للصور الفارسية جمال وسحر يأخذان بمجامع القلوب، والمرء يزداد بها إعجابًا كلما ألقى
جانبًا أية محاولة لمقارنة بدائع هذا الفن بما أنتجه فنانو الغرب ومن نسج على منوالهم،
فقد
يكون سهلًا الحط من قيمة التصوير عند الفرس بإظهار عيوبه والمزايا التي تنقصه، ولكن ذلك
خلط
لا داعي إليه، فهناك صفات لا يحاول هذا الفن أن يحصل عليها وهو إن حصل عليها سار في طريق
الاضمحلال، ولكن شيئًا واحدًا لا يستطاع نكرانه: هو أن الصور الفارسية وحيدة في بابها
توحي
للرائي نوعًا من السرور لا تستطيع غيرها أن توحيه.
وقد تبدو الصور الفارسية لأول وهلة مملة تجهد العين بألوانها الساطعة، وقد تظهر أيضًا
كثيرة التشابه؛ نظرًا للتقاليد الوضعية التي يشترك في احترامها المصورون: كإهمال الظل
وكرسم
الأشخاص في أوضاع معينة، وقد تنقصها الروح والحركة ودقة التعبير لما بين ملابس الجنسين
فيها
من خلاف يسير، ولكن هذه الخصائص هي هي التي جعلتها تحتل في ميدان الفن ركنًا مستقلًا
لا
ينازعها فيه منازع.
على أن معلوماتنا عن التصوير الفارسي قبل الإسلام لا تزال ضئيلة، رغم ما أنتجته أخيرًا
البعثات الأثرية الألمانية والإنجليزية والفرنسية في فارس وأواسط آسيا وأفغانستان وشمالي
الهند.
ماني
تحدثنا المصادر التاريخية والأدبية أن ماني المصلح الفارسي الذي عاش في إيران في
القرن الثالث، والذي أسس المذهب الذي ينسب إليه؛ كان مصورًا ماهرًا، وكانت تعاليمه تشير
بتزيين الكتب الدينية بالرسوم المصغرة، ويعد ذلك من خير الوسائل للتبشير ونشر
الدعوة.
وقد ثبتت صحة هذه المعلومات بما كشفه الألمانيان فون
لوكوك
Von le Coq وجرينفيدل
Grünwedel في طرفان
(بصحراء غوبى من أعمال التركستان الصينية) التي كانت بين سنتي ١٤٣–٢٢٦ﻫ/٧٦٠–٨٤٠م مقرًّا
لحكومة تركية الجنس مانوية المذهب هي إمبراطورية الأويغور
Uigur.
١
وجلُّ ما وجده هذان العالمان محفوظ الآن بمتحف علم الشعوب في برلين، وتشمل
اكتشافاتهما صورًا على الجدران ورسومًا إيرانية لا شك فيها، وفي بعضها نقوش على شكل
أغصان وزخارف من العهد المغولي، وهناك أيضًا صفحات كشفها هذان العالمان في قزيل
Qizil بجوار كوتشا مرسوم عليها أشخاص بطريقة تتضح منها
الصلة المتينة بين هذه الصناعة وبين ما نجده في إيران بعد الإسلام.
٢
وهناك أيضًا اكتشافات البعثة الأثرية في أفغانستان التي وسعت معلوماتنا في هذا الصدد،
ففي الصور التي على صخور باميان Bamiyan والتي درسها
الأستاذ جودار A. Godard والسيدة قرينته عناصر هندية
ويونانية قديمة، ولكن فيها أيضًا عناصر ساسانية تظهر جليًّا في رسوم بعض الملوك، ونحن
نتبين من ذلك كله أن الحضارة الإيرانية امتد نفوذها في أواسط آسيا، وظل أثرها في تلك
الأقاليم واضحًا جليًّا عدة قرون بعد سقوط الساسانيين أنفسهم.
الإسلام
تتابعت الفتوحات العربية وأصبحت إيران جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية، ونشر العرب
فيها دينهم وجعلوا العربية لغة العلم والأدب والدين، بيد أن الفرس — كغيرهم من الشعوب
التي غلبها العرب على أمرها — أثَّروا في الفاتحين، وكانوا أكبر عون لهم على خلق فن
إسلامي طَبَعَه العرب بطابع دينهم وظهرت فيه شخصيتهم البارزة، ولكن أساسه مدنيات فارس
وبيزنطة وآشور وكلديا ومصر.
وقد كان أكثر العرب في الجاهلية بدوًا لا حضارة لهم، والبداوة بطبيعتها ليست مرتعًا
خصبًا تترعرع فيه الفنون، ولسنا مع ذلك نستطيع أن ننكر أنهم عرفوا في الجاهلية رقم
الصور ونحت التماثيل ليتخذوها آلهة لهم، فلما بعث فيهم النبي
ﷺ نهى عن نحت
التماثيل والتصوير؛ رغبة منه في أن يبعد أتباعه عن كل ما يقربهم لعبادة الأوثان.
٣
وقد كتب المستشرقون كثيرًا عن تحريم التصوير في الإسلام، وزعم بعضهم أن القرآن حرم
رقم الصور وصناعة التماثيل، وهذا باطل لا أساس له. وقال آخرون إنما حرمه الحديث وهذا
صحيح، وذكروا أن الشيعة لا تقر حديث التحريم، وبذلك عللوا ازدهار صناعة التصوير في فارس
حيث يسود المذهب الشيعي،
٤ وهذه مغالطة أيضًا. فإن النحت والتصوير مكروهان عند علماء الشيعة كراهتهما
عند علماء أهل السنة، وإن كان الشيعيون لا يعترفون بكل ما لدى السنيين من كتب الحديث،
فإن لهم كتبًا خاصة تشمل ما يعترفون به من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وفيها ما
يوجد في كتب أهل السنة من نهي عن التصوير وإنذار للمصورين بأنهم سوف يكلفون يوم القيامة
أن ينفخوا في صورهم الروح وليسوا بنافخين.
٥
ولاريب أن التفرقة بين المسلمين في موقفهم من النحت والتصوير راجعة إلى أن بلاد إيران
— وهي كما نعلم أكبر ميدان للتصوير الإِسلامي — معروفة بأنها دولة شيعية، ولكن
المستشرقين الذين زعموا أن الشيعة لا ينهون عن التصوير ينسون في الوقت نفسه أن المذهب
الشيعي لم يصبح الدين الرسمي لبلاد إيران إلا منذ أول القرن العاشر الهجري (السَّادس
عشر) حين اعْتلت العرشَ الأسرةُ الصفويةُ، وهم ينسون أيضًا أن مثل هذه الكراهية للتصوير
في الإسلام لم تكلف العرب كثيرًا، فهم لم يكونوا أساتذة في هذا الفن كما كان الفرس
الذين ورثوا الميل إليه عن أسلافهم، ولم يكن في طبعهم كالساميين إعراضٌ يكاد يكون
فطريًّا عن هذا الفن، فلم يكن بد من أن يسبق الفرس غيرهم في غض الطرف عن هذه الكراهية،
ومع ذلك ظل المصورون مكروهين عند رجال الدين في إيران.
على أن في تاريخ الفن الإِسلامي ملوكًا وأمراء كثيرين كانوا من أكبر دعاة التصوير
ومعضديه دون أن يكونوا شيعيين، فالخليفة الأموي الذي شيد قصير عمرا ببادية الشام وزين
جدرانه وسقفه بالنقوش الجميلة،
٦ والخلفاء العباسيون الذين زينوا قصورهم في سامرا «سر من رأى» بالنقوش
المختلفة الألوان،
٧ وملوك إيران من أسرة تيمور الذين ازدهر في عهدهم فن التصوير وظهر تحت
رعايتهم بهزاد كبير مصوري إيران، وكذلك سلاطين المغول في الهند وآل عثمان في تركيا؛ كل
هؤلاء كانوا سنيين.
وقصارى القول أن المسلمين من سنيين وشيعيين مجمعون على كراهية النحت وتصوير الأحياء
لما فيهما من تقليد للخالق عز وجل، ولما ورد في الحديث من أن الملائكة لا تدخل بيتًا
فيه كلب ولا تصاوير، وأن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون، وأن الذين
يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم إلخ …
لذلك عني المسلمون بإبداع رسوم جميلة يندر تصوير الأحياء فيها، ولكن تتكون من أشكال
نباتية وهندسية يتداخل بعضها في بعض وتكون زخارف أصبحت من مميزات الفن الإسلامي، وما
لبث الخط العربي أن صار عونًا للمسلمين في الرسم والزخرفة.
وبالرغم من ذلك كله عرف المسلمون فن تصوير الأحياء، وكانت عصور ازدهر فيها ذلك الفن،
وأعظم ما وصل إلينا من بقايا الصور في صدر الإسلام نجده في قصير عمرا الذي كشفه العالم
النمسوي موزيل Musil سنة ١٨٩٨م شمالي شرقي البحر
الميت، وأكبر الظن أن خليفة أمويًّا بناه في أول القرن الثامن ليكون مقرًّا لراحته
ولهوه، والبناء من حجر الجير ويشمل إيوانًا مستطيلًا ملحقًا به عدة قاعات، وعلى سقوفها
نقوشٌ أحدُها يمثل الملوك الستة الذين هزمهم الأمويون، وهناك أخرى فيها راقصون
وموسيقيون وأشخاص عراة وآخرون يقومون ببعض التمرينات البدنية، ثم مناظر لصيد الحيوانات
البرية، وفي القاعة الرئيسية نقش يمثل أميرًا على عرش، لعله الأمير الذي شيد القصر له؛
على أن صناعة كل هذه النقوش صناعة تكاد تكون بيزنطية متأثرة إلى حد ما بالفن
الساساني.
ونقوش قصير عمرا تختلف كثيرًا عما نراه بعد ذلك من نقوش إسلامية كالتي عثر عليها
الأستاذان زره وهرتزفلد في سامرَّا (سر من رأى)، وهي التي شيدها المعتصم سنة ٢٢٣ﻫ/٨٣٨م
في شمالي العراق واتخذها عاصمة للخلافة فرارًا من تصادم عسكره الترك بسكان بغداد، وقد
اتسعت المدينة الجديدة في عهد خلفائه حتى هجرها المعتمد سنة ٢٧٠ﻫ/٨٨٣م وأعاد الخلافة
إلى بغداد، وقد أسفرت أعمال الحفر في أطلال سامرا عن اكتشافات كثيرة قامت بها البعثة
الألمانية وعلى رأسها العالمان السالفا الذكر، ورفع ما كان قد غشي جامع المتوكل ومنارته
المعروفة بالملوية، والتي كانت أنموذجًا لمنارة الجامع الطولوني بمصر، ووجدت أطلال دور
كثيرة على جدرانها نقوش هندسية ونباتية بارزة أو غائرة في الجص.
٨
ولكن ما يهمنا الآن مما عثر عليه المنقبون هي النقوش الملونة التي تشبه في موضوعاتها
نقوش قصير عمرا، فمنها الأجسام العارية والراقصات ومناظر الصيد والحيوانات، ومع أننا
نعرف من المصادر التاريخية ومن التوقيعات التي وجدت أن فنانين مسيحيين اشتركوا في عمل
هذه النقوش، فإن صناعتها مشتقة من الفن الساساني، حتى إن الأستاذ هرتزفلد يعتبرها آخر
مثال للتصوير في هذا الفن.
ولعل أقرب نقوش إسلامية مصرية إلى نقوش سامرا هي تلك التي عثرت عليها دار الآثار
العربية في شتاء سنة ١٩٣٢ بجهة أبي السعود في جنوبي القاهرة، والتي ترجع إلى عهد الدولة
الفاطمية، وتتكون من صور كانت على الجدران، وفي صناعتها تأثير فارسي واضح، ففي جزء منها
نرى المناظر يحيط بها صف من حبات بيضاء على أرضية سوداء، ونرى في بعضها صورًا لأشخاص
أحدها يحمل كأسًا بيده اليمنى على النحو الذي نراه كثيرًا على نقوش الخزف والأواني
الساسانية، وفي إحداها رسم طائرين متقابلين تعلوهما فروع نباتية حمراء حولها شريط أسود
به نقط بيضاء، وفي ثانية رأس شاب يلتفت إلى اليسار، وفي ثالثة سيدة تتدلى عصابة رأسها
في الجهة اليمنى. وقد عرضت دار الآثار العربية مكتشفاتها هذه لأول مرة في معرض الفن
الفارسي بسراي تجران باشا في يناير وفبراير سنة ١٩٣٥.
٩
أما تزيين الكتب بالصور المصغرة فهو الميدان الذي حازت فيه إيران قصب السبق، ونحن
نعلم أن صناعة الورق تلقاها أهل سمرقند عن الصينيين في منتصف القرن الثاني (الثامن
الميلادي)، وما لبثت أن عمت العالم الإسلامي في أواخر القرن الثالث (التاسع
الميلادي).
ولعل أقدم الصور الإسلامية المصغرة التي وصلت إلينا هي تلك التي عثر عليها في الفيوم
وفي الأشمونين، والمحفوظة الآن في فينا بمجموعة الأرشيدوق ربنر؛ ويرجع تاريخ المخطوطات
التي تشمل هذه الصور إلى آخر القرن الثالث والقرن الرابع، وتبدو في صناعة الصور
المذكورة تأثيرات بيزنطية وقبطية وحبشية وساسانية.
١٠
وأكبر الظن أن صناعة الصور المصغرة لتزيين المخطوطات ظهرت في إيران والعراق في القرن
الثالث، ونظن أن المسلمين استخدموا في هذه الصناعة بادئ ذي بدء فنانين غير مسلمين إلى
أن انتهى عصر الدراسة والاقتباس والتقليد، واستطاع المسلمون ممارسة العمل بأنفسهم،
وكانت الصور التي اتخذوها أنموذجًا لهم وتأثروا بها هي صور المانويين واليعاقبة، وربما
تأثروا بصور النساطرة أيضًا.
١١
وإن دلَّ ما نعرفه من المصادر التاريخية على وجود مخطوطات بها صور مصغرة منذ القرنين
الثالث والرابع الهجريين (التاسع والعاشر)، فإن أقدم ما وصل إلينا من إيران وبلاد العرب
والشام يرجع عهده إلى القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر)، ويكون
مجموعة يطلق عليها مؤرخو الفن الإسلامي مدرسة العراق أو مدرسة بغداد.