سيف يد
حين استقر على الآن: بدأت الرعشة، ارتعاش الجسد غير مهم، الشفاه لن يستعملها، الأسنان لو حتى اصطكت سيكتم الصوت. المهم يده، أصابعه، قبضته، إنها ترتعش كما لم يحدث لها أو له في حياته، ليس ارتعاشًا فقط، لكأنه الشلل الرعاش، فهو بالضبط وساعةَ قرَّر ليس في بدنه ذرة قوة. لو دفعه طفل حتى لسقط. فليكن القرار تم. فليكن تم. ما فائدته والتنفيذ هو القرار. لحظة التنفيذ هي الفيصل بين مَن كان ومَن يريد أن يكون. قطُّ لم يفعلها. قطُّ لم يفكر في فعلها. وإنما عاش يرفضها، ينبذها، يشمئز منها. الآن قد أصبح تمامًا بجواره. الرعشة تفضي إلى ما لا نهاية. اصفر وجهه لا بد. القرار يملأ ملامحه. واضح، محدد، صارم، لم يبقَ له إلا التنفيذ، والرعشة تلغي كل شيء. الدهشة تأتيه من العين الأخرى، دهشة تكبِّرها وتجسِّمها عدسات النظارة. لو تراجع ضاع. فلتكن المرة الأولى، ما أكثر ما نفعل أشياء نبدؤها لأول مرة دون أن يصيبنا كل هذا الرعب. فليضِع العمر كله في الذراع. ولكن الذراع ثقيل ككتلة مسلح، العمر أثقله، وعليه، رغم الرعاشة، أن يدفعه إلى أعلى، مرتفعًا به إلى أقصى ما يستطيع، ليفعلها لمرة واحدة في عمره، وليضع العمر كله في الذراع.
ارتفاعه حاجب، لمحة نكوص ضاع التردد فجأة، فجأة أظلمت الأشياء، تلاشت، تمازجت وتداخلت وأصبح مع الأشياء كائنًا كتلة لا يعرف أين هو منها أو أين هي منه. رعد أرعد. برق توهج. المؤكد أن اليد، قوية، مدوية، هبطت. الرعشة تحولت، حالما هوت، إلى ثقل صاعق. لأول مرة في حياته تصطدم كفه بصدغ رجل. ذلك الرجل. حتى وهو طفل لا يذكر أنه صفع أحدًا أو صفعه أحد. الدوي استمر ومستمر. الارتعاش امتلأت به الآذان إلى درجة الصمم. فتح عينيه. الرجل بدا أبعد، وجهه أصفر بكثير عما يجب، أثر أصابعه على الصدغ السمين كالمرسومة بمداد أبيض، عيناه غاصتا فجأة للداخل، غاصتا أكثر بكثير مما تسمح به الملامح، قامته الطويلة بدأت تقصر، وماضية في القصر، هوسة فرح اندلعت. عفريت جني في داخل مخه عربد، قبل أي شيء آخر كان نفس ذراعه تلقائيًّا وإلى أعلى بكثير قد ارتفع. قامته هي الأخرى بدت أطول، أضخم، ولا لمحة لأي ارتعاش.
بكتلةِ ثقة مباغتة فاجأته هو أولًا أهوى. راعى أن تجيء أكثر إحكامًا، أن تصل هدفها وعيونه مفتوحة تستمتع وهي ترى أين وكيف تصيب. مؤلمة تمامًا جاءت. مؤلمة له. فكأن أصابعه ارتطمت بكتلة من حديد. غورت أصابعه في العظم. أظافره مزقت الجلد. تلوى الألم. مكتومًا صدر عنه الصوت. مكتومًا أيضًا صدر عن الرجل شيء، ليس كلامًا، ليس استغاثة، مجرد صوت، ذعر على هيئة صوت، ذعر شخص صادر عن حنجرةٍ أصابها نفس الذعر. امتلأ بدنه بالثقة، بلغت روحه عنان السماء. كوَّر قبضته، ثنى ذراعه، سيكيلها له في فكه. مذعورًا سبقه الرجل، من كتفه دفعه، تطوع ذراعه، جاءت اللكمة في العين تمامًا. أحس بظهر أصابعه طراوة كرة العين. ماذا لو كانت انفجرت. السجن معناها. فليكن، ليكن حتى الشنق. حتى الشنق هو مستعد له. سيقتله. لن تحول بينه وبين قتله قوة. مهما جاع الأولاد فسيظل حمادة على الأقل فخورًا به. جرى الجبان والتف حول المكتب. يريد أن يهرب. فليهرب، وليحاول شنكلته. ولكن الرجل زاغ وفتح باب الدولاب وجعل منه ساترًا اختبأ خلفه. من الدولاب سحب أيضًا المسطرة الكبيرة. كالسيف شرعها. الشتائم من فمه بدأت تنهال، وكل مرة تزداد شتائمه سفالة وإيلامًا. رفع القدم، تراجع للخلف، استعان بالسيد البدوي وبالقوة كلها ركل الضلفة، توالت الآهات. آهات، شتائم آهات، آهات شتائم، عويل من السباب. خذ، ركلة أخرى، أعنف أقوى أشد إيلامًا. عشر سنين يا مجرم، عشر سنين أشكو لطوب الأرض وأتحمل. تكرهني وأكرهك. تمقتني ولا أطيق حتى طريقة تفصيلك لبِدلك. وكلانا في حجرة واحدة. الوجه في الوجه، والكره يملأ الأعماق، وعلى الملامح العليا تطفح البسمات والمجاملات. ولا مرة تبادلنا غيرها. عشر سنين وأنا أشتمك للناس جميعًا وأشكوك. وتشتمني أنت لبعض الناس للمسكين بمقابر الناس وتشكو مني. وعمري ما واجهتك بشيء أقصى من تحديقة وعيد أخرس، إذا أجبتني بمثلها، أسحب تحديقتي فورًا وأعود أغلي وأبسم وأصمت. أحيانًا، للكارثة، من فمي بدل الشتائم تنطلق كلمات الملق. بخبثك تعرفها وتدركها وتعلقها أمامي تريني فيها نفسي وأنا متلبس بالخضوع لك ومسح الجوخ والرياء. وترضى، وتبسم، بل وتتقمص الدور إلى حد أن تتصدق عليَّ أنت الآخر في النهاية بكلمة نصف نفاق؛ إذ تمتدح بنصفها شيئًا تعرف وأعرف ويعرف الناس جميعًا أني لا أتمتع به. ناعم أنت وذكي، ودائمًا على حق، ودائمًا بالقانون تخرج على القانون، وتستطيع دائمًا أن تحيل ظلمك عدلًا وقاعدة، وتحيل حقي وعدلي إلى خروج على العرف والقانون. حتى لو لم أخطئ، تستدرجني حتى أخطئ. فإذا بادرت بالتصحيح، أطلت لي الحبل لاستدراجي لأخطئ أكبر وأكثر. تكرهني مثلما أكرهك ولكنك أقدر على كتم الحب والكره والحقيقة، واليوم قررتها، قررت، من حمادة وليس من أبي أو خالي أتعلم، ويا جبان لن تنفعك المسطرة. أبدًا لن تنفعك.
ناحيته اندفع. كالقط الآدمي قفز. هوت المسطرة بحدها الرفيع على أم رأسه. تخدر الجلد مكانها وانفلق العظم لأن السائل الذي يخترق جذور شعره لا بد هو الدم. بيسراه قبض على المسطرة. أمسكها. استمات الآخر. لواها. انكسرت. أمسك بالجزء المكسور كالخنجر وصرخ هامدًا وهو يغرسها في كتفه. تمزق القميص وانبثق الدم الأحمر. حمرته فاقعة وكان دم الغضب. دم قليل ولكنه لوَّن صدر القميص كله. مرآه الأحمر متغلغل في الأبيض أثاره. كانا قد اقتربا حتى التصقا. فليأخذها إذن. بجانب الرأس كما سمع من حمادة، صوبها. «روسية» اصطدمت بفكه. سمع بأذنه اصطكاك العظم بالعظم. أسنانه هو أطبقت على لسانه وعورته، وتملح ريقه بطعم الدم. عشر سنوات ولا عشاء يمر دون واقعة يحكيها للزوجة عنه وأمام الأولاد الصغار، حتى كبروا، وهو لا يزال يحكي، كبروا. بالعقل توصيه. لأكل العيش تنبهه، تهدئه، تدلك غضبه، تتركه يمارس عليها الشخط والزجر ويتنفس. هنا فقط يتنفس. تنفس ذليل يعرف ولكنه بدلًا من انفجار المخ يفعل. حمادة السبب. أنت السبب يا حمادة. الواقعة بسيطة وكل يوم تجري. خناقة عيال. هكذا يسمونها. خناقة لا يطيق فيها ابنه ضاربًا أو مضروبًا. ولقد جاء هذه المرة ضاربًا، وجاءت بالمضروب أمه. وكان لا بد من عقاب عاجل. وفرَّ حمادة واختفى حتى جاء الليل وعاد ليجده ساهرًا ينتظره. قبل أن يرفع عليه «الحذاء» طالبه بأن يمنحه الفرصة. هكذا العدل. ألم يعلمه أن هكذا العدل. أُحرِج. اترك الجزمة. استمع لمجرد الشك فقرار ضربه كان لن يتغير حتى لو الحق معه. وإيمانه الراسخ أن الضارب والمضروب حيوانان بهيمان لا يستحقان قلب الإنسان. هكذا سمع أباه يقولها مرة وسمع خاله كثيرًا ما يضمنها حِكَمه وأمثاله: أنا أكرهه فضربته. ولماذا الكره؟ لأنه لئيم خبيث يشيع عني لدى الأولاد أنني لص. لماذا لم تشكُه؟ لمَن؟ لأهله؟ وهل يعاقب الأهل ابنهم من أجل أولاد الغير؟ مَن يعاقب الابن المخطئ إذن؟ أنا. أنت؟! أجل أنا. وكيف إن شاء الله؟ ناولته سيف يدي فلكزني فضربته بالبونية وفي نافوخه فعضني، وحاولت إمساكه فطلع يجري فشنكلته بمقص، وقع، بركت فوقه ولم أتركه إلا بعد أن قال: أنا كذاب.
مد يده إلى الحذاء وقد جاء وقت العقاب، ليست هذه طريقة لمعاملة اللئيم، ولا مواجهة من نكره.
أمال كنت عايزني أعمل إيه يا أبي؟
اشتمه مثلما شتمك.
ولكنه لا يشتمني أمامي. جبان ماذا أفعل؟!
وهل يكون الرد بسيف اليد واللكمة.
وقذفه بالحذاء. أصابه في ساقه وجعله يعرج حتى بلغ الفراش. ولكنه هو لم ينم. أبدًا لم ينم. سيف اليد والمقص والبواني كانت تتماوج في سقف عيونه المغمضة وتتداخل وفجأة وبين الحين والحين يندلق في سماء العين المعصمة ماء وذلك الوجه السمين المربرب الناضج أبدًا بالعرق.
أصبح بينهما المكتب مرة أخرى، نفس المكتب الذي كان دائمًا بينهما في الصباح هما على طرفيه ممتلئان بابتسامات الزيف وفي العمل يفصل بين المقالب التي يدبرها لمرءوسه، والعرائض والشكاوى المجهولة التي يدبرها لرئيسه. والآن هو موجود ولكنه لا يحول بينهما، بعده انطلقت صفعة يده كلها بوجهه، بأصبع واحدة فقط صفعه، فالآخر كان قد استدار وامتلكه وإلى صدغه وجَّه صفعة قوية مليئة متمكنة. أبرقت الدنيا في عينه وصفرت أذنه. أيكون هو الآخر كان ينتهز الفرص لينفجر. هذه «بونية» تصيب أذنه، من المؤكد خرقت الطبلة. يا ندل تأخذني على خوانة! هكذا سمعه. خذ وخذ وخذ وخذ. لم تعد علقة نوى أن يعطيها ويفض يده منه ومنها، أصبحت معركة تكاد تتعادل، الآن فقط يتأكد أن الآخر ليس جبانًا بالدرجة التي كان يتصورها. ذعره الأول أصبح واضحًا أنه ذعر المفاجأة ليس إلا، الآن هو يطلب العراك. وعليه عقد العزم. ما تصوره هكذا أبدًا، طول عمره يراه فأرًا رعديدًا لا يحتمل الصمود لمجرد سباب وإن كان يبدو في قوة الأسد. ولو! حتمًا سيأكلها. فأر أو أسد سيخرج منها بعاهة مستديمة على الأقل. بجماع قوته لكمه. انثنى الآخر وتأوه. وتلذذ. بركبته رفعها كالطلقة شلفطت وجهه وأسالت الدم من أنفه. اعتدل. طار صوابه واعتدل. عيونه يشع منها بريق الشر والجريمة. كالثور الهائج أقبل، إلى اليمين زاغ منه. ولكن لان ذراعه أول ناله وبضربة من قدمه هوى على الأرض كالكتلة. المقص أصابني أنا يا حمادة. فلم أكن الأسرع. الركلات تنهال كالمطر، الجبان، بالحذاء. يسددها لوجهه، فقد العقل، فقد الإحساس بالضرب والألم. همه أصبح أن يغلب، لو مات حتى قد غلب أو غالب لما همه. المهم أن يخرج من الصراع غالبًا، ولو ممزقًا إربًا يخرج، أمسك بالقدم، الضربة إلى صدره، بشدة أمسكها بيديه وبقوة عظمى ثناها. سقط الآخر يتلوى، يتأوه، اندفع يرقد وبيديه يحيط رقبته السميكة عازمًا أن يكتم للأبد أنفاسه. اختنق الوجه بالاحمرار وبحلاوة الروح دفع أصبعه السبابة في عينه. لنكن مجرمين أصبحنا. إما قاتل أنت أو مقتول. الرعب أمده بقوة أعظم. تخلص من الأصبع. رعب آخر جعله بانتفاض يديه بعيدًا حتى ليرتطم رأسه بحامل الخزنة بل وتسقط على قدمه. تماسكا ظلا يتضاربان، حتى لاحت فرصة وأمسك لحم كتفه بأسنانه. بأنيابه، بكل ما يملك من حقد وغيظ، وجنون وفتوة أنشب فكيه في لحمه. أحس بطعم اللحم نفسه من خلال حرف البدلة، صراخ آخر مكتوم لم يعد يعادله إلا ضرباته. ضربات وحش لا يرحم، عينه يحس بها أُغلقت تمامًا ولم يَعُد يرى بها، أنفه تورم وبالتأكيد تدشدش، دم الآخر سال، وبدأ يصرخ وبدأ هو الآخر يصرخ، الضرب اشتد وعنف وتشعب أهو يَضرِب أم يُضرَب، أهو المهزوم أم المنتصر، كل ما أصبح يحسه أنه متعب وأن التعب يتكاثر عليه حتى لم يعد يقوى على أخذ النفس. أصبح همه كله أن يتنفس لم يعد يتنفس. الهواء لا يدخل صدره. غير قادر أن يحرك الضلوع ليدخل الهواء. على الأرض تمدد بغير حراك، سكون، وهناك حين استطاع بطلوع الروح أن يعود يلتقط النفس، بدأ يدرك أن الآخر أيضًا لا يضرب، وبنظرة لمحه مكومًا أسفل ركبته، مغمض العينين، بدأ بالكاد يلهث بالنفس. كتلتان من الأنسجة المبعثرة والملابس الممزقة وبقع الدم ممددتان على الأرض في مكتب ليس به سواهما بعد ظهر ذلك اليوم.
من مكانه راح يرمق الآخر. عشر سنوات وهو بغير الحقد لا يرمقه. من مكانه راح ينظر إليه ويتأمل. إنه لأول مرة يرى قاع رأسه ويدرك أن الشعر في منطقة قمة الرأس خفيف تمامًا، بل يكاد يكون بلا شعر.
ووجد نفسه يتمتم: من كان يتصور هذا. بعد عامين على الأكثر سيكون الصلع قد شمل رأسه كله. مسكين.