مدرسة بغداد أو مدرسة العراق
قلد المسلمون الفرس والروم في ضرب نقود عليها صور، وأخبار ذلك مفصلة في رسالة المقريزي عن النقود الإسلامية وفي بعض كتب الأدب والتاريخ، وقلدوهم أيضًا في التصوير على المنسوجات وعلى الأواني الزجاجية وعلى غير ذلك من أثاث بيوتهم، وكانت الحمامات أهم الدور التي عني المسلمون بالنقش على جدرانها، وما لبثت صناعة التصوير في الإسلام أن انتقلت إلى الكتب، وكان التطور والمدارس التي سنبدأ الحديث عنها في هذا الفصل.
على أنه يجدر بنا قبل ذلك أن نذكر أن الموضوعات كثيرة التكرار في التصوير الفارسي، ويرجع ذلك إلى أن المصورين إنما كانوا يعملون لتزيين دواوين الشعراء وقصصهم وبعض كتب الأدب والتاريخ، فاختار السلف من كل ذلك موضوعات نسج على منواله الخلف في تصويرها.
وكانت أقدم المخطوطات الإسلامية المصورة بعض ما ترجم وألف في الطب والعلوم والحيل الميكانيكية، وأشهرها كلها كتاب الحيل الجامع بين العلم والعمل للجزري، ثم كتاب عجائب المخلوقات للقزويني؛ ولقيت الكتب الأدبية حظًّا وافرًا من العناية، وخاصة كتاب كليلة ودمنة ومقامات الحريري، وكانت الصور تجيء في كل هذه الكتب إيضاحًا للمتن وشرحًا له.
اللوحة رقم ٢
اللوحة رقم ٣
أما الفرس فقد كانت أكبر عنايتهم بتصوير كتب التاريخ والتراجم التي يخلد فيها ذكر ملوكهم، ثم دواوين الشعراء وقصصهم وخاصة «بستان» سعدي و«كلستانه»، ثم ديوان حافظ والمنظومات الخمس لنظامي، ولكن المقام الأول كان للشاهنامة فكانت تنسخ منها المخطوطات وتزين بالصور في أكثر عصور التصوير الفارسي.
وقد أشرنا في آخر الفصل السابق إلى أن أولى مدارس التصوير في الإسلام هي مدرسة بغداد أو مدرسة العراق، وينسب إليها ما رقمه الفنانون من صور مصغرة في المخطوطات الإسلامية التي يرجع عهدها إلى خلافة العباسيين.
وليست هذه المدرسة بالرغم من هذا الاسم عربية بحتة، كما أنها بعيدة عن أن تكون إيرانية خالصة، وإن كانت إيران تكاد تكون القطر الوحيد الذي أينعت فيه هذه الثمرة ومهدت الطريق لمدارس أخرى بلغ فيها التصوير الفارسي أوج عظمته.
ولا شك في أن أكثر العاملين على تكوين مدرسة بغداد كانوا من مسيحيي الكنيسة الشرقية على اختلاف طوائفها، كما كان منهم أبطال النهضة العلمية لترجمة الكتب القديمة إلى اللغة العربية، وكما كان منهم أيضًا أول الفنانين الذين علموا العرب العمارة وصناعة الفسيفساء. على أن المسلمين ما لبثوا أن أخذوا من هذه الصناعات والفنون بنصيب يذكر، وكان أول من فعل ذلك الفرس فأصبح أكثر الفنانين منهم، واستطاعت إيران بعد الفتح المغولي أن تنمي مواهب أبنائها وأن تسير بهذه البذور في طريق الكمال متأثرة بالشرق الأقصى وأواسط آسيا، حتى نتج الفن الذي نعرفه في القرنين التاسع والعاشر الهجري (الخامس عشر والسادس عشر).
هذا ولما كانت موضوعات الصور في مدرسة بغداد تتكرر بدون تغيير كبير، فإن ما وصل إلينا منها يعتبر مثالًا لما كان عليه التصوير الإسلامي في عصوره الأولى، بالرغم من أن أقدم المخطوطات التي تشمل هذه الصور لا يرجع إلى ما قبل منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
ومما يجب ملاحظته أن الصور في مخطوطات مدرسة بغداد تكوِّن جزءًا من المتن يقصد بها شرحه وتوضيحه، وليست ميدانًا لإظهار المواهب الفنية؛ وهذه المدرسة عربية أكثر منها فارسية، والأشخاص فيها تلوح عليهم مسحة سامية ظاهرة قني الأنوف، تغطي وجوههم لحى سوداء، وفي وجوههم شيء كثير من النشاط ودقة التعبير، وليس فيها الرشاقة والدعة اللتان نعرفهما في الفن الفارسي.
اللوحة رقم ٤
وفي المتحف البريطاني مخطوط من مقامات الحريري تاريخه سنة ٧٢٣ﻫ/١٣٢٣م كتب لعامل خراج في دمشق وبقي بعض صور الأشخاص فيها غير تام التلوين، مما يظهر لنا الطريقة التي كان الفنانون يتبعونها في تحديد الصور قبل تلوينها.
اللوحة رقم ٥
وقد ظن بعض العلماء أن جزءًا من هذه الصور التي تنسب إلى مدرسة بغداد إنما صنع في أفغانستان تحت رعاية الدولة الغزنوية، حيث نظم الفردوسي الشاهنامة في غرفة تزينها الصور كما يقولون، ولكن الحقيقة أنه ليس هناك دليل ثابت على أنه صنع في أفغانستان أو في بخارى أو خيوه أو الري صور تخالف في الطراز ما ينسب إلى مدرسة بغداد؛ فإن الأثر الفارسي كان سائدًا في شرق الإمبراطورية الفارسية وفي وسطها. وفضلًا عن ذلك فالخزف الذي ينسب إلى مدينة الري يحمل نقوشًا كثيرة الشبه في الصناعة واللون بتلك التي وصفناها في هذا الفصل.
وصفوة القول أن أهم ميزات مدرسة بغداد هي تصوير الأشياء على ما هي عليه دون تجميل أو تكلف، وأكثر ما يظهر تأثير مسيحيي الشرق في صناعتها في تصوير الأشخاص على الطريقة التي استعملوها في تصوير قديسيهم وفلاسفة اليونان، وفي التي تمثل فيها الأشخاص وثنايا الملابس؛ أما التأثير الإيراني فظاهر في الزخرفة، وفي النسب بين أجزاء الجسم المختلفة في تصوير الأشخاص.