جيوكوندا مصرية
إنها ليست أول مرة أحاول، ربما هي ثالث أو رابع مرة؛ فأنا أحس كلما أردت كتابتها أن اللغة التي استعملها أخشن وأصلب وأجوف بكثير من أن تستطيع التعبير عنها، أحس أن لغتنا، تلك التي نتحدث بها ونكتب خُلقت لتصوير أحداث ضخمة وأحاسيس كبيرة الحجم كالصخر، أو حتى إذا صغرت فهي كالرمل أو الحصى، في حين أن ما أريد تصويره ناعم موسيقي رقيق دقيق كأنه الذرات العالقة بشعاع الضوء إذا سقط في غرفة مظلمة. لا، ليس حتى كعزف الكمان أو أنين الناي، إنما هو كاللحن الذي لا تستطيع سماعه إلا إذا خفت الضجة في الدنيا كلها أو سكن الكون تمامًا، ثم طهَّرت نفسك من كل ما يشغلها من هموم الأرض وأحاسيسها الترابية العابرة، واستحضرت في ذاتك المعاني الحقيقية للرحمة والحب والحنان والإنسان، المعاني الخالدة السرمدية التي يحيا البشر على أمل أن ذات يوم تتحقق، حينئذٍ فقط، وبعد طول معاناة في تهيئة النفس، وطول تأمُّل وسكون، ستجد نغمًا رقيقًا واهن الضعف قد بدأ يتسرب إلى نفسك، ليس من أذنك فقط، وإنما من كل ذاتك ولكل ذاتك، يتسرب النغم تسرُّبًا لا يفعل أكثر من أن يحيل ذاتك نفسها إلى ذات النغم، حتى لتندمج معه في وحدة بالغة الشفافية.
أنَّى لي بكلمات تستطيع وصف هذا وكلماتنا صُنعت لمعانٍ محدودة واضحة لا شك فيها ولا اختلال، أنَّى لي بكلمات تستطيع وصف عُشر الانفعال، والواحد على المائة من الارتجافة أو الخفقة الواهنة المرهفة التي يكاد السمع يتجاوزها؟
أنَّى لي بألوان أستطيع بها وصف لون «حنونة» المسيحية، ذلك اللون الذي لا هو أبيض ولا قمحي، ولا هو أوروبي ولا شرقي، لا هو صعيدي ولا من أقصى الشمال في بحري، لون حتى في مكوناته زرقة ليست زرقة الموات ولكنها كزرقة الفجر إذا شقشق، أو زرقة البحر إذا هجع وتحولت موجاته إلى نداءات وديعة تئوب إلى مستقرها عند الشاطئ خاشعة ساجدة تهيب بك أن ترتمي بحرًا وتعب زرقته حتى النهاية.
وكيف لي أن أبدأ القصة وليس في ذهني بداية واضحة، إن هي إلا علاقات متصلة بين الناس ومنشأ مشترك، وطفولة، ثم صبا، و«شال» كموني باهت، وحجرة ليس بها أحد سوانا، وخبز مقدس، ثم إنجيل صغير الحجم كثير الصفحات، مكتوب بلغة عربية لها طعمها الخاص.
وكنت في سن البلوغ، تلك التي تحس فيها أن هناك دنيا هذا صحيح، وهناك صبح وشمس وقمر، وهناك بلاد بعيدة قبل البحر المالح وعبر المالح وبعد المالح، «الطلمبات» بضخامتها السوداء الزيتية المهولة وصوتها المتئد الوقور المستمر، والماء المجذوب بسحر خفي وبكم هائل إلى فتحاتها والماء الهادر الغاضب المندفع الأرعن الخارج عنها، هناك الغربان والعصافير، وأولياء الله الصالحون، وهناك المصحف والآيات التي يجب عليك حفظها وكلها عن جنة شديدة الجمال غريبة، وعن نار جحيمية يقشعر لها بدنك، وثواب وعذاب ودنيا وآخرة، وهناك أيضًا، وهذا هو المهم المباشر، خيزرانة الشيخ مصطفى المنكفئ العمامة إلى أمامٍ أكثر مما يجب، ذي الأرجل الرفيعة المنتهية برُكَب كرءوس عيدان الكبريت، حين يضع ساقًا رفيعة فوق ساق، ويتدلى حذاؤه حائل اللون فاغر الفاه، ويهز لك رأسًا فوقها تهتز العمامة ويقول: سمِّع يا ولد. هناك شيء ما هذا صحيح. شيء لا نراه ولا نحسه، شيء آخر غير ليلة القدر، والموت، والحب الشديد الذي أكنه لأبي، شيء بإرادته مختلف لا يريد أن يظهر، ربما خوفًا علينا؛ إذ ربما لو ظهر لمتنا من شدة الخوف والرعب والمواجهة، شيء آخر غير العفاريت، فالعفاريت رغم كل شيء فيها ما يضحك، ولكن هذا الشيء لا يبعث على الضحك أبدًا. إنه قاسٍ وقور مهيمن رحيم.
قلت لحنونة، وأنا بالضبط لا أعني ما أقوله: أريد أن أكون مثلك.
كانت لا بد أكبر مني ربما بعام أو بعامين؛ فقد كانت أطول وإن كانت أضعف، ولكنها دائمًا الأعقل والأحكم. وهنا بالضبط أعجز عن التعبير. روحها ذلك الإحساس المشع منها وكأنه النور يأتي من لا مكان أو بطريقة غير مباشرة، روحها تلك كانت تضفي على كلماتها ومشيتها وعلى الطريقة التي ترفع أو تخفض بها يدها أو تقضم قضمة صغيرة وبأسنانها الأمامية من الخبز المقدس. مسحة غريبة البراءة والنقاء والرشاقة تجعلك تعتقد وكأنها ليست من أهل الأرض، وكأنها النوع الثاني من البشر، ذلك الذي يصنع الحلقة الكائنة بينهم وبين الملائكة.
ولا أذكر بماذا أجابتني. ولا حتى على وجه الدقة إذا كانت قد أجابت، وماذا أيضًا قالت عن الإنجيل، والخبز المقدس، و«كيرياليسون» ومعناها كما علمتني «يا رب، ارحم». وكنت قد سمعت القسيس الآتي من المدينة يرددها في زفاف «عفيفة» حين تزوجت منذ شهور. كل ما أذكر أني من إجاباتها بدأت أحس أن هناك أناسًا آخرين غيرنا نحن، أظن أن الدنيا كلها مسلمة، وأن هذا الدين الآخر الجديد مملوء بأشياء تثير الخيال، وتبعث على حب الاستطلاع الشديد، وخاصة أن لهم في البندر — كما عرفت من حنونة — كنيسة، فيها صورة كبيرة للمسيح، وفيها شموع وثريات بالكهرباء، وفيها غناء؛ بل إن كل صلاتهم غناء في غناء.
ولم أعد أدري، أسرُّ تتبعي لحنونة — حتى وهي في طريقها إلى النوم — إن هو إلا محاولات أكثر لإدراك أشياء أخرى عن هذا الدين، أم هو استسلام لذلك الإشعاع الذي لا يقاوم الدائم الصدور عنها، يجذب إليها الناس والأشياء، ويحيل كل ما تصنعه إلى حدث برَّاق ممتع رقيق مثير.
ولكن ما أعرفه أنه لا أقول بدأت أحس برباط قوي يربطني بها، وإنما بدأت في أحيان أعي أني لا أتركها وكأني ظلها، إحساس كان لا يراودني إلا في اللحظات التي أغادرها فيها.
فوأنا معها كنت لا أحس بنفسي ولا بما أفعله أبدًا؛ فأنا ذائب تمامًا في ذلك اللقاء المستمر معها، لا هم لي إلا تأملها، وتتبُّع ما تقوله أو تفعله كالمشدوه بمعجزة خارقة، دائمة الحدوث، لا ينفصل عن شعوره بها ولا يبغي إلا أن يظل في حالة النشوة المشدوهة تلك لا يغادرها أو تغادره لحظة.
ويخيَّل لي أن مشاكل العالم تنشأ من هنا؛ فنحن أبدًا لا نستطيع الصبر على ظواهر الكون أو التفاعل التلقائي للأحداث وعلاقات القوى والنماء وهي تنشأ وتنمو وتتفرع وتزدهر، إنما دائمًا بإرادتنا الحمقاء وقوانيننا التي ابتدعها أقدمون متزمتون، دائمًا نتدخل، فنفترض سوء النية أو حتى حسنها ونتدخل، وفي تدخلنا نحاول الفرض والكبت والقطع والتأكد المستعجل ولوي سنن الحياة.
تُرى ماذا كان يضير أن تستمر علاقة كهذه، زهرة وديعة وسط غابات الطبائع والنفوس والعلاقات الاجتماعية المتشابكة المعقدة التي لا تدري عنها شيئًا.
وماذا يهم أنني ابن مهندس الطلمبات، وأن والد حنونة هو كبير الأسطوات، وأنني ولد وأنها بنت، وأن كلام الناس كثير، مع أن الناس في «المستعمرة» التي نسكنها جميعًا قليلون، كلهم لهم مساكن أقامتها لهم وزارة الري قريبًا من مبنى الطلمبات هائل الضخامة، مستعمرة ومجتمعها وطلمباتها كائنة في مكانٍ ما، بعيد وسحيق من شمال الدلتا. مجتمع صغير مكون من مجموعة صغيرة — وإن كانت في ذلك الوقت تبدو لعيني وكأنها ربع العالم — مسلمون ومسيحيون، ومع هذا فألف مشكلة قائمة، وألف شوكة تؤلم بلسعها ووخزها هذه العشرات القليلة من الحلوق في ذلك المكان الكائن عند آخر الدنيا.
بدأ الأمر بشكاية من أمي لأبي، وأبي خاضع لأمي منذ قُطعت ساقه أو التهمتها مروحة الطلمبات لا أعرف؛ فالقصة غالبًا لا تُروى، إذ هي دائمًا وكأنما تجلب معها الذكرى والألم. ومنذ أن أصبح أبي بساق واحدة أصبحت أمي بثلاث سيقان وعشر أيدٍ ومائة لسان.
وهكذا أوقفني الرجل الطيب أبي ذات صباح وأنا ذاهب إلى «كُتَّاب» الشيخ مصطفى وأفهمني بطريقة لا تقبل الجدل أن عليَّ العودة بعد «الكُتَّاب» إلى البيت مباشرة.
لم يشأ الرجل الطيب أن يؤلمني بذكر حنونة وحكايتي معها. آثر أن يدع الباقي لفهمي. وأنا أيضًا لم أشأ المناقشة؛ فقد اعتزمت ومنذ اللحظة الأولى، أن أخالف هذا القرار، وأكذب، وأقابل حنونة. وكيف لي أن أستطيع الكف عن شيء لا أفعله بإرادتي، إنما أجد نفسي، هكذا، كما أجوع وأعطش وأشرب، أفعله، دونما فكرٍ أو أرجحةٍ للاحتمالات وأخذ قرار. إننا ونحن أطفال وصبية نكون أكثر صدقًا مع أنفسنا ومع ما نريد، وما نريده يكون أكثر صدقًا مع الحياة نفسها، كل ما في الأمر أننا صغار في عالم لا يخضع للحياة وقوانينها وإنما ينظمه ويقننه ويحكمه الكبار. ولا بد دائمًا أن يتدخلوا، فإذا فعلوا فإنما ليجبرونا، لا لنمتنع، وإنما لنراوغ ونكذب ونكرههم كما نكره العقاب.
ولا أعرف ماذا بالضبط، وبالمقابل، حدث لحنونة.
ولكني في مكاننا المعتاد عند «الهدار» وهو البئر العميقة التي تصب فيها كل المياه القادمة من المصارف الكبرى، وتأخذ عنه أفواه الطلمبات الماء لترفعه بعد هذا إلى أعلى، إلى مستوى منسوب البحر الأبيض ليتم صرفه والتخلص منه؛ إذ الماء الجوفي في الدلتا وشمالها أقل من منسوب البحر ولا بد من ضخه إلى أعلى، ومن أجل هذا أُقيمت الطلمبات. في مكاننا عند الهدار لم أجدها. وانتظرت، وتأملت كثيرًا منظر الماء وهو يهدر في الهدار ويدور ويصنع دوائر كبيرة تنتهي إلى دوائر أقل وأكثر انخفاضًا وتدور بسرعة أشد إلى أن تصنع الدوائر حفرة على هيئة القمع يقولون إن قاعها يبلغ الرجل ولا يبين له بعد هذا أثر. ولم تحضر. وغير قريب من بيتهم وقفت وقد بدأت أحس أن يد الكبار غليظة حقًّا وأنها قد عملت عملها، وأن اليوم الواحد العذب الممتد الطويل قد انقطع.
وفي الشبَّاك لمحتها، كنا العصر، والشمس قد استحالت من جهنم الظهر المروعة إلى مجرد مصباح أصفر رقيق يضيء الشباك وداخل الغرفة، وفي وسط تلك الأرضية الصفراء الحية بصفرتها يستدير وجه حنونة وقد أكسبته الأشعة لونًا غريبًا يلمع من خلال القضبان الحديدية الداكنة، لونًا يحيل الوجه إلى شمس أخرى، شمس مخنوقة منكفئة الجبهة، مختبئة.
وقفت أنتظر منها إشارة، أو بريق عين حتى، يدل على أنها رأتني أو أرادتني، ولكنها كانت صامتة واجمة، كانت بالضبط صورة «العدرة»، العدرة مريم، نفس الصورة المعلَّقة في غرفتها معلقة الآن في النافذة، ولا بد أن ألقاها، وأنا أعرف الست «أم حنونة» وأعرف أنها وإن كان يقال إنها أشد الناس سلاطة، إلا أنها معي طيبة، تعطف وكأنما بالسليقة على مزاملتي لابنتها، كثيرًا ما دسَّت في جيبي برتقالة، أو حبات «بون بون» ودائمًا تقول سلِّم على الست «أم محمد»، سلامًا لا أوصله؛ فقد كنت أعرف رأي أمي فيها، ورأيها في أمي.
الباب مفتوح، أأدقه؟ دخلت.
أم حنونة خارجة لتوها من المطبخ وهباب الوابور على وجهها وأطراف شعرها الأبيض وملابسها، أشرق وجهها بابتسامة وكأنما أدركت سبب المجيء، أعقبها في الحال تجمُّد ملامح وكأنما ظهرت إلى وعيها المشكلة والتحذير، وتلعثمت، وفأفأت، ولكنها لم تصرح بشيءٍ، وإنما استدارت وكأنما لم ترَ ولم تسمع، وعادت إلى المطبخ.
وما يدريني؛ فقد قرأت في حركتها تلك علامة الرضا، واندفعت إلى الغرفة كالسهم. ووجدت حنونة واقفة تبتسم وتنتظر انتظارًا منخفض الرأس لا يزال وفي عينيها دون أن أراهما مكرٌ بريء جميل كمكر المحبين.
ولدهشتي أقدمت على حركةٍ لم أكن قد تعوَّدتها منها أبدًا، مدَّت يدها تصافحني، وبكل ما لديَّ من لهوجة مددت يدي وشددت على يدها بقوة حتى بدا أنها تألمت. كنا دائمًا نلتقي أو نسير أو نتحرك أو نُقدِم على عمل الشيء معًا، أما أن نتصافح فذلك ما لم نفعله إلا هذه المرة. يدها صغيرة كانت، ويدي رغم العامين فارق السن، أكبر، يد نحيلة بأصابع أيضًا رفيعة ونحيلة وكأنك تقبض على مجموعة من أقلام الرصاص، ولكن لم تكن أقلام رصاص، كانت اليد بأصابعها حية دافئة كأنما تركزت فيها كل إشعاعاتها الخاصة، لم تكن يدًا. كانت قلبًا نابضًا دق، نفس القلب الذي سمعت دقته حين كنت أتعمد الاقتراب بوجهي من صدرها. مصافحة روعتني وأحدثت بي مسًّا.
قلت لها: أنت كالعدرة مريم.
رفعت حاجبها في استنكار مذعور، ولكنها عادت تبتسم كأنما عيبٌ ما أقول، ورغم هذا سألتني: كيف؟
قلت لها: وأنا أراك من النافذة كنتِ كالعدرة، بدون المسيح يا حنونة، أنت حنونة — وكم كان يمتعني دائمًا أن أناديها باسمها وكأنما أستمتع بنطق الاسم وطعمه في فمي — أنا المسيح وأنت العدرة. خليني مسيحك وأنتِ عدرتي.
كادت، بل ضربتني على يدي فعلًا، إنما برفقٍ تنهاني. ولكن الفكرة كانت قد استبدَّت بعقلي، ولم تكن بنتَ لحظتها. لا بد أنها نبتت في ذلك اليوم الذي كنا فيه منفردين كالعادة في منزلهم، وكنت أُحدق في صورة العذراء مريم وهي تحتضن ابنها المسيح بحنان زائد. كانت ألوان الصورة قديمة وباهتة، ومن رأس مريم كانت تخرج إشعاعات تذهب في كل اتجاه، وكان عيسى طفلًا جميلًا جدًّا يبتسم بسعادة الابن المُدرِك أنه في أحضان أمه، وفي كنف رعايتها وحنانها، وكانت مريم أيضًا تبتسم، شبح ابتسامة يعبر وجهها وشفتيها، وكأنها تدرك أن صورةً ما ستُؤخذ لها، وتريد أن تضمِّن الصورة ابتسامةَ أم سعيدة بابنها حقًّا.
وحين التفتُّ أحادث حنونة أحسست على الفور أني أريد أن أرتد طفلًا، أرتكن إلى حضن حنونة وتسعد بي مثل سعادة العدرة مريم بمسيحها، ولكني، في ذلك اليوم، وأنا أطلب منها أن تكون عذرائي وأن أكون مسيحها، لم أكن أفعل ذلك وفي ذهني أن أتحول إلى طفل صغير تحتضنه أمه. هناك، وراء سؤالي وطلبي كانت ترقد رغبة قوية قديمة عارمة، أن أحتضن أنا حنونة. آخذها بين ذراعي، وأطبِق عليها، ليس بعنفٍ وقوةٍ، فأنا أعرف أنها رقيقة هشة، إنما بحنان ورفق ورقة أريد أن أطبق عليها، أريد بيدي إذا أطبقت وبحضني إذا احتواها أن أحتويها تمامًا، وأصغِّرها وأدخلها بطريقةٍ ما في صدري فتلك هي الوسيلة الوحيدة في رأيي لإسكات هذا الإحساس المستمر برغبتي في الاقتراب منها والالتصاق الدائم بها.
كنت أريد أن أقترب منها الاقتراب الأكبر، اقترابًا أكبر بكثير مما كنا نفعله مع البنات ونحن نلعب لعبة الزواج في المخازن القديمة.
حدَّقت فيَّ حنونة طويلًا. كانت تلك أول مرة أراها تحدِّق فيَّ على هذا النحو الغريب. كثيرًا ما كنت أسأل نفسي عن رأيها فيَّ أو إحساسها نحوي؛ ففي معاملتها لي لم أكن أحس بذلك الشيء الخاص الذي تنفرد به العلاقات الخاصة، كنت أحس بنفسي وكأني في نظرها لست سوى صبي في الرابعة عشرة، مجرد صبي آخر في عينها ذات الستة عشر ربيعًا، حقيقة تربطها به علاقة ورفاقة وتآلف واتفاق، ولكن لا شيء أكثر من هذا في تحديقها هذه المرة، أحسست فجأة باللمعة في عينيها تأخذ ذلك الطابع الذي طالما هفوت إليه؛ طابع الإحساس بالخصوصية، أحسست أنها نظرة موجهة لي أنا، وأنها تقول بها كلامًا كثيرًا تخجل أن تقوله العين نفسها، ولا تفصح عنه سوى النظرة، بل هو كلام لا يمكن — أو كان لا يمكن في نظري — أن تقوله عين، وبالذات عينها، كلام لم أملك معه إلا أن أقترب منها. كثيرًا ما كان أحدنا يلتصق بالآخر ونحن سائران ويتأبط ذراعه، ولكن تلك أول مرة نقترب فيها إلى هذه الدرجة. ولم أكن، كائنة ما دارت أحلامي وأمنياتي، أتصور أن يحدث ما حدث، وأن فجأةً تضمني حنونة إلى صدرها، بقوة مرتعشة مستعجلة مفاجئة، وتطبع على جبيني قبلة سريعة، لا بد احمرَّ لها وجهي كثيرًا. ورفعت رأسي وأصبح وجهي يقابل وجهها. كنا انثنينا نلهث، وجاءت المفاجأة الرائعة الثانية؛ فقد وجدتها تنحني، وأنا الأَقْصَر قليلًا، وتقبلني في شفتي، قبلة سريعة أيضًا، عظيمة الاضطراب والارتجاف حتى لقد أحسست بموجات الارتعاش التي تجعد شفتيها تنطبع على شفتي، قبلة سريعة كأنها البرق، ولكنها البرق، ولكنها شملتني بكهرباء نعناعية المذاق تفتحت لها كل مسام روحي وانتعش قلبي وكأنه طائر ربيع بكر في اليقظة، قبلة خلفتني إلى أعظم اضطراب شعرت به في حياتي إلى تلك اللحظة، فوكأنني فجأة قد أدركت، بالقبلة أن حنونة بنت، فيها من ذلك الشيء الذي يميز جنس النساء، والذي يجعلهنَّ يرتدين تلك الألوان والأثواب ويتضمخن بالعطور، ويصلصلن بالغوايش والخواتم والعقود، فيها من ذلك الذي يُبرِز الصدور ويجعل الجلد في نعومة الحرير وللصوت ذلك النغم الرقيق في مقابل صوت الرجل الخشن كجسده الشوكي كذقنه، الداكن كوجهه وشعر صدره. حنونة إذن أنثى. اضطرابي كان سببه أني أبدًا لم أتصور هذا قبلًا أو أحلم به. حنونة في نظري كانت كالعدرة كالآلهة، كالمتسببة العظمى في كل خلجة سعادة يحفل بها الكون، الله جل جلاله، الله سبحانه، وليغفر لي الذنبَ أنثى. لجزء من جزء الثانية عاودني الشعور وأنا لا أزال أستجيب لاحتضانها بيدي تلتف حولها وتضمها، أحس أني أضم عذرية الكون الأزلية، عاودني الشعور ولم يزايلني. سقط في قاع عقلي ولم يبرحه وظل كالأماني العميقة حبيسة تقديس العرف والمعقول والتقاليد أمنية أن تذوب الذات الصغرى في الذات الأعظم، أن تحب الله إلى الفناء، أن يتم الاتصال الخالد بينك وبين السر الكوني الأعظم.
وحتى لو كنت قد نجحت في تصور حنونة أنثى وفي إنزالها من الملكوت إلى الأرض جسمًا من لحم وعظم، فقد كان من المحال أن أقرن هذا التصور بنفسي، من المحال أن أتصور علاقة لي تقوم مع حنونة الأنثى حتى لأفعل معها مثلما أفعل مع سائر البنات، حاولت كالمجنون أعيد القداسة إلى مكانها، أستعيد إحساسي أنها الأعظم، وأن ما تشعه في الكون من جمال ورشاقة وتفوُّق يجعلها فوق مستوى البشر، يرفعها للسماء، حاولت جاهدًا أن أعيد الشعور ليحول بين الشاب الصغير الذي انتفض داخلي فجأة مستجيبًا لنداء الأنثى الذي تولدت عنه حنونة فجأة أيضًا، ولكني كنت أحاول المستحيل، فكل قداسات الدنيا من المحال أن تباعد بين القوتين الأعظم للحياة إذا وُجدتا، الرجل والمرأة؛ إذ ثالثهما هو القانون الشيطاني الذي لا يمكن عصيانه. وقبَّلتها أنا، مرتجفًا، مضطربًا مثلها، إنما قد استجمعت ما فيَّ من رجولةٍ بكر، ولتكن حتى ما تكون، أرضية تكون أو سماوية، قديسة أو فتاة عادية، فأنا محبوب وأنا محب والبادي كانت هي، وعليَّ أنا أن أنعم مستحمًّا عريان في ذلك البحر المفاجئ الغريب الذي تفتَّح لي فجأة من بين شفتيها. يا لقلبها يدق وقد رقدت على الكنبة وأذني فوق قلبها، دقًّا كونيًّا يكاد يزلزل الأرض والسماء فقد كان يزلزلني، يا لوجهها أجد فيه الأرض مرة وكل ما فيها من جمال، والسماء مرة وكل ما فيها من قداسة، علوية ترابية، تحمر وتصفر تكتئب وتكسوها ابتسامة العذراء، تموج كسطح البحر الرهيب الذي تفجَّر، دون أن تنطق، دون كلمة يتلوى جسدها ويتكلم، عذراء كانت وعذريًّا كنت، وكلانا لا يعرف، ويريد أن يعرف وهو يحاول أن يعرف، والغمامات التي كانت تحجب عيوننا عن أن ترى، وأن ترى أول ما ترى أنفسنا، تنزاح والحمَّى ليست حمَّى الغيبوبة ولكنها حمَّى التعرُّف المجنون والاستحواذ والمتعة والاكتشاف، حمَّى السر الكوني إذن، أخيرًا انكشف، حماك وأنت واقف ترقب ليلة القدر إذا انفتح باب السماء أمامك حقًّا واكتشفت من خلاله سر السماء، أو إذا انشقت أمامك المرأة فجأة عن مكنونها الأعظم لك، ولك وحدك.
كلما تذكرت أني كنت لو حاولت تخيلها بنتًا وأنثى أحس أني على وشك القيام بمعصية تزلزل الأرض والسماء كما لو كنت على وشك ارتكاب الإثم الأعظم، أعظم إثم يرتكبه بشر، كنت كلما تصورت هذا وأحسست بحرماني السابق يطغى أضمها وأعتصرها وألوكها، حية دافئة، أنثى، أمرغ نفسي فيها وفي حرماني منها وفي قداستها وفي الإثم الأعظم وبشريتها، والزمن الطويل الذي انقضى أعبدها، كنت أعبدها، وها أنا ذا أنا العابد أنالها وعلى نحوٍ محال أن تتطرق إليه أشد الأحلام تخريفًا وبُعدًا عن التصديق.
وماذا أقول؟ أأقول إن القداسة التي كانت تحيط بها وتصبغ صوتها وحتى إشارات يدها كانت إشعاعات الأنثى فيها، إشعاعات المرأة مقدسة ومشرقة، إشعاعات النوع والأنوثة كلها مركزة كضوء العدسة في حنونة، حنانها، مسيحيتها، جمالها، نظراتها، عبادتي لها، كلها أنوثة وأنثى، ولقد مرت سنين وسنين، وعرفت نساء ونساء، ولكني، لأنها كانت هي الأنثى في ذلك اليوم، لم أشعر منذ يومها أني الرجل، ذلك الرجل، إلى الآن.
وكأنما الماء في الهدار بهدوء شديد بطؤت حركته، وضحلت حفرته، وآب إلى سكون.
وكأنما البحر الذي انبثق من بين شفتيها بطول الدنيا وعرضها، آب سطحه إلى زجاج.
وبالكاد حاولنا الاعتدال، وهي خجلى ولكنها ليست نادمة، وأنا خجلان، حين لمع شعاع عند الباب على حين بغتة، شعاع أدركت في الحال كنهه وأنه صادر عن زجاج نظارة معوض أفندي أو الباش أسطى أبيها، الطويل الرفيع ذي العينين المتعبتين دائمًا، واللتين لا بد تجد عند كل زاوية منهما، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، نقطةً بيضاء من العماص أو الالتهاب لا أعرف.
كنت خجلان ولكني كنت كالمؤمن الذي للمرة الأولى في حياة إيمانه يتصل الاتصال اليقيني المادي بخالقه، وتتم المعجزة، ويتحول عنده الإيمان إلى رسالة ويقين مستعد أن يفقد حياته نفسها وبكل بساطة في سبيلها، وهكذا حين انسحبت حنونة من الحجرة هاربة كالقطة، ودق قلبي الصبي دقة قلب الصبي يضبط، أوقفت دقه بعناد المؤمن المهووس الممتلئ إيمانًا، ليس بما فعله منذ لحظات بالذات، وإنما بحنونة، وكل ما يتصل بحنونة، وعلى رأسه أن تستمر علاقته بها، قامت الدنيا أو قعدت، ضربه معوض أفندي أو تشاجر مع أبيه، ردحت أمها لأمي أو خنقتني الأم، سحب أبي بندقيته القديمة من دولابها وأطلق النار على عائلة معوض كلها أو عليَّ أنا منفردًا، فليحدث، وإنما كما يصلي العابد لإلهه، كما يتصل الشعاع بأمه الشمس، كما لا يمكن أن تخلو النجوم من الليل، فصلتي بحنونة أكبر من كل هذه الحتميات، باقية وستبقى، إلى أن أموت أو نموت معًا، وربما حتى بعد الموت تبقى.
ولكن يبدو أني رغم هذا الإحساس الداخلي المروع، كان وجهي من الخارج، وأمام مشهد معوض أفندي المنتصب طويلًا ورفيعًا، ينخطف، وينسحب كل ما في جسدي من دم ويسيل مغرقًا أرض الحجرة. بقيت واقفًا جامد العينين مخفضهما أنتظر العقاب. كنت رغم هذا أدرك أنه جاء بعد النهاية، وأنه لا يمكن أن يخمن حقيقة ما حدث، ولكني بإصرار كنت أنتظر العقاب. وليته عاقبني، ليته ضربني أو سبني، ليته حتى اشتكى لأبي وليت أبي قتلني، فكل ما فعله أنه بعد سكوت طويل قال: أنا كنت فاكرك جدع مؤدب يا محمد.
كلمة من الكلمات التي تلصق بالذهن مدى العمر لا تُمحى. كثيرًا ما ترد إلى أذنيك، وتجدها فجأة قد انبثقت من غياب الماضي واستحضرت نفسها، حتى على شفتيك تنطق نفسها فترددها، وتشملك رعدة خجل من نفسك وكأنها الرعدة الأولى التي أصابتك حين سمعتها أول مرة، وكلما تذكرتها، تذكرتها كاملة. نفس النغمة والطريقة التي قيلت بها، ولا أدري بالضبط إن كانت قد مرت شهور أو أعوام على ما حدث؛ إذ كل ما تلا ذلك كانت أيامًا كئيبة ممتدة الطول لا نهاية لها وبلا هدف. آلاف المرات ألفُّ حول البيت عَلِّي ألمحها. كنت أعرف أن القضاء قد حل وأن الأمر البات الصريح قد صدر لها من أمها وأبيها معًا، ألا تراني، أن أموت تمامًا من وجودي. وكنت في مرات، مرات قليلة جدًّا، مرة كل ألف مرة، أراها، أراها من بعيد وأتطلع إليها مكتفيًا بنظرة البعد وكأنني الإنسي يتطلع إلى نجوم السماء، ويحز الهوى القدسي في نفسي أحيانًا حتى ليدفعني دفعًا أن أقترب، وأظل أقترب حتى لأصبح على مرمى البصر منها، وأناديها، بهمس خفي مرة، بصوت عالٍ مرة، وأشير لها، بيد ترتعش، بيد أحيانًا مهووسة متوترة، بذراع تقفز مع الجسد في الهواء وكأنما تريد أن تمسك بخط البصر الكامن بين عينيها المستقيمتين وبين الأفق. ولكنها لم يحدث أبدًا أن رمش لها جفن الإدراك، إدراك وجودي، واقفة أبدًا في قلب مربع النافذة الأصفر الذي تقطع صفرته عمدان الحديد، عارفة بوجودي، هكذا أحس وأكاد أقسم ولكني أعرف أنها لا تدركه أو تأبى إدراكه، لا بد أنها قطعت على نفسها عهدًا أمام أبويها، وعهود حنونة، كحنونة، مقدَّسة، ومحال أن تحنث بالعهد المقدس. أذوب وجدًا وأنا أتذكر، أتذكرها من لحظة عرفتها إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة عرفتها، إلى لحظة المعرفة الأعظم، أتذكر كل حركة صدرت عنها، كل كلمة، كل نظرة ذات معنى ارتسمت ذات مرة على ملامحها، أتذكرها وأذوب وجدًا وشوقًا وأقتل نفسي ندمًا. أكان لا بد أن أصل إلى المستوى الأعظم ألم يكن القرب مجرد القرب، أهون ألف مرة من التلاشي التام إلى حد القطيعة. كنت كالبطل في قصة ألف ليلة وليلة ذلك الذي تركوه في القصر ذي الأبواب السبعة وأمروه ألا يفتح الباب السابع للحجرة السابعة، وعاش في القصر ينعم ويستمتع، ولكنه لم يستطع أن يقاوم المتعة الأكبر، أن يفتح الباب السابع، وفتحه، ورأى ما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، ولكنه في النهاية وجد نفسه هناك خارج القصر في النقطة السحرية التي فُتح له باب القصر منها، كأننا عاديًّا قد عاد إلى الدنيا العادية، ووجد هناك ستة يرتدون السواد ويجلسون في بكاء متصل، إنهم أولئك الذين سبقوه إلى الندم، وانضم مالك الحزين بملابسه السود ليصبح سابعهم، أكان لا بد من الباب السابع والمتعة الأعظم؟ كمالك الحزين أبكي، وبالندم أحيا، والعالم كئيب، والأيام من فرط طولها عجوز رمادية شائخة، والليالي بلا منتصف أو فجر أو صباح، والعمر بلا زمن، إلى أن جاء الخريف، وسرت الإشاعة ولا أصدِّق أنا، وتحدَّد اليوم، والشخص، وحلت الليلة، وانتثرت الكلوبات في المستعمرة، وتركزت في المربع الأوسط الواسع، الأضواء تكسر الظلام باهرة، والشموع كثيرة لا حصر لها، حتى رائحة الشموع نفسها كانت على البُعد تُشَم، وابن عمها جاء من الصعيد ليتزوجها، وهم يزفونها إليه، ونفس القسيس الذي يزورهم بين الحين والحين قد حضر من كنيسة البندر، والكل يغني ويردد وراء القسيس: كير … يا … ليسون، ارحم يا رب، يا رب ارحم، وحنونة في ثيابها البيضاء الناصعة، وعقد الفل، والطرحة، وقد حمَّلا وجهها بأكثر مما يحتمل من ألوان وأصباغ، ولكن بقيت لها نظرة العينين غير مصبوغة، وإنما هي زائغة مروعة تائهة، تتحرك مدفوعة بالأيدي الكثيرة التي تتجاذبها، تتحرك كالمنومة مغناطيسيًّا كمن تؤدي دورًا، وثمة ابتسامة شاحبة خائفة لا تغادر وجهها، وإلى جوارها أفندي ربما لم تره في حياتها إلا الليلة، ضخم الجثة، أسود الشارب كثيفه، يرتدي «بالطو» أسود وشعره لامع شديد اللمعة بما فيه من بريانتين، العريس منتفخ الأوداج وكأنه لتوه قد ربح صفقة، يمضغ ويتملظ ويضحك من أعماق صدره وأحيانًا دون أن يريد، وحنونة إلى جواره كالحمامة المسوقة الوديعة، تتجاذبها الأيدي وتدفعها، وتبتسم في شحوبٍ وعيناها هائمتان تبحثان عن شيء بين نجوم السماء وكأنها العدرة فُقِد منها مسيحُها، والعذراء راضخة، صابرة، وحيدة، تفتش السماء بعينيها بحثًا عن الخلاص، من يدري ربما كانت تفتش عني وأنا قابع فوق السطح أتألم وأندم وأرقب، والكل يردد: كير يا ليسون، كير يا ليسون.