حكاية مصرية جدًّا
تلك اللحظات القليلة، غريب يلتقي بغريب، وكلٌّ منهما يلعن الحظ بطريقته، ويتلاءم أو يتصارح، بطريقته أيضًا.
ذلك السائق الطيب. سمين وملظلظ وأب لثلاثة طلبة في الجامعة، ويجيد رواية الحديث والنكتة.
قال: كنت سائرًا قريبًا من شيراتون، وفجأة في تقاطع شارعين، وجدت شحاذًا مقطوع الساقين يعترض بجسده «أو بالأصح بالباقي من جسده» طريق العربة. وقفت. وفوجئت بذلك الإنسان، وبقدرة هائلة كقدرة القرود والزواحف، يقفز من حيث كان أمام العربة إلى حيث الباب المجاور لي ويفتح الأكرة وينزلق بجسده إلى جواري وهو يلهث ويقول: اطلع يا اسطى.
أطلع ازاي؟ قلت له. معقول أن أعطيك حسنة، أما أن أوصلك حسنةً فهو ما لم يسمع به أحد! قال: يا اسطى أنا عايز أروح شبرا الخيمة أو شبرا المظلات، من فضلك وصلني. أنا زبون ولست شحاذًا اطلع بسرعة أرجوك.
ترددت قليلًا ولكن إلحاحه الشديد، ثم قبضة النقود التي أخرجها نصف إخراجة من جيبه أقنعاني أن أطلع. وطلعت. سرت على كورنيش النيل أتأمل الزبون، ملابسه مقطعة، جسده قذر، شاب لا يزال ولكن شعره منكوش بطريقة تضيف إلى عمره عشر سنين. ولعب الفأر في عبي مرة أخرى فأوقفت السيارة وقلت له: أنت إيه حكايتك بالضبط. مش ماشي إلا لما تقول لي.
قال: تشرب كوكاكولا؟
ونادى على بائع الكاكولا، ودفع له في الزجاجتين عشرة قروش بسخاء وشربناها. قال: اسمع يا سيدي، أنا شحات.
قلت في سري: هذا يبدو واضحًا.
قال: وأنا أريد أن آخذ تاكسي مخصوص لأهرب من العسكري.
سألته: قصدك شرطة مكافحة التشرد.
قال: لأ، عسكري المرور.
قلت: وما علاقتك بعسكري المرور وأنت شحات؟
قال: علاقة عمل.
قلت في سري: أي عمل هذا الذي يربط بينك وبين عسكري المرور؟
قال: أيوه، علاقة عمل.
وأخبرني بالقصة، قال: من يوم أن قُطعت ساقاي في حادث مترو بدأ ربنا يفتحها عليَّ، وبدأ الناس كلما رأوني زاحفًا على الأرض من تلقاء أنفسهم يعطونني، وبدأت أطلع في اليوم بخمسين ستين قرشًا، وأقول نعمة. ولكني بدأت أفهم وأوعى وأعرف أنني أمتلك رأس مال. ساقاي المقطوعتان رأس مال لا بأس به أبدًا لا بد أن أشغِّله. وهكذا بدأت أتقن انتقاء الأماكن، وأعرف طباع السكان والمارة في كل حي من أحياء القاهرة. الغريب أن الذين كانوا «يعطفون» دائمًا عليَّ هم: إما الفقراء جدًّا أو الأغنياء جدًّا. أما متوسطو الحال من أمثالك فالظاهر أن الرحمة صعبة الوصول إلى قلوبهم تمامًا. ولكني أيضًا بطول المزاولة اكتشفت أن الذين يعيشون في مصر تتيبس الرحمة في قلوبهم بعد قليل من كثرة ما يرون، أما القادمون الجدد فهم الذين لا تزال قلوبهم، وجيوبهم أيضًا، عامرة بالمال والرحمة.
وهكذا كان لا بد أن أعثر أخيرًا على ذلك الركن القريب من الفندق الكبير الذي ركبت معك من جواره. مكان وشغلانة لوكس. الركن إشارة. تقف العربات عند النور الأحمر، في سرعة أكون قد مسحت ركاب العربات الواقفة وسائقيها قبل أن يضيء النور الأخضر وينطلق المرور، ولكني اكتشفت أن الإشارة لا تستمر طويلًا بحيث لم أكن أتمكن من تكملة مسح العربات كلها. وهكذا في يوم ذهبت إلى العسكري الواقف عند الإشارة ولم يأخذ الأمر سوى كلمتين اتفقت معه بعدهما أن يطيل من فتح النور الأحمر حتى «أمسح» العربات كلها وحين أعطيه أنا «إشارة» من رأسي أن كله تمام يفتح هو «الإشارة».
يا ابن الإيه! هكذا قلت له. وقلت لنفسي أهذا هو السبب إذن في غياب تلك الإشارة وربما غيرها من الإشارات؟
ووجدتني أسأله: وكنت تعطي العسكري؟
قال: طبعًا، خمسين ستين قرشًا كل يوم.
– أمال أنت بتطلع بكام؟
– مش كله، اثنين تلاتة، ممكن أكثر شوية خمسة ستة في يوم المرور زحمة.
– طب والنهاردة مالك هربان ليه؟ إيه اللي حصل؟
– النهاردة يوم موسم كل سنة وأنت طيب. والشغل كان على ودنه، وقلت أهرب قبل ما ييجي العسكري يشاركني فيه.
ولكن (هكذا قال الأسطى) تفكرت في الموضوع وقلت له: طب ما هو العسكري بكره ح يقفشك يا حدق.
ونظر لي بابتسامته الشابة الحدقة المصرية الساخرة وقال: لا، بكره فيه عسكري تاني باتفاق تاني. ده كان آخر يوم للعسكري ده في الحتة دي.
قال الأسطى: كنا قد وصلنا المكان، عندك يا اسطى وقفت. كان الحساب ٤٣ قرشًا. أعطاني خمسين قرشًا، سبعة قروش بأكملها بقشيش وقال لي: لو تبقى كل يوم تعدي على الإشارة دي الساعة عشرة كده وتوصلني ح أديك خمسين قرش.