الفصل السادس
المدرسة الصفوية
كان حكم الصفويين في إيران عصر رخاء وتقدم، فعَرَفَت البلاد في القرنين العاشر والحادي
عشر (السادس عشر والسابع عشر) وفي الربع الأول من القرن الثاني عشر تطورًا كبيرًا في
الفنون، وبلغت صناعة التصوير في النصف الأول من حكمهم الطويل درجة عظيمة من الإبداع
والإتقان. لا غرو فإن استيلاء الشاه إسماعيل على هراة ٩٠٧–٩٣٠ﻫ/١٥٠٢–١٥٢٤م وهجرة الفنانين
إلى عاصمته تبريز، ثم تعيينه بهزاد مديرًا لدار الكتب الملكية، وهي في ذلك الوقت أشبه
شيء
بمجمع الفنون الجميلة، نقول إن ذلك كله كان باعثًا على نشأة مدرسة جديدة على رأسها خير
من
أنجبتهم هراة من مصورين، ومن ثم كانت الصلة وثيقة بين فن المدرسة الصفوية في أول عهدها
وبين
التقاليد الفنية التي سادت في الوسط الذي عمل فيه بهزاد وزملاؤه وتلاميذه.
على أن الحروب التي خاض غمارها الشاه إسماعيل جعلت نصيبه في تعضيد الفنون أقل من نصيب
ابنه الشاه طهماسب، الذي خلفه على عرش إيران سنة ٩٣٠ﻫ/١٥٢٤م وظل يحكم البلاد حتى سنة
٩٨٤ﻫ/١٥٧٦م.
وقد كان الشاه طهماسب نفسه مصورًا ماهرًا، تلقى الفن على المصور المشهور سلطان محمد،
وكانت بينه وبين بهزاد وأغا ميرك صداقة طيبة.
١ والمعروف أن ازدراء المصورين قلَّ في عهد الأسرة الصفوية؛ وإذا كانوا ظلوا
مهضومي الحقوق منخفضي المكانة فإن الأمراء وكبار رجال الدولة كانوا يتهافتون على اقتناء
آثارهم، وظهرت تبعًا لذلك مخطوطات فيها عدد كبير من الصور.
٢
وتظهر في الصور الصفوية عظمة ذلك العصر وأبهته، وأكثر ما تعرض لتمثيله مأخوذ من حياة
البلاط والطبقة الأرستقراطية، والقصور الجميلة والحدائق الغناء؛ وتمتاز الأشخاص في هذه
الصور بالقدود الهيفاء والملابس الفاخرة. وأما رسومها فغاية في الدقة، كما أن ألوانها
كثيرة
التنوع؛ ففيها الألوان الساطعة الزاهية التي اشتهرت بها المدرسة التيمورية، وفيها ألوان
أخرى أكثر هدوءًا، وهناك عدا ذلك عناية ظاهرة في تخير موضوعات الصور وفي التأليف التصويري
على وجه عام.
٣
ومما يميز الصور الصفوية — لا سيما غير المتأخرة منها — لباس الرأس؛ فإنه مكوَّن من
عمامة
ترتفع باستدارة تبرز من أعلاها عصا صغيرة حمراء، وإذا كان وجود هذه العمامة في صورة من
الصور يدل على أنها ترجع إلى عصر الأسرة الصفوية، فإن وجود غيرها أو عدم وجودها هي لا
يحتم
أن تكون الصورة من غير هذا العصر. والظاهر أنها كانت بادئ ذي بدء شعار أفراد الأسرة الصفوية
وأتباعهم، وكانت العصا الصغيرة حمراء دائمًا كما يتبين من الصور التي ترجع إلى أوائل
العصر
الصفوي. ولكن ما لبثت أهميتها تقل وبدأ الناس والمصورون يغيرون لون العصا عندما رسخ قدم
الأسرة ولم تعد ثمة مقاومة لها، حتى ليمكننا أن نلاحظ ندرتها في الصور الصفوية بعد وفاة
الشاه طهماسب سنة ٩٨٤ﻫ/١٥٧٦م.
ومما يمتاز به القرن العاشر الهجري (السادس عشر) في تاريخ التصوير الفارسي أن الوحدة
السياسية في العصر الصفوي قضت على الفروق في الصناعة بين الأنحاء المختلفة في إيران،
فأصبح
من العسير التفرقة بين الصور المصنوعة في شرقي الإمبراطورية وما صنع في الوسط أو في الغرب؛
إذ إن المصورين كانوا في كافة أنحاء الإمبراطورية يقلدون مصوري البلاط في تبريز وقزوين،
ولم
تكن هناك إلا فوارق يسيرة جدًّا بين منتجات الفنانين العاديين في مختلف الأقاليم
الإيرانية.
وهناك عدد من المخطوطات تمثل صورها عصر الانتقال من المدرسة التيمورية في هراة إلى
عصر
الشاه إسماعيل وابنه الشاه طهماسب. ومن أهم هذه المخطوطات واحد في المكتبة الأهلية بباريس
لمير علي شيرنوائي، كتب في هراة سنة ٩٣٥ﻫ/١٥٢٧م، ومن المحتمل أن يكون ما فيه من صور قد
أضيف
إليه في تبريز بيد بهزاد وتلاميذه.
٤٥
وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك مخطوط جميل من المنظومات الخمسة لنظامي، كتبه في
سنة
٩٣١ﻫ/١٥٢٤–١٥٢٥م سلطان محمد نور الخطاط الكبير، وفيه خمس عشرة صورة تمتاز كلها بألوانها
الجميلة، ورسومها الفنية، وزخارفها الدقيقة، ولا يدري المرء بأيها يعجب، أبهذه التي تمثل
ليلى وحبيبها المجنون في المدرسة وعلى بابها بيت شعر بالفارسية يطلب إلى المعلم «ألا
يلقن
هذه الفتاة الشقراء ذات الوجه الجميل غير كل طيب هي جديرة به»،
٦ أم بسبع الصور التي تمثل بهرام جور مع سبع الأميرات التي تزوجهن، وكان يزور كل
واحدة منهن في قصر يسوده أحد الألوان السبعة: الأسود والأصفر والأخضر والأحمر والصندلي
والأبيض والأزرق الفيروزي. وقد نسب مارتن صور هذا المخطوط إلى أغا ميرك ونسبها ساكسيان
إلى
محمود مذهب.
٧
على أن أجمل مخطوطات القرن العاشر الهجري (السادس عشر) على الإطلاق هو ذلك الذي يشتمل
«المنظومات الخمسة» لنظامي، والذي كتبه للشاه طهماسب بين سنتي ٩٤٦–٩٥٠ﻫ/١٥٣٩–١٥٤٣م الخطاط
المشهور شاه محمود النيسابوري، وهو محلى بأربع عشرة صورة كبيرة تعتبر من أنفس ما في المتحف
البريطاني من تحف شرقية؛ ولا غرو فإن عليها إمضاءات أكبر فناني العصر الصفوي وهم: سيد
علي،
وسلطان محمد، وميرك، وميرزا علي، ومظهر علي.
وصفحات هذا المخطوط كلها بهوامش مذهبة فيها نقوش نباتية ورسوم حيوانات طبيعية وخرافية،
وأغلب الصور عليها إمضاءات قد لا تكون من كتابة الفنانين أنفسهم، ولكن لا شك في أنها
معاصرة
ويمكن الوثوق بصحتها، وإن كان من غير المستحيل أن تكون الصور كلها بريشة مصور واحد، وقد
نشر
الأستاذ بنيون
Laurence Binyon هذه الصور مع دراسة طريفة في
موضوعات المنظومات الخمسة لنظامي.
٨
وينسب إلى ميرك خمس صور من هذا المخطوط، والواقع أن في المصادر الفارسية والتركية
ذكرًا
لثلاثة مصورين بهذا الاسم: الأول خواجه ميرك عاش في هراة في أواخر القرن التاسع الهجري
(الخامس عشر) ومات في زمن استيلاء محمد خان شيباني على تلك المدينة؛ والثاني حاج ميرك
الذي
كان خطاطًا في بخارى؛ وأما الثالث وهو أشهرهم فهو أغا ميرك الأصفهاني الأصل، والذي عمل
في
بلاط الشاه طهماسب في تبريز وإليه تنسب الصور الممضاة باسمه في المخطوط الذي نحن بصدده.
٩
وقد كتب سام ميرزا أخو الشاه طهماسب سنة ٩٥٧ﻫ/١٥٥٠م أن أغا ميرك كان مصور البلاط الذي
لا
يُبَارَى، ولم يكن له منافس قَطُّ. وذكر المؤرخ التركي أعالي أن أغا ميرك كان تلميذًا
لبهزاد، وأن اثنين من كبار المصورين دَرَسَا عليه وهما سلطان محمد التبريزي الذي سيأتي
الكلام عليه، وشاه قولي الذي عمل في بلاط سليمان القانوني.
ولا ريب أن براعة أغا ميرك وحذقه لفن التصوير يظهران جليًّا في هذه الصور الخمس التي
تمثل
إحداها كسرى أنوشيروان يصغي للبومتين اللتين تتحدثان على أنقاض قصر قديم. ويرى في الثانية
مجنون ليلى في الصحراء وحوله حيوانات برية رسمها آية في الدقة والجودة، بينما تمثل ثلاث
الصور الباقية مناظر في بلاط الشاه وحفلات تتجلى فيها العظمة والأبهة.
١٠
أما سلطان محمد فتنسب إليه صورتان من هذا المخطوط تمثل الأولى خسرو يفجأ شيرين تستحم،
١١ ويرى في الثانية بهرام جور يصيد الأسد. والصورتان تكفيان للدلالة على إتقان
لمزج الألوان ليس بعده إتقان، وعلى مراقبة دقيقة للطبيعة ومراعاة لأصولها، مع براعة فائقة
في رسم الوجوه الآدمية والحيوانات ولا سيما الخيل. وفي المخطوط نفسه صورة أخرى تمثل عجوزًا
تطلب إلى السلطان سنجر أن ينظر في مظلمة لها. وحيوانات هذه الصورة وغير ذلك من تفاصيلها
تجعلنا نوافق الأستاذ ساكسيان في نسبتها إلى سلطان محمد.
١٢
على أننا لا نعرف كثيرًا عن حياة هذا المصور، ولا سيما بعد أن أثبت ساكسيان خطأ ما
كتبه
عنه مارتن،
١٣ ومهما يكن من شيء فإن صوره التي وصلت إلينا كفيلة بأن تقول الشيء
الكثير.
ولعل أبدع ما صوره سلطان محمد، وأكثره حركة، وأخفه روحًا، وأكثره دعابة، صورة في
مخطوط من
ديوان حافظ تمثل منظر شراب تدار فيه كؤوس الراح فيشرب أناس ويرقص آخرون، ويتدحرج البعض
على
الأرض، ويترنح من أسكرتهم الخمر، وينظر شيخ في مرآة في يده، ويشترك الملائكة في الشراب
من
شرفة تطل على الباقين، بينما يطرب الجميعَ موسيقيون بينهم ثلاثة وجوههم أشبه شيء بوجوه
القردة. وفي طرف الصورة حديقة تطل عليها شرفة وقف فيها رجل في يده حبل طويل يتدلى إلى
ساق
يربط له فيه إبريق من الخمر.
١٤
ومما ينسب إلى سلطان محمد صور الشاهنامة الشهيرة الموجودة الآن بمجموعة البارون دي
روتشيلد، والتي تشمل ٢٥٦ صورة كبيرة فيها كثير من مناظر القتال والصيد.
ويلوح لنا أن سلطان محمد تولى حينًا من الزمن إدارة مدرسة التصوير أو مجمع الفنون
الجميلة
في تبريز، وأنه عني ببقية الفنون الزخرفية فكان يرسم تصميمات السجاجيد والخزف، ويظهر
تأثير
طرازه وصناعته في الرسوم الآدمية التي نراها على الأقمشة الحريرية الفارسية في القرن
العاشر
(السادس عشر).
وممن اشتهر من المصورين في بلاط الشاه طهماسب مظفر علي، الذي وصل إلينا من أعماله
صورتان
في مكتبة لينينجراد، والذي رسم في مخطوط المتحف البريطاني السالف الذكر صورة تمثل بهرام
جور
يثبت بسهم واحد أذن حمار وحش بقدمه، ليثبت لحبيبته (أزادة) براعته في الصيد. وكان مظفر
علي
تلميذًا لبهزاد، وامتاز ببراعته في رقم صور الأشخاص، وبحبه للون الذهبي في تصويره، وتولى
عمل الصور اللازمة للقصر الملكي ولقاعة چهل ستون في أصفهان.
١٥
وهناك مصوران لهما أهمية خاصة هما: مير سيد علي، وعبد الصمد، وقد لعبا دورًا كبيرًا
في
نشأة المدرسة الهندية الفارسية في بلاط الهند.
أما مير سيد علي فقد كان تبريزي الموطن، واشترك في تصوير مخطوط نظامي الذي عمل للشاه
طهماسب بالمتحف البريطاني، فرسم صورة تمثل عجوزًا تقود المجنون إلى رَبع ليلى، وهو يرسف
في
أغلاله والصبية يقذفونه بالأحجار، وليلى جالسة أمام خيمتها، وفي الصورة خيام أخرى انصرف
من
فيها من النساء إلى الأعمال المنزلية المختلفة، وراعيان يحرسان قطيعًا من الغنم وفي يد
أحدهما مغزل، بينما الثاني يعزف في مزمار.
١٦
والظاهر أن همايون الإمبراطور المغولي في الهند لقي المصورين مير سيد علي وعبد الصمد
في
تبريز، حين لجأ إليها وعاش في بلاط الشاه طهماسب بعد أن خسر عرش الهند، وكان همايون شديد
الإعجاب بمير سيد علي فمنحه لقب نادر الملك. ولحق المصوران بالأمير في كابل، حيث عهد
إليهما
بعمل ١٤٠٠ صورة كبيرة لقصة الأمير حمزة الفارسية.
١٧
وقد تلقى همايون وابنه أكبرُ دروسًا في التصوير على مير سيد علي وعبد الصمد، اللذين
وليا
تباعًا إدارة مدرسة التصوير التي أنشأها الإمبراطور أكبر بمساعدة تلاميذهما من الهنود
على
رسم الصور التي طلبها همايون لقصة الأمير حمزة. وقد وصل إلينا عدد كبير من هذه الصور
المرسومة على القماش، والمحفوظ أغلبها في متحف فينا.
١٨ وقد نبغ من التلاميذ الهنود الذين تلقوا الفن على هذين المصورين اثنان، هما
دازونت وبازوان.
وأكبر الظن أن مير سيد علي أو عبد الصمد، أو هما معًا رسما لهمايون تلك الصورة الكبيرة
التي تمثل أفراد أسرة تيمور، وهي محفوظة الآن بالمتحف البريطاني، وقد رسمت على القماش
مثل
صور قصة الأمير حمزة، ولكنها الآن ليست في حالة جيدة من الوضوح تساعد على دراستها بدقة
وعناية.
بقي علينا قبل أن نختم هذا الفصل أن نشير إلى المصور محمدي الذي درس فن التصوير على
والده
سلطان محمد، وتفوق عليه في رسم المناظر الريفية. وفي الحق إن أكثر ما وصل إلينا من تصوير
محمدي له علاقة كبيرة بالريف والمناظر الطبيعية. ولعل أبدعه الرسم المحفوظ باللوفر، والذي
يرجع إلى سنة ٩٨٦ﻫ/١٥٧٨م ويمثل نواحي مختلفة من الحياة الريفية. فهناك فلاح يحرث الأرض
وآخر
جالس تحت شجرة عليها طيور، وبقربهما راعٍ يحرس قطيعًا من الغنم ويعزف على مزمار في يده،
وخيمتان فيهما نساء يغزلن وينسجن. وهذا الرسم، كغيره من رسوم محمدي، ليس ملونًا كله بل
فيه
قليل من اللون الأحمر في الصخور والحيوانات.
١٩
أما المصورون الآخرون الذين وصل إلينا خبر اشتغالهم في عصر الشاه طهماسب، فإن المجال
لا
يتسع هنا لدراستهم تفصيلًا، ويكفي أن نشير إلى أعظمهم وهم: سيد مير نقاش، وشاه محمد،
ودوست
محمد، وشاه فولي التبريزي.
٢٠