الفصل السابع
عصر الشاه عباس وخلفائه
رضا عباس والتأثير الأوروبي
حكم الشاه عباس الأكبر بلاد إيران من سنة ٩٨٥ﻫ/١٥٨٧م إلى سنة ١٠٣٨ﻫ/١٦٢٩م. وكانت حين
اعتلائه العرش يهددها التفكك والاضمحلال فأفلح في هزيمة أعدائها، ولم شعثها ونشر أسباب
العمران فيها، فاستحق تقدير رعيته وبقي اسمه في تاريخ فارس رمزًا للمجد والعظمة
والرخاء.
ونقل الشاه عباس في سنة ١٠٠٩ﻫ/١٦٠٠م عاصمته إلى أصفهان، وعمل على تجميلها بشق الطرقات
الكبيرة وتشييد العمارات الضخمة، وجذب إليها الخطاطين والمذهبين والمصورين، فأصبحت مقر
العلوم والفنون. وكان انتقال العاصمة إلى الجنوب وقربها من المحيط منميًا للعلاقات مع
الهند
وبلاد الغرب، فزارت إيران سفارات وبعثات من البلاد الأوروبية المختلفة وشجع تسامح الشاه
وحكومته السائحين والتجار على القدوم إلى بلاد الفرس، وترك كثير منهم مذكرات وَصَفَ فيها
إعجابه بنهضة البلاد وما رآه فيها من العادات والتقاليد. وتحدث بعضهم عن الصور البديعة
التي
كانت تحلي جدران القصور.
١
وفي الحق إن الشاه عباس عني كثيرًا بالتصوير على الجدران، ولا يزال أثر ذلك باقيًا
في
قصرين ملكيين بأصفهان،
٢ وكانت في هذا التصوير كثير من الرسوم الفارسية الطراز، تجاورها صور أوروبية من
المحتمل أن تكون من صناعة يوحنا الهولندي، الذي ظل سنين عديدة في خدمة الشاه عباس.
٣
فنحن نرى أن آخر العصر الصفوي يمتاز بتنوع الإنتاج الفني؛ إذ إن ظهور التأثير الأوروبي
خرج بالفنانين الفرس من ميدان الكتاب الضيق وتصويره وتذهيبه إلى ميادين أخرى تتجلى في
رسم
الصور المستقلة، وتزيين الجدران بالكبير منها أو النقش على الجدران نفسها.
على أن كثيرين من مصوري هذا العصر لم يعنوا كثيرًا بتصوير المخطوطات الثمينة وتذهيبها،
بل
كانوا يفضلون على ذلك رقم الصور بالقلم دون أي لون إلا فيما ندر، وكان ذلك بالطبع أقل
نفقة،
فأصبح التصوير أقرب إلى قلوب الناس، وزادت معرفتهم به فأخذوا في تعضيده، ولم يعد وقفًا
على
البلاط وكبار رجال الدولة؛ ولكن ذلك لم يدفع عنه ما كان يدب إليه من هرم وانحطاط. على
أن
البلاط نفسه لم يستمر تعضيده للمصورين عظيمًا كتعضيده السابق، فاضطر كثير من المصورين
إلى
العمل لأنفسهم، وهذا يفسر ندرة المخطوطات المصورة الثمينة بعد منتصف القرن العاشر (السادس
عشر) وكثرة الصور التجارية، التي عملت دون كبير عناية إجابة لرغبات طلاب أقل غنى وأكثر
تواضعًا.
أما معرفة الفرس بالصور الأوروبية فترجع إلى أوائل القرن العاشر (السادس عشر) كما
يظهر من
ألبوم بالمكتبة الأهلية بباريس، قلدت فيه كثير من رسوم المصور الألماني دورر
Dürer. ومن المحتمل أن يكون قد حملها إلى إيران المبشرون أو التجار.
٤
وفي المصادر الأدبية والتاريخية ذِكرٌ لمصورين قلدوا الصور الأوروبية، مثل شيخ محمد
الشيرازي، الذي عمل في مكتبة الشاه إسماعيل ميرزا
٥ ٩٨٤–٩٨٥ﻫ/١٥٧٦–١٥٧٨م ثم التحق من بعده بخدمة الشاه عباس. ولكن تأثير الغرب في
التصوير الفارسي كان بطيئًا، وكان ظهوره أولًا في اختيار الموضوعات أكثر منه في أسرار
الصناعة نفسها؛ بل نستطيع القول إن الفرس اقتبسوا عن التصوير الغربي وقلدوا منه أشياء
كثيرة، ولكنهم لم يهضموا من ذلك كله شيئًا يستحق الذكر، ولا سيما في تصوير المخطوطات،
حيث
ظلت التقاليد الفارسية القديمة تقاوم كل تجديد، وإن فقدت الصور أبهتها الأولى. ولم يعد
كثيرون من الفنانين يستطيعون الإتيان بشيء جديد، فاكتفوا بتقليد الصور الموجودة في
المخطوطات القديمة تقليدًا ضئيلًا، نرى مثلًا منه في الصور المرسومة بمخطوط من منظومة
يوسف
وزليخا تاريخه ١٠٢٩ﻫ/١٦١٩م ومحفوظ الآن بدار الآثار العربية،
٦ وفي صور مخطوط آخر محفوظ بهذا المتحف نفسه
٧ ويشمل كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي؛ وبإحدى صفحات هذا المخطوط أن الدفتر
الأول منه تم في سلخ شهر رجب سنة اثنتي عشرة وألف هجرية (١٦٠٤).
وأما الرسوم والصور المستقلة فهي فخر هذا العصر، على أنه من الصعب في بعض الأحيان
معرفة
تاريخها بالدقة؛ لأن هناك تطورًا طبيعيًّا في طراز هذه الرسوم منذ بدأ في تفضيلها على
تصوير
المخطوطات المصور محمدي، الذي تحدثنا عنه في آخر الفصل السابق حتى ظهر المصور الكبير
رضا
عباسي، فوصل بها إلى درجة كبيرة من التقدم والرقي.
ولكن غطاء الرأس يساعد كثيرًا على تأريخ هذه الرسوم التي عملت بين منتصف القرن العاشر
(السادس عشر) ومنتصف القرن الحادي عشر (السابع عشر). فإن العمامة أخذ حجمها في الازدياد
في
القرن العاشر (السادس عشر) حتى أصبحت في آخر عهد السلطان طهماسب ضخمة جدًّا. وبدأت عمامات
أخرى في الظهور، ونرى الشبان ذوي الملامح والحركات النسائية، الذين يكثر ظهورهم في رسوم
هذا
العصر، يتخذون في عماماتهم زهورًا ذات سيقان طويلة، أو يجعلون حول رءوسهم مناديل كالنساء،
أو يلبسون ما كان هؤلاء يلبسنه أحيانًا من عمامات مخروطية. وفي أول النصف الثاني من القرن
الحادي عشر (السابع عشر) كان كثيرون من الرجال لا يزالون يلبسون عمامات من جلد النعاج
يتدلى
منها الصوف.
٨
ومما يلاحظ في الصور والرسوم التي ترجع إلى القرن الحادي عشر (السابع عشر) التغيير
الذي
طرأ على تصوير الأشخاص؛ فالمرء لا يكاد يرى إلا قدودًا هيفاء، وأوضاعًا فيها كثير من
التكلف، بينما يزيد خطر الأشخاص ويقل عدد الأفراد في الصور. فنرى شخصًا أو شخصين في الصور
التي كانت في القرن السابق تملأ بصور الأبطال والأتباع والنظارة. كذلك يترك الفنانون
الزخارف المركبة التي اشتهرت بها القرون الماضية، مكتفين بتزيين أرضية الصورة بشجيرة
صغيرة
أو غصن مزهر، فتتفوق الرسوم الآدمية وتظهر مكانة الأشخاص في الصور، كما تظهر الدعابة
في
التصوير مما يذكر بالفنون الكاريكاتورية الحديثة.
وفي متحف المتروبوليتان بنيويورك مخطوطان من الشاهنامة يرجعان إلى عصر الشاه عباس،
وفيهما
صور كثيرة. أما المخطوط الأول فتاريخه سنة ٩٩٦ﻫ/١٥٨٧–١٥٨٨م وفيه أربعون صورة كبيرة، بينما
المخطوط الثاني تاريخه من سنة ١٠١٤ إلى سنة ١٠١٦ﻫ/١٦٠٥–١٦٠٨م وفيه خمس وثمانون صورة كبيرة
لفنانين غير معروفين ويرى الأستاذ ديمند
Dimand أن صور
الأشخاص والمناظر الطبيعية في هذين المخطوطين منقولة عن الطبيعة، وفيها كثير من صفات
الصور
المنسوبة إلى المصور رضا عباسي.
٩
والواقع أن أحسن الصور والرسوم في هذا العصر تنسب إلى هذا المصور، ولكن شخصيته صعبة
التحديد، وقد قامت حول اسمه خلافات كثيرة اشترك فيها كاراباتشك Karabacek وزرَّه Sarre ومتفخ Mittwoch وبلوشيه Blochet
وساكسيان Sakisian وأرنولد Arnold وكونل Kühnel وغيرهم من كبار
المشتغلين بتاريخ التصوير الإسلامي.
على أن أكثر هؤلاء يميلون إلى الاعتقاد بوجود مصورين بهذا الاسم: أقا رضا، ورضا
عباسي.
أما الأول فشخصيته أقل وضوحًا، والظاهر أنه أقدم عهدًا من رضا عباسي، وأنه اشتغل ببلاط
الشاه طهماسب في أواخر القرن العاشر (السادس عشر)، وظل يعمل حتى أوائل القرن الحادي عشر
(السابع عشر). ومع أن هناك في بعض الأحيان شبهًا كبيرًا بين صور منسوبة إلى هذين المصورين،
فإن لدينا صورًا أخرى يظهر فيها الاختلاف بين صناعتيهما.
وقد درس الأستاذ ساكسيان ما يصح نسبته إلى أقا رضا من الرسوم والصور
١٠ وعلى رأسها ذلك الرسم البديع الذي يمتلكه المسيو فيفير
Vever، والذي يمثل أميرًا مع أستاذ له،
١١ ثم رسْم شاب في يده زهور محفوظ الآن بالمكتبة الأهلية بباريس.
١٢ وقد ذهب ساكسيان إلى أن أقا رضا قد رسم بعض الرسوم التي في الألبوم الذي جمعه
الدكتور زرَّه
Sarre ونسبه إلى رضا عباسي.
١٣ وقال ساكسيان إن أقا رضا هو الفنان الذي كان معاصرًا للشاه عباس الأكبر وليس
رضا عباسي.
ومهما يكن من شيء فإن خطاطًا اسمه علي رضا عباسي زاد المعضلة تعقيدًا، فإنه كان معاصرًا
لرضا عباسي. ومؤرخو الفن يخلطون بين أقا رضا، ورضا عباسي، وعلي رضا عباسي؛ ولكن الثابت
أن
الأخيرين كانا شخصيتين مختلفتين.
وينسب إلى رضا عباسي عدد كبير من الرسوم، بعضها مؤرخ يجعلنا نحكم بأن مدة إنتاجه تقع
بين
سنتي ١٠٢٨–١٠٤٩ﻫ/١٦١٨–١٦٣٩م وأكثر صوره رجال في منتصف العمر، لهم أنوف طويلة، أو صور
فتيات
أو فتيان يكاد الرائي يحسبهن نساء. وفيها صور تدل على براعة هذا الفنان ومواهبه الخاصة
في
تقييد كثير مِمَّا يشاهده، ببضعة خطوط تكون رسمًا توضيحيًّا جميلًا.
ومن الصور البديعة التي تنسب إلى رضا عباسي واحدة تاريخها سنة ١٠٤٣ﻫ/١٦٣٣م، وتمثل
الشاه
صافي يناول الطبيب المشهور محمد شمسه كأسًا من الخمر.
١٤ وأخرى في المكتبة الأهلية بباريس تمثل سيدة قد تكون امرأة وزير من وزراء الشاه عباس.
١٥
وفي متحف فكتوريا وألبرت بلندن مخطوط من منظومة نظامي «خسرو وشيرين»، يشتمل على سبع
عشرة
صورة عليها إمضاء رضا عباسي، وإحداها مؤرخة سنة ١٠٤٢ﻫ/١٦٣٢م
١٦ وأكبر الظن أن الصور الباقية ترجع أيضًا إلى هذا التاريخ، وهي على كل حال لا
تشرف رضا عباسي كل الشرف، ولا يمكن مقارنتها بصور مخطوطات أخرى لنفس القصة في العصور
الماضية، فالأشخاص أصبحوا عاديين، بل هم يشبهون أولئك الأشخاص الذين تراهم في الرسوم
المستقلة المنسوبة إلى رضا عباسي، والألوان لا إبداع ولا تناسق في مزجها.
وفي مجموعة المستر رابينو
Rabino بالقاهرة رسمان عليهما
توقيع رضا عباسي، يمثل الأول شابًّا جلس إلى جذع شجيرة ورأسه مائل قليلًا إلى كتفه الأيسر،
وأمامه إناءان على أحدهما رسم إنسان وحيوان.
١٧ ويمثل الرسم الثاني النصف الأعلى لسيدة على رأسها زهرة وريشة.
١٨
ويرى الأستاذ ساكسيان أن كثيرًا من الرسوم التي جمعها الدكتور زرَّه في الألبوم الذي
نسبه
إلى رضا عباسي ليست من صناعته، فبعضها من عمل أقا رضا وبعضها من عمل معين المصور، والبعض
الآخر من عمل مصورين مجهولين. ويرى أيضًا أن الفضل في هذا الطراز الذي ينسب إلى رضا عباسي
إنما يرجع إلى مصور آخر هو حيدر نقاش، الذي صور مخطوطًا من منظومات نظامي في المكتبة
الأهلية بباريس بين سنتي ١٠٣٠–١٠٣٤ﻫ/١٦٢٠–١٦٢٤م.
١٩
ومهما يكن من شيء فإن التصوير الفارسي في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (السابع
عشر)
وفي القرن الثاني عشر (الثامن عشر) كان متأثرًا كل التأثر بهذا الطراز الذي يمثله رضا
عباسي. وقد تلقى الفن عن هذا المصور تلاميذ له نسجوا على منواله، وأهمهم: معين المصور
الذي
اشتغل في النصف الثاني من القرن الحادي عشر (السابع عشر)، وفي السنين الأولى من القرن
الثاني عشر (الثامن عشر)، والذي نعرف له صورة لأستاذه وعدة رسوم أخرى أحدها في مجموعة
المستر رابينو، ويمثل شابًّا يحمل ديكًا وتاريخه ١٠٦٧ﻫ/١٦٥٦م.
٢٠
ومن تلاميذ رضا عباسي أربعة آخرون هم: أفضل، ومحمد قاسم التبريزي، ومحمد يوسف، ومحمد
علي
التبريزي.
وقد كان الشاه عباس الثاني ١٠٥٢–١٠٧٦ﻫ/١٦٤٢–١٦٦٦م متحمسًا للغرب وفنونه، فأرسل المصور
محمد زمان إلى روما ليدرس التصوير فيها. والظاهر أن الأخير اعتنق المسيحية ثم لجأ إلى
بلاد
الهند ولم يعد إلى إيران إلا حوالي سنة ١٠٨٧ﻫ/١٦٧٦م، واشتغل بتصوير ثلاث صحائف بيضاء
في
مخطوط المنظومات الخمسة لنظامي، الذي كان قد أعد للشاه طهماسب قبل ذلك بأكثر من مائة
عام
والمحفوظ الآن بالمتحف البريطاني. ويظهر في هذه الصورة تأثير الفنون الأوروبية في فن
هذا
المصور وغيره ممن تلقوا العلم في إيطاليا. وأكثر ما ظهر هذا التأثير في رسم الأسرة المقدسة
والقديسين والملائكة وغير ذلك من المناظر الدينية المسيحية.
٢١
على أن القرن الثاني عشر (الثامن عشر) بمؤثراته الأوروبية ومشاكله السياسية في إيران
كان
إيذانًا باضمحلال التصوير الفارسي. ولن يعنينا بعد ذلك عصر فتح علي شاه في آخر القرن
الثاني
عشر (الثامن عشر) وأول القرن الثالث عشر (التاسع عشر) وما عمل فيه من صور زيتية كبيرة،
فإن
صناعتها أوروبية أكثر منها إيرانية.
هكذا قد تتبعنا في فصول هذا الكتاب نشأة التصوير عند الفرس وتطوره والأدوار التي
مرت به
حتى قضت عليه الرغبة في تقليد الغرب والتفريط في التقاليد الوطنية الموروثة. وقد رأينا
كيف
كان مجال التوسع محصورًا، لا سيما وقد حرم التصوير في إيران، بل في العالم الإسلامي كله،
من
التعبير عن الشعور والعقائد الدينية:
٢٢ فضلًا عن أنه ورث عن الفنون الشرقية تمسكها بأهداب قواعد وتقاليد تبعدها عن
تقليد الطبيعة، وتبين أسرارها على النحو الذي نعرفه في الفنون الأوروبية.
ولكن التصوير الفارسي بلغ في عالمه الخاص مبلغًا من الرقي ليس بعده زيادة لمستزيد،
وكانت
له في ميدان مزج الألوان فتوح مدهشة يعرفها من أتيح له الإعجاب بالمخطوطات الثمينة في
المتاحف والمجموعات الأثرية.