك بأقل مما تُباع به فرس أو بغلة، ثمَّ تقول إنك والد كريم تحب أولادك وتسعى إلى خيرهم، وتحرم ابنتك وفلذة كبدك من العلم والفضل؛ لأجل زوج كهذا تخشى أنْ يفلت منك، فمن هو يا ترى؟!
قال: هو سلمان أحمد، صاحب الأراضي الواسعة والثروة الكبيرة، وأخشى من أنَّ ابنتي تذهب إلى المدرسة فتُحرم من مثل هذا النصيب، فانتصب الشيخ صالح واقفًا، وقال: «أُفٍ لك يا يوسف! أترضى أنْ تكون ابنتك الوحيدة المحبوبة امرأة رجل كسلمان، لا تجهل أنت كيف جمع ماله بطرقه الدنيئة، وهو أخبث رجل عرفته نفسًا وأحط قدرًا، فالمال لا يشتري السعادة والهناء ولا يرفع قيمة الإنسان، فضلًا عن أنَّ صاحبك متزوج وله أربع زوجات عدا المحظيات، وإنه لو كان عندي عبدة رُبيت في بيتي لما رضيت أنْ أعطيها لهذا الوغد الزنيم، فكيف ترضى أنْ تجعل ابنتك تعسة كل أيام حياتها من أجل بضع ليرات، واعلم أنك إنْ زوجتها بمثل هذا الرجل الفاسق، جلبت على نفسك العار وعلى أهلك التعاسة والشقاء، فكيف تكون ابنتك راضية بهذا الزواج، وهي تجد أمامها رجلًا فاسقًا قاسي القلب، عديم الذمَّة والمروءة، لا همَّ له إلَّا إشباع بطنه وشهواته، وهو ينظر إلى النساء كما ينظر إلى الأنعام فدونك، وهذا الزواج الفاسد إذا كنت تريد لابنتك خيرًا ولنفسك وأهلك راحة وصفاء. فإذا شئت التخلص من وعدك، ابعث بابنتك إلى المدرسة تشتري لها ولأهلك الراحة والسعادة بثمن قليل.»
الوداع
كان سليم على أحرِّ من الجمر في ذلك الأسبوع؛ فقد برح به الشوق إلى والدته وأهله كما أخذ يشعر بحب حقيقي لتلك القرية الجميلة ومن فيها، وأصبح لا يفكر بشيء كما يفكر برؤية هيفاء قبل الفراق.
مضى عليه يومان لم يخلُ بنفسه ولا تركه الضيوف وأصحاب الدار ساعة واحدة منفردًا، وفي اليوم الثالث شعر أنه يستطيع أنْ يمشي قليلًا مستعينًا بعكاز، فخرج إلى البستان المجاور للبيت وجلس تحت ظل شجرة صفصاف كبيرة يتأمل في الماء المتدفق أمامه، وكان يوسف في ذلك الوقت قد أخذ بعض العمال، وذهب إلى كرم بعيد عن البيت فلم يكن أحد قريبًا من سليم، وبينما هو كذلك، إذ سمع وقع أقدام ورأى هيفاء مقبلة نحوه وهي تميس بين الأشجار كأنها عود بان.
فخفق قلبه وشعر أنَّ لُبَّه قد طار، ثمَّ أقبلت نحوه وحيته بصوتها العذب الذي كان يضرب على أوتار قلبه فيرن رناتٍ أينَ منها رنات المثاني والعود!
فحيته وشكرت الله على سلامته، فأجابها بأحسن تحية، وقال: وهل مثل هذا الموقف لا يعيد الحياة إلى الموتى، فكيف بي وأنا أراك واقفة أمامي وقد اجتمع ما تمناه الشاعر مما ينفي عن القلب الحزن ويطرب له الفؤاد.
قالت: هذا ما خطر لي حينما رأيتك واقفًا أمام الماء في ظل هذه الصفصافة الغضة ينبعث السرور من محياك، فهل هذا لأنك مفارقنا عن قريب أم عادت إليك العافية فسررت، وحسن لديك منظر بستاننا الصغير.
قال: بل كل شيء عندكم جميل والطبيعة تحب التناسق، وكأن الله شاء أنْ يجمع في بيتكم وما حوله جمال ما صنعت يداه، والآن اسمحي لي أنْ أبشرك بأن أباك رضي أو قد يرضى بإرسالك إلى المدرسة، وتعهَّد الشيخ صالح بإقناعه، وأنا تعهدت بتدبير المدرسة وتسهيل وسائل التحصيل.
قالت: سمعت ما دار بينك وبين الشيخ بالصدفة، فجزاكما الله عني خيرًا، وإن والدي لم يعد يهتم بذلك الغني الشرير الذي طالما ألحَّ عليَّ بقبوله، فإذا وفقني الله ودخلت المدرسة كنت أسعد الفتيات.
لا أستطيع الوقوف هنا طويلًا، ولكنني غدًا سأراك على انفراد؛ لأن أبي وشقيقي ذاهبان إلى بعلبك بدعوة خاصَّة لحضور عقد زواج نسيب لنا هنالك، وربما صحبتهما والدتي أيضًا فأستودعك الله إلى اللقاء، وسارت يتبعها بنظراته وأفكاره وفؤاده الملهوف، وهو يسمع خرير المياه ولا يرى أمامه إلَّا شكل المحبوب يملأ الفضاء، مضى ذلك اليوم وكأنه جيل على سليم. وفي صباح اليوم التالي، بينما كان منفردًا في غرفته يفكر في لقاء هيفاء، إذا به يسمع وقع حوافر الخيل، فأطلَّ من النافذة ورأى ثلاثة جياد، فعلم أنَّ الوالدة ذاهبة أيضًا فرقص قلبه لذلك، وما ابتعد وقع حوافر الخيل حتى أقبلت هيفاء عليه، وكانت هذه المرة أجمل في عينيه من كل مرة أخرى فنهض مسلمًا، وقال: «يعزُّ عليَّ أنْ أفارق هذا البيت قريبًا، ولكنني سأترك فيه فؤادي الذي لا يستطيع مغادرة العمروسة، ومتى حرمت الفؤاد فماذا بقي مني؟ أواه! ليتني أستطيع أنْ أبقى هنا أراك إذا سرت، فأطرب لرؤياك وتلذ لي الحياة بقربك، فالوداع الوداع، لقد قُضي علينا أن نفترق بجسمينا، وأمَّا قلبانا فسيبقيان مجتمعين وروحانا متمازجين إلى أنْ نجتمع بعد القبر حيث لا فراق، أو يجمعنا التوفيق حيث يحلو اللقاء، قاتل الله التقاليد فإنها فرقت بيننا وحرمتنا لذة الاجتماع وسعادة الحياة.» فأجابته هيفاء: «سنفترق عن قريب، وقد يكون هذا الاجتماع آخر فرصة تسنح باللقاء، ولكن ثق أنَّ هيفاء لا تنساك وتنسى هذه الأخلاق العالية، واعلم أنك أنت الذي حببت لي المدرسة، وجعلتني أرى نور العلم الوضاء. وما نفع الحياة مع رجل شرير لا همَّ له إلَّا الأكل والشرب، فهو كالبهيم لا يعرف معنى للاجتماع، ولقد اطلعت على مقالات في المجلة التي وصلتك منذ بضعة أيام في الأدب والاجتماع، فصرتُ لا يطيب لي العيش إلَّا في وسط مَن يفهم معنى هذه الأوضاع، فليتك تعدني أنْ تساعدني على الخروج من هذا المأزق الحرج إذا رفض والدي أنْ يرسلني إلى المدرسة، وشاء أنْ يزوجني بذلك البهيم الذي تراه في صورة إنسان، واللهُ لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وهل تلام إذا ساعدتَ فتاة تطلب العلم إذا حققتَ رغباتها وسهلتَ عليها السبيل.»
فأجابها سليم متأثرًا: «مهلًا يا هيفاء، سوف أبذل الجهد في رضاك وعمل ما يسعدك حالًا، ولا أرى أصلح من الشيخ صالح لإخراجك من الظلمة إلى النور، فربما يساعدنا على تحقيق الآمال.»
ثمَّ وقف الاثنان، وفي صدر كلٍّ منهما نار آكلة، ولكن نفسيهما الشريفتين أبتا عليهما أنْ يزيدا على ما كان، فمدَّ سليم يده مصافحًا، وقال: هل تسمحين لي أنْ أصافحك كأخ يودع أخته العزيزة عند الفراق؟ فمدت يدها فتعاهدا على ألَّا ينسى الواحد منهما الآخر حتى الممات، وشعر كلٌّ منهما باللهيب المتصاعد من صدر الآخر، ولكنهما لم يزيدا تلك النار استعارًا.